حصار الثالوث-نقد التثليث في أعمال الدكتور يزيد حمزاوي
بقلم: أمين قادري
جامعة الجزائر02
مقدمة:
تعد أعمال الدكتور يزيد حمزاوي أعمالا رائدة في الجزائر فيما يتعلق بنقد النصرانية وكشف مخططات التنصير ومحاورة المنصرين، وقد جاءت هذه الأعمال متأخرة نوعا ما لأسباب مختلفة، أهمها أن التنصير في الجزائر المستقلة مشروع حديث نسبيا بسبب عدم وجود طائفة نصرانية معترف بها، فالنصرانية قد غادرت الجزائر مغادرة جماهيرية مع خروج المحتل الفرنسي، ومن بقي من النصارى بالجزائر هم بالأساس أجانب أوروبيون. وتختلف الجزائر في هذه النقطة اختلافا جوهريا عن كثير من البلدان العربية –والمشرقية منها خصوصا-التي يعد الوجود النصراني فيها امتدادا لذمة أهل الكتاب في بلاد المسلمين منذ قرون كمصر والشام والعراق.
وقد عاد الحديث عن التنصير في الجزائر مع انطلاق القنوات التنصيرية المرئية، وتداخل ملف التنصير مع ملفات أخرى أيديولوجية وعقدية وعنصرية متسربا من خلالها عن طريق خلق مجموعة من التلبيسات (amalgames)، كخلق مجموعة من الخلافات النِّدِّية أو الضدية مثل(عربي=مسلم)، التي ينتج عنها(غير عربي=غير مسلم)، أو مثل (مسلم=متخلف) التي يقابلها(غير مسلم=غير متخلف). وهي كلها عبارة عن ألعاب لفظية تنخرط ضمن مشروع "إعلامي" رهانه مبدأ الصدمة والمفاجأة الحوارية، في مقابل عدم الاستعداد العلمي والعقلي من قِبَل عامة المستهدفين.
وبالتالي، قد تبيّن أن للتنصير استراتيجيتين تنتجان خطابين مختلفين ومتمايزين من حيث الخصائص والفئة المستهدفة وبالتالي من حيث المحتوى: أولاهما استراتيجية نخبوية تحاول أن تمرر التنصير باعتباره خطاب قوة متمسحا بمسحة إنسانية(humaniste)، فهو خطاب ناعم يتسلل من خلال الكثير من النصوص الأكاديمية كمشاريع وحدة الأديان والدين الإنساني وحقوق الإنسان، وتتوسل الكثيرَ من المؤسسات ذات الطابع الثقافي أو الخيري أو حتى الاقتصادي. والثانية استراتيجية شعبوية تعتمد كما ذكرنا على الخطاب الصادم والمستفز، الذي لا يقدّم مشروعا بقدر ما يهدم مشروعا، وهو خطاب يراهن على اصطياد الحالات النفسية والاجتماعية الحائرة واليائسة(الوحدة والتهميش، والحرمان الاجتماعي والعاطفي، والفقر، وعدم الاعتراف، والخطيئة ومستنقع الرذيلة)، وفي حين تحاول الاستراتيجية الأولى التسلل من خلال الأيديولوجيا، تحاول الاستراتيجية الثانية المرور عبر اللغة العاطفية والتربيت على الأكتاف.
ومن أجل الوصول إلى تخطيط واضح وفعال لمحاربة التنصير كان لا بد من التمييز بين هاتين الاستراتيجيتين، وبالتالي بين الخطابين الناتجين عنهما، وقياس معادلة الفعالية والأثر بينهما لتحديد توجيه الجهود وتقسيمها بحسب الأهمية والخطورة. وإذا كانت الاستراتيجية الأولى لا تزال تجد بعض الصعوبات في اختراق المجتمع الجزائري لأسباب متعددة أهمها أنها تمثل للنظام قضية أمنية بالدرجة الأولى؛ فإن الاستراتيجية الثانية تعد من الخطورة بمكان، لأن الخطاب الإعلامي لا يدخل عبر الأبواب، وإنما عبر الشاشات، وبالتالي فهو لا يدخل البيوت، بل يخرج منها. فالخطاب الإعلامي لا يخضع لثنائية(البيت-الوسط)، ولا يعترف بالحصانة البيتية، وإنما هو وسط يتشكل داخل البيت، وكم عرفنا من عائلات كانت تتجمع حول برنامج تنصيري ظانة أنه برنامج ديني عن قصص الأنبياء! وكم من أب أدخل معه إلى البيت نسخة من الإنجيل وهو يظن أنها كتاب الله!
هذه المقدمة ضرورية –في نظري-لأنها ستسمح لنا بتصنيف الخطاب النقدي للدكتور يزيد حمزاوي-رحمه الله- للنصرانية ولمشروع التنصير. وهي القضية الأولى من القضايا التي ينبغي بيانها، فالناظر في أعمال الدكتور حمزاوي لا يصعب عليه أن يلاحظ أن مشروعه ينصب على نقد التنصير، وأن نقد النصرانية جاء لهذا الهدف. فالتغوّل الإعلامي الذي عايشه الدكتور ورأى آثاره في المشرق ثم في الجزائر هو الذي دفعه إلى تجاوز الخطوط الإعلامية للمشروع والنفاذ إلى عمق "فكرة" النصرانية، وهو ما عبّر عنه بقوله في مقدمة كتابه (النصرانية وإلغاء العقل): "وممّا دفعني إلى جمعها ونشرها هو ذلك الحماس غير العاديّ للدّوائر التّبشيريّة والمؤسّسات التّنصيريّة في التّخطيط لتنصير المسلمين، وإيقاعهم في الردّة عن الإسلام، الدّين العظيم، فجاء هذا الكتاب ليقول لأولئك المنصّرين إنّكم أحوج النّاس إلى الهداية" (1). و قد تبين للدكتور من خلال القراءة الفاحصة والمتابعة المستمرة أن هذا الذي سميناه التغوّل الإعلامي عن طريق أدوات التأثير والصدمة والإغراء والترغيب هي التي تحمي الفكرة الهزيلة المسماة بالنصرانية.
