قيم الموضوع
(1 تصويت)

نبوءة مشعوذ

حول انهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك

 

(نشر المقال في أسبوعية الجزيرة الجزائرية العدد (9) الصادر بتاريخ 7 سبتمبر 2002)

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ، فإنه بعد حادثة 11 سبتمبر 2001 ببضعة أشهر ظهرت منشورات توزع بطرق مختلفة حول هذا الحادث، وقد حاول أصحاب هذه المنشورات قدر جهدهم أن يقنعوا الناس بأن الحادث مؤرخ في القرآن أي أن الحادث وتاريخ وقوعه وساعته مشار إليه في القرآن مع تفاصيل أخرى، ولا ندري ما هو المكسب العلمي الذي رمى إليه المروجون لهذه النبوءة التي جاءت متأخرة، سوى بث نوع من السطحية في التعامل مع القرآن، وصد الناس عن تفهم معانيه، وكذا إحياء الفكر الصوفي الخرافي الذي يؤمن بالتفسير الإشاري والأسطوري، كما أنه تأييد صريح لفكر لأصحاب أسرار الحروف من السحرة والمشعوذين، هذا الحكم الأولي على هذا التشويش الذي يسميه أتباعه بالتفسير العددي للقرآن وسيأتي المزيد.

  

نبوءة مشعوذ

نص الدعوى

    يقول الله تعالى :

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) [التوبة/109، 110].

     فقال المشعوذون : هذه آيات فيها حديث عن بنيان تهدم وهي من سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، وتقع في الجزء (11) من أصل ثلاثين ، وفي الحزب (21) من أصل ستين، فزعموا أن رقم السورة رمز للشهر التاسع وهو سبتمبر، ورقم الجزء رمز لليوم وهو يوم الحادي عشر ورقم الحزب رمز للقرن الحالي القرن الحادي والعشرين، وحتى رقم الآية في سورة التوبة فيه رمز أيضا إلى عدد طوابق إحدى البنايتين الضخمتين ومنهم من زاد على هذا أن قال أن عدد الآيات من أول سورة البقرة إلى آخر سورة التوبة هو 1357 آية وفي هذا دلالة على زمن وقوع الحادث وهو الواحدة زوالا وسبع وخمسين دقيقة التي تكتب هكذا (13:57) وأن عدد أحرف الآية 110 هو 61 حرفا يرمز إلى عدد الأيام الفاصلة بين الحادث والعدوان الأمريكي على أفغنستان، وقال أيضا أن في كلمة ريبة في الآية دلالة على البنيان مبني من أموال الربا. وزاد آخرون أن "جرفن هار" هو اسم الشارع الذي يقع فيه البنيان.

أصل فكرة التفسير العددي

    قبل الشروع في الرد المفصل على تلك الجزئيات التي أغتر بها كثير من الناس وصدقوا أنه يمكن أن يكون القرآن من جنس كتاب شمس المعارف الكبرى(كتاب في السحر)، أردت أن أنبه على أصل هذه الفكرة وما المراد منها؟ إن هذه الفكرة من الحبائل الشيطانية التي نسجها خيال المرتد عن الإسلام رشاد خليفة المصري الذي بدأ منذ بداية الثمانينيات يدندن حول الإعجاز العددي في القرآن فيما يكتبه وما يلقيه من محاضرات هنا وهناك حيث شهر أول الأمر أسطورة العدد 19 (التي سبقه إليها البهائية وجعلوها معجزة القرآن) وقد ألهى بها كثيرا من الشباب المسلم، وتدرج به الأمر إلى أن زعم يوما أن في القرآن تحريفا بالزيادة والنقص في الحروف حيث أنه وجد أن قاعدته لا تطرد في بعض المواضع إلا بإنقاص حرف أو زيادته، وفي أول التسعينيات لما بلغت شهرته الآفاق أعلن عن مراده وكشف مقصوده فزعم أنه رسول من الله تعالى جاء ليتمم تفسير القرآن لأن الله تعالى رأى المسلمين لم يفهموه، وهو يزعم أنه مسلم وأنه لم يأت بدين جديد وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نبي بعدي ولم يقل لا رسول بعدي. هذا الرجل كان مقيما في الولايات المتحدة ( حيث كان إماما في مسجد في مدينة تكسون بنته له جمعية يهودية معروفة ) ولما ادعى النبوة انتقل إلى سويسرا وبها قتل في ظروف غامضة.

