طباعة
الجمعة 15 ربيع الأول 1432

63-حكم الهجرة السرية (الحراقة)

كتبه 
قيم الموضوع
(68 أصوات)

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن الهجرة السرية (أو الحراقة) أصبحت ظاهرة خطيرة من الظواهر التي تسيطر على عقل شباب أمتنا، وأعداد الموتى والمفقودين والمأسورين في تزايد مستمر، ولم تمنع أخبار هؤلاء من الحد من هذه الظاهرة أو الزجر عنها، بل ربما كانت سببا في ازدياد عدد من يفكر فيها ويخطط لها، وقد رأيت أن أكتب هذه المقالة تذكيرا لشبابنا بحكم هذا الصنيع الذي فيه مخاطرة بالنفس والمال والدين في سبيل حطام الدنيا الزائل، ببيان مفاسدها الدينية، وعلاجها من الناحية الشرعية، نسأل الله تعالى أن ينفع بها.

 

63-حكم الهجرة السرية (الحراقة)

 

أولا: التعرض للموت والمخاطرة بالحياة

   أول مفسدة شرعية تجعل هذا الصنيع محرما هي مفسدة التعرض للموت والمخاطرة بالحياة، وذلك كبيرة من أعظم الكبائر، فإن من هلك في البحر حكمه حكم المنتحر، وقد نهانا الشرع عن المخاطرة بحياتنا ولو كان الدافع لذلك القيام بطاعة من الطاعات أو واجب من الواجبات كالسفر للحجّ أو طلب العلم، فكيف إذا كان في السفر معصية لله تعالى ولرسوله e.

  قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، ومن التهلكة أن يُعرّضَ نفسَه للمخاطرِ. كما قال صلى الله عليه وسلم :« مَنْ بَاتَ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَتْ لَهُ إِجَّارٌ فَوَقَعَ فَمَاتَ فَبَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ » (رواه أحمد وحسنه الألباني). (والإجّار السور المحيط بالسطح).

  وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء:29-30) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (رواه مسلم) فمن مات في البحر مات عاصيا وأخذ حكم المنتحر في الإثم نسأل الله تعالى العفو والعافية.

ثانيا : الإقامة في بلاد الكفار

   وهذه المفسدة تعم من سافر بطريق فيه مخاطر أو بطريق آمنة ومن سافر بطريقة سرية أو بطريقة مسموح بها قانونا ولا نقول شرعية لأن الشرع لا يقر بذلك.

   وإن من الأمور التي يجهلها كثير من الناس أن الله تعالى قد أوجب على المؤمن أن يهاجر من البلاد التي يحكمها الكفار حتى لا يذل لهم ولا يخضع لأحكامهم ولا يجد المضايقة في إظهار شعائر دينه، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97)، قال ابنُ كثيرٍ: "فنزلت هذه الآيةُ الكريمةُ عامةً في كلِ من أقامَ بين ظَهراني المشركينَ وهو قادرٌ على الهجرةِ، وليس متمكناً من إقامةِ الدِينِ، فهو ظالمٌ لنفسِه مُرتكبٌ حرامًا بالإجماعِ".

   وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلًا حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ» (رواه النَّسَائي وابن ماجة، وحسنه الألباني) وإذا منع الكافر إذا أسلم من الإقامة في بلاد الكفر فمن باب أولى أن يمنع المسلم الذي يعيش بلاد المسلمين من الذهاب إلى بلاد الكفر بقصد الإقامة الدائمة هناك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ قَالَ لَا تَرَاءى نَارَاهُمَا " (رواه الترمذي وأبو داود). قال ابنِ رشدٍ الجد كما في المعيار للونشريسي (2/ 124):« فإذا وجبَ بالكتابِ والسنة وإجماعِ الأمةِ على مَنْ أسلمَ بدارِ الحربِ أنْ يَهْجَرَهُ ويلحقَ بدارِ المسلمينَ ولا يَثْوِي بين المشركينَ ويُقيمَ بين أظهرهِم لئلا تجري عليه أحكامُهم، فكيف يباحُ لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجرى عليه أحكامُهم في تجارة ٍأو غيرِها؟ وقد كره مالكٌ رحمه الله أنْ يسكنَ أحدٌ ببلدٍ يُسبُّ فيه السلفُ فكيف ببلدٍ يُكفرُ فيه بالرحمن؟ وتُعبدُ فيه من دونِه الأوثانُ؟ لا تستقرُ نفسُ أحدٍ على هذا إلا مسلمٍ مريضِ الإيمان».

ومن مفاسد الإقامة في بلاد الكفار

1-خطر الكفر والخروج عن دين الإسلام، خاصة مع جهل أكثر شبابنا بالدين، وضعفهم الظاهر في العقيدة.

2-خطر الزواج بالكافرات على أنفسهم وعلى أولادهم، والله تعالى إنما أبيح الزواج بالكتابيات في أرض الإسلام حيث يحكم بشريعة الإسلام وحيث تكون القوامة للرجل المسلم.

3-الجناية على الأولاد، لأن الولد الذي يتربى في تلك البلاد لا تسلم عقيدته ولا أخلاقه من التلوث بل ولا لسانه.