وفي اعتقادي أن هذا الرهان لم يكن من الدكتور حمزاوي مجرد خيار استراتيجي، وإنما كان قبل ذلك استعدادا تكوينيا، فالأستاذ هو من خريجي قسم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، وهذا التكوين جعله يتلقى الخطاب التنصيري الإعلامي تلقيا واعيا، أي أنه كان يفكك الأنساق الكامنة فيه، ويحدد الاستراتيجيات التواصلية والفعاليات التأثيرية في أثناء هذا التلقي، وهو ما نلمسه بصورة كبيرة من خلال كتابه المهم: "المسيحية-البضاعة المغشوشة" الذي هو في مجمله محاورات علمية ومنافرات خطابية مع بعض المتصدرين للمشهد الإعلامي التنصيري. ونلاحظ في هذا الكتاب تركيز الدكتور حمزاوي على كيفية القول(modus) في مقابل مضمون القول: (dictum)، كما نتلمسه من خلال الأوصاف التي يحدد عن طريقها الاستراتيجيات الخطابية-التنصيرية، مثل: "أكاذيب المنصرين" (2)، و"تكتيك الخلاص بالنعمة" (3)، و"بهلوانيات النصرانية والتنصير".(4)
إن أهم مميز-في نظري- لخطاب "نقد الإعلام التنصيري" عند الدكتور يزيد حمزاوي هو اعتماد نفس الأدوات، وبضراوة أكبر، ونقصد بالأدوات أدوات الخطاب الإعلامي التي هي عناصر: المفاجأة والصدمة والخطاب الساخر واللغة المزدوجة، وهذه العناصر لا تفتقد إلى البارود الذي يشعلها بالنظر إلى كمية الخرافات والتناقضات والمنطلقات الفاسدة التي تشكل بمجملها ركام التراث النصراني المحرف. وبالتالي فإن المنصرين وأتباعهم وضحاياهم الفعليين أو المحتملين يحتاجون إلى هذا النوع من الصعق الكهربائي ليوقظهم من وهم الإخلاد إلى فكرة الخطيئة الإسلامية والخلاص المسيحي. وهو ما عبر عنه الدكتور حمزاوي بصراحة في كتابه النصرانية وإلغاء العقل وهو يشرح مبررات أسلوبه في الكتابة والعرض إذ يقول: "الهدف من كتابي ليس أن يصنّف ضمن الدّراسات العلميّة المتقدّمة، فيكون في متناول الباحثين المتخصّصين فقط، وإنّما الغاية منه أن يكون رسالة إعلاميّة سريعة يصل إليها النّصرانيّ العاديّ، ورجل الشّارع، دون أن يثقل كاهله كتابي إضافة إلى مشاغله اليوميّة".(5)
وقد عالج الدكتور حمزاوي في مؤلفاته الأربعة المنشورة مجموعة من القضايا التي ترجع كما ذكرنا إلى فكرة التنصير باعتبارها نظاما معرفيا(يتضمن المعرفة عن الله وعن النبوات وعن القيامة والخلاص)، وباعتبارها دعاية إعلامية تحاول أن تصدّر نفسها بالاعتماد على مجموعة من العروض والتنازلات. وحين نلاحظ تشابك هذه القضايا نستنتج أن خيوطها تنتهي إلى العقيدة المحورية في الديانة النصرانية، وهي عقيدة التثليث بعمودها الأساسي وهو اعتقاد بنوة المسيح، فإذا اعتبرنا أن محاور العقيدة المسيحية هي التثليث والتجسد والفداء والخلاص، فلا خلاص إلا بفداء، ولا فداء إلا بطهارة مطلقة، وعليها تقوم دعوى بنوة المسيح(الابن الذي لم يخطئ، أو الإله المتجسد).
