الأحد 18 صفر 1443

لا أريد زوجة محجبة... ...لا أريد زوجة متبرجة! (قصة)

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)


لا أريد زوجة محجبة...
...لا أريد زوجة متبرجة!
                                                       تأليف : د يزيد حمزاوي رحمه الله تعالى
محمد شاب مسلم، حصل من قريب على الشهادة الجامعية الأولى في علم النفس، ولم تمر إلا أيام قليلة حتى تزوج شابة مسلمة متدينة وملتزمة بتعاليم دينها، لم يكن هو ملتزما، لكنه ككثيرين يعرف الله والإسلام بفطرته...بقي شهورا بعد زواجه...ثم طار فرحة بخبر قبوله في جامعة السوربون الباريسية، التي قدَّمت له منحة لمواصلة دراساته العليا...خلال شهر جهز أوراقه ومتاعه وأنهى إجراءاته، ثم استودع أهله، ويمم وجهه شطر عاصمة ثورة الحرية والمساواة والإخاء...
كانت المدة الأولى لإقامته في الغربة صعبة للغاية، فلم يكن يجيد الفرنسية، ولا يجد حيلة للتأقلم مع حياة أشبه بالحلم والخيال، هو الوافد من قرية نائية من عمق الجغرافيا العربية الإسلامية...تقدمت به الشهور وتحسنت لغته، وسهل اتصاله بزملائه وزميلاته...
جاءت العطلة الصيفية الكبرى فلم يعد، كما كان متفقا عليه، إلى قريته حيث ينتظره فيها أهله وزوجته سُمية الوفية...لأنه قرر الاشتراك في مخيم صيفي مع  مجموعة من الطلاب والطالبات في مصيف الكوت دازور côte d'azur على ضفة البحر المتوسط...أين اشتهرت شواطئ العُراة، حيث يدفع المخالفون لقوانين التعري غرامات!
وللحقيقة لم تكن صديقاته جميعا عاريات...فبعضهن غطين جسمهن بسنتيمترات قليلة من القماش يسمى "البكيني"، وأخريات كنَّ مستلقيات إلى جانبه بالقطعة السفلية دون العلوية...وإحداهن متكئة على صدره تقهقه وهي تسرد عليه مغامراتها الغرامية مع الزملاء، وثالثة تدلك ظهره بزيت الوقاية من أشعة الشمس وتطلب منه دلكا بدورها...والأخيرة تقترب منه خفية فترشه بماء البحر البارد فينتفض من مكانه ليثأر لنفسه فيمسك بها بين أحضانه ويجرها في الرمال حتى يلقيها في الأمواج...
آه..آه...على تلك الرمال الذهبية الساحرة...نسي محمد زوجته سُمية المنتظرة مجيئه بشغف، والقابعة في قريتها بالضفة المقابلة للمتوسط...لكنه هو ارتبط بصديقات كثيرات حميمات جدا جدا...جانيت...إلين...ناتالي...وغيرهن...
كانت تصرفاته وسلوكيات معهن تطبيقا لنظريات علم النفس الذي تخصص فيه...تلك النظريات التي كانت تُحشى في رأسه على مدرجات السوربون وقاعاتها....تحولت حياته إلى حقل رومانسيات أدب المجون والعشق...ثم تفاقمت إلى الشبق الشهواني للفرويدية والليبيدو وعقدة أوديب وشذوذات إلكترا...ضاع محمد في "لاشعور" جهازه النفسي والجنسي...وانعدم إحساسه بدين أو خلق..لقد تمرد "الهو" الغريزي الجسدي الحيواني على ضميره "الأنا" وعلى  "الأنا الأعلى" المرتبط بقيم مجتمعه الأصلي المحافظ حيث قرية الآباء والأجداد...
انبهر محمد بمبادئ الحرية بلا قيود والانفلات من سلطان الشريعة، فلا سلطة عليه إلا ما يمليه عقله وهواه...وأضحى بعد سبع سنوات كاملة من دعاة تحرير المرأة وأنصار الثورة على رجعية الأعراف وتخلف التقاليد وتشدد الدين وتطرف السلفيين وبقية الملتحين.
كم كان تحرير المرأة المسلمة المظلومة همَّهُ وغَمَّه!
كم كان راغبا ومخططا لنزع الجلابيب ورفع الأحجبة  وتمزيق البراقع من وجه المرأة وجسدها، التي غطاها بها المتنطعون والمتخلفون من المهوسين الموسوسين!
كم كان حزينا على المرأة التي أبعدتها سدود وحدود الثقافة القرن أوسطية عن الاستمتاع بنصيبها من الدنيا والحياة والسعادة واللذة!
كان دوما يفكر في ضرورة اِنعتاقها من عبوديتها وأنه يجب إخراجها من قفصها..لترى الحياة لتتعلم تعمل وتسبح وترقص وتغني وتتعرف على الحضارة والنور لتحقق ذاتها وتثبت شخصيتها، بدل تلك الأقبية التي سجنتها فيها حضارة المسلمين بل الإسلام المظلمة
* * * * *
...عاد محمد إلى قريته وهو يحمل لقب دكتور، وبعدها عُين أستاذا في الجامعة   في عاصمة بلاده فانتقل إليها، وهناك بدأت أعراض ثورة تحرير المرأة تبرز عيانا لتحول حياة زوجته سُمية إلى جحيم...
ذات صباح قال لها: عندنا الليلة دعوة من بعض الزملاء، سأشتري لك فستانا رائعا تلبسينه، أشعر أنك ستبهرين الجميع بجمالك وأناقتك، فما رأيك؟
ردّت عليه: شكرا، أنا أفضل الذهاب والبقاء بحجابي فهو واجب ديني.
بعد صمت زمجر في وجهها: إلى متى ستستمرين في معاندتي وعصياني؟...أنا لا أريد أن أرى في بيتي زوجة محجبة.
سُمية: لقد تزوجتني محجبة والآن بعد رجوعك من فرنسا تريد خلع حجابي...ماذا حدث لك هناك؟
تنهد بعمق ثم قال: أنا دكتور وأستاذ جامعي لي مكانتي الاجتماعية وعندي معارف كثيرون من الطبقة الراقية في الدولة والمجتمع، وكلهم يصطحبون نساءهم في مجالسنا...وهن يلبسن أجمل الثياب وأفخمها، ويتبادلن أطراف الحديث معنا في موضوعات الساعة وشؤون الثقافة والفكر، لماذا أنا الوحيد الذي يملك زوجة تلبس خيمة سوداء؟
كان محمد يخجل من صحبة سُمية في الشوارع...ويتجنب الخروج معها إلا للضرورة...وحينها تراه يمشي مسرعا هروبا من أعين الناس وهي تركض وراءه...كان الحجاب الأسود والنقاب الذي ترتديه زوجته أشبه بعورة يريد سترها حياء من المارّين والناظرين!
ذات مرة وهما على تلك الحال...صادف في أحد الشوارع قاسما، وهو من زملاء باريس القدماء فصافحه وحيّاه...فمدّ قاسم كفه ليصافح سُمية لكنها تركت يده معلقة في الهواء، وأبت المصافحة ونأت بنفسها بعيدا عنهما...سحب قاسم يده إلى جيبه خائبا...بينما احمر وجه محمد وكاد أن ينفجر من الداخل غيضا وزفيرا..
وفي البيت...تلك الليلة لم تمر بخير...صرخ محمد في وجهها: يا له من موقف مخجل ومتخلف!...يا له من حادث لو فتحت تحتي الأرض لتواريت في باطنها...لماذا تفعلين هذا بي؟... لماذا كل هذه العقد النفسية التي تسكنك...؟
ويا لها من مصيبة! تختارين قاسما وهو أفضل الأصدقاء وأعزهم لتستعرضي عليه تعصبك وتشددك!
ببكاء وشهيق ترد سُمية: اتق الله فأنا امرأة وهو رجل غريب، ألم تعد تغار علي، هل ترضى أن يمسني الرجال؟
محمد: عن أي غيرة تتحدثين!؟...ما الغيرة إلا مفاهيم اجتماعية بالية منحطة تجاوزها الزمن، لم نفلح إلا في تكريس الثقافة القديمة وقيم الأولين، بينما نحن في قعر الحضارة، انظري إلى الغرب...لقد حطوا أقدامهم على القمر ويغزون الآن الفضاء الخارجي...يخترعون ويبتكرون ويتطورون تكنولوجيا...وبلدانهم أشبه بالجنة...أما نحن فإلى الخلف نسير وإلى الوراء نسعى، حياتنا تحولت إلى حقل ترهات وسخافات، نكبل نصف المجتمع ونحرمه من الحياة ثم نزعم أن هذه إرادة الله...ألا تفهمين أن حجابك ونقابك كبلك، ربطك، قيدك، أنت كالطائر المستمتع داخل قفصه.
لم تكن سُمية تفهم فلسفته ولا تحليلاته السوسيولوجية، فقد كانت ابنة الكتاتيب ومن خريجات المسجد، لم يكن لمثلها أن يتأثر بوسواس الشيطان الخناس الذي تراه في شخص زوجها، كانت من النوع الذي ينظر للحجاب على أنه القُربة إلى الله والطاعة لخالقها....لذا لم تحاول الدخول في مجادلة عقيمة معه، فوضعت رأسها على وسادتها وهي تحوقل...لا حول ولا قوة إلا بالله...
