الأربعاء 30 رجب 1446

الدكتور يزيد حمزاوي شخصيته العلمية وجهوده العلمية

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

 

 

الدكتور يزيد حمزاوي شخصيته العلمية وجهوده العلمية
بتاريخ 29 جمادى الأولى 1445هـ - (الموافق لـ 13 ديسمبر 2023م)
أد سليمان بن صفية –جامعة الجزائر 1
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فهو المهتدي ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أدّى الأمانةَ، ونصحَ الأمةَ، وتركَها على المحجةِ البيضاءِ، ليلُها كنهارِها لا يضلُّ عنها إلا خاسرٌ، فصلواتُ ربي وسلامُه عليه.
أما بعد:
مَعاشِرَ الحُضورِ الكِرامِ! يُطِيبُ لي المُشارَكةُ في هذهِ النَّدوةِ المُبارَكةِ، الَّتي تُعنى بالتَّعريفِ بأحدِ أعلامِ هذا البلدِ الحبيبِ؛ وهذا مِن العِرفانِ والوَفاءِ لِأعلامِنا، وأيضًا مِن صِلةِ العِلمِ، وهيَ أعظَمُ الصِّلاتِ؛ فالعِلمُ رَحِمٌ بينَ أَهلِهِ.
وَلَعَلَّ مِثلَ هذهِ النَّدواتِ تستحثُّ الهِمَمَ للنُّهوضِ بهذهِ العُلومِ الإسلاميَّةِ، لعلَّنا نَلحَقُ برَكبِ الأخيارِ، أوْ نَتَشَبَّهُ بالصَّالحينَ وإنْ لم نَكُنْ مِنهُم.
وقدْ أُوكِلَ إليَّ الحَديثُ عن: الشَّخصيَّةِ العِلميَّةِ، والجُهودِ الدَّعويَّةِ لهذا العَلَمِ: الدُّكتورِ يَزيدِ حَمزاوي -رَحِمَهُ اللهُ-.
وأنا في الحقيقةِ عالةٌ على ما كَتَبَهُ الأَخيارُ مِن زُملائِه؛ وعلى رأسِهم الشَّيخُ الأُستاذُ الدُّكتورُ مُحمدُ حاجِّ عيسى، وقد أَضَفتُ بَعضَ الإِضافاتِ التي رَأيتُ أَهمِّيَّتَها؛ وسَأُلَخِّصُ حَديثي في نِقاطٍ حَتى لا يَتَشَعَّبَ بي الحَديثُ والمَقالُ.
أولاً: اسمه، ومولده، ونشأته
هو: أبو عبد الرحمن يزيد عمر حمزاوي، الملقبُ بينَ أقرانِه وفي الساحةِ العلميّةِ بـ"ديدات الجزائر"؛ تشبهًا بذلكَ العَلَمِ الذي صالَ وجالَ في مقارعةِ النصرانيةِ.
وهو دكتورٌ في علوم التربيةِ، وأستاذٌ جامعيٌّ، وكاتبٌ صحفيٌّ، وإعلاميٌّ له قلمٌ سيّالٌ.
وهو من أبرزِ دُعاةِ الجزائرِ في محاربةِ النصرانيةِ، والمذاهبِ الفكريّةِ المعاصرةِ، سواءً كانت القاديانيّةَ، أو العَلمانيةَ، أو الإلحادَ، أو أيّ لُبوسٍ آخرَ تلبّست به هذه التيّارات.
أمّا مولدُه: فكانَ في ديسمبر سنة 1966م، في أحدِ أحياءِ العاصمةِ الجزائريّةِ؛ وهو أمازيغيُّ الأصلِ، وإنْ كان النسبُ لا يرفعُ الإنسانَ، وإنما يرفعُه عملُه، كما وردَ في قوله ﷺ: «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»( ).
وإنّما ذُكرَ ذلكَ للتنبيهِ على أنّ الانتماءاتِ العِرقيةَ في بلدِنا لم تكنْ في يومٍ منَ الأيّامِ مؤثّرةً في الانتماءِ لهذا الدِّينِ أولًا، ولا في الانتماءِ للوطنِ ثانيً
نشأته:
كانت له -رحمه الله- نشأتان: نشأةٌ أكاديمية، وأخرى عصامية علمية محضة.