أولا: تعريف عقيدة التثليث:
عقيدة التثليث هي محور العقيدة النصرانية التي تميزها بصورة أساسية عن العقيدتين اليهودية والإسلامية، وهي عقيدة تنطلق مشكلتها من عسر تعريفها، لأن التعريف هو التحديد القولي للتصور، وتصوّر التثليث مشكل، ولكن يمكن القول إن التثليث في حدود ما يحاول النصارى شرحه هو اعتقاد أن الإله المعبود هو واحد متحقق بثلاثة: الأب والابن والروح القدس، وأن هؤلاء الثلاثة هم واحد، وفي الوقت نفسه فإن الأب إله، والابن إله، والروح القدس إله. ويتعمد الدكتور حمزاوي تقليب السكين في الجرح كما يقال بفعالية إعلامية، حيث يركز على هذا الغموض قائلا: "التّثليث أهمّ اعتقاد يؤمن به النّصارى، فلا خلاص ولا غفران ولا دخول للجنّة إلاّ بالإيمان بأنّ الله هو ثلاثة أقانيم: الأب، الابن، الرّوح القدس، وهؤلاء الثّلاثة - في نظر النّصارى - ليسوا ثلاثة بل هم واحد، فالأب إله تامّ، والابن إله تامّ، و الرّوح القدس إله تامّ، لكنّ هؤلاء الآلهة التّامين ليسوا ثلاثة آلهة بل هم إله واحد تامّ!! أنا أعلم أنّك - أيّها القارئ - لا تفهم شيئًا ممّا أقوله، لكن اعذرني فهذا قول القساوسة، هم ثلاثة آلهة. لكن يستدركون فيقولون لكنّهم واحد، وهو إله واحد، لكن يستدركون فيقولون لكنّهم ثلاثة آلهة، ثلاثة في الواحد وواحد في الثّلاثة! وإذا كان من واجبي كباحث في هذا الموضوع أن أشرح لك هذا الكلام، فأعتذر إليك مسبقًا بقولي: "إنّ فاقد الشّيء لا يعطيه"؛ لأنّي كسائر علماء اللاّهوت ورجال الدّين والفلاسفة والمفكّرين لم أصل لغاية السّاعة لشرح أو فهم لذلك الكلام!".(6)
وتعد عقيدة التثليث معطى تاريخيا أكثر منها معطى لاهوتيا أو نصيا، لأنها ناشئة عن تحولات تاريخية وتصادمات دينية وتصورية عرفتها المسيحية الأولى(مسيحية القرون الثلاثة) إلى غاية مجمع نيقية ونتائجه. ولذلك فإنها نقطة خلاف داخل النصرانية نفسها، وانفصلت على أساسها وانشقت عدة طوائف، لأن الثالوث لم يتشكل في لحظة زمنية واحدة، وإنما تحول من عقيدة التوحيد إلى عقيدة التثنية(الأب والابن) إلى أن وصل إلى شكله الثلاثي(الأب والابن والروح القدس). كما أن المعادلة القيمية لعناصر الثالوث شهدت هي نفسها تحولات من اعتقاد أكبرية الأب إلى اعتقاد مفهوم التكافؤ.
ثانيا: مشكلات التثليث في أعمال الدكتور يزيد حمزاوي:
إن الحديث عن عقيدة التثليث إما من حيثية وصفية أو من حيثية نقدية متناثر في مواضع من أعمال الدكتور يزيد حمزاوي المنشورة، إلا أننا إذا حللنا التثليث وبينا مستنداته النصية واللاهوتية اكتشفنا أن جهود الدكتور حمزاوي في كلّيتها هي تقويض لهذه المستندات، وذلك للسبب الذي ذكرناه أعلاه، وهو أن منتهى عقائد الخلاص والتجسّد والصلب والفداء والموت والقيامة كلها ترجع إليه، فنقضها هو في الحقيقة كسر لقوائمه. يقول الدكتور: "التّثليث أهمّ اعتقاد يؤمن به النّصارى، فلا خلاص ولا غفران ولا دخول للجنّة إلاّ بالإيمان بأنّ الله هو ثلاثة أقانيم: الأب، الابن، الرّوح القدس" (7). ومع ذلك فقد خصص الدكتور حمزاوي لقضية التثليث فصلين من كتابه: "النصرانية وإلغاء العقل". وهما الفصل الثالث المعنون: "التثليث" (8)، والفصل الرابع المعنون: "وثنية التثليث".(9)
ومع أن مجموع النصوص التي تشكل هذه المدونة الصغيرة قليل إذا ما قورن بما يمكن أن يكتب في مسألة الثالوث، فإن قيمتها تتعلق بالأسئلة المحرجة التي وجهها الدكتور حمزاوي لهذا المفهوم، والتي أحاطت به من الجوانب المختلفة التي تؤسسه، إلى درجة أنه جعله "فأرا في مصيدة"، وهو ما يبرر العنوان الذي اخترته لهذه المداخلة، وهو: "حصار الثالوث". ويعلن الدكتور حمزاوي بلغة ملآى بالاستعداد النفسي والعلمي والإيماني عن جاهزيته لخوض هذه المعركة بالحجة والبرهان، يقول: "أما المنصرون اليوم فلم يبق لهم حيلة لنشر فكر التثليث الوثني ولاهوت المسيح وبنوته وموت الإله وقيامته إلا الغش ثم الغش، وأخيرا الغش، ونحن بعون الله لهم بالمرصاد، لا بالهجوم المنفعل المتشنج الفارغ، ولا بالظلم والتعدي، ولا بالعنف والقوة، لكن بالحجة والبرهان والدليل والبيان، بالقلم واللسان لا غير".(10)
وبقراءة متفحصة للفصل المعقود للتثليث من كتاب "النصرانية وإلغاء العقل" نلاحظ الترتيب المحكم الذي بنى عليه الدكتور حمزاوي حصار الثالوث: حيث عالج قضية التثليث: لغويا وتصوريا ولاهوتيا ونصيا وتاريخيا ومنطقيا، إلى درجة أن القارئ المنصف لا يكاد يتجاوز هذا الفصل الذي لا يبلغ ثلاثين صفحة حتى يكون التثليث قد دخل عنده في حيز العبثيات. وسنحاول أن نضبط عناصر المناقشة الحمزاوية في خمسة جوانب لا يمكن تأسيس التثليث إلا من خلالها، وهي:
أ-المشكلة النصية:
تستند الديانات السماوية في وجودها على الوحي الإلهي للأنبياء، فالشريعة لا تقبل إلا بالاستناد إلى النص الموحى الذي هو وحي الله لأنبيائه المأمورين بتبليغه للناس، أو كلام الأنبياء فيما أمروا بتعليمه للناس. وعليه فلا سبيل إلى إثبات عقيدة أو شريعة في الديانات السماوية إلا بالاستناد إلى النصوص. وإذا اتفق أهل الملل الثلاث على هذا الأصل، فإن مرجع المناقشة الأول في إثبات العقائد التي هي أصول الدين هو الثبوت النصي لها.