أما هو فقد استفزه هدوؤها وصمتها فسحب المخدة من تحتها بشدة ثم قال: لو كنتِ اليوم صافحت قاسما...هل ستسقط عليك السماء؟ أو تبتلعك الأرض؟ هذا خطئي من البداية...كم أتحسر وأندم على هذا الزواج الذي انتهى بهذه الفضائح!!
كان قاسم صديق محمد الحميم بعدها يكرر الزيارات إلى بيته في كل حين، ويرغب في رؤية وجه سُمية وربما أكثر من وجهها، لكنها ككل مرة ترفض فتح باب بيتها في غياب زوجها...أما محمد فتحجُب زوجته وتمسكها بالتزامها أخرجاه من عقله فبات يدور في دوامة الهم والغم والحزن...كان يعيش تناقضا داخليا أليما وصراعا عقليا أشبه بالعذاب، فهو الداعية الملهم إلى تحرير المرأة، كيف تكون زوجته وأقرب النساء إليه على غير ما يدعو له ويناضل من أجله!
* * * * *
ذات ليلة عندما خَلَدَ الزوجان إلى فراشهما...أراد محمد استغلال تلك الفرصة العاطفية والحميمية ليقنع سُمية بما لا تريد، ويغير موقفها من لباسها بما لا يمكن...فعادة ما يستسلم الناس في تلك اللحظات لوساوس الشريك فيقبلونها، كأنهم في حالة سُكر وتنويم مغناطسي، وإذا استفاقوا يكون الأمر قد مضى وانقضى.
قال محمد لزوجته بصوت ساحر...وهو أستاذ علم النفس، فقد درس أساليب الإقناع، وطرائق التأثير على العقل الظاهر والباطن: يا سوسو! والله إني أحترم تدينك...وأنا ما تزوجتك إلا لمحافظتك على الصلاة والصيام والأخلاق...
فقاطعته كأنها وجدت ثغرة في كلامه: الحمد لله أنك اعترفت بسبب اختيارك لي، لقد كان من الوهلة الأولى لتديني لكنك انقلبت رأسا على عقب منذ وطأت أقدامك ذلك البلد الاباحي المنحل...تنكّرت لكل القيم والفضائل، وصار حجابي شغلك الشاغل، والعقبة الكؤود التي تحول دون سعادتنا في زعمك.
كان جوابها استعاذة من وسوسته السيكولوجية...لكنه لم يستسلم...فهو يعلم من نظرياته أن ثمة من البشر من يملك "ميكانزمات" دفاع نفسية قوية، وصلابة كامنة أكثر من غيره، فعاود هجومه الساحر...وقد مدّ أصابعه ليلعب بخصلة شعرها، ويتحسس على خدها الناعم، وهو يكاد يتوسلها بكلمات منمقة مزوقة...اختارها على عناية من كتب الرومانسية التي دأب عليها في غربته: يا حبيبتي...يا أجمل وردة شممتها!....ليس التدين في الحجاب، وليست العفة في قطعة قماش سوداء قاتمة تغطين بها هذا الخد الرقراق، وهذا الثغر الباسم، وهذه العيون الناضرة الساحرة...هل منحك الله هذا الجمال لتخفيه؟ وأنعم عليك بهذا الحسن لترديه؟ وهل حباك بهذا النور لتطفئيه؟ ومتى كان اللباس الأنيق و"الموضة" الجديدة والوجه المكشوف مرادفا للعهر والفجور، فلا تخلطي الأمور.  
يا أغلى محبوبة! تعلمين أن العفة في الروح…في النفس…في القلب…وليس في جلباب مظلم، وخِرق مكدسة على جسمك الذي وهبك الله إياه، والذي تُصِرين على تكفينه...إنه هو والكفن سواء، بل الكفن أفضل منه، فعلى الأقل لونه أبيض وكفنك أنت أسود.
سُمية: لقد أصبحتَ تخيفني بتفكيرك، فهذا كلام لا يتلفظ به إلا الملحدون، ولا يثرثر بمثله إلا الكافرون...هل تُنكر أن الحجاب من الدين وفرض من رب العالمين!؟
نحى محمد السيكولوجية جانبا وهو يصرخ: فهمي...افهمي...افهمي...وضعي لا يسمح أن تكون زوجتي محجبة...حجابك يحول دون سعادتنا...ألا ترين كم بتُّ بسببك قلقا متوترا...أنا دكتور الأمراض النفسية وحجابك يدفعني إلى الجنون، وأتوقع قريبا أن أصبح زبونا لدى المشافي والعيادات...ألا تشفقين علي؟ هل تكرهينني؟ هل أنت "سادية" تتلذذين بآلامي وأوجاعي؟
أبعدت سُمية رأسها من يده وهي تقول: لو كان الأمر كذلك لماذا تزوجتني من البداية؟...لماذا لم تختر فلانة جارتك، وعلانة قريبتك...صاحبات الصدور العارية والسراويل المضغوطة على السيقان والأفخاذ...التي تكاد تتمزق عند أول خطوة...أو تُوقِف سريان الدم في عروقهن!!،...يبدو لي أن الأمر كان خدعة...لقد تزوجتني لتُفسد علي ديني، وتفرض نظرتك المنحرفة نحو العفة والطهارة والشرف...لو كنتَ أفصحتَ عن تلك الترهات أمام أبي وأعمامي، يوم خطبتني لكانوا طردوك من البيت وأقفلوا في وجهك الباب...بل كانوا فضحوك في القرية فتصير كالمنبوذ فيها...حسبي الله! لقد خدعتنا جميعا...
محمد وهو يرفع صوته أعلى من صوتها: اخترتك بالحجاب لأنني كنت كغيري من المسلمين ظننته من الدين، وحسبته "تابو من التابوهات" لا يجوز مسه أو نقده...كنت أعمى ككل الرجال والنساء في بلادنا، لكنني لما سافرت ورأيت ما في الغرب انجلى الغبار عن عيني، اكتشفت أننا نعيش في قُمقُم لا نرى إلا جدرانه الداخلية...
يا سُمية! يجب أن تدركي أن النساء بلا استثناء يرفضن الحجاب، ولا يرغبنّ في دفن أنفسهن أحياء...لكنهنّ لا يجرأن على التمرد، لقد غلبهن الرجال...وثقافة الذكور هي التي شرعت ما يستعبدهن...وهن بغباوة يعتقدنّ أن ذلك التشريع كان لصالحهن...فهنّ يقدسن فتاوى فقهاء شهوانيين جنسيا...وما فقه أولئك الشيوخ المتأسلمين إلا صدى للشبق المكبوت بين ثناياهم، ولو أنهم ما نظروا للمرأة كشهوة ما غطوها، ولا حبسوها مع الحريم في الدُور والقصور...اعلمي أن الحجاب عادة بدوية لا أكثر...تقليد صحراوي من أزمنة الجمل والناقة...
وإذا اخترت أن تعيشي كما عاشت جداتك في الكهوف فأنا لن أقبل...نحن أسرة واحدة، وكل شيء يخصنا نناقشه ونتحاور فيه، بما فيه لباسك داخل البيت وخارجه.
وكأنه تعب من التحليل والمناورة...سكت محمد هنيهة ثم وثب إلى هجومه: طال الزمان أو قصُر سأجد حلا لهذا المشكل الذي تسمينه حجابا...وسأصل إلى شفائك من هذا المرض بل الوباء.
فشل الكلام الحميمي...وفشلت معه السيكولوجية...وأخفقت وساوس المستشرقين والمستغربين، التي طالما ردّدها في محاضراته...، فقد أنهت سُمية تلك الجلسة الحميمية بل الجحيمية بقولها: تُصبح على خير، غلبتني عيني، وأريد أن أنام، غدا - إن شاء - الله  عندي شغل كثير...علي نزع ستائر البيت وغسلها...
قهقه محمد وبدأ يخاطب نفسه كالمهلوس: ههه....هههه...هههههههه...أنا أكلمها عن نزع حجابها ونقابها...هههههه وهي تكلمني عن نزع الستائر...هههههه...مع من أتحدث!؟ يبدو أنني تزوجت صخرة لا تُحس ولا تفكر....ماذا في رؤوس هؤلاء الحمقى المتعصبين!؟
أطفأ محمد المصباح، وانسل تحت اللحاف...فقد خسر معركة الاستنزاف....لكنه هل سيعلن انتهاء الحرب؟
* * * * *
تصرّمت الأيام والأسابيع...ورويدا رويدا تخلى محمد عن "تكتيك" العاطفة والسيكولوجية الناعمة لنزع حجاب ونقاب زوجته...لقد بات موقنا أنه ما ارتبط بامرأة من بني الإنسان، بل بصخرة صماء بكماء عمياء...لقد أثبت له الواقع أن نظرياته في الإفساد تستعصي على الإتيان بأكلها، أمام الهداية الربانية والتوفيق الإلهي لأوليائه...كيف يفعل وماذا يعمل وبم يتصرّف...؟
بينما هو على تلك الحال يفكر، دلّه شيطانه على الطريق...فطفق يتمتم: الحديد لا يفله إلا الحديد...والمعاند لا ينفع معه اللين....والمكابر يجب أن يرغم أنفه في التراب ليعرف قدره...هؤلاء شرقيون مرضى ودواءهم في مرضهم...ثم نادى بصراخ عال زوجته: سُمية...سُمية!