وذكرُ ذلك يُبيّنُ لنا مسارَ النبوغِ العلمي، فإنّ النبوغَ العلميَّ لا يأتي من فراغ؛ نعم، هو توفيقٌ من اللهِ تعالى، ولكنّه مشروطٌ بسلوكِ طالبِ العلمِ منهجيّةً واضحةً في الطلب، متخذًا سبيلًا مُتدرجًا، متسلحًا بالصبرِ والاجتهاد؛ لعلّه أن يصلَ إلى هذه المنازلِ العاليةِ والمقاماتِ الرفيعة.
 1- تدرُّجُهُ الأكاديميّ:
بدأ -رحمه الله- مسارَ التَّعليمِ النِّظاميِّ في الجزائرِ، إلى أن تحصَّل على شهادةِ الدولةِ في علمِ النفسِ التَّطبيقيِّ سنةَ 1988م. ثمَّ انطلق في رحلةٍ علميَّةٍ متميِّزةٍ، وهذه الرحلةُ كانت إحدى ركائزِ نبوغِه العلميِّ، إذْ قلَّ نظيرُها في هذا الزَّمنِ الذي عزفَ فيه كثيرٌ من الطُّلابِ والأخيارِ عن مثلِ هذه المساراتِ.
غيرَ أنَّ الشيخَ، -رحمه الله-، كان سبَّاقًا إلى ذلك، حيث غادَرَ بلدَته قاصدًا بلادَ المشرقِ، فبدأ رحلتَه العلميَّةَ في مصرَ، التي كانت في ذلك الوقتِ منارةً للعلمِ. انطلقَ بالأزهرِ الشَّريفِ، حيثُ درسَ في معهدِ الزيتونِ لعلومِ القرآنِ والسُّنةِ، ثم واصلَ طلبَ العلمِ في معهدِ بكوسَ للعلومِ الشَّرعيةِ.
وهذا المسارُ يكشفُ عن أمرٍ مهمٍّ: أنَّ الشيخَ، -رحمه الله-، كان ذا حِسٍّ إسلاميٍّ شَرعيٍّ عالٍ؛ إذْ بدأ بتعلُّمِ الأصلينِ العظيمينِ: الكتابِ والسُّنةِ، وجعلَ منهما أساسًا متينًا بنى عليه بقيةَ علومِه، ليجمعَ بينَ التَّأصيلِ الشَّرعيِّ والعملِ التَّخصصيِّ.
ثُمّ بَعْدَ ذلكَ يَمَّمَ شَطْرَ الأُردنِّ، فأخَذَ منها عُلومَ الإعْلامِ والاتِّصالِ ليسانسَ، ثُمّ بَعْدَ ذلكَ أُصولَ التَّربيةِ في جامِعتِها.
ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذلكَ إلى بَلَدِه، كما قالَ رَبُّنا جَلَّ وعَلا: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
فَعَادَ إلى الجَزائِرِ، وبدأَ تَصْحيحَ مَسارِهِ الأَكادِيمِيِّ بتَعديلِ شَهادتِه، ثُمَّ بَعْدَ ذلكَ تَدَرَّجَ إلى شَهادةِ الدُّكتوراهِ، وكَانَتْ أيضًا في المَصدَرَيْنِ والوَحْيَيْنِ: الكِتابِ والسُّنَّةِ، في "الدَّلالاتِ التَّربويَّةِ للأمثالِ القُرآنيَّةِ"، وأيضًا "الدَّلالاتِ التَّعليميَّةِ في الخِطاباتِ النَّبويَّةِ".
2- تطويرُ الذاتِ، والتداخُلُ المعرفي:
المسارُ الثاني الذي سَلَكَه هذا العَلَمُ، يزيدُ حمزاوي -رحمهُ الله-، هو تطويرُ الذاتِ والتداخُلُ المعرفي؛ لأنَّ الإنسانَ يحتاجُ إلى أدواتٍ ومعارفَ يُوظِّفُها حتى يزدادَ عُمقًا في دراستِهِ، وأيضًا إفادةً في علومِه. فطوَّرَ رحمهُ الله مهاراتِهِ الدعويةَ واللغويةَ، فتعلَّمَ اللغةَ الإنجليزيةَ، وكادَ أن يُتقِنَها إتقانًا تامًّا في أواخرِ عمرِه، -رحمهُ الله-، وذلكَ من خلالِ التحاقِه بالمعهدِ الإدريسيِّ في دمشق، ثم بالدوراتِ المكثفةِ للُّغاتِ في جامعةِ البليدة.
