الاثنين 4 ذو الحجة 1432

فلسطين (7) أما عرب الشمال الإفريقي

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

   أمَّا عرب الشمال الإفريقي فهم عربٌ ولا فخر([1])، وواجبهم في إنقاذ فلسطين هو واجبُ جميع العرب مع اعتبار العذر، ولكن... الله لعرب الشمال الإفريقي وما يلقون من ظلم الجار، وبُعد الدار، وعَنَت الاستعمار، يتجاورون مع اليهود في وطن، ولكل منهما في فلسطين هوى ملحّ يصهر الجوانح؛ ولكنّ أحد الفريقين يعلن هواه إلى حد العربدة فيُعذر ولا يعذل، والآخر يُخفي هواه ويخشى أنْ تنمّ عليه نأمة فيناقشُ الحساب.

 

فلسطين (7) أما عرب الشمال الإفريقي

 

 

   يُقيم اليهود معسكرات التدريب، ويُجَهزون سفن التهريب، كلُّ ذلك تَحت سَمْع الاستعمار الفرنسي وبصره، فلا يَجدون منه إلا الأمن والعافية، والأعين الغافية، ولو همَّ العرب بشيء من ذلك أو بأقل القليل منه، لقامت قيامة الاستعمار الفرنسي، واستخرج لكلِّ حركة اسماً مما اشتمل عليه قاموس المحرّمات، ورَبط بكل اسم منها عقوبةً تنصُّ عليها القوانين المدَّخرة لوقت الحاجة.

 

   ويسافر اليهود إلى فلسطين أو إلى حيث يشاءون، لأنهم فرنسيون بالاستلحاق على مذهب الأستاذ "كريميو"([2])، ولا يستطيع العرب أن يجاوزوا الحدود لأنهم "مدجَّنون"، والتدجين من لوازمه تشديد المراقبة، وتغليظ المعاقبة.

 

   ويَجمع اليهود عشرات الملايين باسم فلسطين لتكون في السلْم أدوات تعمير، وفي الحرب آلات تقتيل وتدمير، فلا يَحول بينهم وبين ذلك قانون ولا كانُّون([3])، ولو أراد العرب شيئاً مِن ذلك لوجدوا أمامهم القوانين العائقة، والإجراءات الخانقة.

 

   ويرى الرأي العام الفرنسي المسيطر على هذا الشمال، ومن ورائه الضمير الأوروبي الذي يؤمن به بعض الأغرار منَّا، هذا التفاوت في العمل والمعاملة، فلا يغُضُّ من عنان الحرية لليهود حتى يرجعهم إلى الحد المعقول، ولا يسلسُ للعرب حتى يقفوا مع اليهود في درجة واحدة.

 

   بعضُ الإنصاف يا أصحاب هذه الضمائر المظلمة، فإنَّا لا نسألُكم الإنصاف كلَّه، أتعذرون اليهود في إجلابِهم على فلسطين، وجمعهم الأموال للاستيلاء على فلسطين، وتسليحهم لإخوانهم في فلسطين، ولا تعذرون العرب إذا هم فعلوا مع إخوانهم في فلسطين شيئاً من ذلك؟ أترخِّص حكوماتكم ليهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وتيسِّر لهم سُبلها، وتُبيح لهم خرق القوانين الدولية المسطورة، فإذا حاول العربي شيئاً من ذلك رُدّ وصُدّ؟! وإذا دعا داعي العرب إلى شيء من ذلك عُدَّ مشوِّشاً ومتعصباً وعنصرياً؟! ولا والذي طواكم على هذه الضمائر، ما أرتْنا الحقيقة إلا أنكم أئمة العنصرية وأقطابها، وما أرتْنا التجربة إلا أنَّ كل شعب بنى حياته على العنصرية كانت هي عِلَّة موته.

 

   آمنَّا الآن على بداوتنا بأنَّ العالم المتحضّر قد تَهوَّد، وآمنا بأنَّ السحر الذي أبطله موسى قد أحياه أشياعه ولكن بغير أدواته، أبطله بعصا الخشب، وأحْيوه بِحبال الذهب، وآمنَّا بسفسفة القضايا العقلية التي تُحيل اجتماع الضدين حين رأينا التضاد يجمع طرفيه في دائرة مغناطيسية فإذا هو ممكن... وإذا عقيدتا الصلب لعيسى والتأليه له تجتمعان في هالة من البريق المُعشي للأبصار والبصائر، فكأنَّه لا تأليه ولا صلب.. كلّ ذلك لأنَّه لا ضمير ولا قلب! 

   تعالوا يا أصحاب هذه الضمائر المنفصلة... إلى كلمة سواء بيننا وبين اليهود، تعالوا نقامركم مقامرة لا يقترحها إلا عربي، ولا يُقْدم عليها إلا حُرٌ أبيّ، ولكنَّها مقامرة تفضُّ النزاع الذي أعياكم أمره، وراع العالم شرَّه في لحظة، دعونا من التقسيم فالرقعة ضيِّقة بأهلها، ومن الوطن القومي، فالكلمةُ ضائقة بمعناها، وهلمَّ بنا إلى الحل الناجز، والفصل الحاجز.