4-خطر محبة الكفار وموالاتهم، وذلك فساد في الاعتقاد كما أنه يؤدي إلى فساد الأخلاق، قال تعالى:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منْكُمْ فَإنَّهُ منْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدي الْقَوْمَ الظَّالمينَ) (المائدة:51)

5-ومن مظاهر المولاة التي تشكل خطرا على العقيدة مفسدة التجنس بجنسيتهم، وقد اعتبر ابن باديس ذلك ردة عن الإسلام.

6-وأقل شيء يجنيه من يقيم في بلاد الكفر ذهاب الغيرة على الإسلام وعلى محارم الله، وموت القلب لكثرة ما يسمع ويشاهد من الكفر والفجور. (انظر مطوية رقم 5)

ثالثا: إذلال النفس عند الكفار

   ومن غامر بنفسه وهاجر بطريق سري ثم نجا من الموت؛ فإنه يبقى معرضا للمطاردة والحبس والإهانة من طرف سلطات البلدان الكافرة، وفي ذلك تعريض للنفس للذل والإهانة، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد قال:« لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» (رواه الترمذي وصححه الألباني) بل إن من مظاهر الإذلال للنفس قبول تلك الوظائف المهينة التي يشتغل فيها المغتربون بدافع الحاجة، بل إن حالة التودد والترجي التي يقع فيها الناس من أجل الحصول على الإقامة من الإذلال للنفس بل وتلك الطوابير الطويلة أمام السفارات الأوربية تعتبر من مظاهر الذل أيضا، وإنه ينبغي للمؤمن أن يكون عزيزا على الكافر لا ذليلا عنده، كما قال عز وجل : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة/54) وهؤلاء المهاجرون يزعم أحدهم أنه يفر من حياة الذل وهو في الحقيقة ذاهب إليها.

رابعا: عقوق الوالدين

    ولا يستطيع أحد ممن يركب خطر هذه الهجرة أن يزعم أنه استأذن والديه، وإن من حق الوالدين في شرع الله تعالى أن يُستأذنا في كل سفر يكون فيه خطر، ومن خالف ذلك وقع في العقوق الذي هو من أكبر الكبائر، وقد جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (رواه البخاري). وهَاجَرَ رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ قَالَ أَبَوَايَ قَالَ أَذِنَا لَكَ قَالَ لَا قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا (رواه أبو داود وصححه الألباني) فشرط إذن الوالدين في الجهاد الذي هو طاعة لله لأن فيه مخاطرة بالنفس، ولا يتقبل الله طاعة من عق والديه فأدخل عليهما الحزن أو أبكاهما، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قَالَ له جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَالَ ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا (النسائي وأبو داود وابن ماجة)، ولا يفلح أبدا من هاجر عاصيا لله تعالى ولرسوله وللوالدين.

خامسا: أكل أموال الناس بالباطل

   ولا يبالي من يغامر بحياته في هذه الرحالات الانتحارية أن يستلف أموالا طائلة يدفعها إلى من يهربه أو يساعده أو من أجل شراء الزوارق التي تستعمل للسفر، وهذا لا يجوز لأنهم يأخذون أموالا لا يقدرون على سدادها ولا ينوون سدادها.

    وكذلك كل من يعينهم آثم لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:3). وما يأخذون منهم من أموال حرام داخل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) (النساء:29)

العلاج

إن علاج هذه الظاهرة لا يكون إلا بما يأتي:

أولا: تصحيح العقيدة في الله عز وجل، بأن يعلم العبد أن الرزق قد كتبه الله تعالى له وتكفل به، فما عليه إلا أن يطلبه بالحلال، وأن رازقه في بلاد الإسلام وهو طائع، هو الذي يرزقه وهو عاص في بلاد الكفر، وأن رزقه آتيه لا محالة فلا يستبطئه.

ثانيا: تربية الأولاد على الصبر وعلى الزهد والقناعة، وقد قال النبي صلى الله هليه وسلم:« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم) لأن هؤلاء المغامرين ليسوا جميعا من البطالين الذين بحثوا فعلا عن العمل فلم يجدوه، ولكنهم يبحثون عن العمل اليسير الذي يجلبون به رزقا كثيرا.

ثالثا: تربية الأولاد على الاعتزاز بالإسلام وعدم الانبهار بحياة الترف التي يعيشها الكفار، قال تعالى: (فَلا تُعْجبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُريدُ اللَّهُ ليُعَذّبَهُمْ بِهَا في الْحَيَاة الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافرُونَ) (التوبة:55) وعلينا أن نلقنهم أن بلاد الكفر فيها البطالة والغلاء والجرائم والسجون، وليست جنة فوق الأرض كما يصورها الإعلام الغربي الزائف.

رابعا : تربية الأولاد على أن العمل كله شرف، وأنه خير من مد اليد للناس مسلمين وكفارا، وقال صلى الله عليه وسلم:" لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ » (متفق عليه).

خامسا : أن يُعلَّم شبابنا أن من أسباب الرزق السعي في الأرض، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15) وبلادنا وبلاد الإسلام والحمد لله واسعة، وفيها من أسباب الرزق ما جعل الكفار يطمعون فيها ويهاجرون إليها كما لا يخفى عليهم.

    وقد جعل ربنا سبحانه من أسباب الرزق الهجرة من بلاد الكفر وليس الهجرة إليها فقال سبحانه : (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) (النساء/100) .
   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم قراءة المقال 54138 مرة