وسأقتصر في هذا الكتاب على مناقشة جزئية مندرجة في الحالة الثالثة، وهي زعمهم أنه لا يشترط إقامة الحجة على المعين لتكفيره، وأنه لا أثر لعارض الجهل في ذلك، وذلك بدحض شبهات المخالفين التي كثر تردادها وتكرارها، وقد كتب كثير من أهل الإنصاف والاعتدال في هذه المسألة وحققوا الحق فيها من خلال النصوص الشرعية، وبيان مواقف الأئمة الأعلام منها، ولا شك أن الجواب عن الشبهات مما يكمل المقصود، ويزيد الحق جلاء ويحمي من عرضت له من الإذعان لها.
ومما لا بد من التنبيه عليه هنا أن بعض المتحمسين للرد على الغلاة في التكفير قد أخطأوا الوجهة في النصيحة للأمة في هذه القضية الخطيرة، وجعلوا كل همهم التحذير من بعض الأفراد أو الجماعات الذين تبنوا آراء فيها غلو في التكفير، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم في تصنيف الناس وتبديعهم حتى خرج كثير منهم عن الإنصاف والاعتدال، وصاروا يلمزون من زلَّ في هذه القضية –من المعاصرين-بصفة الخوارج، حتى اجترأ بعضهم على بعض العلماء الكبار فوصفوهم بذلك.
وليس كل من اختُلف معه في مثل هذه القضايا-على عظمها- يُبدع، سواء كان من علماء العصر أو من علماء القرون الماضية، ولكن يُبدع في هذه القضايا وغيرها من ظهر إتباعه لهواه، وتبيَّن تلاعبه بالنصوص الشرعية أو تَحريفه لكلام العلماء، وهؤلاء الغلاة يظنون أنهم يحفظون الشباب بغلوهم في تبديع المخالفين، والذي نراه في الواقع عكس ذلك، فهم يبدعون الداعية المعاصر لتبنيه لآراء قال بها جمع غفير من أفاضل المتقدمين والمعاصرين ممن لا يجرؤ الغلاة على الجهر بتبديعهم، فإذا وقف الناس على هذه الحقيقة كذبوا هؤلاء المُبَدِّعين في رأيهم في المسألة وفي حكمهم على مخالفيهم، وانقلبوا من الغلو في التبديع إلى الغلو في التكفير.
وليس مثل هذا مما ينصر به الحق ويحفظ شباب الأمة، لأن الناصح لا يمكنه أن يحصي أسماء المخالفين أجمعين ليحذر منهم مهما اجتهد في ذلك، ومن أصول السنة أن لا يرد الغلو بالجفاء ولا ترد البدعة بالبدعة، بل الواجب لنصرة الحق بيانه بحججه، لأن الناس إذا عرفوا الحق تمسكوا به وإن قل من قال به، وإذا عرفوا الباطل اجتنبوه وإن كثر من قال به؛ ومهما كانت صفة القائلين به، وكم رأينا من الشباب الملتزم بمنهج السلف إجمالا -والذي رُبِّي على التقليد بدل إتباع الدليل- قد غرَّته شبهات المخالفين -أو أسماؤهم- وجرَّته إلى الغلو في التكفير لعدم تلقيه الحصانة العلمية التي تقيه من مهاوي الانحراف ومن الاستجابة للشبهات.
وكثير من هؤلاء المتحمسين المشار إليهم قد أهملوا الجانب العلمي التأصيلي؛ فتراهم يركزون على مناقشة بعض الكتابات الأدبية المستندة إلى العاطفة الدينية؛ التي لا تؤثر غالبا إلا في العوام وأشباه العوام، ويتركون نقد كتب التنظير العقدي التي تصطبغ بالصبغة العلمية، ويستند أصحابها إلى الأدلة الشرعية!! وأقوال العلماء الربانيين من السلف والخلف!! وما أكثر هذه الكتب وما أكثر القائلين بما فيها.
فهذا الكتاب إسهامٌ بحسب الطاقة في بيان الحق ورد شبه المخالفين، وتكميلٌ لجهود من سبق إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ من الناصحين لله ولدينه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأصله كما ذكر مقالات سبق لي نشرها عبر صفحات الأنترنت، وقد أعدت النظر في مضمونها وترتيبها؛ ملتزما المنهجية العلمية من تقسيم الكتاب إلى مباحث ومطالب وفروع، وتوثيق النصوص المنقولة في الهامش، وتخرج الأحاديث من مصادر السنة المعتمدة، والترجمة لغير المشهورين من الأعلام، كما أضفت إليه مبحثا خاصا بتحقيق مذهب الطبري رحمه الله تعالى في هذه القضية، نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل.