طباعة
الأحد 16 ذو الحجة 1432

الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام

كتبه 
قيم الموضوع
(77 أصوات)

   الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة السلام على نبينا المبعوث رحمة للعالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين: أما بعد فإن عنوان مداخلتي كما علمتم :"الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام"، وقد اخترت هذا العنوان لأسباب ثلاثة هي كالآتي:

الأول : لأن الحوار والمناظرة أمر بارز جدا في قصة إبراهيم عليه السلام كما جاءت في القرآن الكريم، فقد تكرر ذكر حواراته في مواضع متعددة فنجده يحاور الوثنيين عباد الأصنام كما في سورة الأنبياء والصافات، ويحاور والده حوارا خاصا كما في سورة مريم، ويُحاور عُبَّاد الكواكب كما في سورة الأنعام، ويُحاور الملك الجبار النمرود كما في سورة البقرة.

والسبب الثاني : أن الحوار يبين لنا جليا هدف رسالة إبراهيم عليه السلام وغايتها، لأن الله تعالى إنما يرسل الرسل لمهام محددة تظهر في سيرتهم وقصتهم، وغاية إرسال إبراهيم عليه السلام ظاهرة في حواراته ومناظراته، وهذا مفيد جدا في تحديد وبيان أحق الناس بالانتساب إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام

 

وأما السبب الثالث : فلأنه موضوع لا أثر له في العهد القديم ولو إشارة، الأمر الذي يجعله ذا أهمية أكثر لدى غير المسلمين الذين لا يقرأون القرآن.

    ولا أكتمكم سرا إذا قلت بأني قد استفدت كثيرا من التحضير لهذا الموضوع، حيث دفعني اختياركم لقصة إبراهيم عليه السلام محورا لهذا الملتقى؛ إلى الرجوع إلى قصة إبراهيم في العهد القديم، وأن أبْحث عن أثر دعوته في العهد الجديد، وهنا أغتنم هذه الفرصة لأجيب عن تساؤل طرح في السنة الماضية: لماذا لا يقرأ المسلمون الكتاب المقدس؟ وإنَّ الجواب عن هذا السؤال واضح للعيان، فإنَّ أهل الاختصاص بالعلم من المسلمين يقرأون التوراة والإنجيل، ولا أدلَّ على ذلك أنَّهم اجتهدوا في استخراج البشارات الصريحة وغير الصريحة بِمحمد صلى الله عليه وسلم منهما، كما استخرجوا أشياء أخرى حيَّرت عقول النصارى.

   ومن جوابي على هذا التساؤل أنَّه إذا لم يقرأ المسلم العادي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، فذلك ليس مشكلةً لأنَّ القرآن يكفيه، ولكن المشكلة حقا أن يكون أهل الاختصاص من النصارى لا يقرأون الكتاب المقدس لديهم، وإذا قرأوه لا يتدبَّرُون معانيه، كما قال عز وجل: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة/78) والأماني جمع أمنية، والمقصود أن الكتاب بالنسبة إليهم مُجرد كلمات يَحفظونها من غير فقه معناها، وقد صرح لي بنحو ذلك أحد القساوسة المحاضرين، وذلك حين قلت له:« إن صاحبنا فلان أعلم بالكتاب المقدس منكم»، فقال:« أنا شخصيا لا خبرة لي بالكتاب المقدس»، فقلت:« فبم تبشر الناس إذن»، فقال :«بالروحيات فقط»، وما سماه روحيات هو عين ما سماه ربنا عز وجل "أماني".

والآن نرجع إلى المقصود " الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام"

أولا : محاورة أهل الأوثان

قال تعالى : (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)  فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء/51-70)

وقفات مع الحوار

1-نرى أنَّ إبراهيم كان ويسعى إلى إقناع المخالفين بالحجة لا غير، ويعتمد في حواره على مخاطبة العقل الذي كرم الله تعالى به العباد، ولأجل ذلك قال لهم:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ"، وقال:" أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ".

2-وفي ضمن هذا أنَّ دين الله تعالى ليس فيه شيء مخالف للعقل الصحيح والمنطق السليم، بل دين الله تعالى والعقيدة التي أمرنا بها الله تعالى فطرية عقلية منطقية، ليس فيها شيء من التناقضات ولا من المستحيلات.

3-وفي الحجة التي لَجأ إليها إبراهيم عليه السلام -وهي تحطيم الأصنام- بيان أنَّ الإله الحق مُتَّصف بالقدرة، ولا يمكن لأحد من البشر أن يصل إليه فيضره أو يحطمه... أو يصلبه!! أو أن يلحق به أي نوع من الضرر المادي أو المعنوي، بل الإله هو الذي يقدر على النفع والضر المطلقَيْن، ومن توصَّل البشر إلى ضُرِّه وتَحطيمه وصلبه فليس إلها حتما.