وأيضًا، كان -رحمهُ الله- حريصًا على تطويرِ العلومِ الإعلاميةِ والصحفيةِ، التي انعكسَ أثرُها بوضوحٍ في كتاباتِه وإسهاماتِه المتعددةِ، حيث تركَ بصمةً جليّةً في كلِّ ما خطَّه قلمهُ، وما شاركَ به في ساحاتِ الإعلامِ والنقاشِ الفكري.
ثانياً: عواملُ نُبُوغِ الدكتور يزيد حمزاوي -رحمه الله-
لماذا نبغَ هذا العلَمُ بعدَ توفيقِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟
من خلالِ تحليلي لمسارِه العلميِّ والأكاديميِّ، ومِن واقعِ صحبتي له زمناً، وجدتُ ستَّ نقاطٍ أو سبعاً قد ميَّزتْ وطبعتْ هذا المسارَ العلميَّ المتميز، وكان من ثمارهِ هذه الندوةُ المباركةُ التي نسلِّطُ الضوءَ فيها على جهودِه -رحمهُ الله-.
الأمرُ الأولُ: هو التكامُلُ المعرفيُّ.
حيثُ جمعَ بينَ التأصيلِ للعلومِ الشرعيّةِ والتوظيفِ للعلومِ التربويّةِ والإعلاميّةِ. ففي عصرِنا، إمّا أنْ يَغلو الإنسانُ في جانبِ التأصيلِ ويتركَ الجانبَ الآخرَ، أو يفعَلَ العكسَ. لكنَّ التكامُلَ المعرفيَّ هو السّبيلُ لتحقيقِ هذا التميُّز، وهو ما اهتدى إليهِ هذا العلَمُ الهُمامُ بفضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
الأمرُ الثاني: هو العصاميّةُ.
حيثُ حَمَلَ على عاتقِه أنْ يطرُقَ كلَّ بابٍ من أبوابِ المعرفةِ، وإنْ كانَ صعبَ المنالِ. فنَجدُه قدْ طوَّرَ نفسَهُ بذاتِه في كثيرٍ من محطّاتِ عمرِه ومراحلِ مسيرتِه العلميّةِ
الأمرُ الثالث: هو الشّموليّةُ واتّساعُ الرّؤيةِ.
حيثُ كانَ -رحمهُ اللهُ- ابنًا لبيئتِه، يُؤمِنُ بأنّ هذا العلمَ إنّما جاءَ خادمًا للإنسانيّةِ أوّلًا، وللإسلامِ ثانيًا، وللوطنِ ثالثًا. ولذا، لمْ يكنْ يسمعُ صيحةً أو هيعةً تُريدُ أنْ تنالَ من هذا الوطنِ الحبيبِ أو تُهدّدَ قيمَهُ ومبادئَهُ، إلّا وكانَ أوّلَ المبادرينَ لدفعِها. كما عُرِفَ -رحمهُ اللهُ- بدفاعِهِ عن الدِّينِ والقِيَمِ الإسلاميّةِ، متصدّيًا لكُلِّ مَنْ يُحاولُ المساسَ بها أو التّشويشَ عليها، مستعينًا بعلمِهِ الواسعِ ورؤيتِهِ الشّاملةِ. ولمْ تقتصرْ جهودُهُ على ذلكَ فقط، بلْ امتدّتْ إلى معالجةِ المظاهرِ والانحرافاتِ الاجتماعيّةِ، حيثُ عملَ على تسليطِ الضّوءِ على تلكَ السّلبيّاتِ، ووضْعِ الحلولِ العمليّةِ لها، عبرَ مقالاتِهِ، وخطَبِهِ، وندواتِهِ، التي كانتْ تُقدّمُ بنهجٍ تربويٍّ ودعويٍّ مؤثِّرٍ.
الأمرُ الرّابعُ: الاستفادةُ منَ العلماءِ الأكاديميِّينَ.
