الثلاثاء, 08 حزيران/يونيو 2021 18:09

إننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال غير منشورة

يقول الشيخ الإبراهيمي رحمه الله
يقول المستعمرون عنا: إننا خياليون، وإننا- حين نعتزّ بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتّكل على الموتى، يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا، أو في معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكرًا. ما يرمون إليه، أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا، لم نجد ماضيًا نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضرهم، وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم ...هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزّون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلًا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد وهذه متاحفهم تردّد الشهادة.
إن القوم يحتقرون حاضرنا الذي أوصلونا إليه، ويعتقدون أننا صبيان، فيتذكّرون ماضيهم ليبنوا عليه حاضرهم ومستقبلهم، وينكرون علينا ذلك، فمن حقّنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة، فنعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر؟ ونعرف ما صنع عقبة وحسّان وطارق وموسى وطريف في الغرب، وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق.
وقال قبلها : ها هو الشرق رمى باريس بأفلاذ كبده، يدافعون عن حماه بالحق، ويجادلون عن حقّه بالمنطق، وما منهم إلا السيف مضاء، والسيل اندفاعًا، وإن وراءهم لشبابًا سينطق يوم يسكتون، وسيتكلم بما يخرس الاستعمار ويسوءه، وان بعد اللسان لخطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال وإن أجدادنا دوّخوا العالم، ولكن بالعدل، وسادوه، ولكن بالإحسان، وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدّخرة سيجليها الله إلى حين.
خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية بباريس 29 جانفي 1952
 الآثار (2/ 466) (2/ 467-468)

الإثنين, 24 تشرين1/أكتوير 2011 00:00

فلسطين (2) وصف قرار التقسيم غير منشورة

صدع ليل فلسطين الداجي عن فجر كاذبِ العيان، وتمخَّض مورد الطامعين في إنصاف أوربا القديمة وأوربا الجديدة عن آل لماع يرفع الشخوص ويضعها في عين الرائي لا في لمس اللامس، وباء الظانون ظن الخير بالضميرين الأوربي والأمريكي بما يستحقونه من خيبة تعقبها حسرة، تعقبها ندامة، وتكشِفُ ذلك اللبس الذي دام عشرات السنين عن الحقيقة البيضاء، وهي أن حقَّ الشرق لا ولي له في الغرب ولا نصير، وجاء بها هذا المجلس الذي يسمونه -زورا- مجلس الأمم المتحدة شنعاء لا توارى من أحكام القاسطين، وأحلام الطامعين.

 تراءى الحق والباطل في ذلك المجلس، لا العرب واليهود، وجاء أهل الحق يحملون المنطق، ويخطبون المعدلة ويخاطبون الضمير والعقل، ويحتكمون إلى الشعور والإحساس، وما منهم إلا من هو في الخصام مبين، وجاء أهل الباطل يحملون الإبهام المضلل، والكيد المبيت، والمكر الخفي، والدعاوى المقطوعة عن أدلتها، ومع كل أولئك الرنين الساحر يستهوون به الأفئدة الهواء والضمائر الخربة، وأنصَت التاريخ ليسجِّل الشهادة، واستشرف الكون لينظر هلْ تخرق للأقوياء عادة، ونُشر الأصل والدعوى، وتعارضت البينة والشبهة، وأفصح الحق واتضح، ولجلج الباطل وافتضح، ولكن تلك الدول المتحدة على الباطل ألجمها الحق بحججه، وأجرتها الحقيقة بوضوحها، فحكَّموا الانتخاب ...وليت شعري أي موضع للانتخاب هنا؟ إن تحكيم الانتخاب هنا كتحكيم القرعة بين أصحاب الحظوظ المتفاوتة، كصاحب العشر مع صاحب النصف، كلاهما باطل لا يسيغه عقل ولا شرع...وأي فرق بين ما نعيبه من تحكيم الجاهلية للأزلام الصماء وحصى التصافن، وبين تحكيم أصوات من أموات وويلات، سموهم ممثلي دويلات؟

