الاثنين 12 شعبان 1446

طالب العلم وجرد المطولات

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

طالب العلم وجرد المطولات:
تفريغ لمحاضرة ألقيت بتاريخ 15 أكتوبر 2024 في قناة جرد كتب التفسير على التلغرام
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد فإن الموضوع الذي سنتناوله إن شاء الله متعلق بجرد المطولات، من ناحية أهميتها وضوابطها.
لكن قبل الحديث عن المطولات نتحدث عن المؤلفات الموضوعة في العلوم وأنواعها والغرض من وضعها، وكذا منهج الاستفادة من هذه المؤلفات، لنصل إلى المطولات منها.
فنقول إن المؤلفات التي وضع علماؤنا في مختلف العلوم الشرعية سواء كانت العلوم المصادر المتعلقة بالقرآن الكريم أو بالسنة النبوية، أو المتعلقة بالعلوم المقاصد ؛ كالعقيدة الاسلامية أو الفقه الاسلامي أو الاخلاق، أو المتعلقة بالعلوم الآلية من علوم اللسان العربي أو علوم القرآن والحديث وأصول الفقه، عبر القرون مختلفة في أحجامها، وهي منقسمة إلى مختصرة موجزة، ومتوسطة، ومطولة.
وسبب هذا الاختلاف (الاختلاف في الحجم) يرجع إلى الفئة المستهدفة بها، إذ للعلماء في مؤلفاتهم أهداف تربوية فضلا عن الأهداف التعليمية، ولا يظنن أحدكم أن هذه القضايا المطروحة في عصرنا ضمن  العلوم المنهجية والعلوم التربوية قضايا مستحدثة؛ لم تكن موجودة عند سلفنا وعند علمائنا السابقين، فهي موجودة عندهم وكانت معمولا بها وإن لم تؤلف فيها الكتب؛ بل إننا نجد التصريح بكثير منها في بعض المصادر، فلو رجعنا مثلا إلى المؤلفات الموضوعة في أدب الطلب ومنهاجه وأخلاق طالب العلم ، فإننا نجد كثيرا من هذه الأشياء التي نظنها مستحدثة ونسميها تعليمية أو بيداغوجية ونحو ذلك.
فمن أسباب اختلاف أحجام الكتب في الفن الواحد مناسبتها لمرحلة من مراحل طلب العلم، ومن الأسباب أيضا اختلاف طبيعة الفن، فلا شك أن الكتاب المؤلف في الحديث والتفسير -وهما من العلوم المصادر- ليس كالكتاب المؤلف في العلوم الآلية كعلوم الحديث وأصول الفقه، إذن أحجام الكتب تختلف باختلاف طبيعة الفن، وتختلف في الفن الواحد وبحسب الفئة المستهدفة.
وذلك أن العلم الذي يطلب يمر بطورين:
الطور الأول: تعلم الفرض العيني الذي يجب على كل مسلم، من تعلم القرآن الكريم واللغة العربية، والعقيدة الإسلامية، وفقه العبادات، والآداب، وهذا الطور نسميه الطور الابتدائي أو طور أولي وأساسي، وهو موجود في المدارس الاسلامية عبر كل المراحل والحقب التي مرت بها دولة الاسلام وحضارة الإسلام.
الطور الثاني: وهو تعليم يتعلم فيه المسلم الفروض الكفائية، وهي كل ما زاد على الفرض العيني، ويتوسع فيما سبق من العلوم القرآن الكريم والفقه واللغة العربية، ويتطلع إلى دراسة علوم أخرى، وفي الفروض الكفائية تدرس العلوم الآلية والعلوم المكملة الأخرى كالفلك والهندسة ونحو ذلك من العلوم.
    والمراحل التي حددها العلماء من حيث الإجمال ثلاثة : مرحلة المبتدئين في دراسة هذه العلوم الكفائية، يعني كل من يريد أن يتخصص ويتدرج في العلوم الشرعية، وليست العلوم التي يكون بها مسلما، لأن تلك العلوم هي الفروض العينية التي يكون بها مسلما ويعبد الله بها، والتي يشترك بها الكبير والصغير، الرجل والمرأة وكل فرد من أفراد هذه الأمة، أما الدراسة النظامية التي يتكون فيها طالب العلم، ففيها مرحلة الابتداء ومرحلة التوسط ومرحلة الانتهاء.
     وقد وضع لكل مرحلة مقررات متناسبة معها فمثلا: في التفسير كتب مؤلفة في غريب القرآن أو كتب مختصرة مثل تفسير الجلالين، وفي المرحلة المتوسطة تفاسير متوسطة وقد ألفت تفاسير فيها مجلدان أو ثلاث مجلدات أو أربع مجلدات مثل تفسير البغوي من التفاسير المعاصرة تفسير السعدي وأيسر التفاسير للجزائري، وللمنتهين التفاسير الكبيرة كتفسير الطبري وتفسير ابن كثير ومن التفاسير المعاصرة التحرير والتنوير وروح المعاني ونحو ذلك، وعندما تقارن بين تفسير الجلالين في مجلد وبين تفسير السعدي في أربع مجلدات ، وتفسير الطبري في 20 مجلد سيظهر لك أن الحجم في تزايد حسب المرحلة.
في علوم الحديث نجد في المرحلة الأولى مثلا البيقونية أو نخبة الفكر وهي كتب موجزة تشرح شرحا متناسب مع مستوى المبتدئين، وفي المرحلة المتوسطة نجد الموقظة للذهبي أو إرشاد طلاب الحقائق للنووي واختصار علوم الحديث لابن كثير، وفي المرحلة التالية نجد تدريب الراوي في مجلدين أو كتاب فتح المغيث للسخاوي مطبوع في ثلاث مجلدات وفي خمس مجلدات، ففي كل مرحلة يزداد حجم الكتاب ونصل في مرحلة المنتهين إلى الكتب المطولة.