حيثُ حرصَ -رحمهُ اللهُ- على الاستفادةِ من خبراتِهم وتجاربِهم العِلميّةِ والتّربويّةِ، وكانَ ذلكَ واضحًا من خلالِ تعدُّدِ رحلاتِه العلميّةِ سواء في الداخلِ أو الخارجِ. فقد سعى إلى لقاءِ العلماءِ والمختصِّينَ في مجالاتِهِم المختلفةِ، والاستنارةِ بآرائِهم، ممّا أكسبَهُ عمقًا معرفيًّا وشموليّةً في الرّؤيةِ. ولمْ يقتصرْ ذلكَ على مرحلةٍ من حياتِهِ، بلْ استمرَّ هذا النّهجُ حتّى آخِرِ عمرِهِ، حيثُ ظلَّ حريصًا على النّهلِ من معينِ العلمِ، وإثراءِ معارفِهِ من مختلفِ المصادرِ.
الأمرُ الخامسُ: إلمامُهُ بالتخصُّصِ.
فقدْ كانَ -رحمهُ اللهُ- شديدَ الالتزامِ بالتخصُّصِ العلميِّ، مدركًا خُطورةَ الحديثِ في غيرِ المجالِ الذي يُتقِنُه الإنسانُ، ولذا عُرفَ عنهُ التزامُهُ الدقيقُ في مراجعةِ المختصِّينَ وأهلِ العلمِ في كلِّ ميدانٍ. فكانَ إذا واجهَ مسألةً حديثيَّةً، رجَعَ إلى علماءِ الحديثِ، وإذا برزتْ مسألةٌ فقهيَّةٌ، عادَ إلى أهلِ الفقهِ، وكذلكَ في مسائلِ اللغةِ كانَ يُحيلُ الأمرَ إلى أهلِ التخصُّصِ فيها. وهذا النّهجُ العلميُّ الدقيقُ قلَّلَ منَ الأخطاءِ والهناتِ في أعمالِهِ ومواقفِهِ، فجاءَ إنتاجُهُ الفكريُّ والعلميُّ متَّسِمًا بالدقّةِ والجودةِ، بعيدًا عن التسرُّعِ أو الوقوعِ في الزّللِ.
وقدْ أضافَ إلى هذا النّهجِ تواضُعًا علميًّا، حيثُ لم يكنْ يتردَّدُ في طلبِ المشورةِ والنّصحِ من كبارِ العلماءِ، ولم يسعَ يومًا إلى الظهورِ أو الادِّعاءِ بما لا يعرِفُ، بلْ أخلصَ للعلمِ وأهلهِ، مما أكسبَهُ مكانةً رفيعةً في الأوساطِ العلميَّةِ والدعويَّةِ.
الأمرُ السادسُ: الجمعُ بينَ الوفرةِ والجودةِ.
وهوَ أمرٌ نادرُ التحقيقِ وصعبُ الجمعِ بينهما، إلا أنَّ الدكتورَ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- أبدعَ في تحقيقِ هذا التوازنِ الفريدِ. فقدْ كانَ إنتاجُهُ غزيرًا ومتنوعًا في المجالاتِ العلميَّةِ والدعويَّةِ، ومعَ ذلك لم يكنَ الكمُّ على حسابِ الجودةِ، بلْ جاءتْ كتاباتُهُ وأعمالُهُ متقنةً، محققةً للمقاصدِ العلميَّةِ والتربويَّةِ، مما يُبرزُ جِدّيتهُ وإخلاصهُ في العملِ.
وهذا التوفيقُ بينَ الكمِّ والكيفِ ليسَ إلا عطاءً منَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ونتيجةً لتوفيقِهِ وتسديدِهِ. كما أنَّ هذا التميزَ يُعبِّرُ عن عُمقِ فهمِه وحرصِه على تقديمِ إضافةٍ نوعيَّةٍ في كُلِّ ما كتبَ أو ناقشَ، حيثُ كانَ يدركُ أنَّ العبرةَ ليستْ في كثرةِ الإنتاجِ فحسبُ، بلْ في نوعيتِهِ وأثرِهِ.
ولمْ يكنْ إنتاجُهُ مجرَّدَ تكرارٍ لما سبقهُ، بلْ كانَ يحرصُ على تقديمِ رؤى جديدةٍ، وتحليلٍ عميقٍ، معَ ملامسةِ الواقعِ، وربطِ العلومِ الشرعيَّةِ بالقضايا الاجتماعيَّةِ والفكريَّةِ المُعاصِرةِ، مما جعلهُ متميّزًا بينَ أقرانهِ.