فزعت سُمية وأقبلت تجري وتسأل: لم كل هذا الصراخ!؟ لقد أفزعتني وأزعجت جيراننا من حولنا.
محمد: اصمتي وتوقفي عن تقديم الدروس وأحضري في الحال فنجان قهوة.
سُمية: ومنذ متى أصبحت تشرب القهوة...لم أرك تذوقها في حياتك!
محمد: أف لك...تُعلقين على كل شيء...وتعليقاتك صارت مملة لا تطاق.
سُمية: ماذا عساي أقول لك سوى الله يهديك. !؟
توجهت إلى المطبخ ثم أتت بعد ربع ساعة...وهي تحمل فنجان قهوة ووضعته على الطاولة...
محمد: ما هذه القهوة!؟ لماذا هي مرة؟...لا تجيدين حتى صنع القهوة! فرماها بيده على الأرض فكسر الفنجان وخرج من "الصالون"، وهو يزمجر: حتى القهوة طعمها كالحنظل في هذه الدار.
بعد منتصف الليل دخل بيته متأخرا على غير عادته، ولجأ إلى غرفة نومه، وتناول مخدة ولحافا ثم توجه إلى الغرفة المجاورة...واستلقى هناك لينام...لقد بدأت مرحلة المقاطعة والهجر في المضاجع...ذلك الأسلوب التأديبي القرآني الذي طالما انتقده...لأنه في زعمه يحط من قدر المرأة ويحتقرها ويهينها!  وها هو اليوم ينفذه هو باقتدار.
عند الفجر استيقظت سُمية، فلم تجد زوجها إلى جنبها ككل صباح، خرجت تبحث عنه في أرجاء البيت...فوجدته نائما في الغرفة الثانية بينما اللحاف على الأرض، فأشفقت عليه من البرد فتناولته وغطته به، لكنه انتبه فألقى باللحاف بعيدا، وصاح: لا أريدك أن تلمسيني...اهتمي بنفسك، وباللحاف الذي تضعينه على بدنك ووجهك عند الخروج من البيت.
في ساعات الضحى نهض من فراشه...فقالت مبتسمة: صباح الخير...أعددت لك اليوم أفضل قهوة.
فلم يرد على تحيتها ولا كلامها، كأنه لم يسمعها...وهو يخاطبها في نفسه: كلمي الجدار...خرج من البيت ولم يودعها حتى...
وفي المساء أراد أن يكرر سيناريو البارحة...لكنها أسرعت تقول له متوددة: ماذا فعلت لك...هل أغضبتك بسبب فنجان القهوة...؟ ماذا أفعل لأرضيك...؟ قم إلى غرفتك واستعذ بالله من إبليس الذي يوسوس لك...فقاطعها: الإبليس الوحيد في هذا البيت هو أنت اغربي عن وجهي...
سُمية: لقد فهمت الآن لقد عدنا مرة أخرى إلى معركة الحجاب والنقاب...
محمد: لقد أصبحت أضحوكة بين أصحابي بسببك...لقد صرنا موضوعا شيقا تلوكه الألسن، ونكتة ظريفة يتداولها معارفي وأصحابي...فأحدهم قال ساخرا: زوجة مجمد تشبه في ثوبها سيارة "بيجو" 404، وآخر يناديك بالغراب الأسود، والثالث لم يجد سوى اسم "زورو" ليصفك بنقابك...والرابع: نسبك إلى داعش، وكان على وشك التلفظ بكلمة جهاد النكاح لولا أني كنت حاضرا فصمت...
نعم صرت أضحوكة...ألا تتذكرين ذلك الموقف مع قاسم صديقي الحميم، كيف جرحتِ شعوره حين رفضت مصافحته!
سُمية: قاسم هذا ذئب خبيث...بل ثعبان ماكر...يكرر الزيارات في غيابك، ولا يكاد جرس الهاتف يتوقف من اتصالاته.
محمد: ما هذه المخاوف المرضية الجنونية...!؟ قاسم صديق وفي مخلص، لا يريد أكثر من التعرف عليك ونواياه سليمة...لكنك أنت من يرين الأرواح المتآمرة عليك، والأشباح الشريرة التي تترقبك لـتأكلك في كل مكان.
سُمية: أنا لا أريد أن أتعرف على أصدقائك وصديقاتك...لم أعد أتحمل كل هذا...انتظرتك سبع سنوات كاملة، وصبرت أقاوم هواجسي ووساوسي وحاجاتي ورغباتي من أجلك...ثم ماذا كان مصيري؟ هذا الجحود والنكران...وكما أنك لا تريد زوجة محجبة في بيتك، وتريد إرغامي على الاختلاط الماجن والتعارف مع زمرة الفُساق التي تسميها أصدقاء أوفياء...فأنا من حقي أن أرفض العيش معك...هل تعرف ما هو الوصف الذي يطلقه ديننا على أمثالك...إنه الديوث.
محمد: أنا ديوث أيتها الحقيرة المريضة نفسيا؟ اغربي عن وجهي قبل "ما نخبطك" على وجهك القبيح بحذائي...ما أتعسني...يا لي من مسكين لاحظَّ له في هذه الدنيا!
سُمية: يا حسرتاه عليك!...والله من العيب والعار أن تسمي نفسك محمدا، هذا الاسم هو اسم نبينا صلى الله عليه وسلم...لا يتشرف بحمله أمثالك...ولو كان بإمكاني تبديل سجلات الأحوال المدنية لمحوت هذا الاسم من شهادة ميلادك حتى لا تنجسه...أنت لست محمدا أنت اسمك أبو جهل...
رفع كفه ليصفعها فأشاحت بوجهها...فدفعها بعنف خارج الغرفة وأغلق الباب...
* * * * *
يوشك الشهر الثالث للهجر أن يهلَّ والوضع لم يتغير والمقاطعة لم ترفع...ومنذ زواج محمد وسُمية كان بيتهما هادئا لا صخب فيه ولا ضجيج، فلا أولادا يصرخون ولا بنات يلعبنّ بين غرفه وردهاته...فقد كان الزوج عقيما لا يُنجب، ومع ذلك رضيت سُمية بالبقاء معه ولو كلفها العيش في الشقاء...وفي الشهرين الأخيرين، حتى أصوات الزوجين لم تعد تسمع في جنبات البيت، فكأنه بيت مهجور، لا يتردد فيه سوى صمت القبور...فمحمد لا يكلمها ولا يرد على خطابها ويتجنبها ما استطاع...يلقي مصروف البيت على الطاولة، ويخرج ثم يعود ليلا لينام وحده في غرفته.
كانت سُمية تمضي وقتها في تلاوة القرآن، وقراءة بعض الكتيبات الدينية، والاستماع إلى الأناشيد الإسلامية...كانت تعجبها أنشودة "غرباء"، وأنشودة "فرشي التراب"، وأنشودة "هي جنة"...تسْبَح عند الإنصات إليها في الملكوت فتنسيها عذاباتها وأوجاعها...عندما تسمع "فرشي التراب" تبكي خوفا من مولاها، أما أنشودة "هي جنة" فتشوقها لدار الخلد ونعيمها، بينما تمنحها أنشودة "غرباء" القوة والشجاعة لتواجه مصيرها، كانت بحاجة في هذه الدنيا إلى بعض الصبر والمقاومة...فالحياة معركة لا تنتهي إلا بالرحيل عنها.
ذات ليلة بينما هي على تلك الأحوال الإيمانية، سمعت محمدا يحدثها...فلم تصدق أذنيها...فكلَّمها ثانية...فأدركت أنه يخاطبها حقيقة وليس في الحلم...
فقالت: نعم يا قلبي وروحي...نعم يا حبيبي...نعم يا عزيزي!
كم كانت مشتاقة للكلام معه وسماع صوته! لكن يبدو أنه لا يبادلها تلك الأشواق الحارة فقال: خلاص...خلاص...يكفينا رومانسيات...لستُ هنا للهيام والغرام...إنما أردت أن أخبرك أنني نلت ترقية في الجامعة، لقد أصبحت رئيسها...وأصدقائي قادمون يوم السبت، يريدون إقامة حفلة كبيرة تكريما لي واحتفاء بي.
سُمية: ممتاز...رائع...يا لفرحتي! سأُعد كعكة ضخمة لك ولأصدقائك...غدا صباحا إن شاء الله سأخرج لأشتري المستلزمات...دع الأمر لي...ستأكل كعكة لم ترها ولم تذق طعمها حتى في باريس.