الطول يختلف من فن إلى آخر فالطويل مثلا في علوم الحديث ممكن يكون في مجلدين أو ثلاث لكن المطول في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم يكون في عشر مجلدات وأكثر كشرح صحيح البخاري لابن الحجر العسقلاني.
فالعلوم الآلية مهما كانت طويلة فإن حجم كتبها صغير، والعلوم المقصودة تكون دائما الأطول.
والكتب المختصرة توضع للدارسين حتى تحفظ وتشرح فهي بمثابة المقررات المدرسية، أما الكتب الطويلة فإنها توضع للقراءة والبحث ولتعتمد في التأليف وليدرسها المنتهون في العلوم.
المنهج الأمثل في الدراسة وفي ترتيب العلوم:
هناك طريقتان:
 - 1طريقة من يدرس فنا بجميع مراحله، ثم ينتقل إلى فن آخر بجميع مراحله : وهذه الطريقة الاعتماد فيها على الحفظ الخالص، والفهم فيها يكون فهما سطحيا.
2- طريقة من يدرس العلوم مرحلة فمرحلة: وهذه هي الطريقة الأوفق، ومعنى ذلك أن الدراسة تكون أفقية باتباع مرحلة المبتدئين ومرحلة التوسط ومرحلة المنتهين، لأن العلوم بعد المرحلة الأولى تتكامل فيما بينها ، فمثلا: الفقه في المرحلة الأولى –كما هو حال المتون- توجد فيه تعريفات وشروط وأركان وليس فيه أدلة وليس فيه تعليل ولا شرح مستفيض، فهو مستغن عن أصول الفقه، لكن في مرحلة ثانية عندما ننتقل للتدليل والتعليل فإننا نحتاج إلى شيء من أصول الفقه وإلى شيء من علوم الحديث، فلا يمكن أن ننتقل إلى مرحلة ثانية ونحن لا نعرف شيئا من العموم والاطلاق أو القياس والعلة ، ولا عن الحديث صحيح والضعيف أو المرفوع الموقوف ونحو ذلك من المصطلحات، فمن انتقل الى هذه المرحلة دون العلوم الأخرى سيكون تكوينه ناقصا وإذا انتقل الى مرحلة ثالثة فتكون الحاجة أكثر إلى هذه العلوم.
    وعندما ندرس أصول الفقه مثلا في المرحلة الأولى لا نحتاج إلى شيء كثير من العلوم الأخرى ، اللهم إلا قليلا من الفقه لفهم الأمثلة، ولكن في المرحلة الثانية نحتاج إلى علوم العربية وعلوم الحديث ، وإلى الفقه المدلل والمعلل، وفي المرحلة الثالثة سنحتاج أيضا إلى توسع في العقيدة ومقالات الفرق ونحتاج إلى علم المنطق.
وفي التفسير في المرحلة الاولى عندما تدرس تفسير الجلالين أو زبدة التفسير مثلا ، قد لا تحتاج إلى علوم مكملة ولكن في مرحلة ثانية عندما تدرس كتابا متوسطا في التفسير فإنك تحتاج إلى علوم القرآن وفي مرحلة أعلى ستحتاج إلى علوم العقيدة والفقه والأصول والحديث.
إذن الدراسة لابد من أن تكون أفقية من مرحلة المبتدئين، إلى مرحلة المتوسطين ثم مرحلة المنتهين والعلة في ذلك أن العلوم الشرعية تتكامل فيما بينها ، وهي في أصلها كانت مجتمعة كلها في عصر الصحابة والتابعين، لأن منبعها ومصدرها واحد ن ثم أخذت تتفرع وينفصل بعضها عن بعض مع تقدم الزمان، وهذا هو سر الاشتراك والتكامل فيما بينها.
فالتكامل بين العلوم الشرعية طبيعي، لأن العلوم كلها ترجع إلى كتاب الله والنبي صلى الله عليه وسلّم، والعلوم الآلية كلها وجدت من أجل فهم نصوص الوحي والعلوم الأخرى ثمار له، فالعلوم إما ثمار للوحي أو خادمة لفهمه، وإذا كان المنبع واحد ووسيلة الاستثمار واحدة فلا غرابة في أن يكون هذا التكامل الذي يسعى البعض لإثباته وهو ثابت بداهة.
طبعا وضعنا الحالي في المدارس والجامعات لا يقاس عليه، فنحن ندرس وفق نظام الانتقال لكن كل ما ندرسه هو مرحلة واحدة مع الأسف، ومما تجدر الإشارة إليه هنا ما نصح به ابن خلدون وغيره وهو أننا عندما ندرس في المرحلة من المراحل، فالأفضل أن نقلل الفنون التي تدرس في الوقت نفسه وأن نقارب بين مجالس الفن الواحد حتى ننتهي منه، فمن يقرأ كتابا واحدا يكون تحصيله أفضل ممن يقرأ كتابين، ومن يقرأ كتابين يكون تحصيله أفضل ممن يقرأ ثلاثا، وكلما ازدادت العلوم التي تدرس كلما ضعف التحصيل ، وفي الجامعة يدرس الطلبة عشرة مواد دفعة واحدة، ولذلك ضعف التحصيل، ولذلك نقول على من أراد التحصيل عليه أن يتفرغ بعد التخرج من الجامعة لطلب العلم وفق المنهجية المثلى، ومن ذلك إعادة دراسة المختصرات في الفنون ثم الكتب المتوسطة ثم جرد المطولات التي دعيت لأتحدث عنها وللترغيب لدراستها في هذه المحاضرة.
وهذه الدراسة لابد أن تراعى فيها ضوابط وشروط ولذلك أطلت في هذا التمهيد وذلك حتى أضع الطالب والسامع في السياق، إذن عندنا علوم شرعية وعندنا مراحل في طلب العلم ونحن نتدرج فيها مرحلة فمرحلة وفق منهجية تكون أكثر إنتاجا.
ولهذا الغرض ألف العلماء في منهج طلب العلم، حتى يكون الطريق الذي نسلكه صحيحا ولا نجعل مسارنا في طلب العلم محلا للتجربة التي قد تكون دائرة بين النجاح والاخفاق، ولكن المنهجية المسطرة التي يسطرها العلماء تكون أكثر إنتاجا، والطالب الملتزم بها يكون أكثر توفيقا من غيره.
جرد المطولات، أهميتها وكيفية الاستفادة منها:
أولا: لابد أن نشير أن جرد المطولات لا يصبر عليه إلا ذوو الهمم العالية، والمنهج التربوي التي وضعه علماؤنا فيه معنى التدريب والترويض، فهذا الانتقال من الكتاب الصغير إلى الكتاب المتوسط إلى الكبير، هو تربية للنفس وترويض لها على التحمل، لأن النفس تحتاج إلى مجاهدة حتى تجلس للحفظ وتجلس للدرس لأن ذلك مخالف لهواها، إذ هي تميل إلى الراحة وإلى عدم التقييد، وتميل إلى التخفف دون حمل الأشياء الثقيلة، والصبر على هذه القراءة لا يكون إلا بالتدرج، فقد يكون الأمر بالنسبة للطالب في أول الطريق ثقيلا، ثم إنه بعد ذلك يجد حلاوة العلم بما يحصل وبما يحفظ، فإن العلم إذا خالط العلم بشاشة قلبه أحبه، فيصبح حينئذ يلتذ به، ففي المراحل الأولى يجد الطالب ثقلا حتى مع الكتب الموجزة كما يجد نوعا من الصعوبة، فإذا لم يصبر عليها فكيف سيصبر على المطولات التي تقع عشر مجلدات وعشرين مجلدا؟
لقد صبر الناس قديما على تلك الكتب لأن العلم أصبح مختلطا بلحمهم وبعظمهم، وأصبح جزءا من شخصيتهم، وأصبح أحدهم يلتذ بالقراءة كما يلتذ غيره بأكل الحلوى أو كما يلتذ بالنظر إلى المشاهد الجميلة، وسماع العصافير في البساتين، ويجد نشوة وهو يقلب صفحات الكتب كنشوة ذلك الذي يعد النقود، أو أعظم منه ، فهذا التعود الذي أورث محبة هو الذي جعلهم يصبرون على قراءة هذه الكتب ويصبرون على تأليفها ويصبرون على سماعها ونسخها من أولها إلى آخرها، وأنتم ترون حجم المؤلفات التي ألف علماؤنا في تفسير القرآن وفي شرح الحديث النبوي وفي التاريخ الاسلامي وفي الفقه الاسلامي، وبعضها قد تجاوز الخمسين مجلدا والسبعين مجلدا ، وهذه الكتب إنما وصلت إلينا عن طريق الإملاء والنسخ لا عن طريق الطباعة التي لم تكن موجودة في عصرهم ، المقصود من هذا الكلام أن هذا الجرد الذي نتحدث عنه يحتاج إلى صبر ويحتاج إلى ترويض لهذه النفس بما هو أدنى منها حتى تألف العلم والقراءة.
وفي تاريخ الاسلام نجد قصصا كثيرا حوته كتب تراجم العلماء حول القراءة والهمة العالية في التأليف والكتابة وخاصة عند علماء الحديث، إذ كتب الحديث أصغرها حجما كبير، فسنن ابن ماجة من أصغر الكتب السنة حجما مطبوع في أربع مجلدات أو مجلدين ضخمين وهو أصغر السنن، ومعجم الطبراني يقع في أكثر من عشرين مجلدا، ومسند الامام أحمد مطبوع الآن في خمس وأربعين مجلدا.
     لذلك كان المحدثون من أعلى الناس همة في هذا المجال كتابة للحديث وسماعا له وقراءة له وصبرا على مطولاته، ولهم حكايات عجيبة في هذا المضمار، فالمحدث أمامه كتب كثيرة يجب عليه أن يسمعها جعلت بعضهم يسعى لقراءة الكتب الطويلة في المدد الوجيزة، ومن النماذج التي تروى -وهي أعجب هذه النماذج- ما حدث للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في القرن الخامس الهجري حيث جاء أحد المحدثين إلى بغداد يسمى اسماعيل الضرير عنده سند عالي للبخاري، وكان غرضه العبور وليس الاستقرار في بغداد، فاغتنم الخطيب البغدادي الفرصة وسمع منه صحيح البخاري في ثلاثة أيام، تصوروا أن الرجل كان مسافرا وعنده أشغال ومع ذلك جلس عنده الخطيب يومين للسماع من المغرب إلى الفجر، وفي اليوم الثالث أدركه في السوق في جانب آخر من بغداد وسمع عنه صباحا من الضحى إلى المغرب ومن المغرب إلى الفجر حتى أكمل صحيح البخاري كاملا جردا من أوله إلى آخره، كان هو يقرأ على الشيخ والشيخ يسمع ويصحح، ويروى قصص كثير كمن سمع البخاري في خمسة أيام ومن سمع صحيح مسلم في سبعة أيام.
