الإعلام بأنّ التوحيد هو أساس الإسلام
إنّ التوحيد هو أصل الدين وقطب رحاه, وملاك الإسلام وغاية دُعَاه, لا تصحّ من إنسان قربة, ولا يتقبّل الله منه عبادة إلاّ إذا كانت مقرونة بالتوحيد وإخلاص القلب لله وحده(1).
وأيّ دعوة لا تجعل من التوحيد أساساً لها ومنطلقاً؛ فهي دعوة بتراء شوهاء, لا تصلح في الناس فساداً, ولا تقوِّم فيهم خللاً أو اعوجاجاً, ولهذا لا تزال كثير من الدعوات تتهافت في طريق الدعوة دون أن تصل إلى بغيتها, وما ذاك إلا لانحرافها عن هذا الأصل العظيم.
ومن أجل التدليل على هذا المسلك العظيم, والأصل القويم, لا بد من إيضاح لمعنى التوحيد, والإسلام, وبيان قيام الإسلام في لبّه ومضمونه ومقاصده ودعوته على التوحيد.
• معنى التوحيد, والإسلام.
1- مفهوم التوحيد:
التوحيد: "هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً"(2).
وهو على نوعين:
توحيد الله في أفعاله وصفاته, ويدخل فيه: توحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد أفعال العباد: فلا يصرف شيء من العبادة لغير الله, وهو مقتضى توحيد الألوهية(3).
2- مفهوم الإسلام:
الأصل في الإسلام أنّه: الاستسلام, وهو الخضوع والانقياد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (4).
وهو من حيث الإطلاق ينصرف إلى جميع الأديان السماوية التي اشتملت على الخضوع والانقياد لما جاء عن الله عز وجل.
ومن حيث الإطلاق الخاص: على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو المشتمل على جانب العقيدة والشريعة والأخلاق, الموضّحة في حديث جبريل عليه السلام المشهور.
ومعنى كون التوحيد أساساً للإسلام: أي أنّه قاعدة الإسلام الكليّة التي تقوم عليه جميع فروعه, بحيث لا تجد فرعاً إلاّ وقام على التوحيد وانبثق منه(5).
وإذا عُلم ما تقدّم, فإنّ مسلك التدليل على القاعدة الآنفة يقتضي بيان قيام الإسلام على التوحيد من خلال المحاور الآتية:
• أولاً: بيان قيام الإسلام في مضامينه وفروعه على التوحيد:
إنّ مضامين الإسلام جاءت مفصّلة في حديث جبريل المشهور؛ وفيه: "...قال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"(6).
ويقسّمها العلماء من حيث الإجمال إلى العقيدة والشريعة والأخلاق.
فالتوحيد هو ثلث الإسلام تضمّناً, وثلثاه التزاماً بدليل الحديث الآنف.
- فأمّا علاقة التضمّن فهي أوضح من أن تحتاج إلى تدليل وبيان, فبوابة الإسلام تمرّ عبر الشهادتين نطقاً, والإيمان عملاً واعتقاداً, نفياً وإثباتاً.
فمبنى الإسلام على التوحيد أولاً؛ كما جاء في حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والحج, وصوم رمضان"(7).
ولهذا كثيراً ما يُفَسَّر الإسلام بمعنى التوحيد, على قاعدة: "الحج عرفة" ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه, وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ أما رأس الأمر: الإسلام من أسلم سلم وأما عموده فالصلاة, وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله"(8).
وجاء تفسير الإسلام في رواية الطبراني بالتوحيد والشهادتين, وفيه: "وسأنبئك برأس هذا الأمر وعموده وذروة سنامه, رأس هذا الأمر شهادة أن لا الله ألا الله وعموده وذروة سنامه الجهاد"(9).
وجاء تفسير الإسلام بالتوحيد في حديث معاوية رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام أن تسلم قلبك لله وأن توجه وجهك لله"(10).
- أما علاقة الالتزام: فإنّ مدار الشريعة والأخلاق على التوحيد.
فالعبادة والأخلاق لا تستقيم إلا على ساق التوحيد الخالص, فمن اختلّ توحيده بشرك ظاهر أو خفيٍّ حبطه عمله, وردّت عبادته, كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5).