من هذا المنطلق يبدأ الدكتور يزيد حمزاوي مناقشة ثبوتية التثليث من حيثية نصية، حيث يبين أن عقيدة بهذه الأهمية لا يمكن إلا أن تكون محورا أساسيا من محاور "الكتاب المقدس"، ليفاجئ القارئ بحقيقة أن المرجع النصي للديانة النصرانية خالٍ تقريبا من التنصيص على أهم عقيدة من عقائدها! وأن المرجعية النصية للقساوسة في هذه المسألة هي بالضبط آيتان من العهد الجديد، ثم تأتي الصدمة الأخرى، وهي أن هاتين الآيتين دخيلتان على نص الكتاب المقدس!
وقد عالج الدكتور حمزاوي هذه المسألة في موضعين من كتبه، ونحن نسوق أحدهما، حيث يقول موردا أمثلة النصوص الدخيلة: "ورد في رسالة يوحنا الأولى 5:7-8(فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب والكلمة والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والثلاثة. والثلاثة هم في الواحد). حُذف كل ما تحته خط، وإن هذا النص لا يوجد في المخطوطات اليونانية كلها، وقصته شهيرة، وهذا النص أكبر دليل على أن هناك شخصا أراد أن يفرض فكرة التثليث على الكنيسة، لكن النصوص الحديثة حذفتها، وهو دليل على أن تحريف الكتاب لم يكن مستحيلا. وحتى صيغة التثليث التي ذكرت في متى28:19(فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس)، فهناك من يشكك فيها، استنادا إلى نص لأحد الآباء-وهو أوزيبيوس- الذي قرأها: (فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم المسيح)، واستنادا كذلك إلى صيغة التعميد المستخدمة بين التلاميذ كما هو مشار إليه في سفر أعمال الرسل من جهة، ، وتقاليد الكنيسة الأولى التي كانت تعمد فقط باسم المسيح، ولم تكن تعرف شيئا عن الروح القدس، كما ورد في النصوص البولسية، ويقولون إن صيغة التثليث لم تكن بعدُ قد تبلورت في القرنين الأولين من تاريخ الكنيسة". (11)
ولكن الدكتور حمزاوي لا يكتفي بهذه المناقشة، بل يدفع الحصار إلى حدود أبعد، حين يناقش حضور فكرة التثليث في العهد القديم، وذلك لما ينبني على غيابها من تضليل أنبياء العهد القديم في باب معرفة الإله نفسه! وتجهيلهم به. يقول: "هل ورد ذكر الثّالوث والأقانيم الثّلاثة في العهد القديم، أو على لسان الأنبياء و الرّسل الذين سبقوا المسيح؟ لم يحدث ذلك إطلاقًا ! فأسفار العهد القديم خالية من أيّ تثليث ولم تشر إلى أنّ الله مكوّن من ثلاثة أقانيم أو أجزاء، ولم يُعلم أو يُسمع أنّ الله أخبر نوحًا أو إبراهيم أو موسى أو داود أنّه إله واحد في ثلاثة آلهة؛ وإذا تصفّحت بإمعان أسفار العهد القديم فلا يمكن أبدًا أن تقع عينك على كلمة ثالوث أو على صيغة الأب والابن والرّوح القدس، كما يعتقد بها النّصارى اليوم، أليس غريبًا حقًّا ! أنّ عقيدة مثل هذه، وبهذه الأهمّيّة والخطورة، يتوقّف عليها هلاك النّاس أو نجاتهم لا نرى لها أيّ إشارة في التّوراة وكتب الأنبياء لا تصريحًا ولا تلميحًا، فلماذا؟ ألم يكن الله قد قرّرّ بعد إخبار البشر بها، أم أنّ البشر لم يكونوا في ذلك الوقت قادرين على استيعابها وإدراكها مثلما لم يستوعبها أحد حتّى الآن!؟".(12)
ويأبى الدكتور حمزاوي أن يغادر المناقشة النصية ويطوي ملفها حتى يدق المسمار الثالث في نعش التثليث في تأسيسه النصي، فيشير إلى أن الكتاب المقدس الذي يزعم النصارى سلامته من النقص والتحريف والتغيير يؤسس في مئات النصوص منه التوحيد المحض الذي ينقض التنديد فضلا عن التثليث، يقول في هذا الصدد: "وفي مقابل ذلك نعثر على مئات الآيات في العهد القديم التي تصف الله بالوحدانيّة وتقرّر تفرّده بالألوهيّة والرّبوبيّة.
(اسمع يا إسرائيل الربّ إلهنا ربّ واحد).
(فاعلم اليوم وردّد في قلبك أنّ الربّ هو الإله في السّماء من فوق وعلى الأرض من أسفل ليس سواه).
(انظروا الآن أنا أنا هو وليس إله معي).
(أنا الربّ وليس آخر، لا إله سواي).
(أليس أنا الربّ ولا إله آخر غيري، إله بارّ ومخلص ليس سواي التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأنّي أنا الله وليس آخر).