في مجال الفقه من أعجب ما ينقل العز بن عبد السلام (ت 660 ه‍) سلطان العلماء أنه قرأ نهاية المطلب في دراية المذهب للجويني الذي يقع في نحو عشرين مجلدا في ثلاثة أيام، حتى أن البعض استنكر الخبر وقال كيف يقرأه في ثلاثة أيام؟ وهذا الكتاب شرح لمختصر المزني عند الشافعية وشروح هذا المختصر كلها كبيرة الحجم منها الحاوي أو بحر المذهب أو البيان، ويؤثر عن البلقيني أنه كان يقول كنت أقرأ مجلدا في اليوم، فلما نمي إليه أن البعض أنكر أن يكون العز بن عبد السلام قرأ هذا الكتاب في ثلاثة أيام، قال أنا لا أستبعد هذا ..ويؤيد ذلك أن العز بن عبد السلام عندما يقرأ شرح مختصر المزني لا يجد فيه الإشكالات التي يجدها غيره، وهو يقرأ سردا لا يشكل عليه شيء فيه ولا يحتاج أن يتأمل إلا بعض القضايا التي ربما تكون جديدة عليه، لأن العز ربما كان قرأ الحاوي للماوردي أو بحر المذهب للروياني قبله، ولعله لما قرأ نهاية المطلب كان شيخا ومتضلعا قد بلغ رتبة العلماء.
هذا من أغرب ما يروى في جرد المطولات من حيث الهمة العالية والصبر، وهذه الحكايات ليس القصد منها الدعوة إلى قراءة هذه المطولات في وقت وجيز، ولكن القصد منها هو بيان علو الهمة وضرورة الصبر والتضحية، فهذا الذي يصل الليل بالنهار ليسمع الكتاب وليقرأ الكتاب ويضبطه لا شك أنه ترك أمورا كثيرة، وربما ترك حتى الطعام والشراب فلا يتوقف إلا لأداء فريضة الصلاة.
وفي ميدان التفسير تروى قصة الإمام الطبري رحمه الله لما أراد أن يؤلف كتابا في التفسير، فأراد أولا أن يؤلفه في ثلاثمائة مجلد، ولكن قصرت همم الطلبة عن ذلك ، فاقتصر على هذه الموسوعة الضخمة التي تقع في ثلاثين مجلدا أو عشرين كما في بعض الطبعات، مما يحكى في هذا الباب أن ابن خزيمة المحدث المعروف سأل محمد ابن بالوية وقال له بلغني أنك كتبت عن ابن جرير تفسيرا وأنك كتبته مباشرة منه، فقال له: نعم كتبته كله املاء من سنة ثلاث وثمانين إلى السنة خمس وتسعين، استغرق كل هذه المدة لأن الكتاب لم يكن قد جمع وإنما كان الطبري يؤلف ثم يملي ما ألف ولم يتمه إلا بعد مضي اثني عشرة سنة ، فصبر هذا المحدث على السماع والتقييد كل هذه المدة ولم ينقطع ، وإنا إذا رجعنا إلى كتب التراجم سنجد فيها أخبارا كثيرة في جرد المطولات لكنهم لا يسمونها بهذه التسمية، لأن هذا المصطلح ظهر في هذا العصر، للتمييز بين الكتب التي تشرح والكتب التي تجرد وتقرأ قراءة، فعندما نقرأ في كتب متقدمة أن فلان قرأ تفسير الزمخشري على فلان فهذا من جرد المطولات، وعندما تجد كلمة قرأ أو تجد كلمة أملى، وبعدها يذكر كتاب فيه عدد من مجلدات فهذا من قبيل جرد المطولات، ومن مظان هذه الأخبار كتب الفهارس التي يذكر فيها العلماء سماعاتهم وإجازاتهم ن فتجد في فهرس ابن خير يقول مثلا أجازني فلان بتفسير الطبري، وهو في تلك العصور المتقدمة لا يحصل على الإجازة من الشيخ إلا إذا كان نسخ الكتاب على الأقل وقابله وصححه، وهناك من يأتي بعبارة صريحة فيقول قرأت تفسير كذا على فلان عن فلان عن فلان يعني بالسند إلى مؤلفه، الخلاصىة أن هذا الجرد هو سنة درج عليها علماؤنا نجدها في تراجمهم وفي ما يسمى بالبرامج أو الفهارس والأثبات، وهذه الكتب يدون فيها العلماء أسانيدهم والكتب التي سمعوها وقرأوها على شيوخهم، وفيها الموجز وفيها المتوسط وفيها المطول.