أسفر الانتخاب عن تقسيم فلسطين تحدِّيا للعرب وحقِّهم وللمسلمين ودينهم، فكان حظ اليهود منها -بغير انتخاب ولا قرعة- الجهات الخصبة المتصلة بالعالم، القريبة من الصريخ، الموطأة الأكناف، المأمونة الأمداد والمرافق، وكان حظ العرب منها الجهات الرملية القاحلة والجبلية الجرداء، وكان حظ البيت المقدس ميراث النبوة عن النبوة أن يُصبح إرثا لأحفاد الصلبيين، وذِيد عنه الخصمان المحق والمبطل ؛ فلا اليهود به فازوا ولا العرب إياه حازوا، وإنا لنعلم الاعتبارات التي بُني عليها هذا التقسيم، والمكائد التي انطوى عليها، والمقاصد التي رمى إليها، وإنا لنعلم الدواعي التي حَملت الناطقين على النطق والساكتين على السكوت، وإننا لا نغتر بما حاكوا وما لاكوا، ولا نرتد على أعقابنا بما حذَّروا وما أنذروا، ولا نعتبر الحياد إلا كيادا، وإننا نعتقد أنهم جميعا سيذوقون وبال أمرهم، وأن مكرهم سيحيق بهم، وأن تشتيتهم لشمل فلسطين فاتحة لتشتيت شملهم، وأن النار التي أشعلوها في فلسطين ستلتهمهم جميعا.

إيه يا فلسطين!! لقد كنت مباركة على العرب في حيالك! في ماضيك وحاضرك! كنت في ماضيك مباركة على العرب يوم فتحوك فكمَّلوا بك أجزاء جزيرتهم الطبيعية، وجملوا بك تاج ملكهم الطريف، وأكملوا بحرمك المقدس حرميْهم، ويوم اتخذوك ركابا لفتوحاتهم وبابا لانتشار دينهم ومكارمهم ومرابط لحماة الثغور منهم ...أنت عتبتهم إلى مصر، ومعبرهم إلى إفريقيا، ومنظرتهم إلى بحر العرب، لم تطأك بعد أقدامالنبيين أطهر من أقدامهم، ولم يحمك بعد موسى أشجع من أبطالهم ...وكنت مباركة عليهم في حاضرك المشهود فما اجتمعت كلمتهم في يوم مثل ما اجتمعت في يوم تقسيمك، ولقد فرَّقهم الاستعمار الخبيث في عهدهم الأخير، فما تنادوا إلى الاتحاد مثل ما تنادوا إلى الاتحاد في سبيلك، ولقد تخوف أوطانهم من أطرافها، فما تداعوا إلى الذود عن قطعة من أرضهم مثل ما تداعوا إلى الذود عنك .

أما والله يا فلسطين، لكأن أعداء العرب أحسنوا إليهم بتقسيمك من حيث أرادوا الإساءة، ولكأن المصيبة فيك نعمة، ولكأنَّهم امتحَنوا بتقسيمك رجولتنا وإباءنا ومبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنهم جسُّوا بتقسيمك مواقع الكرامة والشرف منا، وكأن كل صوت من أصواتهم على التقسيم صوت جهير ينادي العرب: أين أنتم؟ فلا زِلْت مباركة على العرب يا فلسطين!

أيها العرب! قُسِّمت فلسطين فقامت قيامتكم ...هدرت شقائق الخطباء، وسالت أقلام الكتاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرةً تحرك رواكد النفوس، وانعقدت المؤتمرات، وأُقيمت المظاهرات، فهل كنتم ترجون من الدول المتحدة على الباطل غير ذلك؟ وهل كنتم تعتقدون أنه مجلس أمم كما يزعم؟ كأن تلك الأمم وَحَّد بينها الانتصار على الألمان النازي واليابان الغازي؛ فجعلت من شكر الله على تلك النعمة أن تنظم أمم العالم في عقد من السلام والحرية تستوي فيه الكبيرة والصغيرة؛ ودولهُ في مجلس تستوي فيه القوية والضعيفة ليقيم العدل وينصف المظلوم، وكأنَّكم ما علمتم أن ذلك المجتمع يمشي على أربع، ثلاث موبوءة والرابعة موثوءة.

يا قوم! ما ظُلمت فلسطين يوم قُسِّمت، ولكنها ظُلمت يوم بذَل بلفور وعْده للصهيونيين باسم حكومته، وما منا –أهل هذا الجيل-إلا من شهد يوم الوعْد، وشهد يوم التقسيم، وشهد ما بينهما، ومن عرف مصادر الأمور عرف مواردها، فانظروا -ويحكم- ماذا فعل الصهيونيون من يوم الوعْد إلى يوم التقسيم، وانظروا ماذا فعلنا .