- ومن جهة أخرى: فإنّ الأعمال الظاهرة شريعة وأخلاقاً, هي من أركان التوحيد والإيمان, فالإيمان عند أهل السنّة والجماعة: "اعتقاد بالجنان, وقول باللسان وعمل بالأركان"(11).
ويشهد له حديث: أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة, والحياء شعبة من الإيمان"(12).
- ومن وجه آخر: نجد العبادات الظاهرة والباطنة متضمّنة للتوحيد في شعائرها:
فالصلاة قائمة على الخشوع والذل لله تعالى وهذا مقتضى التوحيد, ومشتملة على معاني التوحيد في ألفاظها, وأورادها كالتسبيح والتهليل والتحميد.
وكذا الشأن في الصيام والزكاة والحج.
• ثانياً: بيان قيام الإسلام في مصادره على التوحيد.
إنّ مصادر الإسلام -التي تستمد منه تعاليمه- والمتمثّلة في القرآن الكريم والسنّة النبويّة, إنما جاءت لتقرير التوحيد أصالةً وتبعاً.
- فأمّا القرآن الكريم:
فجميع ما في القرآن من أمر ونهي وإخبار, يتضمّن التوحيد والقيام بحقوقه ومكملاه, وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه.
فإن القرآن: إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فهو التوحيد العلمي الخبري.
وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه؛ فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره؛ فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة؛ فهو جزاء توحيده.
وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب؛ فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه, وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم"(13).
- وأما السنّة النبويّة:
وهي ترجمان القرآن ومسلكه العملي, فإنها لم تحد في خطابها ومضمونها عن التوحيد وحقوقه ومكملاته.
فقد بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ليقيم راية التوحيد, ويدعو الناس إلى عبادة الله وحده, أسوة بالأنبياء من قبله, كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾( الأنبياء:25).
فعالج النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثته الانحراف العقدي, وأسّس التوحيد الخالص, وأقام دعائمه, سواء في المجتمع المكيّ أو المدنيّ, فكانت أغلب خطبه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التوحيد وإقامة دعائمه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله -في بيان مضمون خطب النبي صلى الله عليه وسلم -: "وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم ، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان, من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة باللّه وأيامه"(14).
وقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم منذ الوهلة الأولى لدعوة قومه إلى التوحيد, ناصحاً ومذكراً وواعظاً.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما أنزلت هذه الآية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾( الشعراء:214) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعمّ وخصّ, فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار, يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار, يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار, يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار, يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار, يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار, يا فاطمة أنقذي نفسك من النار, فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها"(15).
واستمر هذا التأسيس العقدي في المدينة النبوية, وإن اتّخذ منحى آخر, بظهور الكتابيين والمنافقين.
• ثالثاً: بيان قيام الإسلام في غاياته ومقاصده على التوحيد.
- إنّ الإسلام جاء لتحقيق جملة من الغايات والمقاصد العظيمة, وأسّ هذه المقاصد وقطب رحاها هو توحيد الله عز وجل وإخلاص العبادة له.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56), وفسّر بعض السلف العبادة هاهنا بتوحيد الله تعالى ومعرفته (16).
وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه, قوله صلى الله عليه وسلم : "حق الله على العباد أن يعبدوه, ولا يشركوا به شيئا"(17).
بل إنّ الله قد أبان في كتابه الكريم عن غاية إرسال الرسل جميعاً؛ وهي توحيده وإخلاص العبادة له, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء: 25).
- كما قام الإسلام في مقاصده على تحصيل الضرورات الخمس وحفظها, وهي الدين, والعقل, والعرض, والمال, والنسل.
فجعل مقدّمة هذه المقاصد هي التوحيد, وجعل البقية تبعاً لها, بل إنّ بقية المقاصد إنما شرعت خادمة لمقصد التوحيد, بدليل جواز إسقاطها حفظاً للتوحيد, وصيانة للدين, ولذلك شرع الجهاد مع ما فيه من إتلاف للأنفس والأموال من أجل صيانة التوحيد, وحماية أهله.
- كما جاء الإسلام لتحقيق السعادة للعبد في الدارين, ولا يمكن للعبد أن ينال هذه السعادة إلاّ بتحقيق التوحيد, قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (النحل:97).
