طباعة
الأحد 8 ربيع الأول 1431

مكتبات بلا كتب

كتبه 
قيم الموضوع
(4 أصوات)

  قال الناقد : لقد كنت أظن أن أفكار الفلاسفة وخواطرهم لا تعدو أن تكون مجرد تقديرات ذهنية وتخيلات لا وجود لها في الخارج ، وأن عقائد المعتزلة القديمة قد بادت وانتهى أمرها وأضحت جزءا من التاريخ ، وصارت أقوالا تحكى للطلاب مثالا للانحراف والخروج عن العقل الصريح والميل عن الكتاب والسنة في أخذ العقيدة وفهم نصوص الوحيين، كنت أظن ذلك حتى تجولت يوما في مدينة المكتبات ، مدينتي المفضلة لا الفاضلة، المدينة التي أحصيت فيها أكثر من سبعين مكتبة تجارية إسلامية!!
 
 
 

مكتبات بلا كتب

 

    إنها المدينة التي لا زال صاحبي يحدثني عنها وعن مكتباتها وكثرتها وتقاربها حتى تخيلتها تضاهي جامعة قرطبة في حلق العلم، هذه في العلم المكتوب وتلك في العلم المسموع، ولا زلت أتمنى زيارتها لأقتني من نوادر التراث ما يعز العثور عليه، ومن بحوث أهل العصر ما فاتني الوقوف عليه، ولقد كانت مفاجأتي عظيمة حين تجولت رفقته بينها تجول من يبحث في ظلام الدجى، بشغف المتعطش إلى نور الهدى؛ فكانت خيبتي عظيمة وحسرتي على ما ضيعت من عمري في سبيل الرحلة إليها أعظم، لقد رأيت مكتبات بلا كتب ، وأسماءً بلا مسميات-إلا شيئا قليلا- ؛ فذكرت حينها ما تناقله أصحاب المقالات عن المعنزلة من إثبات الأسماء دون مسميات، وقولهم سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، ذكرت تلك السفسطة التي يقف العقل السليم متحيرا في فهمها وفي تلك العقول التي قبلتها واعتقدتها وظنت أنها الدين الذي أرسل به خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم . ولقد رأيت مكتبات بلا كتب ، وبعضها لا أقلام فيها إلا قلم صاحبها الذي يدون به حساباته، ولا ورق إلا القصاصات التي تعلق عليها الأسعار، لا قراطيس فيها إلا دفاتر المبيعات والمشتريات (الفواتير).

    إذا بحثت عن كتاب من كتب الحديث المشهورة أو شرح من شروحها أو بيان صحيحها من ضعيفها، أو غيرها من كتب السنة فلن تجد الكتب ولا السنة، وإذا فتشت عن ديوان من دواوين الشعر أو شرحا من شروح الألفية أو أي كتاب من كتب البلاغة أو الأدب فلن تجد الكتاب ولا الأدب، قال لي صاحبي لعل ذوق أصحابها خالف ذوقك ، ولعلهم يميلون إلى غير ميلك، فإنه لا يخفى عليك أن علم الفقه أهم من علوم السنة بلا فقه، وعلم التوحيد والإيمان أهم من علوم العربية والبيان، فهذه علوم عملية وتلك علوم آلية.

   فقلت له : لكني لم أر فيها شيئا من ذلك! فلا كتب ابن القيم وشيخه ابن تيمية الحراني ولا الشوكاني وبلديه الصنعاني ولا شروح خليل أو رسالة ابن أبي زيد القيرواني؛ إلا ما رأيته عند بعضهم من وريقات دعوية، وكتب الأذكار اليومية، والحجامة والرقية الشرعية.

    لقد حاولت عبثا أن أجد سبب تسمية محلات بيع العطور والأعشاب الطبية وألبسة الرجال والنساء مكتبات فلم أوفق إلى ذلك، فأما أن تباع الأشرطة والأقراص في المكتبات فهذا شيء مقبول، لأن محل الأشرطة والأقراص قد يسمى مكتبة على سبيل المجاز وعلاقته بث العلم والمعرفة ، لأننا لا نجد في العربية -في حدود علمي- اسم محل خاصا بالأشرطة والأقراص الليزرية.

   فزعم صاحبي-وهو من غلاة مثبتي المجاز فيما يظهر-أن المكتبة الإسلامية القديمة تصلح البواطن والمكتبة الإسلامية المعاصرة تحمي الظواهر، ولا يخفى عليك علاقة الظاهر بالباطن وما بينهما من التلازم ، وإن شئت راجع كلام العلماء في تفريع مسائل الولاء والبراء.

   فقلت : بل أراجع كلامهم في التحذير من المظهرية الجوفاء ، ومهما تكلفتَ إيجاد العلاقة فلن تقنعني بأن تلك الجوارب والنعال –ذات الماركات الإيطالية-المعروضة فيها، جوارب إسلامية ونعال إسلامية!! لكنك مع ذلك قد أدهشتني بما ذكرت من العلاقة مما جعلني أتشوق إلى معرفة العلاقة بين المكتبة والأعشاب الطبية ومشتقاتها .

   قال صاحبي : إن المكتبة الإسلامية الأصيلة ترمي إلى حفظ الأديان والمكتبة الحديثة تهتم بعلاج الأبدان، تلك تعالج القلوب من أمراض الشبهات وتطهر الأرواح من أدران الشهوات، وهذه تحمي الأجسام من أنواع الأسقام، ولا يخفى عليك أن العقل السليم لا يكون إلا في الجسم السليم!! وأن العدة البدنية لا تقل أهمية عن العدة الإيمانية، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (والمريض)!.

   فقلت متعجبا: لم يبق إلا أن تقول المؤمن الغني خير من المؤمن الفقير، حقا لقد فاتني من العلوم شيء كثير، ثم زدت متلهفا : وما العلاقة بين المكتبة والعطور !؟

   قال صاحبي : أيها الحبيب لا يخفى عليك أن قدوتنا صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب، وحث على استعمال السواك وعود الآراك الرطيب، وقال عن السواك إنه مطهرة للفم مرضاة للرب .

   قلت له : ما شاء الله، ولعلي أستنتج من كلامك أن كل ما حث عليه الشرع أو كان من الشريعة أو وسيلة إلى عبادة من العبادات محل بيعه يسمى مكتبة وصاحب المحل كتبي ، وعلى هذا فقد فاتني هذا العام أن أفتح مكتبة لبيع الأضاحي، ولن أضيعها العام المقبل فإنها من شعائر الدين، وسأعرض فيها أنواع السكاكين، وكذا آلة الحدادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإحسان إلى الأضحية، وقال: "وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ".

تم قراءة المقال 4490 مرة