وبعض الناس مقصر في هذا الباب ويصر على تقصيره يزعم بأن الأمة مسلمة ثابتة ولن تتخلى عن الإسلام، ونحن نقول لهؤلاء إن الإسلام ليس مجرد شعار يُرفع ولا يثبت بمجرد أن يولد العبد في أرض إسلامية، إن الإسلام عقيدة، والعقيدة لابد أن تتعلم وتتلقن، وإن أول ما أنزل على نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمر بالقراءة، وفي ذلك إشارة غير خفية إلى أن هذا الدين لا ينال إلا بالتعلم، وقال سبحانه لنبيه:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " (محمد:19) ليدل على أنه لا يكفي التصريح بالشهادة المجرد عن العلم والمعرفة بمدلولها ومقتضاها، ونقول لهذا الذي يبرر القعود عن تدريس العقيدة بتلك الحجة الواهية: إنه إذا كانت العقيدة أمرا باطنا لا يمكن الكشف عنه، فانظر إلى الأعمال والسلوك، فإنها تدلك على مدى قوة العقيدة في النفوس أو ضعفها، لأن الظاهر والباطن متلازمان كما قرر ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" وهذا يعني أن صلاح الأعمال وفسادها مرتبط ارتباطا كليا بصلاح أو فساد القلب، وهذا الأخير ميزانه قوة العقيدة الإسلامية فيه وضعفها، الشاهد من هذا أن الناظر في كثير من المجتمعات الإسلامية نظرة عامة شاملة لا يحتاج إلى جهد كبير ليعلم مقدار الانحراف عن الأخلاق الإسلامية وحجم الإعراض عن أداء العبادات التي هي حق الله تعالى على العبيد، وإذا كان الأمر كذلك فأين هي العقيدة الإسلامية؟
وحتى الجانب النظري للعقيدة فلو أن واحدا منا تطوع ليقوم باستطلاع في المدارس والثانويات والجامعات، ويطرح على التلاميذ والطلبة أيسر مسائل العقيدة كمعنى لا إله إلا الله، وتحديد أركان الإسلام وأركان الإيمان لأرانا العجب العجاب، ولأقام الحجة البينة على أن أمتنا على أبواب خطر كبير، خطر محقق الناس متشاغلون عنه بالخزعبلات الانتخابية والمهرجانات الرياضية.
ولست أقول هذا الكلام لبث الفشل في النفوس، ولكن لإيقاظ بعض الغافلين الذين انزلقوا وجرفهم التيار إلى خوض معارك بعيدة كل البعد عن المنطلق الذي منه انطلقوا، وكذلك لدق ناقوس الخطر ليهب الكسالى والقاعدون لآداء واجبهم، وإننا نَعلم أن المعلمين في المدارس والأئمة في المساجد والطبقة المتعلمة عموما؛ هم أول من يتحمل المسؤولية وإنها لمسؤولية عظيمة، نعم سنُسأل لأننا رأينا المنكر يسري في الأمة فلم نحرك ساكنا، سنُسأل لأننا تحملنا أمانة العلم ولم نؤدها، سنُسأل لأننا ورثنا الإسلام عن آبائنا فضيعناه ولم نورثه إلى أبنائنا، سنُسأل والذي يسألنا هو الله جل وعلا.
والذي يزيد الوضع خطورة أن كثيرا من المتعلمين مع الأسف (وهم خيار الأمة!!) لا يدرون ما العقيدة الصحيحة، ولا ما هي عناصرها ولا الأمور التي تضادها، ولا يفكرون أصلا في تعلمها ولا هم شاعرون بحالهم، إن مثل هذه الكلمات لابد منها، لأننا لا نريد أن نغش أنفسنا ولا أن نكذب عليها، وهذا العيب أضحى ظاهرا ولا ينفعنا التستر عليه، وإن الذي ينظر في كلام الخاصة المكتوب وفي كلام العامة المسموع؛ يجد أن من الانحراف ما لا ينقضي منه العجب.
ولكن هذا العجب قد يزول إذا علمت أن مطالعة الأمة قد أضحت مقصورة على قراءة الأخبار والقصص المسلي، تقرأ الجرائد بما تحمله من عجر وبجر ولا تقرأ ما يفيدها ولو كان في مطوية أو قصاصة، ومن أراد التثبت من هذا الأمر فلينظر في المواقع العربية والإسلامية، ما هي الأكثر قراءة، إنها المواضيع التي تعالج أمورا واقعية أو تحمل أخبارا عجيبة أو خيالية، أو كانت عناوينها جذابة مثيرة للفضول، وأما المواضيع الأقل قراءة فهي المواضيع التي يصفها هؤلاء المثقفون بأنها "كلاسيكية" إنها مواضيع العقيدة والبناء الفكري للشخصية الإسلامية.
ومما ينبغي الوقوف عنده في سياق الحديث عن حال العقيدة في المجتمعات الإسلامية "قضية سب الله تعالى ودينه" الظاهرة التي تساهل فيها الناس في هذا الزمان تساهلا عجيبا ومنكرا، وهي من الكفر الصريح الذي لا يجهله أحد حتى العامة، ولا أدل على علمهم به تسميتهم لتلك الشتائم :"بالكفريات"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/955):" إنّ سبّ الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"، وهذا موضوع الحديث فيه ذو شجون، نقلت هذه الكلمات لبيان عظم هذا الخطأ المنتشر في مجتمعاتنا، وليتبين للقارئ مدى ابتعاد أمتنا عن فهم العقيدة الإسلامية والعمل بمقتضاها، ولا يقل عن هذا خطرا أمر القبور المشيدة التي تعبد من دون الله في القرى والمدن، يُدعى أصحابها من دون الله تعالى ويحلف بهم ويذبح لهم ويطاف بهم إلى غير ذلك من الفضائح التي يندى لها الجبين وتدع الحليم حيرانا.
ونختم هذا المقال بما بدأنا به الحديث إنه من أراد إصلاح حال الأمة فلا سبيل له إلا توخي الإصلاح العقدي لأنه أساس الإصلاح كله، لأنه الأصل وكل ما عداه فرع عنه وناتج عليه، إن صلاح المجتمع مبني على صلاح الأفراد وصلاح الفرد بصلاح قلبه، وموضع القلب من الجسد كموضع الأمير في مملكته فإن كان صالحا لم يأمر إلا بالخير، وإن لم كذلك لم يأمر إلا بالشر، وهذا القلب لا يصلح إلا بتعلم العقيدة الإسلامية الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة، فإلى تعلم وتعليم العقيدة أيها المسلمون إن كنتم للخير والصلاح تريدون.