إضافةً لذلك: كانَ -رحمهُ اللهُ- مثالًا حيًّا للعالِمِ الذي يجمعُ بينَ العملِ الدعويِّ والبحثِ الأكاديميِّ، مما زادَ منْ قيمةِ إنتاجِهِ وأثرِهِ في المجتمعِ.
الأمرُ السابعُ: الجَمعُ بينَ الجانبِ الدَّعويِّ والمِهَنيِّ والبيداغوجيِّ والبَحثِ العلميِّ.
أما الأمرُ الآخرُ حولَ الشخصيَّةِ العلميَّةِ، فهو أنَّ الدكتورَ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- لم يفصلْ بينَ جوانبِ حياتِهِ الدعويَّةِ، والمِهنيَّةِ، والبيداغوجيَّةِ، والبحثِ العلميِّ. فقدْ كانَ مثالًا للعالِمِ المتكاملِ الذي يُوظِّفُ معارفَهُ وطاقاتِهِ في كافَّةِ المجالاتِ لخدمةِ الدينِ والمجتمعِ.
فقدْ درسَ علومَ النفسِ والتربيةِ والاتصالِ، وعملَ باحثًا مكلَّفًا بالدراساتِ الاجتماعيَّةِ، ثمَّ أصبحَ أستاذًا دائمًا في علمِ النفسِ وعلومِ التربيةِ بجامعةِ البليدةِ. وخلالَ مسيرتِهِ الأكاديميَّةِ، لمْ تكنْ جهودُهُ مقتصرةً على التعليمِ النظريِّ فقط، بلْ تعدَّتها إلى الإسهاماتِ البيداغوجيَّةِ التي تُعنى بتحليلِ وتصحيحِ المناهجِ التعليميَّةِ.
ومن أعظمِ إسهاماتِهِ: حرصُهُ على أسلمةِ العلومِ التربويَّةِ، وعلومِ الاتصالِ، وعلومِ النفسِ التي تأثرتْ في فتراتٍ بزخمِ الأفكارِ الغربيَّةِ والعقائدِ المنحرفةِ. لقدْ وقفَ -رحمهُ اللهُ- سدًّا منيعًا أمامَ تغلغلِ هذه اللوثاتِ الفكريَّةِ، وسعى إلى تصحيحِ المفاهيمِ وربطِها بالمرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ.
كانَ دأبُهُ في ذلكَ قائمًا على منهجٍ علميٍّ رصينٍ، وأسلوبٍ حكيمٍ، يجمعُ بينَ الحِكمةِ في الطرحِ، والعمقِ في المعالجةِ. وقدْ حرسَ على تقديمِ حلولٍ عمليَّةٍ وإصلاحاتٍ واقعيَّةٍ تُسهِمُ في تعزيزِ الهُويَّةِ الإسلاميَّةِ في هذهِ العلومِ، مما أكسبَهُ مكانةً خاصَّةً بينَ الباحثينَ والمربِّينَ.
رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، ونفعَ بعلمِهِ وآثارِهِ الباقيةِ.
أيضًا، المقالاتُ العلميَّةُ الكثيرةُ المتكاثرةُ، كانَ للدكتورِ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- دورٌ بارزٌ فيها، حيثُ أسهمَ بجهودٍ علميَّةٍ وازنةٍ في مختلفِ المجالاتِ الفكريَّةِ والدعويَّةِ. وقدْ تصدَّى لهذهِ المقالاتِ بالدراسةِ والتحليلِ أستاذُنا الهمامُ الدكتورُ محمد حاج عيسى، الذي فحصَها وبيَّنَ الكثيرَ من محاورِها وأثرِها.
أما الجانبُ الإعلاميُّ والصحفيُّ، فقدْ أدركَ -رحمهُ اللهُ- أنَّ الإعلامَ في هذا الزمنِ أصبحَ من أقوى أدواتِ التأثيرِ، ووسائلِ إيصالِ الكلمةِ إلى مختلفِ أنحاءِ العالمِ. فكانَ من المبادرينَ في استثمارِ هذهِ الوسائلِ، بدءًا من المجلاتِ الورقيَّةِ، التي كانتِ البوابةَ الأولى لنشرِ فكرِهِ وأفكارِهِ، ثمَّ اتَّجهَ إلى المواقعِ الإلكترونيَّةِ، ليُواكبَ تطوُّرَ وسائلِ النشرِ الحديثةِ، وأخيرًا برزَ في البرامجِ الحواريَّةِ، التي اتخذَ منها منصةً لإيصالِ رسالتِهِ الدعويَّةِ والفكريَّةِ.
