مغالطات مصطلح "العلمانية"
( ج صحافة اليرموك-ص4- السبت 12 تشرين ثاني 1994م )
الكتابة عن "العلمانية" يحتاج إلى كتب، لكن لا يمنعنا أن نمرّ على جانب واحد من هذا المفهوم لنصحّح رؤية خاطئة ونظرة مغلوطة.
بداية إنّ ظهور "العلمانية" كان ردة فعل للطّغيان الكنسي في أوروبا طغيان ديني وعلمي واقتصادي وسياسي ... فقد كان رجال الكنيسة متحالفين مع الإقطاع الذين ساموا الفقراء والطّبقات السّفلى أتواع العذاب، وعندما بلغ هذا التآمر ذروته انفجرت أوروبا كلّها لتكفر بالدّين، بكلّ دين، رغم أنّهم لم يكونوا يعرفون غير دين الكنيسة الذي يخدم مصالح البابوات والكرادلة ومصالح ملوك الإقطاع على حساب الشّعب المغضوب عليه في الدّنيا والآخرة، فإذا حاول مجرّد الشّكوى قابلته جنود الملك بسوء العذاب، وواجهه رجال الكنيسة باللّعن والطّرد من ملكوت الله "الجنّة" هذا باختصار شديد .. ممّا دفع الدّهماء والفقراء في الثورة الفرنسية إلى الصّياح في شوارع باريس، وراء قائدهم الثّائر "ميرابو" بقولهم "لنشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس".
وبعدها بأيّام "شنقوا الكنيسة كلّها" وأزاحوها بمساعدة أيد يهوية عن الحياة العامّة، وسجنوا الدّين بين جدران الكنائس والاديرة، وفتحوا أبواب الإلحاد على مصراعيه لتدخل منها "العلمانية" بمختلف مظاهرها ... العقلانية، الطبيعية، الديمقراطية، الداروينية، الدوركامية، الفرويدية، الشيوعية، ... ولغاية ذلك الوقت لم يكن الأمر يتعلّق بالمسلمين، فقد كنا بعيدين عن السّاحة وليس عندنا رجال كنيسة، ولا عندنا ملوك الإقطاع، لكن تدريجيا وصلتنا العدوى فتلقَّف بعض الأتباع مصطلح "العلمانية" فاستوردوه وطبّقوه بالقوّة تارة وبالخدعة والمغالطة تارات أخرى.
كان أوّل تلك المغالطات التّسمية ذاتها " فهي ترجمه لكلمات SECULARISM ,SECULARIT بالانجليزية والفرنسية، وهي في الواقع ترجمة خاطئة وبعيدة عن الصّواب فكلمة SECULARISM يقابلها في اللغة العربية "اللادينية" أو "الإلحاد" لكن خبث المترجمين جعلهم يختارون كلمة "العلمانية" لأنّها خداعة، وتوهم المسلمين أنّها مشتقّة من العلم، الّذي يقدّسه المسلمون، ويعرف المترجمون جيدا أنّ الترجمة الحقيقية "اللادينية" و "الإلحاد" لا تجد لها رواجا في بلاد الإسلام وتقابل بالرّفض المطلق، وهذا مع العلم أنّ المترجمين اختاروا هذه التّسمية ليفرقوا بين ما لا يستند إلى دين فهو "علمي علماني" وما يستند إلى الدّين فهو "لا علمي خرافي"!
والمغالطة الثانية هي في تعريف "العلمانية" فقد عرفها المروجون لها أنّها "فصل الدّين عن الدولة" أو "فصل الدّين عن السياسة" وهذه كذلك خدعة لا تقلّ عن سابقتها خبثا، إذ إنّ العلمانية بمفهومها وأهدافها وتطبيقاتها على الواقع تعني "فصل الدّين عن الحياة" وليس فقط الدّولة والسياسة، نعم بدأ الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الإلهية، لكن تجاوزت ذلك إلى مناحي الحياة كافة، مثل الأخلاق والفنون والعلوم والتقاليد والعادات .. ثمّ آخرها الأحوال الشخصية وللتأكد من ذلك أذكر تعريف دائرة المعارف البريطانية "للعلمانية" فتقول: "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف النّاس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدّنيا وحدها، ذلك أنّه كان لدى النّاس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدّنيا والتأمّل في الله واليوم الآخر، ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت "العلمانية" تعرض نفسها من خلال تنمية النّزعة الإنسانية إذ بدأ النّاس في عصر النهضة يظهرون تعلّقهم الشّديد بالإنجازات الثّقافية البشرية، وبإمكانيات تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة وظلّ الإتجاه إلى "العلمانية" يتطوّر باستمرار خلال التّاريخ الحديث كلّه باعتبارها حركة مضادة للدّين ومضادّة للمسيحية".
وانطلاقا من تعريف الموسوعة البرطانية يتأكّد أنّه لا مبرر لوجود العلمانية عندنا طالما لا توجد أسبابها، فالإسلام جمع بين العلم والغيب والجسم والروح وبين الدّنيا والآخرة، ولكن صدق الله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}
هذه هي العلمانية الّتي بدأت تؤتي في البلاد الإسلامية أشواكها ولا يزال شباب الأمّة يجهل ما يدبّر له، فهو جيل لم يتجاوز تفكيره وهمّه شهوات الجسد ونزوات النّفس، فإلى متى يا شباب لا إله ألا الله!!؟