خلو التفسير العددي عن الفائدة

     فضلا عن كون هذا التفسير -الذي هو في الحقيقة عبث بكلام الله تعالى – بدعة قد عرف حال مبتدعها فهو خلو عن الفائدة. فلا يدرى أين هي الفائدة إذا علمنا أن عدد الآيات أو الحروف في السورة الفلانية من مضاعفات 19 أين هي الثمرة السلوكية أو الاعتقادية؟ أين هي الثمرة الحضارية؟ أين هي المعجزة العلمية أو الأدبية في ذلك؟ لكن في الناس من أفئدتهم هواء يصدقون كل دعي ويجيبون كل ناعق. إن الثمرة التي يستشفها الناظر الناقد لهذا العبث بالقرآن هي محاولة تجريد القرآن من معانيه المعجزة فعلا ، وصرف الناس عن التدبر الصحيح الذي ينفعهم في الدنيا والآخرة فضلا عن إحياء الفكر الصوفي الباطني وبعث للعقلية الخرافية التي تؤمن بالسحر وأسرار الحروف والكهانة وتعمل بذلك، فما فائدة هذه الدعوى العريضة المذكورة أعلاه سوى أنه يمكن لمن يقرأ القرآن بقراءات حسابية بطريقة ما أن يعلم ما سيحدث غدا أو في السنة المقبلة أو في القرن المقبل، وقد كتب بعض هؤلاء الكهان أن زوال دولة اليهود سيكون بعد ربع قرن واستدل لذلك بالطريقة نفسها، وادعاء علم الغيب كفر بالله تعالى، قال تعالى : (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل/65] وقال صلى الله عليه وسلم:"من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".

لسنا ضد بيان الإعجاز العلمي للقرآن

    ليس فيما ذكرنا تحجير على البحث العلمي المؤسس على القواعد الصحيحة والمعتبرة عند العلماء، بل ما ذكرناه هو دفاع عن القواعد العلمية التي بها تضبط الأمور، فالقرآن عربي اللسان ولا يجوز لأي كان أن ينحو في تفسيره منحا خارجا عن معاني اللغة العربية وأساليبها كما لا يجوز لمن جهل لغة العرب أن يتكلم في القرآن بتاتا، هذه أول القواعد الضابطة للكلام في القرآن، ثم الصحابة والتابعون هم أعلم الناس بكلام الله تعالى هم لم ينقلوا لنا تفسير جميع القرآن ولم يستخرجوا كل كنوزه وفوائده، لكن لا يقبل ممن جاء بعدهم أن يأتي بما يناقض الجزء المنقول عنهم لأن هؤلاء القوم أخذوا تلك المعاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أنهم بهذا الاعتبار أعلم منا ومن كل أحد بعدهم فيما تكلموا فيه. والمجالات العلمية الفلكية والأرضية والبحرية والحيوانية والنباتية والإنسانية مجالات مفيدة فلو أن أهل العلم بالتفسير تكلموا في هذه النواحي تصحيحا وتقويما أعني أن يجعلوا من القرآن حكما على النظريات الحديثة السائدة ومرجحا بينها إذا ما تضاربت فهذا فيه فائدة التصحيح للأفكار الخاطئة، بل وللعقائد الباطلة في بعض الأحيان. وفيه بيان وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم وأنه منزل من عند رب خبير عليم. 

الرد المفصل على المشعوذ 

   بعد هذا التوضيح الضروري أرجع إلى الرد على المفصل على تلك الأمور التي زعمها هؤلاء المشعوذين، وقد رأيت أن أجعلها على النحو الآتي:

أولا : التحكم وعدم الربط العلمي المقنع

    إن أول ما يميز هذا الادعاء هو التحكم وعدم الربط العلمي المعقول المعنى بين تلك الأعداد والأرقام، إذ يمكن لأي شخص آخر أن يفترض مثله وضده.

1- فلماذا مثلا يجعل رقم الجزء مقابلا للشهر وليس لليوم ورقم الحزب مقابلا للقرن وليس لساعة وقوع الحادث.

2-لماذا الربط بين رقم الآية 110 وبين عدد طوابق إحدى البنايتين دون الأخرى ودون مبنى البنتاغون الأمريكي، ثم إن الانهيار قد ذكر في الآية قبلها 109 فلما وقفوا عند الآية 110.

3-لما عدَّ الآيات من أول البقرة إلى آخر التوبة ليصل إلى ساعة الحادث يقال له لماذا لم يكن العد من أول الفاتحة إلى الآية 110 أليس هذا أقرب؟ وهو من غير شك يعلم ذلك، لكن لما رآه لا يوصله إلى النتيجة المرسومة عدل عنه.

4-قضية عدد أحرف الآية 110 غير مسلمة إذ هو 62حرفا مرسوما (بعدِّ الألف في بنيانهم) مع أربعة أحرف مشددة([1]).

ثانيا : أكثر استدلاله بأشياء ليست من كلام الله تعالى

    هذا الجاهل الملبس على الناس قد نسي أن الله تعالى لما نزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وكتبه أصحابه رضي الله عنهم لم يكن فيه لا تجزئة (30) ولا تحزيب (60) (بل ولا ترقيم للآي لذلك فنحن نجد الاختلاف موجود في الترقيم بين أهل الكوفة وأهل المدينة وأهل البصرة وغيرهم)، المقصود أن هذه الأشياء من اجتهادات العلماء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يتعلق بها إعجاز؟! أو إخبار بالغيب ؟!