ما أهمية قراءة المطولات؟
أهمية قراءة المطولات يمكن أن نبرزها في خمس عناصر:
1.    تنمية الملكة العلمية، سواء ملكة الفقه، أو ملكة التفسير، أو ملكة الحديث، لأن تنمية الملكة تكون بإعمالها، الانتقال من تلك المبادئ وتلك الكليات، وتلك القواعد التي تلقيتها في الكتب المختصرة والمتوسطة، في الكتب المبسوطة ستعملها، وليس الفقيه من حفظ مختصرا، وليس الأصولي من حفظ مختصرا في القواعد دون تطبيق ودون تعميق لتصور تلك القواعد التي درسها، وقد نبه ابن خلدون رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن علم أصول الفقه في مقدمته الى هذه القضية (قضية الفرق بين الكتاب المختصر والكتاب المبسوط) حيث يقول: وبعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من تعلم تلك المختصرات إذا تم على سداده؛ بمعنى اذا درسنا تلك المختصرات كما ينبغي، نقول فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة، فثمة فرق بين الذي يدرس العلم من كتاب مختصر ويكتفي به، والذي يدرس العلم من الكتب البسيطة المطولة، والعلة هي كثرة ما يقع من التكرار، فالمسألة تتكرر بصيغ شتى، والمسألة لما يذكرها العالم بكلام مبسوط تكون مفهومة باختلاف المختصرة تحتمل المعنى وغيره، وقد يساء فهم مراده، ويقرر ابن خلدون أن التكرار هو الذي تحصل به الملكة، أي التكرار الذي فيه معنى الترويض الفكري والتدريب على تطبيق القواعد، فالملكات تتكون بالتكرار حتى في الرياضيات ونحوها كما ترونها بحل التمارين المتشابهة، وكذلك المعاني التي تتكرر بصور مختلفة تنمي الملكة، فمن يقرأ مسائل الفقه المتتابعة في كتاب مطول يستنتج الضوابط الفقهية ويتعرف على علل الأحكام ويتدرب على تفريع الفروع، وكذلك من يقرأ تفسير الجلالين ليس كالذي يقرأ في تفسير السعدي ولا كالذي يقرأ في تفسير ابن كثير، لا شك أن المراتب مختلفة وكلما اتسع الكتاب كلما اتسعت العبارة كلما كانت الملكة المحصلة أمتن وأقوى.
2.    ومن فائدة جرد المطولات التعرف على جزئيات العلم وفروعه، إذ الذي يضع كتابا مختصرا، الأصل في عمله حتى يكون مفيدا أن يقتصر فيه على المفاتيح الضرورية، لا أن يجتهد جمع كل فروع العلم وجزئياته، ومخالفة هذا المبدأ هو ما صير مختصرات المتأخرين مذمومة وموصوفة بالألغاز، لأنها تجمع العلم الكثير في الألفاظ القليلة مع إخلال واضح بالبلاغة، فأصبحت الألفاظ حاجزا بين الطلاب وبين حقيقة العلم ، يحفظ فيظن أنه يعلم وهو في الحقيقة لا يعلم. وهذا بخلاف المختصرات التي وضع العلماء المتقدمون فإنها كانت تعليمية، روعيت فيها أمور منهجية (من ناحية التقديم والتأخير، ومن ناحية مراعاة همة المبتدئ وإمكانية فهمه لها فضلا عن حاجته إليها ، فيؤخر ما ليس في إمكانه وما يحتاجه عاجلا للمرحلة الثانية أو المرحلة الثالثة)، فإذا كان سيدرس كتبا وضعت للمرحلة الأولى، التي تجنب فيها ذكر جزئيات كثيرة، فأين سيجد هذه الجزئيات؟ لن يجدها إلا في الكتب الأكثر توسعا والأكثر بسطا، وهذا شيء معلوم، ففي الكتب المبسوطة نقف على قواعد وضوابط لا تذكر في الكتب المختصرة، ونجد فيها عددا كبيرا من المسائل المفرعة على القواعد، وفي الكتاب الموضوع للمبتدئين نجد مثالا واحدا، وأما في الكتاب المبسوط فإن الأمثلة ستتعدد وتتنوع، وسنجد المستثنيات والتقسيمات وغير ذلك.
3.    ومن فوائد جرد المطولات التعرف على مظان المسائل، فمسائل العلم كثيرة جدا، وكل مسألة فقهية يحتاج إليها إلا وهي موجودة في كتب الفقه بعينها أو نظيرها، وكذلك كتب التفسير فيها كنوز عظيمة، إذ كل العلوم الشرعية موجودة فيها، مسائل العقيدة، ومسائل الفقه، ومسائل  السلوك، لأنها كلها مستنبطة من كتاب الله تعالى، وسنة المصطفى محمد ﷺ، لكن أين نجدها؟ هل نجدها في سورة الفاتحة أو سورة البقرة أو في سورة النور؟ وعندما تقوم بالجرد أي مسح كتاب من أوله إلى آخره ستتعرف على مظان مسائل لم تكن تعرف أنها موجودة في ذلك المكان أو لم تكن تتصور أن المفسر سيتطرق لها تحت ظل تلك الآية في تلك السورة، لأن ما يدل عليه القرآن من معاني تتباين أنظار العلماء في الوصول إليه واستنباطه، فما تجده عند أحدهم ما لا تجد عند آخر ، والكتاب المطول مظنة جمع أكبر عدد من الاستنباطات.
    وإذا ضربنا مثالا بجرد كتب الفقه الاسلامي، نطرح سؤالا أين نجد أحكام الجنين والسقط؟ لا يوجد في كتب هذا العنوان، لكن عندما اقرأ الكتب المطولة ستجد بعض مسائله في باب النفاس، أعني البحث في الدم الذي يعقب السقط هل يعتبر نفاسا ومتى يعتبر نفاسا، وستجد بعضها في أحكام النكاح كمسألة العزل، وبعضها في أحكام الجنائز هل يصلى عليه وهل يدفن أم لا، وبعضها في باب الديات، وبعضها في الميراث. فقبل أن تقرأ المطولات لا يكون عندك تصور لجزئيات الأحكام ومظانها وأما بعد القراءة فقد حصل المطلوب، ومما يتعلق بهذا المعنى الوقوف على اختلاف ترتيب الأبواب، إذ المؤلفون يختلفون في ذلك ، وأضرب لكم أمثلة: أحكام المساجد لا شك أنهم تكلموا فيها، لكن أين؟ في باب الوقف أم في باب الصلاة ؟ وأيضا أحكام السباق أين تكلموا فيها؟ في أبواب المعاملات المالية أم في باب الجهاد؟ وأيضا إحياء الموات أين ذكر في المعاملات الملية أم في باب القضاء؟ البعض لا يقرأ إلا كتابا فقهيا واحدا وعنده في ذهنه فهرس فقهي واحد يعتمد عليه أثناء أنجاز البحوث، وكثيرا ما يتوهم أن مؤلفا أهمل بابا لأنه لم يجده في الموضع الذي ألفه ، وهذا الأمر لا يختلف في العلوم الأخرى كعلوم الحديث وأصول الفقه وعلوم القرآن وغيرها.