عَلِم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدا، وأن نصَّه الطري اللين هو :"أن انكلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين"، فأعدوا لتحقيقه المال، وأعدوا الرجال، وأعدُّوا الأعمال، واتخذوا من الوقت سلاحا فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا...فاكتسبوا من ضعفنا قوة ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة ، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوات كلها ظهيرا لهم علينا.

وعلمنا نحن أن ذلك الوعد وعْد انكليزي وَعَدَ بلفور به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعدَ الشريف حسينا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، وأن الوعود الإنكليزية شيء عرفناه-بزعمنا-بعضه من بعض، يخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين، وتعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا وبين اليهود، وبين وعود الانكليز لنا ووعودهم علينا.

كان الواجب أن نعمل من يوم الوعد لما ينقض الوعد، فنجمع الشمل المشتت، والهوى المتفرق، ونقضي على الصنائع التي اصطنعوها منا، ونحارب الواعد والموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، ونعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، ولا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوْفر، وإنما يكاثروننا بالمال والعلم والصناعة، فلو كنا ممن يفكر ويقدر ويأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد والاستعداد، فأعددنا المال وأعددنا العلم، واستعددنا بالصناعة، وإن في ثلاثين سنة ما يكفي لأن نستعد كما استعدوا، وأكثر مما استعدوا، لا بالأقوال والاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول، وهي مدارس العلم، وبمعامل الأسلحة والعتاد، وبمصايد المال وهي الشركات التجارية، ولو فعلنا لانجحر صهيون في وجاره، وانكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، ولو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس ولا تقسيم اليوم.

أما وإننا لم نفعل فلنعتبر أنَّ صدمة التقسيم القاسية العنيفة هي تأديب إلهي ينقي من هممنا الوهن والزغل، وينفي من صفوفنا الكل والوكل، وإن الأمم التي تصاب بمثل تأخرنا وتخاذلنا وغفلتنا لمحتاجة إلى أحداث ترجها رجا، وتزجها في المضايق زجا ، لتنفض عنها أطمار الخمول والضعة، وتطهرها من أدران الخور والفسولة.

إن العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب، وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت في سبيل الحق ليحيا الحق.


* الآثار (2/439-442( : نشر المقال في البصائر العدد 21 من السلسة الثانية بتاريخ 2 فيفيري 1948م

الخميس, 13 تشرين1/أكتوير 2011 00:00

فلسطين (1) تصوير الفاجعة غير منشورة

يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحا دامية ، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية ، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددةً هي : فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عنق كل مسلم جزائري لك –يا فلسطين-حق واجب الأداء ، وذمام متأكد الرعاية ، فإن فرَّط في جنبك ، أو أضاع بعض حقِّك، فما الذنب ذنبه ، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته.

يا فلسطين! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأن فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودا، وبعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا، وإليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأينُق([1]) الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام وشرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وردا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهَّرك من رجس الرومان، كما طهَّر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان.

داستحماكِ سنابكُ الخيول البابلية، وجاست خلال الديار، وسُبي بَنُوك (أسلاف الصهيونيين)، فلم ينتصر لكِ ولا لهم أحد، لولا أن منَّ عليهم الفاتحون المستعبِدون([2])، وإن المنَّ لأنكى على الحرِّ من الاسترقاق، ثم غزاك الرومان ، وأذلوا بنيك واشتفوا منهم إثخانا في القتل وانتقاما -زعموا- من جريرة الصلب، وما ظَلمتِ يا فلسطين، ولكن بَنِيك جروا عليك الجرائر، وما كنت لتفلتي من براثن الرومان لولا أن انتصف الله لك من عدوك بالإسلام والعرب، فنصروك وطهَّروك وبلُّوا الرحم الإبراهيمية بِبُلالها، ووفوا لأبناء العمومة بحق القربى والجوار، وأصبحت من ذلك الحين ملكا ثابتا للإسلام، وإرثا مستحقا من موسى لمحمد، ومن التوراة للقرآن ومن إسحاق لإسماعيل.

يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف، ولكنه ما ساسك ولا ساس بَنِيك بالحيف، فما بال هذه الطائفة الصهيونية اليوم تنكر الحق، وتتجاهل الخقيقة، وتجحد الفضل، وتكفر النعمة، فتزاحم العربي الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك ، ثم تغلو فتزعم أنه لا شِرْب له من ذلك المورد.

ما بال هذه الطائفة تدَّعي ما ليس لها بحق، وتطوي عشرات القرون لتصل-بسفاهتها – وعد موسى بوعد بلفور ، وإن بينهما لمدا وجزرا من الأحداث ، وجذبا ودفعا من الفاتحين .