والآيات كثيرة وكلّها تتّفق على وحدانيّة الله، بلا ثالوثيّة أو أقنوميّة".(13)
ب-المشكلة التاريخية:
إن إخراج عقيدة التثليث من كونها فكرة نصية يدفعها إلى دائرة الفكرة التاريخية، وهي الحصار الثاني الذي ضربه الدكتور يزيد حمزاوي على الثالوث، حيث أجاب بالأساس عن سؤالين: إذا لم يكن التثليث صادرا عن الكتاب المقدس فما مصدره؟ وما أصل تحوله إلى عقيدة نصرانية؟ أما السؤال الأول فقد تفرغ الدكتور للإجابة عنه في الفصل المعقود بعنوان: "وثنية التثليث"، والذي لم يتدخل فيه كثيرا مكتفيا بمبدأ "من فمك أُدينك"، حيث أورد جملة من النقول عن أسماء كبيرة في عالم البحث اللاهوتي ومقارنة الأديان (14)، تعترف بالأصول الوثنية لهذه العقيدة، متحيّنا –بذلك- السؤالَ الذي يفرض نفسه على كل من اطلع على تلك النقول والإثباتات التاريخية: إذا كان الأمر كذلك، فتحت أي ظرف التبست هذه الخرافة الموغلة في القدم بعقيدة النصارى؟
يكتفي الدكتور بسرد تاريخي واضح وموثّق يجيب عن هذه القضية، فيقول (15): " ثم جاء إمبراطور روماني اسمه قسطنطين جمعهم في مدينة اسمها نيقية، وقرَّر أن يجمعهم على عقيدة واحدة ويتَّفقوا على كتبٍ واحدة... في سنة 325، أي في نهاية الربع الأول للقرن الرابع الميلادي، [وهو] أوّلُ مجمع مسكوني ...اجتمع فيه ألفان وثلاثة وأربعون قسًّا ورجل دين نصرانيًّا من بينهم أناس موحِّدون مؤمنون أنّ المسيح هو رسول الله ...وكانوا أكثرية، وكان زعيمهم يقال له أريوس، لكنّ قسطنطين الإمبراطور نفسه كان يتبنى الوثنية...،[فقد]كان رومانيا ولم يدخل في النصرانية إلا سنة 313...، لهذا انحاز إلى الوثنية التي كان يؤمن بها هو وقومه [بتأييد] جانب أحد القساوسة يقال له بطرس - راعي كنيسة الإسكندرية- وهو من ادعى أن المسيح هو ابن الله ...ثم قام الإمبراطور بطرد الجماعة الموحدة...وقتلهم وحرقهم... وبقي ثلاث مائة وثمانية عشر قسيسا اجتمعوا وقرَّروا هذه الديانة النصرانية التي تعرفونها، وقرَّروا هذه الكتب التي يزعمون أنَّها كتبهم" (16). "وبعد عشرات السّنين وبالضّبط في مجمّع القسطنطينيّة سنة 381 م، تمّ إعلان عن صنع إله ثالث، وهو الرّوح القدس، فاكتمل الثّالوث".(17)
ج-المشكلة التشريعية:
ليست المشكلة التشريعية بالبعيدة عن المشكلة النصية، فالثبوت النصي هو أصل التشريع، ولكننا أفردناها باعتبار النظر في الطريقة التي تم بها إقرار عقيدة التثليث، وهي المرحلة التالية لمرحلة الدخول التاريخي لهذه العقيدة، وهو ما عالجناه في العنصر السابق، إذ يمكن لأفكار معينة أن تتخلل منظومة دينية من غير أن تنال الاعتراف، كما هو شأن البدع الداخلة على المسلمين في اعتقاداتهم وأعمالهم، ولكن عقيدة التثليث الوثنية استطاعت بطريقة ما أن تنتزع أعلى درجات الاعتراف الكنسي من قبل من كان يفترض أن يكونوا حماة البشارة والمعمّدين باسم المسيح. وقد تم ذلك بأسوأ طريقة ممكنة بالنسبة إلى "الدين"، لقد تم ذلك بالإرادة الإنسانية في مقابل الإرادة الإلهية!
يشير الدكتور يزيد حمزاوي إلى هذه الحقيقة المخزية لتاريخ النصرانية فيقول: "فالنصرانية أو دين الكنيسة الذي يدعى كذبا وزورا (المسيحية) ما هو في الحقيقة إلا (كوكتيل) من الوثنيات القديمة، وخرافات العجائز، وسفسطات مسروقة من بعض الفلسفات السخيفة، التي راجت قبل ألفي سنة، وبمرور الزمن تدخلت أقلام خفية في كتب النصارى، فعبثت بها وأفقدتها عذريتها حتى كادت تمسخها عن بكرة أبيها، إلى حد لم يعد فيها ما يهدي البشر إلى خير الدنيا والآخرة، وبمساندة أباطرة روما وبيزنطة، لفِّقت قرارات في مجامع كنسية، حيث كانت تتبنى فيها قوانين الإيمان بالغلبة والتصويت! نعم، لقد أصبح المسيح ربا يعبد من دون الله بالتصويت، وأضحى إله موسى الواحد الصمد ثالوثا وثنيا بالتصويت، واختيرت أسفار مزيفة وأبعدت أخرى بالتصويت، وتلاعن الحاضرون بالتصويت، وطرد من طرد من الجنة والملكوت بالتصويت، وسفكت دماء وأبيدت مذاهب بالتصويت!". (18)
د-المشكلة اللغوية:
إن العبارة اللغوية تبقى هي حامل المعنى من مرسله إلى متلقيه، وبالتالي فإن المعنى مرهون في شراك العبارة حتى تصل إلى درجة من النصاعة يحصل معها التجلي الدلالي. ومن غير هذه النصاعة، فإن المعنى يبقى محتبسا، وحين يحاول "كاتب النص" أن يمرر من خلال اللغة خلاف ما تحتمله اللغة وتدل عليه، فإننا نجد أنفسنا أمام المشكلة اللغوية. لقد كانت لغة الكتاب المقدس دوما أنموذجا للغموض بسبب مراهنتها على الرمزية والخفاء. وأخذت العقائد اليهودية والنصرانية في الوقت نفسه مسالك أخرى في التأسيس بعيدة عن دلالة نصوص الكتاب المقدس عليها. وحين طولب مفسّرو العهدين باستنطاق النص عن تلك العقائد، بدأت تظهر المشكلات اللغوية. إن المشكلات اللغوية ليست ناتجة عن النص نفسه، بقدر ما هي ناتجة عن محاولة توليد دلالات طارئة لا علاقة لها بالنص باعتباره بنية لغوية.