4.    ومن فوائد جرد المطولات التعرف على مناهج المؤلفين في كتبهم، فعندما نقرأ كتابا في التفسير سنرى هل اعتمد المفسر الطريقة النظرية التي ندرسها في عصرنا : شرح الغريب، ثم أسباب النزول، الخ ، أم كان له منهج آخر؟ وما هي المواضيع التي يطيل فيها أكثر من غيرها ؟ وما هي الأشياء التي يركز عليها ؟ أحكام القرآن أم بلاغة القرآن. قديما كان الطلبة يتعرفون على مناهج المؤلفين بالقراءة ولا يحتاجون إلى دراستها ، كما هو حالنا اليوم في الجامعة، فطالب العلم يقرأ بنفسه صحيح البخاري وصحيح مسلم والسنن والمسانيد، وإذا احتاج إلى تخريج حديث لم يحتج إلى من يعرفه بهذه الكتب لأنه قد تعرف عليها على طريقة ترتيبها من قبل، ولكن في عصرنا لما ترك الطلبة قراءة كتب السنة احتاجوا إلى دراسة مادة منهجية اسمها طرق التخريج، فيعرفون بالكتب ومحتوياتها وطريقة ترتيبها، لو بقينا على سيرة سلفنا في التحصيل لما احتجنا إلى طرق التخريج، فعلماؤنا قديما كانوا يخرجون حديثا، من غير دراسة شيء اسمه طرق التخرج لاستغائهم عنه بجرد كتب الحديث من أولها إلى آخرها، وفي عصرنا هذا مع الأسف الشديد صرنا ندرس للطلبة مناهج المفسرين ولا ندرسهم التفسير ، وندرسهم مناهج المحدثين ولا ندرسهم كتب الحديث، نعم هذا هو الواقع نحكي للطلة عن العلم ولا ندرسهم العلم، المقصود أن العلماء قديما كانوا في غنية عن دراسة المناهج، لأنهم كانوا يدرسون كتب التفسير واحدا واحدا، تفسير الزمخشري، وتفسير الرازي وتفسير الطبري وتفسير أبي حيان وتفسير القرطبي ، ومن خلال هذه الدراسة سيتعرف على محتواها وعلى الفروق المنهجية التي بينها، وفي الحديث "ليس الخبر كالمعاينة" فلا تستوي المعرفة التي يأخذها الطالب من دراسة مناهج المفسرين أو مناهج المحدثين، أو مناهج الفقهاء مع المعرفة المستفادة من تقليب صفحات هذه الكتب صفحة صفحة، ومهما أمليت على الطلاب وشرحت لهم منهم البخاري في صحيحه فإن كلامي سيبقى فيه غموض ما لم يفتحوا صحيح البخاري لتصفحوه بأنفسهم، وإننا ربما نحكي للطلاب كثيرا عن تفسير الطبري وتفسير ابن كثير وستمتحنهم ويأخذون علامة 19 من 20، ومع ذلك لا يمكن أن يقال عنهم إنهم خبراء بهذه الكتب، حتى يطلعوا عليها ويقرأوها، فإذا جردوها  صاروا أعلم من أستاذهم الذي وصف لهم الكتب وهو لم يقرأ إلا أجزاء متفرقة منها.
5.    قديما كان جرد المطولات من أسباب حفظ الكتب وبقائها، كما أن الإعراض عن قراءتها كان سببا لاندثارها فالمخطوطات التي كانت تدرس كان الطلبة يعتنون بها ويقرؤونها كثرت مخطوطاتها، فوصلت إلينا، والكتب التي هجرت ولم تجد من يقرأها ولا من يعتني بنسخها، صارت في عصرنا في عداد المفقودات. إذن الاعتناء بالمطولات كان سببا لحفظها وترك قراءتها أدى إلى اندثارها.
     وفي عصرنا هذا قراءة هذه الكتب يؤدي إلى انتشار فائدة الكتب وليس إلى انتشار الكتب بحد ذاتها، وعدم قراءة هذه الكتب يؤدي إلى ذهاب فائدتها، بمعنى الكتاب موجود وموضوع في الرفوف، والعلم الذي فيه لا أحد يعلمه، لا أحد يصل إليه، وإذا كان الطلاب يقرأون هذه الكتب، ويستفيدون منها وبعد ذلك يتحدثون بما فيها وينشرونه فهذا سيكون نوعا من الحفظ لها، أما إذا كانت هذه الكتب المطولة تزين الرفوف فحسب، فهي موجودة حسا ومنعدمة معنى، وهذا نوع من التضييع لها.
أدب قراءة المطولات: كذلك سجلت فيها خمسة آداب:
1.    عدم تخطي المراحل. فإذا أراد أحد أن يدرس علوم الحديث فلا يبدأ بفتح المغيث للسخاوي لأنه لا يستطيع، والعلماء قد رتبوا لطلب العلم مراحل مراعاة لقدرات الإنسان وتدرجا في التعليم وترويضا للنفس، لذلك فإن تخطي المراحل سيؤدي إلى الفشل وعدم المواصلة، سيؤدي إلى الملل، لأنه لم يتدرب من جهة ولأنه يجد نفسه يقرأ أشياء ولا يفهم معناها من جهة أخرى ، لأنها فوق مستواه .