ما بالها تدَّعي إرثا لم يدفع عنه أسلافها غارة بابل ، ولا غزو الرومان ، ولا عادية الصليبيين ، وإنما يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه، وما دافع بابل إلا انحسار الموجة البابلية بعد أن بلغت مداها، وما دافع الرومان إلا عمر والعرب وأبطال اليرموك وأجنادين ، وما دافع الصليب وحامليه إلا صلاح الدين وفوارس حطين.

إن العرب على الخصوص والمسلمين على العموم ، حرروا فلسطين مرتين في التاريخ ، ودفعوا عنها الغارات المجتاحة مرات ، وانتظم ملكهم إياها ثلاثة عشر قرنا، وعاش فيها بنو إسرائيل تحت راية الإسلام وفي ظل حمايته آمنين على أرواحهم وأبدانهم وأعراضهم وأموالهم وعلى دينهم ، ومن المحال أن يحيف المسلم الذي يؤمن بموسى على قوم موسى.

ما أشبه الصهيونيين بأوَّلهم في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله، فقالوا : (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) [المائدة/22] وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظل حرابها، وتحت حماية مدافعها وقوانينها، وبكل ذلك استطاعوا أن يدخلوا مهاجرين ثم يصبحوا سادة مالكين، ودع عنك حديث الإرهاب فما هو إلا سراب.

ولو أن السيوف الإنجليزية أُغمِدت، والذهب الصهيوني رجع إلى مكانه، وعُرضت القضية على مجلس عدل وعقل لا يستهويه بريق الذهب، ولا يرهبه بريق السيوف، لقال القانون: إن ثلاثة عشر قرنا كافية للتملُّك بحق الحيازة، وقال الدين: إن أحق الناس بمدافن الأنبياء هم الذين يؤمنون بجميع الأنبياء، وقال التاريخ: إنَّ العرب لم ينزعوا فلسطين من اليهود، ولم يهدموا لهم فيها دولة قائمة، ولا ثلُّوا([3]) لهم عرشا مرفوعا، وإنما انتزعوها من الرومان، فهم أحق بها من كل إنسان.

إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلح بالتوراة والبنك والمصنع، وغايتها جمع طائفة قُدِّر لها أن تعيش أوزاعا بلا وازع، وقُدِّر لها أن تعيش بلا وطن-ولكن جميع الأوطان لها- فجاءت الصهيونية تحاول جمعها في وطن تسميه قولا فلسطين، ثم تفسره فعلا بجزيرة العرب كلها، فهو في حقيقته استعمار من طراز جديد في أسلوبه ودواعيه وحججه وغاياته ، يجتمع مع الاستعمار المعروف في أشياء ، وتُفَرِّق بينهما فوارق، منها أن الصهيونية تعتمد قبل كل شيء على الذهب ، تشتري به الضمائر والأرض والسلاح ، وتشتري به السكوت والنطق ، وتشتري به الحكومات والشعوب، تعتمد عليه وعلى الحيلة والمكر والتباكي والتصاغر في حينه ، وعلى التنمر والإرهاب في فرصته.

إن فلسطين أرض عربية لأنها قطعة من جزيرة العرب ، وموطن عريق لسلائل من العرب استقر فيها العرب أكثر مما استقر اليهود، وتمكن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية ، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة، وسادت فيها العربية أكثر مما سادت العبرية، وما الانتداب الإنجليزي إلا باطل ، ليس من مصلحة العرب ولا من مصلحة اليهود ؛ وما الوطن القومي إلا خيال جسمته الأحلام الدينية والمطامع المادية، وما منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولجنة التحقيق إلا تعلَّات([4]) لا تُسكِت ولا تُسكِّن، وما استمرار الهجرة إلا مدٌّ للحمأة وتأريثٌ([5]) للنار، ومن ضاقت به رحاب الدنيا لا تسعه فلسطين، ومن لفظته حواشي الأرض لا تستقر به فلسطين، أما حديث التشريد والمشردين من اليهود فهو مشترك إلزام في القضية، وما أكثر المشردين في الأمم الإسلامية، بل ما أكثر المشردين من العرب ، فإذا أخذنا الرحمة بالمشردين قاعدة كان أحق الناس بها مشردي العرب الذين لا يفصلهم عنها بحر ولا يقال في هجرتهم إليها إنها شرعية أو بدعية كما يقال في هجرة اليهود، وما ظلمت كلمة الشرع بأفحش من نسبة الحيل إليها عند بعض فقهائها ، ومن نسبة الهجرة اليهودية إليها عند فقهاء الاستعمار.

