مفاد شهادة ابن درباس (ت:622)
ومن الشهادات المعتمدة التي لم نشر إليها فيما سبق شهادة ابن درباس صاحب رسالة الذب عن الأشعري ، وقد جاء في صدرها أن مؤلفها هو عبد الملك بن عيسى بن درباس (ت:605)([28])، ثم تبين أنها لابن أخيه أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس (ت:622)، ولعل الناسخ وجد في الأصل ابن درباس فانصرف ذهنه إلى أشهر آل درباس الذي كان قاضي صلاح الدين الأيوبي في مصر.
ومن دلائل نسبها لإبراهيم بن عثمان شيوخه الذي نقل عنهم في هذه الرسالة وأولهم عمه أبو القاسم عبد الملك بن عيسى والحافظ السلفي وعلي بن المفضل المقدسي (ت:611) والقاسم ابن عساكر (ت:600).
ويظهر أن أبا إسحاق كان على الجادة أو على الأقل كان على طريقة الأشعرية المتقدمين منكرا لما أدخله المتأخرون من الأشاعرة في المذهب من تأويلات الجهمية، وشهادته هذه لا تفيد أكثر مما يفيده كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من صحة نسبة كتاب الإبانة للأشعري، وأن الأشعري لم يعرف عنه تأويل الصفات الخبرية بتأويلات الجهمية.
وقد نقل ابن تيمية عن ابن درباس هذا كلمة يفهم منها ذمه للكلام بإطلاق حيث قال:« وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءًا سماه : تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة، ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه ـ يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد ـ كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها .
فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية، ونَوَابت [النَّوابت: الأغمار من الأحداث]. وغثاء، وغُثْرًا [الغُثْر: سَفِلَة الناس]، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنونًا، وتارة شاعرًا، وتارة كاهنًا، وتارة مفتريًا»([29]).
في آخر رسالته يؤكد على انحراف الأشعرية المتأخرين حيث يقول وهو يتحدث عن كتاب الإبانة:« ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس، فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولاهي من تصنيفه، واجتهد آخرًا في إعمال روايته ليزيل الشبهة فطنته، فقال بعد التحريك - تحريك لحيته -: لعله ألفها لما كان حشويًا، فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف مع العلماء، أو من جهله لحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها؟
.... فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة يكونون بحال السلف الماضي وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين، وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم، وهم والله بذلك أجهل وأجهل، كيف لا وقد قنع أحدهم بكتاب ألفه الجهمية بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه، وهو في الحقيقة مخالفة لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها»([30]).
وقد نقل الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي ترجمة عزيزة للمؤلف من كتاب تاريخ إربل للمبارك بن أبي الفتوح أحمد المعروف بابن المستوفي (ت:637)، فقال:«وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل (2/215): هو أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس الماراني المصري المولد والمنشأ، من أهل الحديث الذين رحلوا في طلبه، وكتب الكثير، وسمع الكثير، شافعي المذهب، إلا أنه على ما قيل عنه، يطعن على أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، ويقع فيه، سمعته من غير واحد»([31]). وهذا إن كان صحيحا فيفيد أنه كان على الجادة، وإن لم صحيحا فهو يفيد أن الأشعرية المتأخرين ألزموه ذلك لأنه خالفهم فيما يقولونه وفيما ينسبونه إلى الأشعري.

خاتمة
ولعل بعض الناس يرى فيما سطر في هذا البحث إضعافا لحجة من الحجج التي طالما تمسك به أهل السنة في هذا العصر في مواجهة الأشعرية، وأنه كان ينبغي السكوت عن هذه الأخطاء للمصلحة الراجحة، وجواب هذا الزعم الباطل أن المصلحة التي لا أرجح منها نصرة التوحيد وعقيدة أهل السنة، وكشف الأباطيل عن أن تنسب إلى عقيدة السلف، وإذا كانت الحجة التي يتمسك بها أهل المذهب ضعيفة، فمن واجب أهل الإنصاف بيان ضعفها والعدول إلى غيرها، وتصحيح الأدلة الضعيفة أو السكوت عنها إذا كانت تؤيد المذهب هذا شأن المتعصبة وليس ذلك من شأن أهل السنة، وإن مما نعتقده أن الاحتجاج بالأدلة الضعيفة مما يضعف الحق وأهله، ومما يشغل الناس في معارك جانبية لا تفيد الحقيقة شيئا.