ثالثا : الافتراء على الله والاستخفاف بعقول المسلمين

    أما الافتراء الصريح فحين جعل التأريخ كله بالميلادي الجريجوري، والله تعالى يقول : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) [التوبة/36].

     وأكثر وضوحا في الافتراء والاستهتار بعقول المسلمين حين حدد وقت وقوع الحادث الساعة 13 أي الواحدة زوالا لأن اليوم إنما يبتدئ من مغرب الشمس وليس من منتصف الليل كما اختار ذلك الأوروبيون. ثم لا علقة بين العدد 1357 والساعة المشار إليها سوى التشابه في الرسم في الساعات الإليكترونية (13:57) وإلا فأي عاقل يقول إذا كان 57 يرمز للدقائق فالواجب أن تكون 1300المتبقية دقائق أيضا ، وإذا كانت الـعدد1300 يساوي 13 ساعة فالأقرب أن العدد 57 يعادل النصف ساعة تقريبا.

رابعا : عدم بيان حكم الله تعالى في هذا الحادث وما تبعه

    إن القرآن كتاب هداية وتعليم، قال تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )[الإسراء/9] وقال : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )[البقرة/185]، فأين وجه الهداية في هذا التفسير، إن الأوراق المنشورة ليس فيها لا التأييد للهجوم ولا التنديد به، وليس فيها أي إشارة إلى الأحكام الشرعية التي تساءل عنها المسلمون يومها، فهي خالية تماما عن الفائدة العلمية والهداية للناس، ثم يقال ما دام المشعوذ قد وقف على كل هذه الدقائق، فلماذا لم يعط لنا الدلائل التي تحدد لنا من قام بهذه العملية وخطط لها؟ أو تفسيرا معقولا لغياب اليهود عن أماكن عملهم يومها؟

خامسا : الجهل باللغة العربية والادعاء المفضوح

    من الجهالات التي جاءت في تلك الأوراق أن قوله تعالى: (بنيانهم الذي بنوا ريبة) يدل على أن البنيان بني من أموال الربا ولعل المشعوذ اغتر بالتقارب في النطق بين الربا والريبة والأقرب أنه أراد التغرير بالناس لأنه يعلم مقدار ابتعاد الناس عن القرآن ولغة القرآن، وجوابه أن الريبة والارتياب معناه الشك وأصله من مادة ( ريب ) وأما الربا فمعناه الزيادة وأصله من مادة ( رَبَوَ ) وليست ثمة أي علاقة معنوية بين الكلمتين.

    أما الادعاء المفضوح هو ما زاده بعضهم من أن اسم الشارع الذي يقع فيه البنيان جورفن هار وقد تعب بعضهم في البحث عن هذا الشارع المخترع عبر قنوات الاتصال وشبكات المعلومات العالمية فلم يجد له أثرا لا في نيوريوك ولا في أمريكا ولا في غيرها من بلدان العالم([2]).

سادسا : بتر الآيات عن سياقها ومناقضة ما هو معلوم من تفسيرها

   هذه الآيات جاءت في سياق ذكر المنافقين الذي بنوا مسجدا بغرض تفريق المسلمين فابتدأ الله ذكر خبرهم بقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ) [التوبة/107]. ثم أخبر في الآية 110 أن ذلك البنيان مع تهديمه وحكم الله فيه لا يزال هؤلاء المنافقون يظنون أنهم كانوا محسنين في فعلهم مع أنهم بنوه بدافع الشك والريبة إلى أن تقطع قلوبهم بضم التاء عند الجمهور وبفتحها عند حمزة وابن عامر وحفص بمعنى لا يزالون في ريبهم إلى أن يموتوا والله أعلم.

   ومنه فإنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد صحة ما ورد في هذه الأوراق فضلا عن أن ينشرها ويذيعها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


 

[1]/ وقد كتب آخرون للتدليل على السنة التي وقع فيها الانهيار بأن عدد كلمات السورة من أولها إلى الآية 110  هو 2001 وهذا كذب واضح فقد عددت كلمات الآيات المشار إليها بالحاسوب (الكومبيوتر ) فكانت 2092 (من غير عد حرف العطف واو ) وإذا حذفت كل حروف الجر والعطف المنفصلة خطا كان عدد الكلمات 1960 كلمة ، وهذا مما يوضح تعمد الكذب والتحكم والتلاعب بعقول الناس من طرف هؤلاء المشعوذين.

[2]/ وقد ذكر في ورقة جديدة أخرى أن رقم البرجين المنهارين هو 108 و109 الموافق لرقم الآيتين في بعض المصاحف ، وهذا من الكذب الذي لا مستند له ، كما أن رقم الآيتين في مصاحف أخرى هو 109 و110 وقد سبق أن أمر الترقيم مختلف فيه ولا يمكن أن يتعلق به إعجاز.

تم قراءة المقال 7592 مرة