غمرت سُمية نشوة الفرحة...كالبنت الصغيرة تقفز حبورا وقلبها يدق سرورا...لقد كلمها زوجها بعد شهرين من المقاطعة والهجران...وأخبرها بهذا النبأ السعيد...تعيينه رئيسا للجامعة...كانت الساعة متأخرة...دخلت غرفتها مسرعة وسحبت الباب وراءها دون أن تغلقه تماما...فتحت خزانتها وأخرجت ثوبا جديدا مغريا كانت أعدته لهذه الليلة...ليلة المصالحة...مشّطت شعرها، كحلت عينيها، تجملت بأحمر الشفاه، وضعت بعض الأصباغ هنا وهناك، ثم رشّت نفسها وثوبها بعطر فواح...عملت كل ما تعمله المرأة لتعجب الرجل...يا للنساء كم هنّ مستعدات ليفعلن بأنفسهن الأفاعيل من أجل إرضاء نزوات الرجال...! بعضهن يبالغن في تلك الأصباغ حتى يشبهن المهرجين...لا نهن يعلمن أن الرجال في الواقع أطفال أمام النساء، فهم أشبه بالأطفال المنبهرين أمام المهرجين!...لكن سُمية كانت مختلفة لم تهرج يوما خارج مملكتها، ولا رآها أحد ولا شم عطرها...ولم تكن بحاجة إلى تلك المساحيق والمواد التجميلية...فقد حباها الله بجمال طبيعي أخاذ وقدٍّ ممشوق...ولم تضعف يوما أو فكرت مرة في كشفه لغير زوجها أو تفخر به أمام قريناتها...كما تفعله كل مهوسة ببعض نتف من الحسن، أو مكبوتة بسبب إعراض الذكور عنها...لكن اليوم جمعت سُمية بين الطبيعي والاصطناعي...لأنها ليلة ليست ككل الليالي...
خرجت تمشي على أصابع رجليها حتى لا تحدث صوتا...كأنها أرادت أن تفاجئه بجمالها ورشاقتها وشوقها...لكنها لم تجده في المكان الذي تركته فيه، فتوجهت إلى غرفة نومه، فألفتها مغلقة بإحكام من الداخل وموصدة كالحصن بالمفتاح...وغطيط محمد يقرع الجدران وشخيره يكاد يبلغ عنان السماء.
خاب ظنها وكُسر خاطرها وذرفت دمعة بل دموعا...فانقلبت إلى فراشها والغُصة في حلقها والمرارة تخنقها...استلقت على ظهرها تنظر إلى السقف، وضعت السماعات على أذنيها...أطفأت المصباح...وضغطت على زر هاتفها فانطلقت إلى عالمها الجميل والساحر...بدأت أنشودة "فرشي التراب" ثم أنشودة "هي جنة" فنسيت ما حدث لها قبل دقائق، ورجعت إلى سابق عهدها...تلت أذكار النوم وأدعيته واستسلمت كالطفلة للنوم بدورها...
* * * * *
خرجت سُمية باكرا جدا إلى أحد الأسواق لتقتني مستلزمات حفلة الأربعاء القادم...لم يبق إلا ستة أيام، وهي تريد أن تستعد لها كما وعدت...كما أن في هذه الساعة المتقدمة من الصباح يكون المتجر شبه فارغ، فهي تتجنب الاختلاط بالرجال ما أمكن...وبينما هي تتخلل رفوف المحل، التقت صديقة قديمة لها هي أم أيمن...لم ترها منذ سنوات...يوم كانت هذه الأخيرة تلميذة سُمية في الحلقات المسجدية...بعد التسليم الحار، وتبادل بعض الإخبار...اقترحت أم أيمن أن تزورها في بيتها بعد صلاة العصر، مصطحبة معها أم زهير وأم سعيد...جماعة الصديقات الملتزمات أيام الشباب والعزوبية...
دق جرس البيت...فتحت الباب...احتضنت سُمية أخواتها، وهي شديدة السرور بلقاء تلك الكوكبة الزاهرة من أخوات المسجد القديمات...كانت الضيفات الثلاث من تلميذاتها النجيبات والحميمات...
جلسن في غرفة الاستقبال...أحضرت لهن سُمية كعكا وبعض العصير...ثم فتحن الأرشيف...كانت سُمية شغوفة بالعودة إلى التاريخ الجميل لتلك السنوات السعيدة...سنوات العزوبية والدعوة وطلب العلم...سنوات العفة...سنوات صلاة الجمعة والتراويح والتنقل بين المساجد، لحضور الدروس العلمية والدورات الشرعية وحفظ المتون وتلاوة القرآن بأحكامه.
أم أيمن: كم كنا سعيدات بالاستفادة من العلم في تلك المرحلة من العمر!، لم يكن يشغلني لا أيمن بمشاكله ولا أبو أيمن بمطالبه…كنت حرة بلا أعباء.
أم زهير: كانت جلسات المسجد أحب إلينا من سواها، كنا ذوات همم عالية...لقد ضعفنا قليلا الآن من كثرة المسؤوليات الاجتماعية والأسرية...مرات أحدث نفسي: لو ما تزوجت كان أحسن لي...لكن الحمد لله على كل حال.
أم سعيد: يا سُمية! هل تتذكرين لما صدر كتاب الشيخ أبي غدة بعنوان "علماء عزاب" فاقتنيناه وقرأناه في عدة جلسات، ثم صبيحة ختامه اقترحت الأخت نجاة أن نلعب لعبة...قالت: ما رأيكن لو تختار كل واحدة منا عالما من العزاب تحلم أن يكون زوجها...؟
سُمية: ههههه، نعم أتذكر ذلك... كن ساذجات وشقيات...
أم زهير: لكنك خدعتنا جميعا يا سُمية.
سُمية: وكيف خدعتكن!؟
أم زهير: لقد وافقت على اللعبة بشرط، فكان شرطك أن تكوني أول من يختار...فوافقنا على شرطك...فاخترت شيخ الإسلام ابن تيمية...فوجئنا بالفجيعة، لقد كنا جميعا نريده زوجا...لقد خشيت أن تسبقك إحدانا إليه، لكن لا بأس لقد اخترت أنا النووي مات في الأربعين من عمره أعزب رحمه الله.
أم سعيد: أنا اخترت الطبري شيخ المفسرين وحافظ الحديث.
أم أيمن: أما أنا فكان من نصيبي أبو حيان الغرناطي شيخ الأندلس وعالمها...أنا لا أخفي عن كن سرا أظن أن الغرناطي من الأندلس فلا بد -إضافة إلى علمه الغزير ودعوته المباركة- ، أن يكون شابا جميلا ورجلا وسيما....أتذكرين يا سُمية سألتك إحدى الأخوات حينها عن شيخ الإسلام ابن تيمية هل كان وسيما؟
سُمية: نعم أتذكر.
أم أيمن: سألتك تلك الأخت عن زوجك الافتراضي ابن تيمية، إذا كنت قرأت من سيرته عن شكله وصفاته، فقلت لم يسبق لي أن قرأت عن ذلك، فقالت تلك الأخت: وماذا لو لم يعجبك شكله الخارجي؟...كان ردك: لقد احتل في عقلي وقلبي مكانة لم يحتلها أحد مثله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم...سأتزوجه ولو كان محدودب الظهر، منكوش الشعر، قبيح الوجه، ذميم الخلقة...سأكون له نعم الزوجة والرفيقة، وأتشرف أن أصير له خادمة ليزداد معرفة ودينا، فيكثر عطاؤه العلمي، وتتنوع كتبه الفريدة، وأعينه على أعداء السنة من أهل الأهواء والبدع وكل حاقد على الإسلام...ولا أريد أن أكون عبئا عليه بالثرثرة والغيبة والنميمة وكلا بطلباتي السخيفة.
أم سعيد: نعم!  لم نكن نعبأ كثيرا بالأموال المكدسة، ولا الوسامة الظاهرة، ولا المكانة الاجتماعية، ولا الشهادات العليا، ولا السيارات الفارهة، ولا الفيلات الضخمة، ولا المناصب السامية...كنا نريد أهل العلم والمعرفة والدعوة...يا حسرتاه! تغير الوضع الآن...فكثير من الملتزمات يرغبن في الدنيا قبل الدين، وأكثرهن يخضعن لمعايير المجتمع ويستسلمن لقوانين العادات والتقاليد المادية فحسب...من مهور خيالية ومعادن الذهب والفضة والمسكن والأثاث ومقدم ومؤخر...حتى كاد يعطل الزواج في الوقت الذي تفتح فيه أبواب الرذيلة على مصراعيها...الله المستعان...
أم زهير:... نحلم بالعلماء، لكننا كنا إذا خرجنا من باب المسجد يوم الجمعة وصلاة التراويح، يقابلنا بعض الشباب الملتزم الواقف عند باب النساء ليتفرجوا علينا، لعلهم يصطادون عروسا من بيننا...كان بعضهم يتظاهر بانتظار قريبة من قريباته بينما المسجد فارغ في الداخل.
ههههههههه...ضحك الجميع وضحكت سُمية...فلم تكن قد ابتسمت منذ أن تزوجت محمدا...لقد أنساها الفرحة والسعادة منذ دخل حياتها...
أم أيمن: أخبرني زوجي أن الشيخ عبد العزيز إمام المسجد حينها، كان يريد أن يتقدم لخطبتك يا سُمية...لكنك تزوجت محمدا، مع أنه لم يكن أفضل من الشيخ الإمام....سمعت أنه ما زالا عزبا ويرفض الزواج...لقد سافر إلى مصر والسعودية وموريتانيا، ونال من العلم الكثير، وصار الآن مستشارا في المجمع الفقهي الإسلامي.