لقدْ تركَ -رحمهُ اللهُ- بصمةً واضحةً في جميعِ هذهِ المجالاتِ الإعلاميَّةِ، وكانَ مُؤمنًا بأهميَّةِ الكلمةِ الصادقةِ، التي تنبعُ من مبدأٍ ومنهجٍ صحيحٍ، وتصلُ إلى القلوبِ قبلَ العقولِ. فبفضلِ إخلاصِهِ، وعمقِ طرحِهِ، واتزانِ منهجِهِ، صارَ الإعلامُ نافذةً لنشرِ الحقِّ، وإبطالِ الباطلِ، والدفاعِ عن القيمِ الإسلاميَّةِ. رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً.
وسبحانَ اللهِ، بدأَ الدكتورُ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- العملَ الصحفيَّ وكتابةَ المقالاتِ أثناءَ دراستِهِ في الأردن، حيثُ كانَ لا يزالُ طالبًا. ومع ذلك، أظهرَ نبوغًا وتميُّزًا في هذا الميدانِ، مستغلًّا ما تَوفَّرَ لهُ من أدواتٍ إعلاميَّةٍ وفكرٍ ناضجٍ لطرحِ قضايا الأمةِ والدعوةِ الإسلاميةِ.
أما مؤلَّفاتُهُ، فسيتحدثُ عنها الزملاءُ في هذهِ الندوةِ المباركةِ، وهي -وللهِ الحمدُ- شاهدٌ على سعةِ علمِهِ، وعمقِ تفكيرِهِ، وحسنِ تصنيفِهِ. لقدْ جمعتْ بينَ الوفرةِ، والكثرةِ، والتمحيصِ العلميِّ الدقيقِ، مما يجعلُها ذخيرةً علميَّةً تستحقُّ الإشادةَ والدراسةَ.
هذا هو الجانبُ الذي يُبرزُ جانبًا من شخصيَّةِ هذا العلَمِ الفذِّ -رحمهُ اللهُ- والذي نرجو أن يكونَ قدوةً للأجيالِ القادمةِ في الجمعِ بينَ العلمِ والعملِ، والدعوةِ والعطاءِ.
ثالثاً: الجُهودُ الدَّعويَّةُ للدُّكتورِ يزيدِ حمزاوي -رحِمهُ اللهُ-.
كان -رحمهُ اللهُ- إسهاماتٌ دعَويّةٌ عظيمةٌ تتجلى في ثلاثةِ محاورَ رئيسيةٍ:
1-    الامتثالُ:
كان الشيخُ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- نموذجًا حيًّا للامتثالِ العمليِّ للإسلامِ، ظاهرًا عليهِ الصدقُ في دينِهِ باطنًا وظاهرًا. عاشَ زاهدًا في الدنيا، منصرفًا إلى ما يُقربهُ من ربهِ، مُستحضرًا الآخرةَ في حديثهِ وأعمالهِ. لم يكن يتحدثُ إلا بما يُفيدُ الإسلامَ ويُعينُ الناسَ على طاعةِ اللهِ، مما جعلَ سيرتَهُ عطرةً ومُلهمةً لمن حولَهُ.
2-    التبليغُ:
كان -رحمهُ اللهُ- حريصًا على تبليغِ دينِ اللهِ في كلِّ موضعٍ ومقامٍ، سواء كان في المسجدِ، أو في ندوةٍ، أو ملتقى علميٍّ. استغلَّ جميعَ الفرصِ المتاحةِ لنشرِ الدعوةِ، ولم يُعرَفْ عنه أنه ردَّ دعوةً تُعينُ على نصرةِ هذا الدينِ. تميزَ بأسلوبٍ دعويٍّ لطيفٍ ومؤثِّرٍ، يُلامسُ القلوبَ ويُزيلُ الشبهاتِ، مع حِرصٍ كبيرٍ على مراعاةِ حالِ المخاطبِ وظروفِهِ.
