الأحد 6 جمادة الأول 1432

الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

الفاجعة الكبرى

 

أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين

 

    إن الإسلام لا يقدس الرجال وإنما يسير الأعمال، فلئن والينا الكماليين بالأمس ومدحناهم([1])، فلأنهم يذبون عن حمى الخلافة وينتشلون أمة إسلامية عظيمة من مخالب الظالمين، وقد سمعناهم يقولون في دستورهم "إن دين الدولة الرسمي هو الإسلام"، ولئن تبرأنا منهم اليوم وعاديناهم فلأنهم تبرؤوا من الدين وخلعوا خليفة المسلمين، فكانوا ممن عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فعمل بعمل أهل النار فكان من الخاسرين، وإنما الأمور بخواتمها والعاقبة للمتقين.

 

الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين

 

 

   ما كنا قط نجهل عقيدة الشبيبة التركية المتفرنجة ولا مبادئها اللادينية وكيف يجهل ذلك منها، وقد حفظ التاريخ في متون الصحف وبطون المجلات خطب زعمائها بالتأفف من الدين والغمز في مبادئ الإسلام من خطب زعماء الاتحاديين إلى آخر خطبة رأيناها في جريدة الأهرام من خطب كمال، أم كيف تخفى مقاصدهم وقد فتحوا عهد دستورهم بعد عبد الحميد بمحو كلمة الشهادة من رايات الجيش وختموها هاته الأيام بنبذ النظام العائلي الإسلامي في مسائل الزواج وإباحتهم التبرج للنساء واختلاطهن بالرجال في المراسم والمراقص ومحلات العموم ، والفصل بين السلطة الروحية والزمنية مما قلدوا فيه بابوية روما ولا حقيقة له في الإسلام، لا والله ما كانت تخفى علينا عقائدهم ولا مقاصدهم، وإنما كنا نغض الطرف عن شرورهم ومفاسدهم ساكتين عن ذكر مقابحهم إبقاء للوحدة الإسلامية التي اتجهت نحوهم، ولمـًّا لشعث المسلمين حول سيرة خليفتهم وتأييد الأمة التركية خادمة الملة التابعة لهم وإرغاما لأعداء المسلمين بهم وكنا مع هذا ننتظر لهم فئة منهم أو أغلبية المعدلين عليهم، وما كنا نحسب أبدا أن يقدموا على إبطال الخلافة ويعلنوا بما هو كفر بواح، لكنه للأسف قد قضي الأمر ووقع ما لم يكن في الحسبان، ففعلوا فعلاتهم الشنعاء وجاءوا للإسلام بالدويهات الدهياء، فتوالت قراراتهم المشؤومة يحملها البرق في أقطار المعمورة من إبطال الخلافة ونفي الخليفة وآل عثمان، ورفض الدولة للديانة وإبطال المحاكم الشرعية وغلق المدارس الدينية، وغير ذلك من المنكرات فمرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية وجنوا على الإسلام عدة جنايات.

 

الجناية الأولى على الخلافة

 

   كانت الخلافة نقطة اتصال لقلوب الملايين من المسلمين، وعِرقا حساسا منهم وعاملا قويا لتحريك عواطفهم، ولاسيما في هاته الأيام التي أخذ المسلمون فيها يعلمون على النهوض بأنفسهم، والتعاون بإخوانهم والتعاضد حسب الإمكان أمام كل فاجعة تلم بهم- عرفت هذا أمم العالم بأسرها أيام انتصار الكماليين ومعاهدة لوزان، وإن تجاهله الكماليون اليوم ! – كانت هذه الرابطة العظمى والعاطفة الكبرى من أقوى ما يستعين به دعاة الوحدة الإسلامية السلمية، التي ترمي إلى نشر الإخاء والسلام برفع راية الإسلام وإنهاض العالم الإسلامي نهضة تؤهله لأخذ قسطه في الحياة وأداء واجبه في خدمة الإنسانية والعمران. هذه بعض ثمرات الخلافة حتى على صورتها الأخيرة التي ابتدعها الكماليون، ثم هم قد أبوا اليوم إلا محوها بتاتا من الوجود، فقضوا بذلك على ركن عظيم من أركان النهضة، وسبب قوى من أسباب الاتحاد.

 

الجناية الثانية على الخليفة

 

    هذا الخليفة معروف عند العارفين الشرقيين والغربيين بموالاته للكماليين قبل بيعته وموافقته لهم بعدها، ولذلك انتخبوه باختيارهم دون سواه، وبايعوه ثم نكثوا عهده ونقضوا بيعته، ولم يكتفوا بذلك حتى شردوه وتركوه ، وهو الشخص الذي يحمل عنوان "خليفة الإسلام" ملقى على أعتاب الأوروبية! فيالشماته الأعداء والسخرية والاستهزاء ! ساء والله ما يفعل الظالمون.