أم سعيد: الحمد لله أننا نتكلم بهذه الأشياء بيننا ولا يسمعنا أزواجنا...فهم شديدو الغيرة...ولن يقبلوا أن نتحدث عن الرجال ولو باتوا عظاما نخرة من قرون غابرة.
لما سمعت سُمية كلام أم سعيد عن غيرة الأزواج...اغرورقت عيناها بالعبرات، وأحست بانقباض في التنفس، وتسارعت نبضات قلبها...لقد لمسن الوجع...ووضعن السكين على الجرح...فذهب عقلها بعيدا في تفكيرها...وكأن ضيفاتها أحسسن أنها معهن بجسمها دون روحها...
قالت أم زهير: إلى أين أبحرت سفينة خيالك؟...أخبرينا كيف هي غيرة محمد عليك يا سُمية ؟
كان السؤال أشبه بدلو من الماء المثلج أفرغ عليها في يوم صائف فاقشعر جلدها...لكنها قمعت انفعالها ووأدته في نفسها وهي تُسكتهن: اصمتن...اصمتن...لو علم زوجي بحكاياتنا القديمة لقتلني لغيرته المفرطة مرتين: واحدة بسبب إمام مسجدنا الشيخ عبد العزيز، وثانية بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية.
هههههه...قهقهت الضيفات الثلاث، وقهقهت معهن سُمية بلسانها، وأبت إلا أن تشاركهن فرحتهن متظاهرة، لكنها كانت بداخلها تبكي وتموت موتات.
* * * * *
جاء اليوم الكبير...الأربعاء الذي انتظره محمد كثيرا، واستبشرت سُمية به بدورها...لم تغادر المطبخ طيلة اليوم...فهي لا تحب شراء الكعك الجاهز، وإنما تحضره بنفسها، وتتقن صنعه أيما إتقان...شرقيَّ
ه وغربيه...دخل محمد المطبخ وجلس إلى كرسي بقربها وهو يستفسر: هل كل شيء جاهز؟
سُمية: ليس بعد، إن شاء الله سيفرح ضيوفك بهذه الأصناف المتنوعة واللذيذة.
محمد: ستكون ألذ وأطيب لما تقدمينها بنفسك لهم.
سُمية: طبعا من سيقدمها غيري!
محمد: كنت خائفا من هذا اليوم، ولقد قرت عيني بايجابيتك غير المعهودة.
سُمية: أنت تعلم أنني أطيعك في طاعة الله، وأحرص على إرضائك دون أن أغضب ربي...
سكتت هنيهة ثم أردفت: هل تتذكر الكعكة الأولى التي حضرتها لك بمناسبة زواجنا؟
محمد: نعم أتذكرها ولن أنساها ما حييت.
سُمية: ذهب ذلك الزمن الجميل...تلك الشهور الأولى من ارتباطنا هي التي منحتني القوة للبقاء معك...تزوجتك عن قناعة وحب...لم أفكر يوما بفراقك...ومع كل تلك الأفكار الخطيرة التي جئت بها من فرنسا، لم أشأ أن أنفصل عنك...كان عندي أمل انك ستتغير...ستترك تلك الانحرافات...لا أتوقف عن الدعاء لك بالهداية والصلاح في كل سجدة وحين...كما أنني لم أرغب في أن أستسلم وأُعين عليك الشيطان، وأتركك للكفار ليأخذوك من معسكرنا إلى معسكرهم فنخسرك، وتخسر نفسك.
محمد: ههههه...حولت، إذن، حياتك إلى معسكرات متناحرة وحروب طاحنة!؟
سُمية: نعم! الحياة مقاومة...وديننا يستحق كل تضحية...أنت أصبحت بعد زواجنا كل شيء بالنسبة لي...فكيف أترك واجبي في دعوتك ونصحك وإرشادك، والأخذ بيدك إلى سعادة الدنيا والآخرة؟، فهذا هو دور كل زوجة مع زوجها...ولو أن كل من خالف دين الله لجهل أو غفلة أو شبهة هجرناه وحاربناه لن يبقى أحد معنا...الحمد لله أشعر أنني أديت واجبي تجاهك وبرأت ذمتي معك...وسأترك الهداية لله فهو صاحبها.
بينما هما يتبادلان أطراف الحديث دقّ جرس الباب...وبدأ الضيوف بالوفود...
كانت سُمية أعدت مجلسين لضيوفها، واحدا للرجال وآخر للنساء...وانشغلت هي بالتفاصيل النهائية...ثم انسلت من مطبخها إلى غرفتها فلبست ثوبا جميلا، وتزينت لضيفاتها ظنا منها أنها ستنفرد بهن دون الرجال، ثم خرجت من مخدعها متوجهة إلى الغرفة التي خصصتها للجنس اللطيف، لكنها وجدتها خاوية على عروشها...ثم ما لبثت أن سمعت كلاما وضحكات وقهقهات متعالية لرجال ونساء، جالسين في غرفة الاستقبال الكبيرة المعدة فقط للذكور...لقد اكتشفت أن محمدا حشر جميع المدعوين والمدعوات في مكان واحد...
مسكينة سُمية...لقد ظنت أن زوجها سيمنحها الفرصة لتقترب من زوجات أصدقائه...لكن الأمر تجاوز ذلك، لقد جلبوا معهم صديقات...ثم تكدسوا في "الصالون" وانطلقوا في الثرثرة واللغو البريء وغير البريء...لقد أيقنت أن زوجها وضيوفه ينتمون إلى المجتمع المخملي، الذي ينبذ الثوابت ولا يؤمن بها، ومنها تحريم الاختلاط الماجن بين الجنسين في الحفلات والأعراس وكل المناسبات...
كان قاسم صديق محمد على رأس المدعوين...ومنذ جلس على الأريكة، وهو يراقب الردهة والباب متلهفا لرؤية سُمية لأول مرة دون نقابها...وكذلك كان الآخرون الذين يرغبون في التعرف عليها، ورؤية زوجة صديقهم وبطلهم المغوار المناصر لحرية المرأة وحقوقها!
لكن سُمية خيبت الجميع، وأبت الدخول عليهم، وفاجأتهم بغيابها...ولج محمد إلى المطبخ، وأمرها أن تخرج لتقديم واجب إكرام الضيوف، لكنها رفضت بكلمة صارمة مشددة على حروفها: لن أخررررررج.
وهو بصوت خافت...حتى لا يسمعها لحاضرون ردّ عليها: لا تحرجيني أرجوك...قدمي الحلوى والشراب والشاي، ثم انصرفي إلى غرفتك.
سُمية: لن أدخل على الرجال.
محمد: هذه المرة فقط...هم ينتظرون، ولقد أطلْنا عليهم... ويتسآلون عما يحدث هنا.
وانتقل إلى "الصالون" ثم عاد...ثم انتقل وعاد...يذهب ويجيء...وهو يحاول كل مرة إقناعها لكن بلا جدوى... وجوقة المدعوين يراقبون الموقف بل يتمنون لو ينجح محمد في معركته التحريرية تلك....دخل أخر مرة، فتناولت سُمية الكعكة الكبيرة وطلبت منه حملها لضيوفه...وأخبرته أنها ستلحق بغرفتها وتغلق بابها...كاد أن يجن...لم يصدق ما يسمع...أراد حينها أن يستخدم الشدة فسحبها من ذراعها، فسقطت الكعكة على الأرض، وأحدثت الصينية والملاعق دويا مفزعا تردد صوتها في كل جنبات المنزل...صاح وصرخ في وجهها، ثم تذكر ضيوفه فصمت...أما أولئك فلما سمعوا أن بالمطبخ مشكلة مستعصية وجلبة فهموا الموقف المتأزم فنهضوا وانصرفوا...
تبعهم محمد إلى الشارع ليعتذر لهم ويودعهم...ثم أسرع إلى ساحة معركة الحق والباطل وميدان حرب الخير والشر...فوجد سُمية منحنية على ركبتيها، تلملم الكعكة التي تعبت في تحضيرها بكلّ ما تملك من جهد وأوتيت من إبداع..فرفسها بعنف بقدمه، فوقفت تتأوه أوووووه...أووووه وتشكو من الوجع، ثم صفعها صفعتين محمَّلتين بأطنان من الحقد والغل والكراهية...ولم تزد على أن قالت له وهي تشهق بالبكاء: لقد ظلمتني...حسبي الله ونعم الوكيل.
