الفرق بين الدليل الأصولي والدليل التنزيلي
أو الفرق بين أصول الاستدلال وأصول الافتاء
(تتمة لمقالات نفي كون العرف دليلا أصوليا)
أولا : الدليل الأصولي
إن الدليل في أصول الفقه هو المثمر للحكم الشرعي، وأصل الأدلة كلها هو كتاب الله تعالى لأن الله تعالى هو المشرع ، وهو الحاكم بين عباده بما أراد جل شأنه ، وقد أنزل نبيه صلى الله عليه وسلم منزلة ليست لغيره فجعل طاعته من طاعته ، وأمر بالاقتداء به ، لأنه كان مفسرا لكتابه بقوله وعمله ، ثم دلنا كتاب الله ورسوله الكريم على أن الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على الغلط، وأنها معصومة محفوظة من ذلك حتى تبقى حجة الله قائمة على العباد إلى أن تقوم الساعة ، ومنه استفيدت حجية الإجماع في مسائل الشرع، ودلنا كتاب الله تعالى أيضا وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم على مشروعية الاجتهاد والقياس ، ووقع الاجماع النظري والعملي عليه في القرون الأولى ، وبهذا انحصرت الأدلة الشرعية المثمرة للأحكام التكليفية في هذه المعاني الأربعة : كتاب الله تعالى والسنة النبوية والإجماع والقياس.
لكنا وجدنا من الأصوليين من زاد على هذه الأربعة أدلة أخرى :
فمنهم من ذكر شرع من قبلنا ، فوقع تنازع فيه ، وهو عند تحرير محل النزاع تحريرا جيدا يظهر أنه دليل لأن مورده هو الكتاب والسنة لا غير ، واحتمال طروء النسخ فيه لا يؤخره عن كونه دليلا كما لم يؤخر بقية نصوص الكتاب والسنة مع كونها محتملة للنسخ.
ومنهم من ذكر الاستصحاب ، وعند التحقيق في معناه الشرعي نجده راجعا لاستصحاب الكتاب أو السنة أو الإجماع استصحاب أحكامها أو عموماتها لا يخرج عنها ، ولذلك نقل الاتفاق على حجيته وهو بهذا المعنى متفق على حجيته.
وأبرز المالكية دليلا جعلوه خامس الأدلة هو عمل أهل المدينة، وعندما تأمل المحققون منهم ومن غيرهم معناه وجدوه لا يخرج عن معنى السنة النبوية، بل هو أقوى أنواعها من جهة النقل وهي السنة المتواترة .
وأبرز الشافعية دليلا سموه أقل ما قيل ، وعند النظر فيه نجد مبنيا على الإجماع إذ هو عدم مجازوة محل الإجماع إلا بدليل.
وتكلم كثيرون عن حجية قول الصحابي الذي لا مخالف له ، وهو في الحقيقة أدنى درجات الإجماع السكوتي، إذ الاجماع السكوتي توفر فيه شرط الانتشار ، وقول الصحابي لم يتوفر فيه ذلك ، ومصدر حجيته هو عدم اجتماع الأمة في عصره على الغلط .
ومنهم من أبرز دليل الاستصلاح أو المصلحة المرسلة ، واستخرجه من مسائل القياس ، وهو راجع إليه نوع من أنواعه مبني على مناسب مرسل وسمي قياسا مرسلا، العلة فيه وصف علمت ملائمته لمقاصد الشريعة في الجملة .
ومنهم من ذكر الاستحسان، وهو عند جمهور من احتج به ودافع عنه راجع إلى تغليب قياس على قياس أو تغليب دليل جزئي على قاعدة قياسية، وهو في نهاية الأمر عندهم إما راجع لحجية القياس أو لحجية الدليل الذي تم تغليبه.
وإذا أعدنا النظر في هذه الأدلة المستدركة وجدناها كلها راجعة إلى الأدلة الأربعة لا تخرج عنها ، ولكن المتأخرين استحسنوا إفرادها بالبحث من أجل ضبط ما يدخل تحتها وتمييزه عما ما لا يدخل ، وكذا من أجل التحقيق في حجيتها وخاصة بعد أن نقل الاختلاف فيها .
ثانيا : الدليل التنزيلي
وهناك أدلة أخرى تذكر عند بعض المتأخرين ، وكثير من المعاصرين على أنها أدلة شرعية مثمرة للأحكام ، وهي ليست كذلك ، وإنما هي في حقيقة أمرها أدلة تنزيلية يعتمدها المفتي في نوازله -وهي أحكام خاصة-؛ ولا يعتمدها الفقيه في استنباطه الأحكام الشرعية التي هي أحكام وقوانين عامة .
ولا يخفى الفرق بين الحكم العام التشريعي ، وبين الحكم الخاص التنزيلي ، إذ الأول نجده في كتب الفقه الإسلامي ومثمره هو الدليل الأصولي الذي نجده في كتب أصول الفقه، وأما الثاني فنجده في كتب الفتاوى والنوازل الفقهية، ومما يسهم في إثماره الدليل التنزيلي الذي نجده في كتب القواعد الفقهية.
1-ومن تلك الأدلة سد الذرائع الذي يعبر عنه بالنظر في مآلات الفعل محل السؤال، وهو نظر خاص بالنازلة الواقعة والمسؤول عنها، فالذرائع تسد بمنع ما أصله الإباحة إذا قدر المفتي أنه يؤدي إلى مفسدة ، فإن اختلف الحال ولم يكن ثمة داع إلى المنع رجع وأفتى بالإباحة المذكورة في كتب الفقه والتي دلت عليها الأدلة الشرعية المثمرة للأحكام.
2-ومنها أيضا دليل مراعاة الخلاف ، وهو نظر في الأسباب التي سبقت الفعل، وفي قوة دليل الفقيه المخالف لنعتبره، ولنعذر المستفتي الذي اعتمد على فتواه، فلا نصدر حكما في أصل المسألة، ولكن في آثارها المترتبة عنها، فنفتيه بلازم تلك الفتوى وإن كنا لا نقول بها، ومنه فالمفتي بمراعاة الخلاف لم يغير مذهبه لأجل خلاف مخالف، فلو جاءه آخر عمل بذلك العمل بهواه أو عصيانا أو جهلا ؛ لم يعمل معه قاعدة مراعاة الخلاف، بل يفتيه بما هو مقرر في كتب الفقه لا يحيد عنه.
3-ومنها العرف الذي ينبغي أن يحكم في أقوال الناس وتصرفاتهم التي جاءوا يسألون عنها، باعتباره محددا لمراد كلامهم ومقاصد أفعالهم، فالعرف يحدد نية الحالف ويبين المحلوف عليه إذا لم يكن بينا من مجرد اللغة ، والعرف يبين أيضا ما يجب على كل من المعاقدين من تبعات إذا ما خلا عقدهما عن النص عن الشروط ، ومنه قيل المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وهذا يوضح أن اعتمد العرف لا يتضمن تشريعا عاما ، وإنما هو موضح لمراد المتكلم، وكذلك يعمل به في تقدير أمور ترك الشرع تقديرها لاختلاف أحوال الناس كالنفقة ونحوها.
أسباب التساهل:
ومما يدلنا على أن الذرائع ومراعاة الخلاف والعرف ليست أدلة شرعية ، نص الفقهاء على أنها منقسمة إلى ما هو معتبر وغير معتبر، وذلك بالنظر في الأدلة الشرعية التي تدل عليها فتبين أنها محكومة وليست حاكمة.
ولكن المتأخرين تساهلوا فعطف بعضهم القواعد الفقهية الكلية الخمس على الأدلة الشرعية ، كما فعل ابن السبكي وتبعه عدد من الأصوليين، ومما ساند هذا التساهل بإدراج القواعد الفقهية في أصول الفقه ؛ تحول الاجتهاد في تلك الأعصار إلى اجتهاد مذهبي مبني على التخريج الذي من ألوانه التخريج على القواعد الفقهية الكلية والمذهبية .
وهذا هو توجيه ذكر كثير من المالكية لهذه الأدلة التنزيلية ضمن كتب أصول الفقه مضمومة إلى الأدلة الشرعية .