• رابعاً: بيان قيام دعوة الإسلام على التوحيد
إنّ دعوة الإسلام قائمة في جوهرها ولبها على التوحيد, وثمة تلازم وترابط وثيق بين الدعوة الإسلامية والتوحيد, ويتّضح هذا التلازم والترابط من خلال ما يلي:
1- وجوب البداءة بالدعوة إلى التوحيد:
إنّ البدء في الدعوة بالتوحيد هو المنهج السديد الذي رسمه الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله عليهم السلام, وهو المنهج العام المضطرد إلى قيام الساعة, والذي يجب أن تأسس عليه أي دعوة إلى الله تعالى.
وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنّة على التأكيد على هذا الأصل العظيم, والمسلك القويم, ومن ذلك:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل:36).
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25).
وقد ورد إجمال دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام والاعتناء بالتوحيد بدءًا ونهاية وغاية في قوله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"(18), والمراد أنّ الأنبياء والرسل عليهم السلام بعثوا متفقين في أصول التوحيد, وهو عبادة الله وحده لا شريك له(19).
وقد نبّه الله تعالى إلى أهمية البدء بالدعوة إلى التوحيد, على وجه التفصيل, حيث ذكر دعوة بعض الرسل عليهم السلام وأنهم بدأوا بدعوة أقوامهم إلى توحيد الألوهية, والاستدلال عليه بوحدانيته في أفعال الربوبية, وسائر آياته وسننه الكونية, وإصلاح أعظم خلل وقعت فيه تلك الأمم وهو عقيدة التوحيد وتطهيرها مما ران عليها من ألوان الشرك وبدع الكفر.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف:59).
وقال عز وجل: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } (الأعراف:65).
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:85).
- ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل, بل تأسى بمن سبقه من الأنبياء, فكان هديه صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته في الدعوة إلى الله تعالى مبنياً على أساس التوحيد, ومبتدئاً بتشييده.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف:158).
وأول كلمة أفتتح بها دعوته: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"(20).
بل كانت وصيته للدعاة حينما يرسلهم إلى الأمصار بالبدء بالدعوة إلى التوحيد كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن, فقال له: "إنّك تقدم على قوم من أهل الكتاب, فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى"(21).
والبدء بالدعوة إلى التوحيد, يصحّح جميع أمور الإسلام التي يدعو إليها الداعية, وينمّيها ويقويها, ويبعث على تثبيتها وتمكينها في القلوب, ويعزّز العمل بها في الجوارح, فلا تضيع جهود الداعية هباءً منثوراً لأنها مبنيّة على أساس مكين وراسخ.
والدعوة إلى التوحيد أوّلاً والأخذ بمنهج التدرّج في البدء بالأهم والواجب الأعظم ثمّ الآكد من أركان الإسلام, هو عين الحكمة وموائمة الفطرة, وأدعى إلى قبول الشرائع, كما قال عثمان بن حنيف رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم من مكة يدعو الناس إلى الإيمان بالله وتصديقا به قولا بلا عمل, والقبلة إلى بيت المقدس, فلما هاجر إلينا نزلت الفرائض ونسخت المدينة مكة, والقول لها أم القرى, ونسخ البيت الحرام بيت المقدس, فصار الإيمان قولا وعملا"(22).
2- التوحيد هو أساس الدعوة الإسلامية
لا تصحّ دعوة بغير توحيد خالص, كما أنّ التوحيد لا ينتشر ولا يبلغ إلى الناس من غير دعوة راشدة.
والدعوة تستمدّ مادتها الأولى في روائها وتمكنها وسرعة انتشارها, وكثرة عطائها, وزيادة خبراتها, وصلاح ثمراتها من التوحيد الخالص
فالتوحيد هو قوام الدعوة الصحيحة الناجحة, وأيما دعوة لا تنطلق من منطلق عقدي صحيح إلاّ وئدت في مهدها, وتلاشت قبل أوانها.
ويمكن إبراز أهمية التعاضد بين التوحيد والدعوة الإسلامية من خلال ما يلي:
أ- أنّ التوحيد هو أصل الدين الذي تدور عليه قواعده كلّها, والدعوة إليه حفظ للدين كلّه, وتضييعه أو إهمال الدعوة إليه, تضييع لمبادئ الدين كله, وسبيل إلى تسلل العقائد الفاسدة في المجتمعات, واستيلاء البدع على الأفراد.