آه...آه... لقد ذهبت نظريات محمد في علم النفس أدراج الرياح...وسقطت شعاراته في حماية المرأة من عنف الأزواج...لقد كان موضوع رسالته في الدكتوراه: (دراسة نقدية لنصوص ضرب المرأة في القرآن) وها هو في أمسية الاحتفال بترقيته، يصبح بطلا في الرفس والملاكمة ضد أضعف وأرق وأحن أنثى...ثم غادر الحلبة...فباتت ليلتها تتألم وتشكو إلى الله، وتدعو مولاها أن يخلصها من عذابها ويعوضها خيرا...عند الضحى دخل زوجها بل عدوها...والشرر في عينيه...لقد خسر معاركه كلها، بل محاولاته كلها باءت بالفشل، أما هي فقد ربحت معركة الثبات...نظر إليها النظرة الأخيرة...ثم لم يتلفظ بغير كلمة واحدة ثلاثا: أنت طالق...طالق...طالق
* * * * *
حمدت سُمية الله على طلاقها وسجدت شكرا...وبعد انقضاء عدتها التحقت ببيت أهلها...وما أن سمع الناس بانفصالها حتى اصطفوا عند والدها، يطلبون بل يتوسلون أن يحظوا بهذه الولية الصالحة، التي ابتلاها ربها فصبرت، وصبَّ عليها من المحن فشكرت...هي نوع من النساء لا يُعرفن إلا في الأسفار العتيقة الغابرة، وسير السلف من العصور الزاهرة...فلم يعد لهذا الطراز الفريد من مكان في هذا الزمان إلا فيما شذَّ وندَرْ...إذ غاصت الأمة إلى أذنيها في الملذات، وأخلدت الأكثرية إلى الدنيا...إنه زمن النُدرة في الرجال والنساء...حيث يشقى ويتعب وينفق أحدهم بحثا عن شريك حياة ليهنأ به...فلا يظفر آخر المطاف إلا بالنطيحة والمتردية وما أكل "الكلب" من الجانبين، على تفاوت في العيوب والنفاق الاجتماعي وإخفاء الحقيقة عن الآخر...
...كانت سُمية في بيتها تكثر من الدعاء حتى يعوضها الله من سعادة الدنيا والآخرة...ذات مرة وهي تفكر في الأشخاص الذين خطبوها، وتزن كل واحد منهم بميزان الشرع، وتقارن مواصفاتهم وايجابياتهم...، تذكرت أن أم أيمن صاحبتها، حدثتها عن الشيخ عبد العزيز إمام مسجدها سابقا، ومستشار المجمع الفقهي الإسلامي حاليا...هذا هو النوع من الأزواج الذي تحلم به وتتمناه...دين وخلق والتزام وعلم ومروءة ودعوة إلى الله...
أرسلت إلى أم أيمن تستشيرها...فأخبرتها هذه الأخيرة أن الشيخ عبد العزيز كلّم أبا أيمن في شأنها...ويرغب في أن يتقدم لها...ابتهجت لهذا الخبر السار بل طارت فرحة...يا لسعادتها!  بولي صالح يشبهها في كل الصفات ويتوافقان في الروح والفكر والالتزام.
مرّت بضع أيام فحضر الشيخ عبد العزيز مصطحبا والدته للرؤية الشرعية...دخل غرفة الاستقبال، وهو خجل لا يكاد يرفع رأسه من الأرض...ثم جاءت هي على استحياء وسلمت، متلعثمة مُسمعة نفسها فحسب، وهي تحمل آنية...وكانت أشد خجلا منه، فما نظر إليها ولا نظرت إليه، بل أوشكت من الحرج الشديد على التعثر وكب القهوة على خطيبها المسكين...ثم قعدت نصف جلسة إلى جنب أمها...وبينما كانت والدتها ووالدة الشيخ عبد العزيز يتحدثان...كان الخطيبان ينظران إلى بعضهما بقلبيهما...وأبصارهما مطرقة تجول على نقوش بساط الغرفة، ولا تجرؤ على الانفكاك منه والدنو قليلا إلى أعلى لاستراق شيء ما، من تلك اللحظات التاريخية لكل زوجين تقليديين، لم يسبق أن تعارفا من قبل في الفضاء الواقعي ولا الافتراضي كسنة اليوم أو قُل بدعتها.
كتب الله لهما الارتباط وقدّر بينهما اللقاء...وها هي في الشهر الخامس من الحمل، وتنتظر الإنجاب الذي حُرمت منه مع طليقها.
أما محمد فبعد انفصاله لقي ضالته، وانغمس أكثر فأكثر في مجتمعه المخملي...وانتهت مغامراته بزواج ثان من نوال...إحدى المناضلات في جمعيات المرأة، ومحامية شهيرة...تملك المواصفات التي ينشدها: ثقافة مخملية..."أخلاق المجتمع الراقي"...أناقة ظاهرة...جمال خارجي...فهي من النوع الذي يدير رؤوس كثير من الرجال عندما تمر بجانبهم...
اندمجت نوال في جماعته في بضعة أيام...عرّفها على أصدقائه...قاسم بالتحديد...وكان محمد في غاية الغبطة عند مصاحبتها في الشوارع الكبرى، وهي في أحلى زينتها وأجلى تبرجها...وهو يضع ذراعها تحت ذراعه...رافعا هامته إلى الجوزاء...كم كان معجبا بمناقشاتها مع الجميع!، بالحقيقة كانت "مثقفة" ومتعلمة ومندفعة في الذود عن آرائها...كان محمد شغوفا بالإنصات إلى تحليلاتها للأحداث السياسية ومواقفها من الموضوعات الاجتماعية، ومسرورا بلمزها وحطها من فكر الدينيين، وانتقادها اللاذع بنيةَ العقل الذكوري المتحكم في شؤون المرأة  كلها بزعمه وزعمها.
يا لها من سعادة حققها بعد طول معاناة مع سُمية!...فنوال هي قطبها المعاكس...وجد سبيلا لتطبيق نظرياته في علم النفس والاجتماع، والانتصار للفكر الحداثي والليبرالي...وكانت نوال تصحبه في مؤتمراته ومحاضراته، التي يلقيها لينشر الوعي والتحرير، ويدافع عن أطروحات التنوير...يدعو إلى تبني أساليب التحضر، ويشتدّ بعنف على أنصار التقهقر والرّجعيّة...
لم تكن نوال تتورع عن مصافحة الرجال واستقبالهم، وتقديم الشراب والطعام لهم...ومع أن محمدا في أصله ومعدنه مشرقي الطبع مسلم التفكير، إلا أن تطبّعه أفسد عليه طبعه...هل كان ما تعلمه في فرنسا هو ما قتل فيه الغيرة والحَمِيَّة على عرضه؟ كان يحاول في قرارة نفسه أن يقنع ذاته عندما يشاهد زوجته نوال على ذلك الحال...وماذا هناك!؟ وأين المشكل!؟ هل مجرد المصافحة والتقبيل على الوجنتين أحيانا، والاختلاط بالزملاء الأبرياء عيانا، يجعل منها عاهرة أو زانية!؟...لذا كان مرتاح البال، خالي الهم من هذه الناحية.
أما نوال فقد ولُدت وترعرعت في أسرة منفتحة، فلم تُعكر صفو تصرفها وسلوكها تلك الحسابات المشرقية، واعتبارات الشرف والعرض والنخوة...كانت بعد تقديم واجب الضيافة تجلس على الأريكة أمام الجميع واضعة ساقا على ساق...وقاسم صديق العائلة الوفي المخلص... يتتبعها بنظرات تكاد تخرق زجاج النظَّارات.
* * * * *
تأتي أيام وتمرُّ أخرى...والوضع على حاله...الزوجان في أوج نشاطهما التنويري ونضالهما التحريري...يخدمان قضايا المرأة والأسرة بتفان، ويشاركان همَّ الغرب ورغبته الصادقة في تحضر الشرق ونفض غبار التقهقر عنه...وكان على الأبواب حدثٌ عالمي بارز، هو مؤتمر الأمم المتحدة الذي تنوي تنظميه عن المرأة وحقوقها الراسخة...سُمي "مؤتمر لندن لامرأة الألفية الثالثة"...وهو اجتماع تعقده هيئات ومؤسسات دولية علمانية وإلحادية، دورها إقصاء الدين، وتهميش التقاليد، ومواجهة الأعراف، وإلغاء القوانين المكبلة لحقوق النساء والمقيدة لحريتهن...على غرار مؤتمر جنيف والقاهرة وبكين...عادة ما يدوم المؤتمر يومين أو ثلاثة، تُناقش فيه أبرز الشؤون التي تخص الأنثى، وموضوعات الأسرة، تُقترح تشريعات وتُقدم توصيات، تتبناها الهيئات الأممية بالتعاون مع الحكومات، وتفرضها على الشعوب بالترغيب والترهيب.
...اختير محمد ونوال لتمثيل الهيئات العربية في تلك التظاهرة الفكرية والحقوقية، كونه أستاذا جامعيا ذا شهرة عالية، وزوجته إحدى المسؤولات عن الجمعيات والاتحادات النسائية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا...بعد تحضيرات مكثفة، امتطى الزوجان الطائرة، التي حطت رحالها بلندن، وقضيا ليلتهما الأولى بأحد فنادقها...تناولا عشاءهما في مطعم شهير مطل على نهر "التايمز"...ثم أخلدا إلى النوم باكرا...فموعد الانطلاق إلى الحدث العالمي لا تفصله عنهم سوى سويعات.
وفي اليوم التالي بدأت أشغال المؤتمر...وحضر ممثلو الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وضيوف آخرون كثيرون...كان الزوجان مسرورين ومغتبطين بهذا التشريف، الذي حظيا به في تمثيل كل من بلدهما وبعض الجمعيات والهيئات الرسمية العربية والإسلامية...ولم يكد الوافدون يدلفون إلى قاعة المؤتمرات، ويجلسون على المقاعد المخصصة لكل وفد ـ حسب البروتوكولات ـ حتى توالت الصدمات...