ومن خلال مناقشة الدكتور يزيد حمزاوي للمشكلة اللغوية للتثليث باعتباره "عبارة لغوية"، يحاول أن يضع الأصبع على قضيتين أساسيتين:
القضية الأولى هي اللفظ المعبر عن الطرف من الثالوث، وهو "الأقنوم"، يقول بهذا الصدد: "نعود الآن إلى الأقانيم الثّلاثة، ما معنى كلمة أقنوم؟ يقول النّصارى إنّ "الأقنوم" كلمة سريانيّة تعني كلّ ما تميّز عن سواه دون استقلال، وفي موضوع الثّالوث تعني وجود ثلاثة أشخاص متّحدين دون امتزاج ومتميّزين دون انفصال. نسأل النّصارى هل لكم أن تضربوا لنا مثالاً واحدًا في هذا الكون "غير الثّالوث" يصدق عليه مصطلح الأقنوم، لن تستطيعوا ذلك لأنّ المعنى 'المفبرك' الذي أضفيتموه على مصطلح الأقنوم لا تقبله العقول؛ لذا لا يصدق على أيّ مثال واقعيّ مادّيّ أو معنويّ، ثمّ لماذا يرد هذا المصطلح الفريد من نوعه بالسّريانيّة دون اللّغات الأخرى كالعبريّة مثلاً وقد كانت لغة العهد القديم؟ ألم يكن لذلك المصطلح وجود حينها؟ ثمّ لماذا لم يرد هذا المصطلح في العهد الجديد؟!
وأخاطب الآن نصارى العرب، ما هي ترجمة مصطلح أقنوم إلى العربيّة؟ ستقولون عجزت اللّغة عن إيجاد مصطلح مطابق للمعنى الذي ورد بالسّريانيّة، فيا سبحان الله ! اللغة العربيّة الغنيّة بمصطلحاتها والثّريّة بمترادفتها تعجز أمام السّريانيّة !، اللغة العربيّة التي تحتوي على عشرات المفردات المترادفة لمعنى واحد عاجزة أن تجد كلمة تعبّر بها عن أهمّ شيء في هذا الكون وهو الله أو أحد أجزائه !
مع ذلك نرى في بعض كتب النّصارى محاولات لترجمة قريبة، مع كونها منتقدة من النّصارى أنفسهم لإيحائها بالشّرك؛ فممّا قيل عن الأقانيم أنّها: خواصّ، صفات، أجزاء، أشخاص، أعضاء، أطراف، أقسام، أشياء، عناصر، تعينات ... إلخ".(19)
فخلاصة هذه القضية هي أن المشكلة الترجمية توحي بوجود مشكلة "تدليلية" بالأساس(problème de signifiance)، فالذي يعطّل الترجمة هو أن المعنى مصطنع، بل المسألة أسبق من الترجمة، لأنها راجعة إلى أن لغة الكتاب المقدس الأصلية لم تستطع أن تتحمل هذه الدلالة (المفبركة). ولأن المشكلة تدليلية فإن المعنى المقترح لتفسير الأقنوم ليس له مطابق فعلي في عالم الموجودات أو المعقولات، مما يوحي بأنه تصنيع مذهبي وليس إحالة لغوية طبيعية. ومع أن هذه المناقشة تحتمل قدرا من الحوار العلمي اللغوي، فإنها أحسن تمهيد لما بعدها، وهو:
القضية الثانية: المتعلقة بالعبارة اللغوية لا عن الثالوث بل بين أطراف الثالوث، فالآيات التي جاءت في العهد الجديد مرسخة لفكرة الإله الواحد لن تُعجز المثلّث بتأويلها والتهرب منها بأن الإله الواحد هو الأقانيم الثلاثة المتحدة العلم والإرادة. ولكن المشكلة الفاضحة هي نصوص الكتاب المقدس التي تجعل أحد الأقانيم يقابل نفسه بالآخر، وينفي عن نفسه ما يثبته للآخر. فالـ(أنا) في مقابل الـ(هو)، مشكلة لغوية لدعوى الثالوث الذي هو الواحد، وخصوصا -كما قلنا- إذا كان الـ(أنا) ينفي عن نفسه ما يثبت للـ(هو) أو يثبت لنفسه ما ينفي عن الـ(هو).