وقد كان لآخرين ولا سيما من المعاصرين دافع آخر لهذا التساهل، وهو الدفاع عن صلاحية الشريعة التي كانت متهمة ولازالت بأنها محدودة لا تسع مستجدات العصر ومختراعاته ، بسبب محدودية نصوصها ومصادرها، فأراد هؤلاء المدافعون عن الشريعة أن يقنعوا أنصار القوانين الوضعية بصلاحيته الشريعة بتبديد تصورهم لمصادرها ، واجتهدوا في تكثيرها ليبينوا لهم أنها أغنى من مصادر القانون، ولقد كان يكفيهم أن يشرحوا لهم الأدلة الأربعة أو أن يسردوها عليهم فروعها السابق ذكرها ، هذا وحده كاف لكل مسلم طرأت عليه شبهة ، وأما الملحد الذي غايته إزاحة الشريعة حتى لو كان كافية ، والذي يعتقد عدم لزوم الحكم بها ولا هي صالحة، فلن يقنعه وجود هذه الأدلة ما دام مرجعها كلها إلى الله جل جلاله ، وماذا يفيد مثل هذا أن تحدثه عن العرف ومراعاة الخلاف والذرائع أو عن الاستقراء والاحتياط أيضا، فإن من كفر بالأصل لا يرده إلى الإسلام حديث عن فرع أو فروع، فإن هؤلاء كان ينبغي تحديثهم عن الله جل جلاله ليقتنعوا بكلامه ويتبعوا صريح أحكامه ، ويسهل بعدها البحث معهم فيما لا نص فيه وكيفية ايجاد حكمه التشريعي العام أو التنزيلي الخاص، إلا أن الهزيمة النفسية لدى كثيرين جعلتهم وهم يترجون المنخلعين عن الشريعة يجتهدون في تكثير الأدلة، ويكثرون الكلام في شرح المصلحة والاستحسان والاستصحاب والعرف ونحوها، ويوسعون دائرة استعمالها طمعا في إقناعهم ولكن هيهات.
ولقد كان ذلك خطأ منهم، فالشريعة التي أزيحت لم ترجع والأفكار المغلوطة التي دونت في ظرف معين موجهة لفئات معينة، صارت مادة تدرس وتطبع ، حتى انتشر سوء التصور للأدلة الشرعية حتى عند المتخصصين ، وكما ضمت الأدلة التنزيلية إلى الأدلة التشريعية، كذلك انتشر تصوير غير سديد لمفهوم الاستصحاب جعله يشمل صورا لا ترجع إلى الكتاب والسنة والإجماع ، وانتشر تصوير ناقص للاستصلاح جعلها لا تختلف عن التحسين والتقبيح العقلي؛ لا يحتاج إلى استقراء في الشريعة ولا نظر في ملائمة المصلحة لمواردها.
ولقد كان يكفي –كما ذكرنا من قبل- في رد الشبهة بيان المصادر التي يعتمد عليها في الاجتهاد المطلق فإنها واسعة شاملة محيطة ، فالقرآن الكريم آياته كثيرة، والآية الواحدة منه تحمل في طياتها المعاني العديدة، والسنة تتضمن آلاف الأحاديث ودلالاتها متنوعة، والإجماعات غزيرة، والقياس مصدر غير محدودة نتائجه، وهذه الأدلة الأربعة كفيلة بتغطية كل ما يحتاجه المسلمون إلى قيام الساعة.
وأما القواعد الفقهية سواء الكلية أو غيرها، فإنها من العلم الذي ينبغي للقاضي والمفتي الإحاطة به للاستناد إليه في النوازل التي تتشابك فيها الأدلة وتتعارض فيه الأحكام المدونة في كتب الفقه، وهي قواعد ناتجة عن استقراء فروع شرعية وربما دلت عليها أدلة ؛ فهي في أصلها ثمار وليست مثمرة، وإن لاعتبارها شروطا لابد أن تتوفر، ومجالات لا يجوز أن تتجاوز، وضوابط لابد أن تراعى، واستثناءات لابد أن تعلم.
وهذا العلم قد استقل عن الفقه، وهو مستقل عن أصول الفقه بكتبه التي صنفت فيه، فينبغي أن يطلب في محله ، ولا يفيد الطالب له أن تنقل له منه نتف في كتب علم الأصول، فكل علم لابد أن يؤخذ من مظانه، والأمر نفسه يقال عن علم المقاصد وهو علم تنزيلي أيضا يحتاج إليه المفتي أكثر مما يحتاج إليه الفقيه، فليس هذا العلم داخلا في أصول الفقه، ولا هو مسقط لفائدة علم أصول الفقه، إذ غاية غاياته هو الترجيح بين المصالح والمفاسد، أو ترتيب المصالح أو المفاسد في النوازل الحاصلة.
والخلاصة أن الدليل الكاشف عن حكم الله تعالى ومراده هو الدليل الأصولي وهو منحصر في الأدلة الأربعة وفروعها، وأما الأدلة المتعلقة بإعمال الحكم في الواقع، وعدم إعماله أو تأخيره أو ترجيح غيره أو كيفية إعماله أو مقداره ، فهو تنزيلي وقد نسميه أصلا من أصول الافتاء وليس أصلا من أصول الاستنباط.