فقد لاحظ محمد من الوهلة الأولى أن وفده وجُل الوفود العربية والإسلامية والدول النامية، خصصت لها الأماكن الخلفية، بينما استحوذ الأمريكيون والأوربيون على الأماكن الأمامية...لكن ما أثار حفيظته وأجج اشمئزازه وسخطه، هو تربع الوفد الصهيوني على الصدارة...
فتساءل محمد في نفسه: كيف يُقدم علينا "بروتوكوليا" وفد لا يتعدى عدد سكان بلده "كمشة" ملايين، وهم ممن عُرفوا بانتهاكات فظيعة لحقوق البشر والشجر والحجر، ويؤخر من يمثل "المليارات" من بني الإنسان على هذه البسيطة!؟
...تساؤلات وتساؤلات لم يسبق أن دارت بخَلَده...وها هي في هذه اللحظة تدق باب عقله بإلحاح ولا تكاد تتوقف ليرتاح...
وعندما انطلقت الوفود بإلقاء الكلمات...أُعطيت الكلمة للوفد الصهيوني...نهض محمد ونوال فورا من مقعديهما، وغادرا القاعة، وسط اندهاش الحاضرين واستغراب المنظمين وسخط آخرين...فبلدهما لا يعترف بهذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين...عاد محمد وزوجته لما استلمت الكلمة دولة الأرجنتين...ولما انتهت الفترة الصباحية من أشغالها، توجها الحاضرون إلى المطعم لتناول وجبة الغداء...جلس الزوجان إلى طاولة جانبية...وبينما هم كذلك اقترب منهم كارل ليبرمان، رئيس الوفد الأمريكي، فسلم تسليمة دبلوماسية، ثم قعد بلا استئذان وسأل باستهجان: ما هذا التصرف الغريب والسلوك المشين لوفدكم؟ كيف تغادرون القاعة أمام الجميع حين منحت الكلمة للوفد الإسرائيلي؟
محمد: إن دُولنا التي نمثلها مقاطعة لهذا الكيان، وأنا موقفي حلَّ الشخصي هو رفض التعامل معه أينما وارتحلَ؟
كارل ليبرمان: هذا مؤتمر حقوقي ثقافي وفكري، لا علاقة له بالسياسة، فالرجاء ألا تُسَيسُوا مواقفكم الحقوقية؟
محمد: مواقفنا نحن من يتخذها، ولا تفرضها علينا "اللوبيات" وجماعات الضغط والمصالح، كما تريد أن تفعل أنت الآن؟
كارل ليبرمان: نحن الأمريكيين لن نسكت...وإذا لم تعتذروا للوفد الإسرائيلي فسنطالب بإبعادكم من المؤتمر.
محمد: نحن لن نعتذر، ونُدين مشاركة هؤلاء، ونرفض أطروحاتهم، وقررنا اقتراح طردهم من باقي الجلسات.
قاطعه كارل ليبرمان بحدة وقهقهة: هههههه...من أنتم لترفضوا وتُدينوا!؟ ما هو مستواكم ومكانتكم ومحلكم من الإعراب لتقرروا وتقترحوا؟ أنتم تمثلون دولا متخلفة على هامش الحضارة...اعلم أننا نحن من نظمنا المؤتمر ودعوناكم للمشاركة فيه...كما نفعل في بقية النشاطات العالمية...أنتم لستم هنا لتقرروا وتقترحوا...فنحن من يدبر ويشرع ويقرر...وجودكم، هنا، هو للتوقيع والتصفيق والتنفيذ لا غير...
محمد: هذا كلام مهين ومخز في حقنا وحق شعوبنا...هل هذه هي قيمتنا في عيونكم؟
كارل ليبرمان: أنا لن أكثر الكلام ولا أعيده...وفدنا سيطالبكم بالاعتذار عما بدر منكم تجاه الوفد الإسرائيلي الصديق.
محمد: لن نفعل، فلا تتعب نفسك في الضغط والتهديد والوعيد...
لما رأى كارل ليبرمان إصرار خصمه وغريمه على موقفه ورفضه الاعتذار، قام من الكرسي متجهما، وأردف ساخرا: لقد سألتني عن قيمتكم أنتم المسلمين والعرب في أعيننا...فسأخبرك أنكم هنا لتوقعوا وتبصموا على ما اتفق عليه أسياد هذا العالم، ولا دور لكم غير ذلك...لأنكم مجرد "طراطير"!
...كان تتلك اللفظة أشبه بسكين أُغمد في شغاف قلب محمد، مزقت شفراته أغور أعماقه، لقد جرحت مشاعره بل كرامته...لكنه كظم غيظه وتمالك نفسه، وهو ينظر إلى الأمريكي مغادرا المكان، مزهوا بمنكبيه العريضين، يتبختر بمشية تطفح بالكبرياء والخيلاء...حينها نظرت نوال  التي شهدت تلك المحادثة المهينة إلى محمد، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فألقى هو بالملعقة من يده...ووضعت هي تفاحة كانت توشك على التهامها...لم يكن الزوجان في حياتهما النضالية، قد سمعا كلاما مؤذيا ومقززا في حق بلدانهم وشعوبهم، مثل الذي تقيأه بعنجهية رئيس الوفد الأمريكي...
بعد صمت عميق تنهدت نوال وقالت:...هذه هي الحقيقة إذن، نحن "كومبارس" في سيناريو عالمي يكتبه غيرنا، نحن لا نعدو أن نكون ممثلين من الدرجة العاشرة بل "ديكورا" في فيلم: أبطاله ونجومه ومخرجوه وممولوه هم...نعم...هم...
محمد: حسبت نفسي مفكرا ومنظرا لقضايا المرأة ومدافعا عن حقوقها، وأنت ناشطة حقوقية سلخت نصف عمرها في النضال النسوي...ظننا أنفسنا مع العالم الغربي المتحضر أصحاب قضايا واحدة، وتجمعنا معاناة المرأة عبر الكرة الأرضية...فإذا بنا مجموعة أصفار عريضة وطراطير حمقاء على حد وصفهم...يا للمذلة!  يا للعار!
جاء موعد الفترة المسائية...وعندما منحت الكلمة للوفد الذي يقوده محمد، طلب رئيس الجلسة، بتوصية أمريكية، تقديم الاعتذار للصهاينة...فقام محمد وهو شامخ الرأس...يمشي بخطى ثابتة إلى المنصة، فبدأ خطابه بشكر المنظمين، وتحية الحاضرين، ثم قال:...أيها السادة المحترمون!...طُلب من وفدنا الاعتذار عن مغادرتنا القاعةَ هذا الصباح...بعد ضغط شديد من بعض الأشخاص...وجوابنا صريح واضح: لن نعتذر...بل مصممون على موقفنا...إن وفدنا جاء للمؤتمر لا ليسيّس شؤون المرأة وحقوقها، وإنما للدفاع عن تلك الحقوق...أيها السادة! كيف تريدون أن نسمع لكلمة وفد يزعم المنافحة عن تلك الحقوق، في حين دولته تغتصب الأرض، وتنتهك العرض، وترمّل المرأة بقتل زوجها، وتيتّمها بذبح أبويها، وتثكلها بحرق أولادها بالقصف والخسف، وتحرمها من الحركة في الممرات، وتهينها في المعابر والحواجز والطرقات، تفتشها عشرات المرات وهي متوجهة إلى حال سبيلها...والإحصاءات مخيفة مفزعة عن عدد المسجونات والمحرومات من أبسط حقوقهن في الكرامة والحياة...فلا أدري لماذا هذا التشدق بحقوق المرأة، وذرف دموع التماسيح على حالها...!؟
أيها السادة المحترمون! ...كرامتنا فوق كل اعتبار، وتأبى أن يكون الوفد الذي تشرفت بتمثيله شاهد زور بعد اليوم، ولا أن يمسي من نمثلهم أتباعا ذليلين خاضعين لما يخَطط في الغرف المغلقة، ويفرض علينا كأننا أطفال لم نبلغ الرشد بعد...لن نقبل مستقبلا أن نصير في هذه القضايا المصيرية مجرد "طراطير".
* * * * *
استمر مؤتمر الأمم المتحدة يومين آخرين...ولم تكن الصدمات قد توقفت...فقد قدّم مندوب الوفد البرازيلي اقتراحا لتشريع زواج المثليين، وفرض عقوبات على كل من يعترض على حريتهم الجنسية، ويمنعهم حقهم في اختيار ما يريدونه من شركاء في الزواج...كان الاقتراح صادما لنوال ومحمد...فكيف لمسلم، مهما بلغ من انحراف ومعاداة لقيمه، أن يقبل بارتباط رجل برجل وامرأة بامرأة!؟
وفي اليوم الثالث...صُعق الزوجان لما سمعا في إحدى القاعات الجانبية رئيسة الوفد الدانمركي، تفتخر بأن بلادها شرّعت زواج مواطني بلادها بالحيوانات...وذكرت أن عرس شابة عشرينية مع كلبها المحبوب سيُدشن تلك المفخرة الدنمركية، التي تريد تعميمها على أجناس وشعوب العالم قاطبة!