فهذه المحاورُ تُبرزُ إسهاماتِ الشيخِ في الجانبِ الدعويِّ، حيثُ استطاعَ أن يجمعَ بين الامتثالِ الشخصيِّ للدينِ، ونقلِ رسالتِهِ إلى الناسِ، مع التأكيدِ على نقاءِ مقصدهِ وإخلاصِهِ في العملِ. رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، ورفعَ درجتَهُ في عليين.
3- المدافعةُ عنِ الدينِ:
أ- دفاعُهُ عنِ الإسلامِ في مواجهةِ النصرانيةِ:
كان الشيخُ -رحمهُ اللهُ- رائدًا في تفنيدِ شبهاتِ النصرانيةِ، سواء من خلالِ مدارسِها أو مذاهبِها المتعددةِ. لم يكنْ عملُهُ مقتصرًا على مواجهةِ الطرحِ العامِّ للنصرانيةِ، بل تعمَّقَ في دراسةِ النصوصِ، وقام بتحليلِ الكتابِ المقدسِ بنسخِهِ المختلفةِ، العهدِ القديمِ والجديدِ.
كان يحملُ دائمًا هذه الكتبَ معهُ، ويديمُ النظرَ فيها ويقارنُ بينَ النصوصِ المختلفةِ، مما مكَّنهُ من الوصولِ إلى حقائقَ غابتْ عن كثيرٍ من الباحثينَ. بذلكَ أضافَ إسهامًا جديدًا للدراساتِ التنصيريةِ، يمكنُ اعتبارهُ نقلةً نوعيةً في هذا المجالِ، ولم يكتفِ بالكتاباتِ السطحيةِ التي لا تخوضُ في أعماقِ النصوصِ وأسرارِها.
ب- تصديه للمذاهبِ الفكريةِ المنحرفةِ:
شملت جهودُهُ مواجهةَ القاديانيةِ والعلمانيةِ والإلحادِ، وغيرها منِ التياراتِ الفكريةِ التي تهدفُ إلى زعزعةِ العقيدةِ الإسلاميةِ وتشويهِ القيمِ الأخلاقيةِ. لم يكنْ يكتفي بالدفاعِ السلبيِّ، بل كان يتبنى مشاريعَ دعويةً تستندُ إلى الحُجةِ والبرهانِ، ويخوضُ حواراتٍ فكريةً بنَّاءةً أظهرَ فيها قوةَ حجتِهِ وعمقَ معرفتِهِ.
ج- مشاريعُهُ في حوارِ الأديانِ:
كان الشيخُ -رحمهُ اللهُ- يُولي قضيةَ حوارِ الأديانِ اهتمامًا كبيرًا. لم يكنْ هدفُهُ مجردَ الحوارِ، بل السعيُ للوصولِ إلى الحقيقةِ وبيانُ سماحةِ الإسلامِ وتفوقِه على غيرِهِ. وقد أبدى بعضُ النصارى الذين حاورهم إعجابَهم بمعرفتِهِ العميقةِ بكتبِهم، حتى إنَّ بعضَهم قال: «ليت هذا الشيخَ يأتي إلى بلادِنا ليُعلِّمَنا الإنجيلَ».
د- التعمقُ في الدراساتِ التنصيريةِ:
كان الشيخُ يُركِّزُ على كشفِ الأسرارِ المخبأةِ في النصوصِ النصرانيةِ، مما جعلَ دراساتِهِ مرجعًا متميزًا في هذا المجالِ. لم يكتفِ بطرحِ الشبهاتِ وتفنيدِها، بل قدَّم رؤى وتحليلاتٍ أضاءتْ نقاطًا خفيةً لم يتناولها الباحثونَ من قبلُ، مما جعلَ إسهاماتِهِ ذاتَ طابعٍ فريدٍ في ميدانِ الدعوةِ.
رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، وأسكنَهُ فسيحَ جناتِهِ، وجعلَ أعمالَهُ الجليلةَ شفيعةً لهُ يومَ القيامةِ.

رابعاً: النشاطاتُ الاجتماعيةُ
لم يكن الشيخُ يزيد حمزاوي -رحمهُ اللهُ- محصورًا في دائرةِ العلمِ والتدريسِ فحسب، بل امتدَّ تأثيرُهُ إلى المجتمعِ من خلالِ نشاطاتِهِ الدعويةِ والاجتماعيةِ، مُسخِّرًا علمَهُ ومعرفتَهُ في خدمةِ الناسِ وإصلاحِ أحوالِهم.
