ذرية بعضها من بعض:
نحن الآن في بداية القرن الثاني من الهجرة ،ولمـّا يمض قرن من الزمان على فتح المغرب الإسلامي الذي كان يموج بالفتن والحروب، لاعتناق العديد من قبائل البربر-آنذاك-مذهب الخوارج تارة والشيعة تارة أخرى, وقد راق مذهب الخوارج الصفرية لقبيلة برغواطة البربرية النازلة بتامسنا على ساحل المحيط الأطلسي, فخاضت الحروب وأعلنت الخروج, مبايعة قائدها "طريفا" على السمع والطاعة فعثت في الأرض فسادا وسفكت دماء المسلمين, وأردفت ذلك ردة جماعية لقبيلة برغواطة دامت أربعة قرون من الزمان! تزعمها المتنبي السخيف صالح بن طريف الذي خرج سنة 127هـ .
يذكر المؤرخون أن "طريفا" -والد صالح الذي سنذكر مغامراته- قد ادعى النبوة هو أيضا وشرع شرائع وأتى بالمخاريق, لكن مخاريق ولده "صالح" عفت عن مخاريقه, وابتليت الأمة بهذا الكذاب 47 عاما.وخاتمة خرافاته أن خرج من بلاده سنة174هـ مستخلفا ولده "إلياس"، واعداً أمته أنه سيعود في ملك السابع من ذريته! ثم توارث بنو صالح ضلالته بوصيته: إلياس بن صالح ثم يونس بن إلياس ثم محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح...وكان آخرهم أبو حفص عبد الله فهذا حق أن يقال فيه:
هو الكلب وابن الكلب والكلب جده***لا خير في كلب تناسل من كلب!
وكانت لهم شوكة عظيمة ولم يتمكن من كسرهم الأدارسة ولا الأمويون حتى سلط الله عليهم دولة المرابطين في المائة الخامسة.
شريعة صالح بن طريف :
جاءت شريعة صالح بن طريف خليطا من شعبذة الكهان وعجرفة الخوارج وبقايا دين يهود وخرافات المجوس، وأوحت إليه شياطينه بقرآن سامج الوضع رديء البيان بلغة البربر، قال صاحب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى:« ووضع لهم قرآنا يقرؤونه في صلواتهم ويتلونه في مساجدهم، وزعم أنه نزل عليه وأنه وحي من الله تعالى إليه، ومن شك في ذلك فهو كافر. والقرآن الذي شرع لهم ثمانون سورة سماها لهم بأسماء النبيين وغيرهم، منها: سورة آدم وسورة نوح وسورة فرعون، وسورة موسى وسورة هارون وسورة بني إسرائيل، وسورة الأسباط وسورة أيوب وسورة يونس، وسورة الجمل وسورة الديك وسورة الحجل، وسورة الجراد وسورة هاروت وماروت وسورة إبليس، وسورة الحشر وسورة غرائب الدنيا، وفيها العلم العظيم بزعمهم ». وهاك نبذة عن شريعة الكذاب بن طريف:
الطهارة : وضوؤهم غسل السرة والخاصرتين وأمرهم أن لا يغتسلوا من جنابة إلا من حرام.
الصلاة : فرض عليهم عشر صلوات ولا يسجدون إلا في آخر ركعة.
الزكاة:أمرهم أن يخرجوا العشر من جميع الثمار.
الصوم : يصومون شهر رجب ويأكلون شهر رمضان.
الأضحية: واجبة على كل شخص في الحادي والعشرين من المحرم وقيل في الحادي عشر منه.
الزواج: يتزوجون ما شاؤوا من النساء، ويطلقون ويراجعون ألف مرة في اليوم فلا تحرم عليهم المرأة بشيء.
الطعام : وحرم عليهم رأس كل حيوان، وذبح الدجاج وأكله، ومن ذبح ديكا أو أكله أعتق رقبة!
الحدود:أمرهم بقتل السارق حيث وجد، وزعم أنه لا يطهره من ذنبه إلا السيف وأن الدية تكون من البقر.