وقد تنبه الدكتور يزيد حمزاوي إلى هذه القضية التي تسبب اختلالا في فهم النص في ضوء عقيدة التثليث المزعومة، لأنها تجعل شخوص الحوار تتكلم بما ينقض التثليث لا بما يدعمه. يقول مثلا: "وإذا كان النّصارى يؤمنون بألوهيّة المسيح فإنّ الإنجيل يطفح بالآيات التي ترفض هذه الفكرة فلا تكاد تقرأ في آيات إنجيليّة إلاّ وجدتها تجعل من المسيح ابنا للإنسان، ونبيًّا مرسلاً وعبدًا لله، ولنتأمّل بعض هذه الآيات، (صعد يسوع إلى الهيكل وكان يُعلم فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلّم أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني، إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف هل هو من الله أم أتكلّم أنا من نفسي).
(لم أتكلّم من نفسي لكنّ الذي أرسلني هو أعطاني وصيّة ماذا أقول وبماذا أتكلّم، وأنا أعلم أنّ وصاياه هي حياة أبديّة فما أتكلّم أنا به، فكما قال لي الأب هكذا أتكلّم)، لو كان المسيح هو الله أو أحد الأقانيم الثّلاثة فلماذا يعزو رسالته إذن للذي أرسله ولم يعزها لنفسه!؟ ... (لو كنتم تحبّونني لكنتم تفرحون لأنّي قلت أمضي إلى الأب لأنّ الأب أعظم منّي).
إنّ هذه الآية ظاهرة في أنّ المسيح الابن 'الأقنوم الثّاني' أضعف من الأب، والأب أعظم من الابن بصريح العبارة، فكيف تقول الكنيسة إنّ الابن هو الأب، وإنّ أقنوم الابن يساوي أقنوم الأب؟، وهذا غير صحيح بشهادة المسيح نفسه، ألاّ ترون أنّ الأقنوم الثّاني يخبركم أنّ الأقنوم الأوّل أعظم منه، والأعظم هو دائمًا الله وما دونه في العظمة لا يستحقّ أن يًعبد أو يؤلّه.
(وسأله رئيس قائلاً: أيّها المعلّم الصّالح ما أعمل لأرث الحياة الأبديّة، فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا ؟ ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله)، قبل أن يجيب المسيح السّائل صحح له معتقدًا هامًّا وهو أنّ الصّلاح الكامل صفة للّه لا يشاركه فيها النّاس حتّى المسيح نفسه، ولو كان المسيح هو الله أو أحد الأقانيم الثّلاثة لما كان هناك مسوّغ لإنكار صلاحه".(20)
ه-المشكلة المنطقية:
تنتهي كل الحلول المفتعلة للمشكلات سابقة الذكر، والتي حاول شراح العقيدة النصرانية تقديمها إلى الاصطدام بالإدراك المنطقي المحض لعقيدة التثليث، أي القدرة على تصورها وتمثلها، باعتبارها "قضية"، ولذلك فإن عقيدة التثليث لا يمكن أن "تتسرب" إلى الوجدان النصراني إلا عن طريق "إلغاء العقل"، فإلغاء العقل شرط التسريب، إذ مرورها عبر الإدراك غير ممكن بشهادة القساوسة أنفسهم. يقول الدكتور يزيد حمزاوي: "أمّا عند القساوسة والكنيسة فهي [أي عقيدة التثليث]سرّ ولغز مقدّس! لا يمكن فهمه في هذه الدّنيا ولا تصوّره على حقيقته، جاء في أحد المجامع الكنسيّة، وهو مجمّع لاتيران، الذي عقد سنة 1315 م [ إنّنا نؤمن إيمانًا جازمًا من أعماق قلوبنا بأنّ هناك إلهًا واحدًا خالدًا لا نهائيًّا لا يحول ولا يزول، إلهًا لا نفهمه، عظيمًا لا يمكن التّعبير عنه: الأب والابن وروح القدس ..]. ويقول القسّ بوطر بعد استعراضه عقيدة التّثليث: قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا ونرجو أن نفهمه فهمًا أكثر جلاء في المستقبل، حيث ينكشف لنا الحجاب عن كلّ ما في السماوات والأرض، وأمّا في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه الكفاية".(21)
وقد ناقش الدكتور حمزاوي الفكرة منطقيا عن طريق مجموعة من التقنيات كان من أهمها نقض المماثِل، فبعد أن عرض فكرة القس غابريال عن تأسيس فكرة حتمية التثليث بضرورة المحبة الأزلية، وأن الإله كان مقتضيا للابن ليحبه في الأزل إذ لا يتصور إله غير محبّ ولا سعيد (22)، يعمل الدكتور حمزاوي على قلب هذا الاستدلال عن طريق نقض المماثل وهو صفة الخلق، ولا نجد أبين من الألفاظ التي استعملها في هذه المناظرة الصاعقة إذ يقول: "لقد أوردت كلام القساوسة السّابقين على طوله ليعرف النّصارى وغيرهم مقدار تفكير القسس والحجج التي يستندون إليها لتجويز الاعتقاد بالثّالوث، وإنّ هذا الاحتجاج السّخيف جدًّا ينقلب ضدّ القسس وضدّ الكنيسة وضدّ عقيدة التّثليث؛ إذ لو اعتقدنا أنّ صفات الله وأفعاله يجب أن تكون موجودة قبل خلق العالم وأنّ تلك الصّفات تمارس بين الأقانيم الثّلاثة وجب علينا إذًا أن لا نقتصر على الأمثلة التي يضربها القساوسة عن الصّفات الإلهيّة بل وجب التّعميم على جميع الصّفات والأفعال الإلهيّة، وهنا أتساءل أليست من صفات وأفعال الله الخلق وأنّ الله خالق؟ ستقولون بلى، وأقول هل كانت صفة الخلق معطّلة قبل خلق العالم ؟، ستقولون كلاّ.
