الاثنين 22 رمضان 1434

85- كلام مشكل لابن جرير في قضية العذر بالحهل

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

السؤال:

   هناك عبارة لابن جرير في التفسير أشكلت علينا وهناك من يستدل بها على عدم العذر بالجهل في التوحيد، فنرجو توضيح وجه هذا الكلام، وذلك في تفسير قوله تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) } حيث قال رحمه الله :" وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية".

85- كلام مشكل لابن جرير في قضية العذر بالحهل

الجواب:

   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين أما بعد: فهذا الكلام في ظاهره مشكل وهو إذا ما تدبر معناه ووضع في سياقه لا إشكال فيه لأنه متفق مع عقيدة السلف ، وذلك أن مراده أن الكفر لا يختص بمن تبين له الحق على وجهه ثم عانده، بل يتعدى إلى من أعرض عنه فلم يرد سماعه أو لم يرد تفهمه، فبقي في الجهالة وهو يحسب أنه على الهدى، وهذا المعنى متفق عليه ولا علاقة له بقضية العذر بالجهل التي تختص بمن لم تبلغه دعوة الحق أصلا .

   ويؤكد هذا الفهم ما يلي :

أولا : سياق الآيات

فسياق الآيات في الكفار الأصليين من مشركي العرب الذين كانوا ينكرون البعث ويطوفون عراة ويزعمون أن الله أمرهم بذلك، وقد قامت عليهم الحجة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى في الآية المذكورة (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [الأعراف : 30]) وإنما حقت عليهم الضلالة بقيام الحجة عليهم وإعراضهم عنها.

ثانيا : الآيات الموافقة لها في المعنى

   وهذا المعنى المذكور مقرر في مواضع أخرى في القرآن الكريم، حيث ذكر الكفار الذين قامت عليهم الحجة وأنهم يحسبون أنهم مهتدون ومصلحون ويحسنون صنعا، فقال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) [الزخرف : 36 ، 37] وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) [البقرة : 11 - 14] وقال سبحانه : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) [الكهف : 103 - 106]

فهذه الآيات متفقة على أن ظن الكافر أنه على هدى لا ينفعه، وهي واضحة في سياقاتها أنها فيمن جاءته الحجة فأعرض عنها.

   وقد استدل بعضهم بآية سورة الكهف على تكفير المتأولين فرد عليهم ابن حزم بتأمل سياقها وأنها ورادة في الكفار المخالفين لدين الاسلام وقال :"وآخر الآية مبطل لتأويلهم".انظر الفصل (3/141)

ثالثا : موقف الطبري من الآيات الدالة على العذر بالجهل

ومما يحتم علينا حمل كلام الطبري على المعنى المذكور دون غيره: الرجوع إلى تفسيره للآيات الدالة على العذر بالجهل، حيث حملها جميعا على ظاهرها دون تأويل لمعناها أو اعتراض على مدلولها، ومن ذلك:

1ـ ففي تفسير قوله تعالى ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) قال:" وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم".

2ـ وفي تفسير قوله تعالى: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء :115) قال رحمه الله : يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له"من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم".

3ـ ومن أوضح نصوصه ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (التوبة : 115) حيث قال: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه ".

رابعا : مقارنة كلامه بكلام غيره من أهل العلم

   وكلام الطبري رحمه الله تعالى متفق مع كلام غيره من علماء أهل السنة الذين حملوا دلالة الآية على الإعراض، وقد قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة (1/44):"فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى: (ويحسبون أنهم مهتدون) قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه".

   وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (2 / 13-14):" هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى؛ لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل، وعناداً،فلذلك كان غير معذور".

خامسا : لوازم باطلة لمن يحمل كلامه على نفي العذر بالجهل

   إن من حمل كلام الطبري رحمه على نفي العذر بالجهل في التوحيد دون حالة الإعراض؛ تلزمه لوازم باطلة تظهر من تحليل عبارات الطبري، وهذا توضيحها:

1ـ أنه أثبت العذاب على المعاصي والضلال وسوى بينهما ولم يفرق ، فهل للمعاصي حكم العقائد عند هذا المستدل ؟ وإذا دخلت المعاصي فدخول القضية الخفية المتعلقة بالتوحيد من باب أولى فهل للمسائل الخفية حكم المسائل الظاهرة عند هذا المستدل؟

2ـ أنه أثبت العذاب مطلقا دون التفريق بين الدنيوي والأخروي ، فهل هذا المستدل النافي للعذر يقول بإثبات العذاب الأخروي في حق الجاهل الذي لا يعذره ؟ والطبري في آخر كلامه أكد على التفريق بين الفريقين في الأسماء والأحكام ، أي فريق مؤمن مهتدي ناج وفريق كافر ضال معذب ، فهل هذا المستدل يوافق على ذلك أم أنه هو كافر في الدنيا وأمره إلى الله في الآخرة أو يمتحن أو يقول هو مشرك لا كافر لينفي أحكام الآخرة؟

3. أنه سوى بين المعاند وغيره فإن لم يكن ذلك الغير المعاند لزم أن يكون كل من ضل لجهل أو تأويل ، فيلزم المستدل أن يكفر كل من المتأويلين من الفرق الاسلامية ، وربما يلزمه تكفير الفقهاء المخطئين لأن الكلام شامل للمعاصي .

   هذا ما فتح به الإله سبحانه والعلم عنده وحده والحمد لله رب العالمين.

  

تم قراءة المقال 3720 مرة