 

الجناية الثالثة على عائلة آل عثمان

 

   هذه العائلة الكريمة يرتبط تاريخ مجد الترك بتاريخها ، وما كوَّن الترك وجعل لهم المنزلة السامية في أمم الإسلام إلا أمراؤها، فأنكر الكماليون اليوم كل ذلك، وشتموها بمخدراتها([2])، ولم يرقبوا فيها إلا ولا ذمة، إلا إنهم هم المعتدون.

 

الجناية الرابعة على الدين الإسلامي

 

    لم يكتف القوم برفض الدين عن الدولة وتعطيل أحكامه بين الناس جملة، بل أخذوا في استئصاله من الأمة التركية التي لا نشك في سخط أكثريتها عليهم، وأغلقوا مدارس الديانة وطردوا طلاب العلوم الدينية وصاروا يعلنون بملء أفواههم أن الدين عائق لهم عن المدنية، عجبا لقوم ما قرؤوا الدين ولا عرفوه كيف ساغ لهم أن يحكموا عليه؟ نعم تشبعهم بإلحاد أوروبا وجهلهم بحقيقة الدين ووقوفهم أمام فقهاء لا يرون دين الله إلا من مشهور مذهبهم؛ دون سائر مذاهب المسلمين هذا الذي جرأهم على هذا المقال.

 

   وهنا يجب أن أقول أن كل وصمة يرمى بها الإسلام إنما هي من إفراط مثل هذه الطائفة الملحدة وتفريط طائفة العلماء الجامدة المقلدة، ولقد طالت مصيبة الإسلام بهاتين الطائفتين من عهد بعيد، والإسلام دين العلم والمدنية والرقي المادي والأدبي والتهذيبي النفسي والعقلي–بريء من كل عيب– شهد له بذلك عقلاء الأجانب بله([3]) أبناؤه المؤمنون.

 

   ولو دعا الكماليون العلماء المستقلين أهل النظر والاستدلال لأروهم من الإسلام ما كانوا يجهلون، وأبانوا لهم من مبادئه السامية وقواعده العالية الصالحة بكل إنسان، الممكنة التطبيق على مقتضيات الأزمان ما لم يكونوا يحتسبون.

 

   هذه جنايات الكماليين باختصار، وهم لم يعدموا شبها([4]) حاولوا بها التبرير لسلوكهم، وتلقى([5]) أقواما مثلهم تروج([6]) عليهم، ومهما وجدوا من شبهة بجنايتهم فلن يجدوا من شبهة في أمر الدين ومعاملتهم لعلمائه، وليس القوم([7]) براجعين عن غيهم فلا حاجة إلى مناقشتهم، وإنما علينا (أن) ([8]) نقول رأينا في الحالة الناشئة عن فعلهم.

 

   قد زالت الخلافة بالمعنى الحقيقي والمعنى الصوري، فلنعلم أنه لا خلافة اليوم، ولنرفض([9]) كل خليفة تشم منه رائحة الأجنبي كائنا من كان، ولتعمل كل أمة مسلمة على النهوض بفقهها، والتعارف والتعاضد على الحق مع إخوانها حسب الإمكان، ولا يكونن ما وقع مضعفا لعزائمنا مثبطا لأعمالنا ما دام الإسلام ديننا، وهو الرابطة العظمى التي تربطنا والجامعة الكبرى التي تجمعنا، ومن كان أخا للمسلمين للخلافة والخليفة فليعلم أن الخلافة قد زالت، وأن الخليفة قد خلع، ومن كان أخا لهم في الله والإسلام فليعلم أن الله حي لا يموت، وأن الإسلام دين لا يزول، وأنه لا تزال طائفة من أهله قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وإن الطائفة لا يخلو منها مكان ولا زمان، وإن حزب الله هم الغالبون، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

 

الآثار لابن باديس (6/20-24) طبع وزارة الشؤون الدينية سنة 1415

 

نقلا عن جريدة النجاح عدد 152 بتاريخ 28 مارس 1924

 

 

 

 

 

 


[1] / في الأصل "بالأمر حناهم"

[2] / كذا في الأصل .

[3] / في الأصل "بل" والصواب ما أثبتناه.

[4] / في الأصل "شيئا" والصواب ما أثبتناه.

[5] / في الأصل "ملقى".

[6] / في الأصل "تروح" والصواب ما أثبتناه.

[7] / في الأصل "لقوم" والصواب ما أثبتناه.

[8] / زيادة يقتضيها السياق.

[9] / في الأصل "ولنفرض".

تم قراءة المقال 5428 مرة