طباعة
الأحد 19 جمادة الثاني 1443

نريد متدينين من النوع "الثمين"؟

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

نريد متدينين من النوع "الثمين"؟
د. يزيد حمزاوي_رحمه الله_
ترددت على أحد مساجد العاصمة أسبوعين كاملين، وهو من أكثر المساجد اكتظاظا بالشباب السني الملتزم، واظبت في تلك المدة كلها، على أداء صلوات الظهر والعصر والمغرب، كنت قبيل كل صلاة وبعدها أرى عشرات من الشباب، الذين يحملون علامات الإلتزام الديني الظاهرية، المتمثلة في الثوب المقصر والطاقية واللحية، يتحلقون مثنى وثلاث ورباع أو أزيد من ذلك، هنا وهناك في جنبات المسجد أو متكئين إلى أعمدة الجامع، أما بعضهم الآخر فكان يقف خارج المسجد، يتحدث ويتحدث ويتحدث، انتظارا إقامة الصلاة، بينما كثيرون بعد الفراغ منها، يبقون خارجه يتكلمون ويتكلمون ويتكلمون...
هكذا أضحى المشهد، وهكذا بات الجو... مفعما بالأصوات التي يضج بها المكان، والتي تخرق هدوءه وتكسر سكينته وتهين قدسيته، لم أكن بحاجة لحسي الصحفي ليمدني بتقنيات الإنصات لما يقول هؤلاء وأولائك...لقد كان صدى كلماتهم يدق طبلة أذني بالرغم عنها، حتى كدت أشفق عليها.
فمثلا هؤلاء الثلاث وسط المسجد، أصحاب اللحى الطويلة والألسن الأطول منها، ما برحوا يتناوشون مذ جلسوا أمام ناظري...ففيما يختصمون ويوشك أن يقع بعضهم في بعض !؟
يبدو أحدهم متحمسا أكثر من الآخرين، فقد احمرت عيناه وعلا صوته وانتفخت أوداجه ....لا يبرح يكمل صراخه حتى يقاطعه غريمه بصراخ أعلى منه، فيتبادلون الأدوار مرة بعد مرة، وهم على ذات الصفة والهيئة والحال...فقلت في نفسي لابد أن ثمة أمرا ذا بال يشغل هؤلاء المتناطحين، ولعله المروق الجماعي عن العفة المستحدث في عيدي الحب والمرأة هذه السنة، هو الذي أجج حماسهم، لحد استبدت بهم العاطفة الدينية فأخرجتهم عن آداب المسجد وقواعد اللياقة، أو ربما التفاعل مع قضايا الأمة المأسوية، التي تُعرض على شاشات الفضائيات، هو من يدفع بمن يغار على الدين ليغير على بيت الله بحرب الانتصار للمسلمين المستضعفين، ولو كانت على شكل معركة صُراخية وتفجيرات صوتية في رحاب المسجد.
إضافة إلى ذلك فلا شك أن الإساءات، التي تعرض لها رسولنا الكريم ( على يد الصحف الغربية، لا تترك لأحد مجالا ليكون محايدا أو ساكتا عن هذا المنكر البغيض...لذا فلن يستحق أولائك الغربيون من شبابنا إلا الإدانة والسب، وها هو نموذج من هذا الشباب في هذا المسجد، يقوم بواجب الإنكار بما أوتي من حبال صوتية.
...كانت أصواتهم عالية تصم الآذان، لكن تداخلها مع أصوات المجموعات الأخرى، التي يبدو أنها تتسابق لإثبات من له أطول لسان في المضمار، هي من يجعلها غير مفهومة، لذا جالدت وجاهدت حتى أفرز بين تلك الغمغمة الصوتية المنبعثة من كل مكان، حتى أركز على ما تقوله المجموعة الأولى، فأطلقت العنان لسمعي بشغف، لعله يعود إلي بفائدة علمية أو حكمة بالغة أو كلمة تثري رصيدي الثقافي...
كنت أشهد أمامي حفلة من الشتم والقذف، ولا يمكن أن تكون إلا ضد الصهاينة الغاصبين أو الرسامين الدنمركيين المفترين، ومع أنني أعتقد أن حتى الإنكار على أعداء الملة والرسول (، لا يُسوغ رفع الأصوات في المسجد بهذه الحال، إلا أنه يصعب إن لم يكن مستحيلا منع شباب محب لدينه ورسوله، أن ينتصر لهما بهذا الشكل، الذي يراه البعض واجبا دينيا وفريضة شرعية.
ودعني أصف لكم ما سمعت من ذلك الشباب المتحمس، ويا ليتني ما سمعت.
قال الأول للثاني: بعد الصلاة إن شاء الله، ستأخذنا إلى المقهى لنشرب عصيرا ونأكل الحلوى، وتدفع أنت ثمنهما.
فرد عليه الثاني: لن أدفع شيئا.
الأول: إذن أنت تكذب، فقد اتفقنا من قبل على أن من يخسر هو من يدفع، وقد خسر فريقك لكرة القدم الذي تشجعه أمام فريقي.
الثاني: نعم خسرنا، لكنني لا أعترف بالهزيمة.
فتدخل الثالث: ولم لا تعترف؟، وقد خسرتم هدفا لصفر، فهل تتهرب من دفع ما تواعدنا عليه من العصير والحلوى؟
الثاني: نحن لم نخسر، لكن والله وتالله وبالله إن حكم المقابلة هو "الرخيص" الذي تحيز إلى فريقكم، لأنه لم يكن حياديا.
الأول: إن حكم المقابلة لم يكن "رخيصا" وإنما كان حكما عدلا.
وأضاف الثالث، الذي يبدو أنه يتفق مع الأول ضد الثاني: إن حارسكم للمرمى هو "الرخيص" الذي ضرب مهاجمنا فكسر ساقه فاضطر للخروج من المباراة، ولو أنه بقي لهزمناكم بعشرة أهداف.
قال الثاني: وفي مباراة الكأس ألم نكن نحن من فاز...ولم يكد يكمل جملته، حتى صرخ الأول في وجهه قائلا: لم تفوزوا رياضيا وإنما كان الحكم "الرخيص" هو من منحكم ضربة جزاء غير مستحقة.
الثاني: غير مستحقة !!؟
الأول: نعم، والله والله والله لقد كانت لمسة يد غير متعمدة، لكن الحكم " مشي رجل".
الثاني: أنتم لستم رجالا، وجمهوركم هو "الرخيص" فقد أشبعوا فريقنا بالكلمات البذيئة، بل وتجاوزوا ذلك إلى إلقاء الحجارة عليه، حتى أوقف الحكم المباراة، ولو كانت استمرت لسحقناكم.
الأول: أنتم جمهوركم "رخيص" أما جمهورنا فهو يتمتع بروح رياضية عالية.
أقحم الثالث نفسه مؤنبا الثاني: المهم عندي الآن، أنك أنت "الرخيص" لأنك لا تريد أن تدفع العصير والحلوى، فيا لك من بخيل!!.
فجأة دوت تكبيرة المؤذن معلنة إقامة الصلاة، فتوقفت حفلة الشتم والقذف، التي لم يسلم منها لاعب ولا حكم ولا جمهور...وانفض مجلسهم بين "رخيص" و"مُرخص"...وبعد أن كبر الإمام تكبيرة الإحرام، رأيتهم يتوجهون إلى دورة المياه، فقد نسوا أن يتوضئوا، ولو أفتيتهم بالاغتسال لما أبعدت النجعة...ثم أنصت إلى الإمام وهو يقرأ في الركعة الأولى بقوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة...)
ورغما عني، لم أستطع أن أمنع نفسي من إجراء مقارنة سريعة، بين هؤلاء الرجال من النوع "الثمين" المذكورين في هذه الآية، ورجال "الكرة"، الذين لا يمكن أن ينعتهم المرء إلا بوصفهم رجالا، لكن من النوع "الرخيص".

تم قراءة المقال 410 مرة