وقد رأيت بعض الناس إذا بينت أخطاء الأشعري في كتبه وتجلى له أنه لم يكن على طريقة السلف أصيب بإحباط وكأن أهل السنة لم يكن من حجة على الأشاعرة سوى إثبات كتاب الإبانة والزعم بان الأشعري كان على عقيدة السلف، والواقع أن هذه الحجة التي جعلها بعضهم أصلا ما هي إلا نافلة من النوافل اعتمدها بعض أهل العلم على طريق الإلزام للمتأخرين من الأشاعرة الذين صاروا في باب الصفات إلى مذهب الجهمية والمعتزلة . لأنه لا حجة في قول أحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الحجة في هذا الباب في كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيما أجمع عليه سلف الأمة، وعلى ذلك اعتمد العلماء المحققون في هداية الأشعرية كما اعتمدوا على نقض الخيالات العقلية التي تشبثوا بها في رد النصوص، ولكن في عصرنا هذا قصرت الهمم عن تحصيل الحجج نقليها وعقليها، وقنعت بمثل هذه الحجة الإضافية على ضعفها، الأمر الذي جعل كثيرا من عوام أهل السنة يتجرأون على مناقشة أرباب الأشعرية في هذا الزمان ويظنون أنهم يقيمون عليهم الحجة بمجرد أن يقال لهم إن الأشعري رجع إلى عقيدة السلف.
مع أني اعتقد أن كتاب الإبانة يصلح لدفع تشنيع الأشعريين الذين سلكوا طرق الجهمية وأصبحوا يرمون أهل السنة والجماعة بالتجسيم والتشبيه لأجل إثباتهم للصفات الخبرية الذاتية ونفيهم لتأويلات المعطلة، وذلك بإلزامهم بتنزيل هذا الوصف على الأشعري الذي ينتسبون إليه، لأنه صرح بإثبات هذه الصفات كما صرح بالرد على من أول الاستواء بالاستيلاء من الجهمية ومن تبعهم.
هذا آخر ما أردنا تسطيره نسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



[1]/ مقدمة الإبانة طبعة محمد بشير عيون (10) وتجد هناك جميع الشهادات الآتية حيث أثبت المحقق في مقدمته رسالة الشيخ حماد الأنصاري عن أبي الحسن الأشعري.
[2]/ تبيين كذب المفتري(ص:113) وقد نُقل هذا الكلام على أنه لابن عساكر في رسالة الشيخ حماد كما في مقدمة الإبانة (ص:9)، وقد قلد الشيخ حماد في هذا الخطأ غير واحد من الموافقين والمخالفين.
[3]/ وفيات الأعيان (3 /207).
[4]/ قال ابن سريج:« ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام» السير (14/203) تذكرة الحفاظ (3/23).
[5]/ طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/18).
[6]/ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (رقم 1800).
[7]/ ذم الكلام للهروي (4/424).
[8]/ قال الشيخ أبو الحسن الكرجي (ت:532):« ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري وعلقه عنه الإمام أبو بكر الزادقاني وهو عندي وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه "اللمع" و" التبصرة " حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميز وقال: هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومِنْ مذهبهم في أصول الفقه فضلا عن أصول الدين» انظر الفتاوى الكبرى (4/284-285).
[9]/ الرد على من أنكر الصوت والحرف (222-223).
[10]/ انظر مجموع الفتاوى (14/354).
[11]/ تبيين كذب المفتري لابن عساكر (26).
[12]/ طبقات الشافعية الكبرى (3/421).
[13]/ طبقات الشافعية الكبرى (4/272).
[14]/ طبقات الشافعية الكبرى (10/400).
[15]/ وفيات الأعيان (3/284).
[16]/ مقدمة الإبانة (ص:19).
[17]/ درء تعارض العقل والنقل (2/16) اجتماع الجيوش الإسلامية (133).
[18]/ مقدمة الإبانة (ص:10).
[19]/العلو للعلي العظيم للذهبي (221-222).
[20]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/359).
[21]/ منهاج السنة النبوية لابن تيمية (5/277).
[22]/ منهاج السنة النبوية لابن تيمية (8/9).
[23]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/308).
[24]/ وقد رأيت الدكتور عبد الرحمن المحمود قد حمل كلام ابن تيمية على نفس المحمل الذي ذكرت، انظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/397) .
[25]/ مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/357).
[26]/ طبقات الشافعية لابن كثير (1/210).
[27]/ كتاب العرش للذهبي (2/303).
[28]/ وفي النسخة التي طبعها على بن محمد بن ناصر الفقيهي نسبها لعبد الملك بن عيسى لكنه أثبت في الغلاف سنة وفاة ولده محمد (ت:659) وفي ص107 وعي أول الرسالة أثبت في الأصل ما جاء في المخطوط عبد الملك بن عيسى بن درباس وترجم في الهامش لولده محمد.
[29]/ مجموع الفتاوى (5/111).
[30]/ رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لابن درباس تحقيق الفقيهي (ص:131-132).
[31]/عن موقع مجلة مركز ودود للمخطوطات.