4-ونَجد في هذا الحوار طرائق أهل الباطل في مقارعة أهل الحق، ومن ذلك الاستهزاء لما قالوا له :"أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ" ونَجد إبراهيم عليه السلام يعرض عن ذلك، لأنَّه ليس في معرض الانتصار للنفس؛ بل في مَعرِض الحوار الذي يراد به هداية الناس إلى الحق وإلى الخير وسبيل النجاة، والاشتغال بذلك يفتح الباب للانحراف عن مَقصد الحوار، ولذلك قال :" بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ".

5-ومن طرائق أهل الباطل في دفع الحق الاستدلال بتقليد الآباء والأجداد، وذلك في قولهم :" وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ"، وهذه ليست حجة قوم إبراهيم فحسب، بل هي حجة غيرهم من الأقوام، فالذين أصروا على الكفر من العرب- لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم- كثير منهم إنَّما صدهم عن الإيمان هذه الحجة الواهية، ولا يزال كثير من الناس إلى يومنا يكذِّب محمدا صلى الله عليه وسلم بالحجة ذاتها؛ ولكنه قد يصرِّح بِها وقد لا يُصرِّح وهو الغالب، وهذه الحجة قد أبطلها إبراهيم عليه السلام بكل بساطة ويُسْر -وفي جملة واحدة- حين قال: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فمتابعتكم لآبائكم في الخطأ لا تشفع لكم ولا لهم، وأنتم تَحتجون بصواب دينكم بأنه دين آباكم؛ وليس ذلك بِحجة؛ لأن النقاش أصلا إنَّما هو صحة دين آبائكم.

6-ومن طرائق أهل الباطل في دفع الحق الإرهاب واستعمال القوة، وهذا سلاح العاجزين والمفلسين دائما، وذلك حين قالوا:" حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ"، ولكن الله تعالى يدافع عن أوليائه وينصرهم ويؤيدهم، وهو قادر على ذلك فقال عز وجل :(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) إنَّ الذي أنجاه هو الله سبحانه الذي أنجى المرسلين نوحا وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا وموسى ومحمدا عليهم السلام أجمعين من كيد أعدائهم، وكذا أنجى عيسى عليه السلام لما أراد اليهود ومن معهم صلبه كما قال عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) (النساء:157).

ثانيا : محاورته لأبيه على وجه الخصوص

قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم/41-50)

وقفات مع الحوار

1-إبراهيم يعتمد في حواره دائما على الحجة والإقناع حيث قال : (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا).

2-ونلاحظ في حواره عليه السلام الرحمة والرفق والأدب الكامل مع والده، حيث كان يقول له في كل مرة (يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) ثم قال له لما رفض الاستجابة (سَلَامٌ عَلَيْكَ).

3-والأدب والاحترام لا ينافي الصراحة، بل التصريح بالحقيقة للمحبوب ولو كانت مُرَّة من علامة الصدق في المحبة، ولذلك صرَّح له ببطلان الآلهة التي يعبد من دون الله، وواجهه بالحقيقة التي لا مناص منها؛ وهو أنه أعلم منه وإن كان أباه الذي رباه (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ)، وحذَّره من مصيره إذا ما أصر على ضلاله وهو دخول النار، وهكذا يكون الحوار صادقا ومثمرا، وليس بالمجاملات الفارغة وبإظهار خلاف ما نُبْطِنُه.

4-وفي هذه القصة نَجد أنَّ إبراهيم عليه السلام كان داعية إلى الخير فعلا، وصادقا في دعوته؛ إذ لم يُهمِل أقرب الناس إليه، لأنَّه لا يُعقَل أنْ يزعم إنسان أنَّه يريد الخير للناس فتجده يجوب الدنيا شرقا وغربا للتبشير، ثم يترك أباه وأمه وأصحابه وجيرانه وأهل بلده دون دعوة أو تعليم، إنَّ مَن يفعل ذلك لا يُمكِنُ أن يكون صادقا فيما يدَّعِيه.

5-ونَجد فيها أيضا وسيلة الإرهاب في دفع الحق، وذلك حين قال له أبوه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، ونجد فيها أيضا صبر إبراهيم عليه السلام وتحمله للأذى وعدم انفعاله حين أجابه بقوله : (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي).

ثالثا: محاورة عباد الكواكب

قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنعام/74-81).

وقفات مع الحوار

1-إبراهيم عليه السلام لم يَخص بدعوته بعض الضالين دون بعض، بل دعا كلَّ من رآه على الضلال مخالفا لعقيدة التوحيد وواقعا في الإشراك بالله تعالى، ومِن هؤلاء عبدة النجوم والشمس والقمر.