أيظن الظانون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها في غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى ، ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبي حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته ، هو الذي يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم ، وهيهات هيهات لما يروم.

إن بين دول الاستعمار علائق ماسة، وإنهن يتباعدن ما دام خيال الشرق وبَنِيه والإسلام وأممه بعيدا، فإذا لاح ذلك الخيال حنَّت من الاستعمار الدماء، وتعاطفت الأرحام ، وتُنوسِيَت الأحقاد، فهلا فعلنا مثل ما فعلوا؟
أيها العرب ! إن قضية فلسطين محنة امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تنال بأنها حق في نفسها، وليست تنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة.

إن الصهيونية وأنصارها مصممون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه.
وكونوا حائطا لا صدع فيهوصفا لا يُرقَّع بالكسالى.


* عن الآثار (3/435-438( : البصائر العدد 5 من السلسة الثانية بتاريخ 5 سبتمبر 1947م

[1] / جمع ناقة وهي الأنثى من الإبل، جميع الهوامش ليست للمؤلف وإنما لموقع "في طريق الإصلاح".

[2] / إشارة إلى حاكم الفرس "قورش" الذي أسقط دولة بابل، وسمح لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ولكن مع بقائهم تحت ظل حكمه.

[3] / جمع تعلة وهي ما يتعلل به .

[4] / ثُل العرش هدم وأزيل .

[5] / تأريث النار إيقادها .

السبت, 26 شباط/فبراير 2011 10:46

ليبيا ماذا يراد بها؟ غير منشورة

ليبيا، ماذا يراد بها؟

 

   هذا مقال كتبه الشيخ البشير الإبراهيمي قبل أكثر من ستين عاما ، وهو يبين لنا حقائق تاريخية وسياسية كثير منها لم يتبدل ، بين لنا حقيقة الأمم المتحدة ، وطبيعة العرب وداءهم القتال، ومكائد الدول الاستعمارية في البلاد الإسلامية، ومظاهر من الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي ، كما أكد فيه أن  الحرية تؤخذ ولا تعطى، وهو مع كل ذلك يبين لنا وقوف العلماء مع إخوانهم من مختلف البلدان، ومؤازرتهم لهم في محنهم نصحا وتحذيرا وتوجيها، وعلقت على المقال ببعض الحواشي التي تقرب فهم مراد كاتبه والانتفاع به.

 

 

الخميس, 24 شباط/فبراير 2011 22:29

ليبيا وموقعها منا غير منشورة

ليبيا ، موقعها منا

 


     ليبيا -بأجزائها الطبيعية- قطعة ثمينة من وطن العروبة الأكبر، ومعقل حصين من معاقل الإسلام الباذخة، مكتَنَفة الشمال والجنوب بِجمالين من مياه البحر الأبيض، ورمال الصحراء الْمُغْبَرَّة، مسوَّرة الشرق والغرب بِجمالين من عظمة مصر ومجد تونس، فهي رقعة من صنع الله مطرزة الحواشي بما يسحر الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويذكر بالعزة، ويُفَتِّق القرائح عن روائع الوصف، وبدائع التمثيل.

 

    وهي -لذلك كله- نازلة من نفس كل عربي في مستقَرِّ الغَيْرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، وننفرد نحن سكان الشمال الأفريقي بمعنى من معاني التقدير لهذه القطعة العزيزة من وطن العروبة والإسلام، وهو أنها كانت مَجَرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومَجْرَى سوابقهم إلى هذا الشمال، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسلام، فعلى ثراها مرَّ عقبة والمهاجر وحسان، ومن بعدهم موسى وطارق وإدريس وعبد الرحمن، وفي جنباتها تصاهلت جياد الكماة الصيد من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازًا للأبطال، من بني هلال، الذين غرسوا العروبة بهذا الشمال، وأنها كانت أخت الجزيرة، تلك أنبطت، وهذه أجْرَتْ، وتلك أنبتت، وهذه أروت، وتلك قدحت، وهذه أورت، وأنها صارت -بعد ذلك- بابنا إلى الشرق، يوم كان أبر ببنيه، وأحنى عليهم من البحر، لا نلج حظائره القدسية إلا منه حجاجًا وتجارًا ومستبضعي علم.