1-    إصلاحُ المجتمعِ وبناءُ الأسرةِ:
كانت له جهودٌ دعويةٌ بارزةٌ في إصلاحِ المجتمعِ، حيثُ ركزَ على تقويمِ السلوكِ الاجتماعيِّ ومعالجةِ الانحرافاتِ التي تفشَّت في بعضِ البيئاتِ.
أولى الأسرةَ اهتمامًا خاصًا، حيثُ كان يدعو دائمًا إلى ترسيخِ القيمِ الإسلاميةِ في بناءِ الأسرِ، وتعزيزِ الروابطِ الأسريةِ، وحمايةِ أفرادِها من التياراتِ الفكريةِ المنحرفةِ والآفاتِ الاجتماعيةِ.
تناولَ القضايا الاجتماعيةَ المريبةَ بعُمقٍ وحكمةٍ، وكان يقدمُ حلولًا عمليةً تُراعي ظروفَ الناسِ واحتياجاتِهم، سواء في خطبِهِ أو محاضراتِهِ أو لقاءاتِهِ العامةِ.
2-    النشاطُ الخيريُّ والاجتماعيُّ:
على الرغمِ من انشغالِهِ بالعلمِ والتعليمِ، خصصَ وقتًا للعملِ الخيريِّ والاجتماعيِّ. كان عضوًا فعَّالًا في عددٍ من الجمعياتِ الخيريةِ، مثل "رعايةِ اليتيمِ"، وشاركَ في العديدِ من المبادراتِ الإنسانيةِ التي تستهدفُ مساعدةَ المحتاجينَ والمساكينِ.
لم يكتفِ بالمشاركةِ النظريةِ فقط، بل كان يُسهمُ بنفسِهِ ويُشرفُ على بعضِ المشاريعِ الخيريةِ، مما جعلهُ قدوةً في الجمعِ بين العلمِ والعملِ الصالحِ.
3-    الاستفادةُ من معارفِهِ النفسيةِ والتربويةِ:
كان الشيخُ -رحمهُ اللهُ- يُوظفُ المعارفَ النفسيةَ والتربويةَ التي اكتسبها من دراستِهِ الأكاديميةِ في خطابِهِ الدعويِّ، مما أكسبَ كلماتِهِ تأثيرًا عميقًا.
في المساجدِ والملتقياتِ، كان يطرحُ مشكلاتِ المجتمعِ ويُعالجُها بحكمةٍ وعلمٍ، مستندًا إلى أُسسٍ علميةٍ تُلامسُ واقعَ الناسِ وتُعالجُ جذورَ القضايا.
لقد شكَّلَتْ هذه النشاطاتُ رافدًا أساسيًّا في حياتِهِ الدعويةِ والاجتماعيةِ، حيثُ جمعَ بين التوجيهِ والإصلاحِ والعملِ الخيريِّ، في صورةٍ قلَّ أن تجدَ لها مثيلًا.
رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، وجعلَ هذه الجهودَ في ميزانِ حسناتِهِ.
خامساً: وفاته -رحمه الله-
هكذا كتبَ اللهُ عزَّ وجلَّ الفناءَ على كُلِّ مخلوقٍ، لتبقى البقاءَ والخلودَ له وحده، جلَّ في علاه. توفاهُ اللهُ -إن شاء الله- مُقبِلًا غيرَ مُدبرٍ، حاملًا لهذا الدينِ في صدرهِ، مبلغًا لشريعةِ ربِّهِ، في الرابعِ والعشرينَ من شهرِ جويلية عامَ 2021م، عن عمرٍ ناهزَ خمسًا وخمسينَ سنةً، متأثرًا بوباءِ كورونا.
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُلحقَهُ بالأنبياءِ والصديقينَ والشهداءِ والصالحين، وأن يُنزلَ على قبرِهِ الرحماتِ، وأن يَغمرَهُ برحمتِهِ الواسعةِ، وأن يجعلَ مثلَ هذهِ المبادراتِ المباركةِ تصبُّ في ميزانِ حسناتِهِ صبًّا.
ختامًا:
نشكرُ لكم هذا الحضورَ الطيبَ، وهذهِ الإتاحةَ الكريمةَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

 

 

تم قراءة المقال 44 مرة