2-وهو يدعو دائما بالحجة والبرهان المقنع، وهنا استعمل مع عباد الكواكب الحجة المناسبة، وهي أنَّ من يغيب لا يستحق الألوهية، والله تعالى هو الحي القيوم المحيط بخلقه أجمعين إحاطة علم وقدرة وتدبير، ومنه فإنَّ قوله في كل مرة (هَذَا رَبِّي) إنما هو على وجه التنَزُّل ، فكأنَّه قال هذا ربي فتعالوا ننظر هل يستحق أن يكون ربا أم لا؟ كما قال في القصة الأولى(فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) وهو يعلم أنهم لا ينطقون.

وقوله تعالى (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ) أي لا أحبُّ الذي يغيب ويختفي عن عباده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح العباد مدبرا لهم في جميع شؤونهم، فأمَّا الذي يغيب ولو بعض يوم، فإنَّه لا يستحق العبادة، فضلا عن أن يغيب ثلاثة أيام أو أكثر.

رابعا : الحوار مع النمرود

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة/258)

وقفات مع الحوار

1-هنا في هذا الحوار نوع آخر من الشرك؛ وهو تأليه البشر المخلوقين، وجعلهم أربابا يعبدون من دون الله عز وجل أو عبادتهم مع الله عز وجل.

2-وقول إبراهيم عليه السلام (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) مقصوده به أن الله تعالى هو المتصرف في الكون، وإنَّما خصَّ من ذلك الإحياء والإماتة لأنهما المبدأ والمنتهى لكل شيء في الدنيا، فإذا كان لله تعالى ذلك كان له ما بينهما.

3-فأما النمرود فلم يفهم ذلك، وإنما فهم ظاهر اللفظ وزعم أنه مشارك لله تعالى في هذه الصفة فقال (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت، فهو لم يدع الاستقلال في التصرف بل زعم المشاركة، وأنه يصنع مثل ما يصنع الله تعالى، ولتبيين هذه المشاركة أتى بمحكوم عليهما بالقتل؛ فقتل أحدهما وعفا عن الآخر.

4-وهذا التصرف من النمرود مغالطة، ولكن من منهج الحوار عند إبراهيم عليه السلام الإعراض عن المغالطات التي تنحرف بالنقاش عن لُبِّه ومِحوره، فانتقل إلى مثال آخر عن الحجة السابقة-وهي كون الله تعالى المتصرف في الكون- وهو مثال عَلِم مُسبقا أن النمرود يعجز عن المغالطة فيه، فكان حجة وتعجيزا في آن واحد؛ حيث قال : (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ).

5-من صفة الإله المستحق للعبادة الإحياء والإماتة استقلالا، وتدبير أمر السماوات والأرض والشمس والقمر وجميع المخلوقات، من يوم وجودها إلى يوم فنائها، أما من لم يكن موجودا ثم وجد أو ولد ثم يموت، ولا قدرة له على تسيير الدنيا ومن فيها؛ فهذا لا يُمكن أن يكون إلها. كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/73).

لماذا جعل الله تعالى إبراهيم رسولا ؟

   ونأتي في الأخير لنطرح هذا السؤال : لماذا جعل الله تعالى إبراهيم عليه السلام رسولا؟ أو بِم أرسله الله عز وجل؟ وقبل الجواب عن هذا السؤال نطرح سؤالا آخر يُسهِّل لنا القضية ويُمهِّد لها، لماذا خلقنا الله ؟ لماذا خلق آدم؟ إنَّ هذه القضية قضية خطيرة ومهمة، ومع ذلك فإنَّ أكثر الناس يَجهلونها اليوم، بل إنَّهم مع الأسف الشديد لا يفكرون فيها أصلا، مع أنَّه ثمة مخلوقات أخرى لا عقل لها؛ ولكنها تعلم لم خلقت كما جاء في الحديث الصحيح "أن بقرة قالت لمن ركبها ما لهذا خُلقت، ولكني خُلقت للحرث".

   الجواب الذي لا ينبغي أن يُشك فيه أن الله تعالى خلقنا لنعبده ونُوَحِّده كما قال سبحانه : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/56) أي يعبدوني وحدي ولا يشركون بي شيئا.

   ولكن هذه الغاية التي لأجلها خلقنا الله تعالى لا يزال البشر ينحرفون عنها، فيحتاجون إلى تذكير بها، فيرسل الله تعالى إليهم رسلا ليرُدُّوهم إلى الصراط المستقيم، كما قال سبحانه : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/25) إذن هذه هي غاية إرسال الرسل جميعا وفي هذا السياق جاء إرسال إبراهيم عليه السلام ، ويدل على ذلك ويؤكده أن التوحيد هو محور حواراته ومناظراته كلها.

وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون هدف حوارنا -أي بين أهل الأديان المنتسبين إلى إبراهيم عليه السلام-هو تحقيق هذه الغاية، كما قال ربنا عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/64) .

   فالله تعالى الذي أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحوار، قد أمرنا أيضا بِهذا الحوار للوصول إلى الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش؛ وهي وحدانية الله تعالى، وبالحوار الذي يوصلنا إلى تحقيق غاية خلقنا وإلى تنفيذ الوصية الأولى، كما سأل أحد اليهود عيسى عليه السلام فقال : أي وصية هي الأولى؟ فأجابه :« إن أوَّل كلِّ الوصايا هي اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا رب واحد» (مرقس12/29) وقد أمر الله تعالى يعقوب عليه السلام بهذه الوصية وأمره أن يوصي بها أولاده كما سفر التثنية، وتصديق هذا في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/132-133) .

ما الذي نجده في قصة إبراهيم في العهد القديم؟

   ذكرت في أسباب اختيار الموضوع أنَّه لا أثر لهذه الأخبار في سفر التكوين الذي تضمن قصة إبراهيم عليه السلام، تلك القصة التي تبدأ فجأة من خروج إبراهيم عليه السلام من العراق ودخوله أرض الشام، وكما أننا وجدنا في القرآن شيئا متكررا في قصته جعلنا نفهم أنَّ غاية إرساله الدعوة إلى التوحيد؛ فإنَّنا نَجد في قصته في العهد القديم شيئا متكررا؛ يجعل القارئ يعتقد أن ذلك هو غاية إرساله... فما هو ذلك الشيء ؟

   تعالوا نقرا هذه النصوص التي أوحي بها على إبراهيم -حسب زعم كاتب التوارة-:

(تك12/7) :« لنسلك أعطي هذه الأرض»

(تك13/15):«لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد».

(تك15/18):«في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات».

(تك17/8):«وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم»

(تك22/17):«ويرث نسلك باب أعدائك ».

   أنا اعتقد أنَّ غياب الدعوة إلى التوحيد في قصة إبراهيم، ووجود مثل هذه النصوص التي تخدم شعبا معينا –بيد بعضه أعيدت كتابة التوراة- تضيع الحقيقة وتزيد في الفرقة وتذكي الأحقاد، ولا تخدم السلم ولا الحوار الذي أَمرنا به ربنا عز وجل، إنَّ هذه النصوص قد جعلت بعض النصارى يدعون اليهود ليقيموا دولة إسرائيل قبل قيامها، أعني بذلك أمثال جورج بوش الجد (1796-1856م) الذي صنف في ذلك كتاب "وادي الرؤيا في تفسير رؤيا حزقيال" حيث جعل تجمع اليهود في أرض فلسطين وقيام دولتهم شرطا لنزول المسيح عليه السلام، وفسر رؤيا حزقيال تفسيرا رمزيا، وخطأ كل أحبار اليهود في تفسيرهم لتلك الرؤيا بغير ما فهمه هو بعقليته الصهيونية وبصيرته الباطنية.

الخاتمة

   حقا إنَّ إبراهيم عليه السلام هو همزة الوصل بين أكثر أهل الأرض اليوم، لكن أصدق الناس في الانتساب إليه هم الذين يتَّبعونه ويقتدون به لا الذين يبطلون شريعته، قال تعالى : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/67، 68) أولى الناس به وأصدقهم في الانتساب إليه هم الذين اتبعوه ومنهم عيسى عليه السلام وليس منهم بولس ، منهم عيسى الذي قال كما جاء في متى (5/17) :« لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة، ما جئت لأبطل بل لأكمل، الحق أقول لكم لن يزول حرف من أو نقطة من الشريعة حتى يتم كل شيء أو تزول السماء والأرض، فمن خالف وصية من أصغر الوصايا وعلَّم الناس أنْ يفعلوا مثله عُدَّ الصغير في ملكوت السماوات، أما الذي يعمل بِها ويعلمها فذاك يهد كبيرا في ملكوت الله ».

   وليس منهم بولس الذي دعا إلى التخلي عن الشريعة نبذها، وزعم أن الخلاص لا يكون بالعمل، بل بمجرد الإيمان، واتهم الحواريين الذين أنكروا عليه انحرافه عن ملَّة إبراهيم بالنفاق، كما تجدون ذلك مُكرَّرًا في رسائله إلى أهل غلاطية ورومية وغيرها.

  ومنهم (هذا النبي) أي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء المرسلين، رسول الرحمة الذي بعث بالحنيفية السمحة، وجدد دعوة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل/123). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

تم قراءة المقال 22169 مرة