...رُبّ ضارة نافعة...كان ذلك المؤتمر القشة التي قصمت ظهر البعير...والقطرة التي أفاضت الكأس...عاد الزوجان إلى بلادهما...وهما في حال حزن من الاهانات التي تعرضوا لها...وفاقمت تلك الشذوذات الجنسية التي ينصبها الغرب أنموذجا عالميا من تلك الجروح الغائرة...ليلة المغادرة طار النعاس عنهما....لكنهما لم ينبِسا ببنت شفة...قضيا الوقت في تقليب الأمور في التفكير والتدبر...وكذلك في الطائرة ساد الوجوم والتأمل في مصير هذا النضال الحقوقي الذي ظهر على حقيقته، وبانت نواياه، وانكشف مآله...ذلك الصراع الذي يصب في مصلحة المتعالين والمتعجرفين...على حساب المسلمين الذين ينظر إليهم على أنهم عبيد من الدرجة العاشرة.
وصلا إلى منزلهما، ولم يتعشيا كعادتهما...استلقيا على فراشهما...ثم أطفأ محمد النور وقال: طوال هذه المدة، كنا نكذب على أنفسنا...الغرب لا يهمه في المرأة سوى تعريها وخلع قيمها، وتحويلها إلى كائن غريزي لا يختلف عن الحيوان...وأخشى ما أخشاه أن نصبح مثلهم.
نوال: لقد أصبحنا فعلا مثلهم...حتى نحن بتنا مستسلمين للغريزة، ونزعم الارتقاء في رؤيتنا للأنثى والذكر والعلاقة بينهما...وأفضل مثال على ذلك ما نحن فيه...ولا أريد إن أخفي عنك، فقد جاءني قاسم الأسبوع الماضي لما كنتَ في عملك، أدخلته البيت لتناول فنجان قهوة...فإذا به يراودني عن نفسي، وأراد بي الفاحشة...فوجئ بصفعة على وجهه، وطردته من البيت...وكان فَعَل ذلك قبله لطفي زميلنا الحقوقي...مدّ يده إلي بلا حياء في مكتبه...صفعته هو الأخر...ماذا يظنون؟ هل أنا عاهرة على قارعة الطريق!؟
محمد: إنهم أنذال...حسبتهم أصدقاء أوفياء، لكنهم وحوش تعطي دروسا عن جوهر المرأة وقيمتها المعنوية...ويذمون الإسلاميين الشهوانيين بزعمهم...فإذا بهمهم الشهوانيون....على الأقل الملتزمون شهوانيون في الحلال...أما هم فذئاب خبيثة لا تفكر إلا في غريزتها...ظننتهم كما كانوا يزعمون أصحاب فكر ناضج وحكمة بالغة، يتفلسفون في الدفاع عن جوهر المرأة لا شكلها، والواقع أنهم لا يريدون سوى الوصول إلى سوءتها وعورتها...
نوال: لقد تعبت من كل هذا...أريد أن أتغير...بالحقيقة أصبحت أحسد سُمية وأغار منها...ليتني كنت هي...لم أعد أجد معنى لحياتي في هذا الانحدار الذي نسير نحوه...والسقوط في هذه الهاوية المخيفة التي ننزل إلى قعرها.
محمد: سنناقش كل هذه الأمور لاحقا....النعاس يغلبني، وغدا سأزور والدتي، لقد اشتقت لها، فهي تعاني من ارتفاع ضغط دمها...وتنتظرنا للغداء.
نوال: ممتاز، أنا كذلك أريد أن أزورها.
استسلم الزوجان للنوم...وعند الضحى أعد محمد نفسه...ويبدو أن نوال تأخرت كعادة النساء في تجهيز نفسها للخروج من البيت...وقف محمد عند الردهة...فإذا به يلمح شبحا أسود...أدخل أصابعه في عينه فمسحهما...ثم صاح: سُمية!
التف الشبح وقال: أنا نوال، ولست سُمية...
لقد ارتدت نوال خمارا وحجابا أسود كالذي تلبسه دوما سُمية...لذا حسبها هي...لم يصدق ما يراه...ها هي نوال لأول مرة في حياتها تتحجب استعدادا للخروج من المنزل...
نوال: هل أعجبتك؟ من أجمل بالحجاب أنا أم سُمية؟
سكت ولم يجد ما يقوله...لقد كانت سُمية ملكة جمال المحجبات...ولا تقِل نوال عنها سحرا وحسنا...فمن سيختار؟ وبم سيجيب؟...فالأجوبة في هذه المواقف المحرجة قد تكون مدمرة...حينها هداه قلبه وعقله للإجابة فردّ: كل المحجبات جميلات...
رضيت نوال بتلك الإجابة الدبلوماسية...وهي تعلم ما يحمل قلب زوجها لها من حب وإعجاب...فُتح الباب وخرجت إلى الشارع وقد أعادت لها فطرتها بلا تكلف مشية الاستحياء التي فقدتها ثم ولجت السيارة...وفي طريقهما إلى بيت الوالدة تحدث محمد مع نوال عن حياته قبل زواجه بسُمية...ومع أنه لم يكن حينها شديد الحرص على أداء واجباته الدينية، إلا أنه كان محافظا وفخورا بقيم الإسلام وهويته...ثم كيف انتكس يوم سافر إلى فرنسا، ووضع قدمه في جامعة السوربون الباريسية...
اعترف لأول مرة قائلا: لقد خُدعت بتلك الترهات، وذهبت بعيدا في معاداة الشريعة، والدعوة إلى السفور والتبرج، بل ونقد أحكام شرعية راسخة في الميراث والأسرة وغيرها...آن الأوان لتعود المياه إلى مجاريها...صحيح أن بعض الرجال بجهلهم وتعصبهم وسوء أخلاقهم وتبنيهم الأعراف الاجتماعية البالية، يهينون المرأة ويحرمون النساء حقوقهنّ، لكن الشريعة لا تأمرهم بذلك، بل تحثهم على تكريمها وضرورة الاعتناء بحقوقها مجتمعة.
نوال: نعم لقد خدعنا الغزو الثقافي، وبتنا مقلدين للغرب في حلوه ومره...خيره وشره...حتى أضحينا مسخا لا مسلمين بقينا ولا غربيين صرنا...
محمد: أريد أن أكفّر عن خطيئتي...أملي أن أنصر ديني وشرعي الذي خذلته وحاربته...حتى إنني بسبب غفلتي وتهوري وحماقتي ظلمت زوجتي سنين عديدة وطلقتها بلا ذنب ولا جريرة.
نوال: سأساعدك وأكون بجانبك...كن في صف المسلمين لا في صفّ أعدائهم...وكما كنت مناضلا عن حقوق المرأة بالباطل...فهذه فرصتك لتكون مناضلا من أجلها بالحق...اشرح للناس أنك كنت مخطئا وبين لهم الصواب...وليكن إرضاء الله غايتك.
نزلت تلك الكلمات كالبلسم على قلب محمد...لقد آن الوقت ليصير داعيا إلى قيم الإسلام النبيلة والعفيفة والطاهرة في موضوع المرأة...فكر هنيهة ثم قال: لقد كان مصدر دائي هو السوربون في باريس...يجب أن أغزوهم في عقر دارهم وأرد عليهم الصاع صاعين...
رفع سماعة الهاتف واتصل بلويس زميل دراسته الفرنسي، الذي أصبح رئيسا لجامعة السوربون.
محمد: مسيو لويس... مساء الخير...أنا محمد ...كيف أخبارك يا صديقي؟
لويس بانتيون: مساء الخير...أين أنت يا محمد! ...اشتقنا إليك كثيرا.
محمد: تعرف مسؤولياتي في الجامعة  وخارجها.
لويس بانتيون: تنتظر جامعتنا استجابتك منذ شهور لـدعوتنا لك لإلقاء سلسلة محاضرات فيها.
محمد: اتصلت بك من أجل هذا الأمر خاصة...أريد أن ألقي السلسة المتفق عليها قريبا جدا.
لويس بانتيون: أخيرا...وافقت...مرحبا بك في جامعتك.
محمد: أشكرك على ترحبيك...نعم وافقت، لكن يوجد بعض التغيير في البرنامج، ستكون سلسلة محاضرات أتناول فيها تكريم الإسلام الـمرأة.
لويس بانتيون: لقد فاجأتني...وهل يكرم الإسلام المرأة؟
محمد: نعم، أنا متيقن من ذلك.
لويس بانتيون: نحن لن نعترض على شيء مما ستقول، فسمعتك العلمية لا يشكك فيها أحد...لكنك تعرفنا، وقد درست هنا، تهمنا المنهجية العلمية في الطرح، والمعلومات الموثقة، والأدلة المقنعة.
محمد: لا تقلق فهذا هو دوري...اعتمد علي في ذلك...الأسبوع الثاني من شهر مارس سأكون عندكم، وسأبدأ بأول محاضرة من السلسلة.
لويس بانتيون: ممتاز، سننتظرك بشغف، أتمنى لك النجاح فيها...دعني أودعك الآن ...مع السلامة.
محمد: أشكرك صديقي العزيز...مع السلامة.
لويس بانتيون: محمد!...محمد!...نسيت... قبل أن تضع الهاتف...هل يمكن أن أعرف عنوان محاضرتك الأولى؟
محمد: بالطبع...سيكون عنوانها: "لا أريد زوجة متبرجة "

تم قراءة المقال 541 مرة