ب- أنّ في التعاضد بين التوحيد والدعوة عصمة من الخسران, ونجاة من الهلكة, وينتظم هذا المعنى في سورة العصر, قال تعالى: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
فعلّق النجاة على التعاضد بين هذين الأمرين:
أحدهما: الإيمان بالله وتوحيده وطاعته.
والثاني: الأمر بالتواصي بالحق والدعوة إليه والصبر على تبعاته(23).
ج- أنّ التوحيد هو أساس صلاح الداعية في نفسه, منه يستمد قوته العلمية(24), وأي تأهيل للدعاة لا يُعنى بترسيخ التوحيد أوّلاً وتصفيته من كل أدران الشرك والبدع, فهو تأهيل قاصر معيب, يهدم الدعوة, ويقوض أركانها.
الهوامش
1/ مذكرة التوحيد, لعبد الرزاق عفيفي, ص 75.
2/ لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/57.
3/ انظر تفصيل أقسام التوحيد في: "مدارج السالكين" لابن القيم 3/510, وأضواء البيان للشنقيطي 4/309, و"القول السديد في الردّ على من أنكر تقسيم التوحيد" د. عبد الرزاق البدر, ص 4-29.
4/ انظر: "تعريف الإسلام" في جامع العلوم والحكم لابن رجب, ص 54-67.
5/ انظر في مفهوم الأساس: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت, للأنصاري1/8, والفروق في اللغة, د.الحسن بن سهيل, ص 273.
6/ رواه مسلم 1/37, كتاب: الإيمان, باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان, رقم 9.
7/ متفق عليه, البخاري 1/19, كتاب: الإيمان, باب: دعاؤكم إيمانكم, رقم: 8, واللفظ له, مسلم 1/139, كتاب: الإيمان, باب: قول النبي ز بني الإسلام على خمس, رقم: 127.
8/ رواه أحمد في مسنده 5/237 وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح بطرقه وشواهده.
9/ رواه الطبراني في المعجم الكبير 20/103, وإسناده لا بأس به.
10/ رواه ابن حبان في صحيحه 1/376, والطبراني في معجمه 19/426, وصححه شعيب الأرنؤوط.
11/ انظر تفضيل هذه المسألة في كتاب: الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.
12/ متفق عليه, البخاري 1/17, كتاب: الإيمان, باب: أمور الإيمان, رقم 8, واللفظ له, ومسلم 1/63, كتاب: الإيمان, باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها, وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان, رقم 50.
13/ "مدارج السالكين" 3/450.
14/ زاد المعاد 1/409.
15/ متفق عليه, البخاري 4/1787, كتاب: تفسير القرآن, باب: وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك وألن جانبك, رقم 4397, ومسلم 1/192, كتاب: الإيمان, باب: في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}, رقم 303, واللفظ له.
16/ انظر: تفسير ابن كثير 4/303.
17/ متفق عليه, البخاري 10/294, كتاب: الجهاد, باب: اسم الفرس والحمار, رقم: 2664, واللفظ له, ومسلم 1/175, كتاب: الإيمان, باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة, رقم: 43.
18/ رواه أحمد في مسنده 2/406, وصححه شعيب الأرنؤوط.
19/ انظر: معالم السنن للخطابي 5/55, واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/838.
20/ رواه أحمد في مسنده 3/492, وابن خزيمة في صحيحه 1/82, وابن حبان في صحيحه 14/517, وصححه شعيب الأرنؤوط.
21/ متفق عليه, البخاري 6/2685, كتاب: التوحيد, باب: ما جاء في دعاء النبي ز أمته إلى التوحيد, رقم 6937, واللفظ له, ومسلم 1/51, كتاب: الإيمان, باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام, رقم .27.
22/ رواه ابن بطة في الإبانة 2/629, والطبراني في المعجم 9/32.
23/ انظر: تفسير الطبري 15/372, وتفسير ابن كثير 4/547.
24/ انظر: مفتاح دار السعادة 1/239.
كتب خلال سنة 2006 ونشر في موقع منار الجزائر