2.     ضرورة تقييد الفوائد والفرائد، فعندما نقرأ الكتاب المطول لابد أن نقيد، وإذا توقفنا نضع علامة تدل على مكانه ، نقطة بقلم الرصاص أو سطرا، أو ورقة ، وقديما كانوا يكتبون عبارة بلغ ، وتقييد الفائدة يكون بأن نضع لها عنوانا مع الإشارة الصفحة والمجلد، فتقيد المعلومات الجديدة، والمسائل الموجودة في غير مظانها، كالفائدة الأصولية أو الحديثية في كتاب التفسير، فمثل هذه الفوائد لا ينبغي الغفلة عنها، وتسجل هذه الفوائد في ورقة تكون معدة سلفا أو كراس، وقد وجدنا علماء سابقين ألفوا كتبا جمعوا فيها ثمرات مطالعتهم مثل كتاب الخبايا الزوايا للزركشي حيث أنه لما قرأ شرح الوجيز للرافعي وروضة الطالبين للنووي في الفقه الشافعي وجد بعض الفوائد كما ذكرت في غير مظانها، فجمعها لنا في هذا الكتاب، وهو ربما جمعها لنفسه ثم أراد أن يعم النفع فجعلها في كتاب سماه خبايا الزوايا، وكذلك كتاب بديع الفوائد لابن القيم رحمه الله هو أيضا ثمرة المطالعة وجرد المطولات، جمع فيه فوائد لغوية وفقهية وأصولية وتفسيرية. والعلم صيد والكتبة قيد كما قال بعض السلف، وقال آخر إذا سمعت الفائدة فاكتبها ولو على الحائط. وقال آخر اكتبها ولو على ظهر الذي يجلس أمامك. لأن الكتابة تدعو إلى تثبيت تلك الفائدة.
3.     عدم الاستعجال وتوزيع المجالس: ذكرنا من قبل قصصا في علو الهمة في القراءة، ولكن لابد أن نعلم أن تلك السرعة كان لها أسبابها، والذين قرأوا تلك الكتب الضخمة في مدد وجيزة، وكان أكثرهم علماء وأدباء عندهم قدرة على الفهم والتحمل، فابن حجر العسقلاني سمع صحيح البخاري في عشرة أيام قراءة ضبط وتصحيح، وأحدنا لو يكتب صحيح البخاري في عشرة أيام سيخرج لنا أردأ النسخ في التاريخ، وذلك لأننا لسنا في مستوى ابن حجر، لذلك فإذا أردنا أن نجرد صحيح البخاري علينا أن لا نستعجل لتكون قراءتنا متقنة ونحصل منها الفائدة المرجوة، وقد قال الزهري:" من طلب العلم جملة ذهب عنه جملة"، وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي، ولا شك أن قراءة الجرد تختلف عن قراءة التعليم، ففي التعليم نجلس مجلسا فيه ساعة وساعة ونصف، ولو كل يلقي فيها جديدا لكان الأمر منهكا، بل في الشرح والتكرار وبالتذكير بما هو معلوم سلفا ، وأما بالنسبة لجرد المطولات فإن المعلومات ليست كلها جديدة لأنه يفترض في الطالب أنه درس المرحلة الأولى المرحلة الثانية فالتكرار موجود وسيجد حتما فوائد جديدة وتفريعات على تأصيلات ولكن سبق له أن اطلع عليها لذلك يمكن أن يدرس وساعتين كاملتين وربما ثلاث ساعات مع مراعاة الاستيعاب والقدرة على التحمل، وأن يكون الرائد في ذلك عدم الاستعجال. لأننا إذا صرنا نقرأ بألسنتنا وقلوبنا مشغولة عن الكتاب، فهذا قراءة بدون فائدة.
4.     القراءة جماعة: من الآداب نحرض عليها القراءة جماعة للمطولات، قديما كان جرد المطولات يتم على الشيخ متقن، وفي زمننا هذا يتعذر في أكثر الأحيان تجد هذا الشيخ، وإذا وجدته لم تجده فارغا، وغالب من يجلس للتدريس في زماننا يدرس كتب المراحل الأولى ويكررها، لقلة المعلمين  ولدنو همة المتعلمين. لذلك اقترحت القراءة جماعة من أجل الثبات والمواصلة، فإن الملل يتسارع إلى نفوس أكثرنا، والجماعة مثبتة ومشجعة ورافعة للهمة ودافعة للملل، فإذا فتر واحد مثلا وجد من يسأل عنه وإذا انقطع حصة أو اثنتين فالمجالس تستمر ويمكنه الرجوع إليها بعد ذهاب الفتور، بخلاف الذي يقرأ منفردا فلا شيء يلزمه بالانتظام ، وإذا انقطع لم يجد من يحفزه ، وسوف حتى يترك قراءة الكتاب إلى الأبد، إذن القراءة جماعة فيها معنى رفع الهمة والشعور بنوع من الالتزام، وفيها أيضا شيء آخر مهم وهو المباحثة في القضايا المشكلة أو التي تحتاج إيضاح وتبادل الآراء ونحو ذلك.