وسأقول فإذن مع من كان يمارس صفة الخلق؟
لا شكّ وفق تفكيركم السّابق أنّ الله كان يمارسها مع نفسه أو ابنه أو مع الثّالوث 'الوحدانيّة الشّاملة كما يسمّيها القسّ غابريال، فهل يمكن أن تشرحوا لنا كيف كان يمارس الله صفة وفعل الخلق مع نفسه أو ابنه أو ثالوثه، هل كان الله يخلق ذاته؟ فإذًا الله مخلوق ! هل خلق الله الابن؟!، لكنّ الكتاب المقدّس يقول عن الابن مولود غير مخلوق !".(23)
ولأن فكرة التثليث مستندة إلى تكافؤ الأقانيم بسبب اتحاد الإرادة والمعرفة كما يزعمه النصارى، فإن الدكتور حمزاوي يضع النصارى خاصتهم وعامتهم أمام مشكلة نصية منطقية ممتنعة عن الحل، وذلك حين يعلن الابن، أو الإله ففي ناسوته كما يشاؤون انفصال المعرفة في قضية القيامة بين أقنومي الأب والابن، يقول بعد إيراد الآية الإنجيلية: (ذلك اليوم وتلك السّاعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السّماء ولا الابن إلاّ الأب): "الآية واضحة جدًّا في أنّ المسيح ابن الله الأقنوم الثّاني للثّالوث يجهل، ويجهل شيئًا هامًّا جدًّا، وهو ساعة انتهاء العالم أو يوم القيامة، وهذه معلومة لا يجوز بحال من الأحوال أن يجهلها الله أو أحد أقانيمه الثّلاثة، والجاهل بالشّيء لا يمكن أن يرتقي إلى مصاف الآلهة! أيّها النّصارى!".(24)
الخلاصة:
لقد حاولت من خلال هذا العرض السريع لمناقشة فكرة التثليث في أعمال الدكتور يزيد حمزاوي إبراز ملمح من ملامح قوته الحجاجية، وهي قدرته على ضرب الحصار، أي محاصرة المشكلة من كل جوانبها التي يمكن إدراكها من خلالها، بما لا يدع مجالا لاستنقاذها من الإبطال والتزييف. وأعتقد أن هذه الطريقة كما أنها فعالة على المستوى العلمي، فإنها فعالة على المستوى الإعلامي، وخصوصا إذا صيغت بلغة إعلامية "مفاجئة" و"صادمة"، وما دام المشروع النقدي للنصرانية مؤيَّدا بالحق المطلق في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فإنه لا يحتاج إلى ألاعيب الإعلاميين ولا إلى "بهلوانياتهم" كما يسميها الدكتور حمزاوي، بل يحتاج فقط إلى فؤاد صادق ولسان صاعق لتحقيق الأثر المطلوب. ولندع للدكتور يزيد حمزاوي كلمة الختام في تقييم فكرة التثليث بعد أن هدم أسس إدراكها.
"لقد جنت الكنيسة على نفسها أعظم جناية عندما آمنت بالثّالوث؛ فعندما تؤمن الكنيسة بذلك الاعتقاد فإنّها تكفر بكلّ آيات الكتاب المقدّس بعهديه التي ترفض الثّالوث، ولمّا لم يسع رجال الدّين العمل بنصوص كتابهم الصّريحة الثّابتة في دخول المسيح في العبوديّة، ووحدانيّة الله بلا أقانيم ولا شريك، عاقبهم الله بالعيِّ والحيرة والتخبّط، ووصفهم القرآن بالضّالّين، لأنّهم يعبدون الله على جهل وفق عقيدة مستحيلة التّصديق، عديمة المعنى، تجعل المؤمن أهوج، فاقد العقل، بليدًا، عديم الوعي، وهذا جزاء من كفر بالعقل السّليم والنّقل الصّحيح وآمن بعقل الشّيطان وردّ وحي الله وقبل بوحي بولس وإبليس".(25)
الهوامش
-النصرانية وإلغاء العقل، ص5.
2-المسيحية البضاعة المغشوشة، ص25.
3-المرجع نفسه، 46.
4-المرجع نفسه، ص55.
5-النصرانية وإلغاء العقل، 69.
6-النصرانية وإلغاء العقل، ص69-70.
7-النصرانية وإلغاء العقل، ص69.
8-النصرانية وإلغاء العقل، ص69.
9-النصرانية وإلغاء العقل، ص97.
10-المسيحية البضاعة المغشوشة، ص8.
11-المسيحية البضاعة المغشوشة، ص142-143. وينظر كذلك: النصرانية وإلغاء العقل، ص ص: 80-87.
12-النصرانية وإلغاء العقل، ص78.
13-النصرانية وإلغاء العقل، 78-80.
14-ينظر: النصرانية وإلغاء العقل، ص ص:97-103.
15-أبشروا لم يعد المسيح ابنا لله، ص15.
16-محاضرة مسجلة بعنوان : (التحريف في النصرانية).
17-النصرانية وإلغاء العقل (ص:134).
18-المسيحية البضاعة المغشوشة، ص5-6.
19-النصرانية وإلغاء العقل، ص75-76.
20-النصرانية وإلغاء العقل، ص91-92.
21-النصرانية وإلغاء العقل، ص71.
22-انظر: النصرانية وإلغاء العقل، ص : 71-74.
23-النصرانية وإلغاء العقل، ص74.
24-النصرانية وإلغاء العقل، ص93.
25-النصرانية وإلغاء العقل، ص95.