ولاة الأمور : وأمرهم أن يلحسوا بصاق ولاتهم تبركا، فكان يبصق في أكفهم فيلحسونه ويحملونه إلى مرضاهم يستشفون به.
سقوط دولة صالح بن طريف على يد المرابطين
دامت برغواطة على كفرها وضلالها حتى جاءت دولة المرابطين، ودخلوا أرض المغرب وأعادوا قبائل البربر خارجيها وشيعيها ومرتدها إلى ربقة الإسلام والطاعة، وأُخبر زعيم المرابطين عبد الله بن ياسين بما كانت عليه برغواطة من الكفر، فرأى أن الواجب تقديم جهادهم على جهاد غيرهم،فقصدتهم جيوشه وجاهدهم جهادا عظيما حتى استشهد رحمه الله، وكذلك فعل خليفته أبو بكر بن عمر حتى محا أثر دعوتهم، وأسلم الباقون إسلاما جديدا، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا فالحمد لله رب العالمين!
لم العجب؟
لعلك تتعجب أيها القارئ الكريم كيف نفقت بضاعة الدجالين من آل طريف عدة قرون لدى الآلاف من الناس،واستلزم إرجاعهم إلى الحق حربا ضروسا مع أقوى الدول في تلك المنطقة في ذلك العصر، بل وقتل ولي من أولياء أمور المسلمين في سبيل ذلك،لكن معظم النار من مستصغر الشرر، فلا شك أن الدعوة الطريفية الطريفة بدأت برجل فرجلان فعشرة....حتى بلغوا مئات الآلاف! وصارت لهم شوكة وسطوة،بل ومملكة!وانتقال العدوى الطريفية بين الناس كان بسبب داء الجهل،فإذا هلك العلم عم الجهل، فلا تتعجب من رواج أي بدعة أو نحلة أو فكرة سخيفة، لا تعجب أن يكون لدعاة التنصير أو التكفير أو القاديانية أو التشيع أتباع وأنصار عند فشو الجهل وهلاك العلم ، فإن لكل ساقطة لاقطة.
كيف يهلك العلم؟
قال البخاري رحمه الله تعالى :"باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا"
فيا لها من كلمة عظيمة من هذا العبد الصالح، أمر بإفشاء العلم والجهر به وإذاعته والجلوس لتعليمه، لأنه علم أنه إن صار العلم تهامسا وتساررا واستخفاء بسبب التضييق على أهله فتلك أمارة هلاكه وضياعه،وإذا هلك العلم ظهر أمثال صالح بن طريف وكان لهم أتباع بالآلاف.
خبر حاميم:
وقد نقل المؤرخون كابن خلدون أخبار متنبئ آخر ابتليت به أرض المغرب عام 313هـ،حاميم بن من الله من قبيلة غمارة، قال ابن خلدون في التاريخ:" واجتمع إليه كثير منهم وأقروا بنبوته وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه، فمن كلامه: يا من يخلى البصر ينظر في الدنيا خلنى من الدنيا، يا من أخرج موسى من البحر امتن بحاميم وبأبيه أبى خلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنه صدري وما أحاط به دمى ولحمي...."
تنبيه :
لا تزال فئات من المسلمين في المغرب العربي تمارس طقوسا وتقاليد موروثة من الديانات والنحل التي كانت مهيمنة على البربر قبل الفتح الإسلامي وبعده، ويذكر الدارسون والمؤرخون أمثلة كثيرة لعادات يهودية ووثنية ومجوسية لم ينقطع عنها أجدادنا إلى اليوم، لا يبعد أن يكون من ذلك مابقي من عادات وتقاليد متعلقة بيوم عاشوراء من منع الخياطة والكتابة والكنس وإيجاب للذبح ونحوها، فينغي على المسلم أن يسلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هذا اليوم وغيره من مواسم الخير، قال ابن الحاج رحمه الله:" وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَرَّضُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَعْظِيمَهَا إلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْخَيْرِ وَاغْتِنَامِ فَضِيلَتِهَا لَا بِالْمَأْكُولِ، بَلْ كَانُوا يُبَادِرُونَ إلَى زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ". (المدخل)