5.     جرد المطولات لا يعني شرح المطولات: إذا ذكرت إن القراءة جماعة فيها إثارة للمسائل، فهذا معناه إثارتها من حين لآخر ومرة بعد مرة، وإلا فالغالب يقرأ ولا يعلق عليه، لأنه بمثابة المراجعة أو توسيع لما هو معلوم، وأما الوقوف مع كل مسألة فإنه سيحول القراءة إلى الشرح وذلك يجعل المدة تتضاعف بلا فائدة ، والفائدة العظمى هي في قراءة الكتاب لا في التعليق عليه، ومما ينظر إليه حين الشروع في القراءة عامل الزمن وتحديد عدد الجلسات ومدتها حسب حجم الكتاب ومدة نقدرها ابتداء، فإذا كان الكتاب فيه مثلا ألف صفحة، وأنت تقرأ منه صفحتين في الأسبوع، فمعنى هذا أن إنهاء الكتاب يتطلب 500 أسبوع أي عشر سنوات، وبعبارة أخرى أنت لست تنوي إنهاء الكتاب، والواجب علينا أن نتعلم التخطيط فنقول كتاب فيه ألف صفحة لابد أن نتمه في سنة فنقسمه على 50 حصة فيكون الناتج 20 صفحة في المجلس ، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فنزيد في زمن الحصة أو نضيف حصة ثانية في الأسبوع، فالتخطيط ضروري وليس ضروريا أن يكون دقيقا ، فالوقوف عند المشكلات أو مع الفوائد الجديدة يكون بحسب الحاجة ، ولا يمكن حده، وقضية عدم تخطي عدم تخطي المراحل مهم جدا لأنه إذا كان في الجماعة من ليس في مستواهم فإنه سيبقى يسأل عن المراد بأكثر المسائل، وهنا سنتقهقر إلى شرح المطولات، ولذلك نؤكد أن الجماعة لابد أن تكون من متقاربين في المستوى حتى يتجنب هذا العائق، وما ذكر في هذا الضابط نجد له تنظيرا في كتب المتقدمين فالشروح كانت تسلط على الكتب الصغيرة، وأما الكتب المطولة فكان من يسجل عليها نكتا وتعليقات، ومنها ما يسمى بالحواشي التي تشرح فيها كلمة، وجملة، والحاشية ليس فيها لب العلم وإنما هي نكت وتعليقات وتقييدات متفرقة.
    ونختم هذا المجلس بكلمتين لابن الجوزي رحمه الله تعالى الكلمة الأولى يتحدث فيها عن المطالعة حيث قال في صيد الخاطر: "وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، إذا رأيت كتابا لم أره من قبل كأني وقعت على كنز"، ثم يقول بعد ذلك: "ولو قلت اني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب"، يعني أن هذا كان في مرحلة ما قبل أن يجلس للناس ويصبح واعظا ومدرسا، وقبل أن يتأهل للتأليف ، قال عشرون ألف مجلد، وهذه ثمرة جرد المطولات دون كلل وملل.
ثم يقول :"فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم ومن قدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وآرائهم وعلومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، ثم يقول وأصبحت استزري ما الناس فيه واحتقر همم الطلاب"، وهمة ابن الجوزي رحمه الله لا تدانيها همة ، صاحب الكتب الكثيرة في الفنون العديدة الحديث والتفسير والتاريخ والوعظ والأدب وغيرها، وصاحب القصص الغريب في حفظ الوقت، ويكفي أنه لما توفي عدت أوراق مؤلفاته وقسمت على أيام حياته فوجد أنه لو اعتبرناه بدأ التأليف منذ يوم ولادته لكان قد ألف في كل يوم كراس، هذا دون عد ما كتبه تعلما وتذكرة لنفسه .
ثم كلمة أخرى أيضا قالها في الكتاب نفسه وهو يتحدث عن الهمة العالية في طلب العلم وأن العلوم ليس لها نهاية ، ونحن عندما نتحدث عن مراحل الطلب ونقول الثالثة للمنتهين فهذا تقريب أو تعبير عن بداية مرحلة لا نهاية لها ولا تحد بكتاب أو كتابين، والطلاب غالبا يحتاجون إلى التوجيه في المرحلة الأولى والثانية ، ومن وصل إلى الثالثة فلا يحتاج إلى توجيه، لأنه قد عرف الطريق بل هو سيصر موجها لغيره، وهنا نذكر أن المرحلة الثالثة لا يصح أن تقف عند كتاب، والبرامج المقترحة تذكر نماذج لكتب تقترح ، ولكنها تعطي للبعض تصورا مغلوطا، فقد يتصور البعض أنه لكي يصبح مفسرا يكفيه أن يقرأن ثلاثة كتب وهذا خطأ، فالمذكور هو نماذج، والمرحلة الثالثة لا نهاية لها .
يقول ابن الجوزي رحمه الله مستدركا: "غير أن العمر قصير والعلم كثير، فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر، ومن الحديث أن يقتصر على الصحاح والسنن والمسانيد" يعني لا نتبع القراءات الشواذ الكثيرة ولا الأجزاء الحديثية التي لا حصرها، وهذا كلام صاحب همة عالية فهو يحتقر همم طلاب زمانه، فكيف لو رآنا اليوم وسمعنا، طبعا هذا الكلام نقوله من أجل رفع الهمم، وليس من أجل إماتة الهمم، يعني ننظر كيف كانت همم هؤلاء العلماء الذين سلكوا الطريق فأدركوه ساروا على المنهاج ووصلوا رحمهم الله رحمة واسعة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الكلمات مفيدات، ونسأل الله سبحانه وتعالى الإخلاص فيها حتى تكون في ميزان حسناتنا وحسناتكم، وسبحان الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.  

تم قراءة المقال 85 مرة