قيم الموضوع
(1 تصويت)

الرحلة الأبدية

كنت راجعا من الجامعة، فصادفت جماعة من أبناء الحي أمام منزل جاري، فاستفسرت بعد السلام عن الأمر...فأجابوني بحزن: لقد توفي أخونا عبد المجيد هذا الصباح. قلت: كيف ذلك؟ قالوا: لقد توقف قلبه عن النبض فجأة في منزله الجديد، ثم جيء به إلى بيت أهله.
...لم أتمالك نفسي عندما شعرت بقشعريرة جلد جسمي كله، فانسكبت دمعة حارة رحمة عليه...صعدت إلى بيتي فوضعت دفاتري، وتوجهت إلى المسجد..، بعد صلاة العصر، انطلقت إلى بيت عبد المجيد، حيث اتفقنا أنا وعمي مولود على تغسيله وتكفينه..كان الرجال في الخارج يترحمون عليه، ويذكرون مناقبه ويُعزون أهله...بينما دلفنا نحن إلى الداخل، فحبسنا النساء جانبا، وسحبنا عبد المجيد من بين يدي أمه وزوجته وأخواته..وقد علا الصراخ..وتتابع الأنين واختلطت أصوات الباكيات من جوانب الغرف، كانت أصوات النائحات تمزق القلب وتدمي الفؤاد...النياح..يا له من صوت مرعب..والميت بين يديك شاب في مقتبل العمر..لم يهنأ بعد بزواجه الذي لم تمض عليه سنوات قليلة، ولم ينعم ببيته الجديد الذي أوشك على تشييده، فخطفته المنية بغتة بلا إنذار ولا إعذار.
وقبل أن نشرع في التغسيل، حضر هلِعاً جزِعاً أحد أشقاء عبد المجيد، وهو طبيب، وقد جرفته مصيبة أخيه فلم يصدق بموته، فحاول عبثا نفخ الهواء في فمه إلى رئتيه، والضغط على صدره، لعله يستفيق أو تدب فيه الحياة من جديد...لكن هيهات هيهات، فقد جفت الأقلام وطويت الصحف، فلم يتوان ملك الموت عن تأدية واجبه، وإسلام الروح إلى باريها..فلا الطبيب القضاء اليوم يدفع ولا الدواء الساعة ينفع.
رفعنا الميت على خشبة التغسيل..وجاءت الساعة الحاسمة، ويا لها من ساعة يُجرد فيها الرجل من ثوبه قطعة قطعة، وتوضع على عورته خرقة...في تلك اللحظة وعبد المجيد جثة..هامدة..خامدة..ممدة..عارية..بلا حراك، صاح عمي مولود بأهل البيت أن أحضروا الماء الساخن والمناشف: ًيالله أسرعوا.." كان عمي مولود مستعجلا، كانت وراءه التزامات وأولاد..أما عبد المجيد فما كانت تنتظره أشغال فقد بات متفرغا لحاله ومصيره...لقد مات وقامت قيامته..فريق في الجنة وفريق في السعير.
أُحضر الماء الساخن والبارد..ثم وضأنا عبد المجيد وضوء الصلاة ولا صلاة، إنه الوضوء الأخير، فيا حسرتاه على من كان ذلك أول وضوئه...ثم بدأنا بتغسيله من رأسه إلى أسفل قدميه..، كان جسمه متجمدا، وكنت أشعر ببرودة دمه تسري في دمي الحار..، كنت أرفع يده إلى الأعلى وأتركها تسقط..تهوي..تعود إلى مكانها..، هناك أيقنت أن عبد المجيد وكل إنسان وكل مخلوق هو ضعيف..واهن..عاجز.. لا يملك دفع ذبابة تقف على أنفه.
أين قوتك؟ ما أضعفك؟..أين غناك؟ ما أفقرك؟ أين مُلكك..أين مالك..أين جاهك..أين وزراؤك..أين جندك..أين عرشك..أين منصبك..أين خدمك..أين شجاعتك..أين حيلتك وشطارتك..أين شهرتك وصيتك..أين جمالك ورشاقتك..أين عضلاتك..أين سلطتك وسطوتك..أين أهلُك وعشيرتك ومعارفك وأتباعك وأنصارك...؟
لماذا لا تجيب؟..أين لسانك وفصاحتك؟ ما أخرسك ومن أسكتك؟
كلمة واحدة من الله، فإذا بك في عداد الأموات...كن فيكون..كن..فإذا بجسمك يُجذب منه كل عرق من عروقك عرقا عرقا..ثم يموت كل عضو من أعضائك عضوا عضوا..تبرد قدماك، ثم ساقاك، ثم فخذاك، ثم يداك، ثم سائر أطرافك..ولكل طرف سكرة، وسكرة بعد سكرة حتى تزيغ الأبصار وتغرغر الروح في الحلقوم...وعندها تنقطع الحواس فلا نظر ولا سمع ولا إحساس...فتُسد أبواب التوبة وتغلق منافذ الإنابة..وتُصفد بأعمالك وتوثق بأفعالك..وتطلع على مصيرك..حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنان.
صببنا الماء على عبد المجيد..لم يكن يشعر بحرارة الماء وبرودته..ولم يشكو من رغوة الصابون في عينيه ولا بتسرب الماء في أنفه وأذنيه..كان مستسلما لقدره ومُغسلَيْه...مررت كفي على صدره وظهره ويديه ورجليه..والأنين ينبعث مني وكأنه صوت من تحت الأنقاض، وانفتحت أبواب عيني لتسيل كعين الماء..حاولت أن أمسك دمعتي بل دموعي لكن عبثا.
مسحنا جسد عبد المجيد بالمناشف، وكفناه بقطعتين أو ثلاث من القماش الأبيض الرخيص..بلّلنا كفنه بقليل من الطيب، وجهزناه ثم وضعناه وسط غرفة من غرف الدار، وفي المساء جلس أقاربه وجيرانه وأصحابه حوله...وقعدت غير بعيد أتأمل في الموقف وأنظر إلى عبد المجيد..الذي كان قبل يوم واحد يسعى ويكد ويضحك ويجد..قبل يوم واحد رأيته بكامل صحته وهو يهرع مسرعا إلى العمل..، وتزاحمت أسئلة وأسئلة في ذهني... كم من إنسان نام صحيحا معافى ونُعي صباحا؟ وكم من امرئ خرج من بيته سليما وعاد محمولا؟ وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وأكفانه تُنسج بالغيب وهو لا يدري!؟
وازداد في تلك الجلسة الأخيرة مع عبد المجيد يقيني بآيات طالما قرأتها ولم أتعظ بها، وها أنا الآن أصدق بأنها قانون الله وقدره المحتوم،...: كل من عليها فان...إنك ميت وإنهم ميتون...وجاءت سكرة الموت بالحق...أينما تكونوا يدركم الموت...قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم....
وسط الدار..كان عبد المجيد مستلقيا على حصيرة...إنها حصيرة نهاية العالم...عليها تَقصُر رحلة الدنيا وتَقصُر لتختفي كسراب لم يكن...إنها حصيرة تفصل بين معسكر الأحياء ومعسكر الأموات...الجميع يتوسدها..لا انتظارا للعودة أو الانتهاء، لكن للانطلاق في رحلة أطول..هي الرحلة الأبدية، سبق إلى تلك الرحلة جاري عبد المجيد وتبعه بعد سنوات شريكي في التغسيل عمي مولود، أما أنا فأقف بمحطة الرحلة أنتظر الركوب لألحق بهما...............

تم قراءة المقال 575 مرة