 

   احشدوا إلى فلسطين جيشاً من الصهيونيين مِنْ نَبْت الشرق أو غَرْس الغرب، ولا نشترط إلا أنْ يكونوا صهيونيين، ونَكِلُ إليكم عدده، ونَحشد نَحن بإزائه جيشاً من العرب، ولكم علينا أنْ يكون أقلَّ من جيش اليهود عدداً إلى الثلثين، على شريطة واحدة، وهي أن يكون سلاح الفريقين متكافئاً في أنواعه وأصنافه وألوانه، ثُم اضمنوا لنا أنَّ البحر لا يقذِف بِمدد، ونضمن لكم أنَّ الصحراء لا يتسرب منها أحد، ولتبقوا أنتم ويهود العالم وعرب العالم، نظَّارة متفرِّجين لا إعانة ولا إمداد، ولا هجرة ولا جهاد، ثم نُفوِّض إلى الجيشين حلَّ المشكلة بالموت في ميقات يوم معلوم، فإنْ غلب الصهيونيون سلَّمنا في فلسطين، وآمنا بالوطن القومي، وزدنا على ذلك تَحية وسلاماً، وتَهنئة وإكراماً، وإن غلب العرب كان الجُعل متواضعاً يُزيِّنه الرجوع إلى الطبيعة، وهو بقاء فلسطين عربية تُظِلُّ اليهود الأصلاء بالرعاية والحماية، وتُجلي اليهود الدخلاء الذين نَجموا مع قرن الصهيونية، ودخلوا فلسطين باسمها وعلى صوتها ودعوتها.

 

   إنَّها كما ترون مقامرة تنطوي على مغامرة، وإنَّ فيها لكثيراً من المحاباة لليهود، ومع ذلك فقد رضينا ورضي العرب... أقولها وأنا مسلم، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وعربي والعرب هم الذين وضعوا "كلمة الشرف" للعالم وأفهموه معناها.

 

   فإنْ لَمْ تفعلوا ولنْ تفعلوا فاعلموا أنَّ أشنعَ ما يُسجِّله التاريخ تألُّب أممٍ على أمة، وانتصار أقوياء لباطل، وإنَّ أقبح ما تقع عليه العيون جانٍ يتجنَّى وظالمٌ يتظلّم.

 

   ونرجع إلى عرب الشمال الإفريقي.. إنَّ عليهم لفلسطين حقًّا لا تُسقِطه المعاذير، ولا تقِفُ في طريقه القوانين مهما جارت، ومهما كانت فرنسية من ماركة([4]) «خصوصي للمستعمرات»، هذا الحق هو الإمداد بالمال، ومن أعان بالمال فقد قام مِنَ الواجب بأثقل شطريه.

 

   إنَّ فلسطين ليست في حاجة إلى آرائنا، فلها من آراء مدَارِهِ([5]) العرب ما هو كرؤية العين حساً، وكأخذ اليد لمساً، وكفلق الصبح إشراقاً وكشفاً.

 

   وليست في حاجة إلى رجالنا([6])، فلَها من أشبالها ومِمن والاهم عديد الحصى، وما فيهم إلا من يعتقِد أنَّ موته حياة لوطنه، وأنَّ نقصه من عديد قومه زيادة فيهم، ومهما استمدَّ الصهيونيون الرجال مِن أوروبا فأمدَّتْهم بالأخلاط والأنباط والعباديد والرعاديد، من ربائب النعيم، وعُشَّاق الحياة، أمشاج النسب وأمساخ الحضارة، استمدُّوا الجزيرة فأمدّتهم بكل مصداق لقول القائلة:

 

ومخرَّق عنه القميص تَخاله     وسْط البيوت من الحياء سقيما

 

حتى إذا رُفع اللـواء رأيته     تحت اللواء على الخميس زعيما([7])

 

وبكل مصدق لقول الأول: «فأيَّ رجال بادية ترانا»

 

   إنَّ مِمَّا يُرْهب عدوَّك ويَحمله على احترامك أنْ تكون عاقلاً حازماً، وأنْ تكون فعَّالاً لا قوَّالاً، وإنَّ أوجب واجب علينا -نحن العرب الذين ابتُلينا بالاستعمار ووُضِعْنا منه في هذا الوضع الشاذ- أنْ نَلوذ في مثل قضية فلسطين بالعقل يَحمينا من المزالق، وبالحزم يحمينا من التقصير، وأن لا نقول إلا ما نستطيع فِعْله، وقد ارتفعت بعض الأصوات هنا وفي تونس تدعو الأمة العربية إلى غايات لا تَملك وسائلها، وبدرت كلمات عاثرة لم يُملها التدَبُّر، ولم تقوِّمها الحكمة، فكانت نتيجتها الطبيعية احتقار خصومنا لنا واستخفافهم بنا، وكأنَّه لم يكفنا اتِّهامهم لنا بأننا أمَّةُ أقوال، واسترسال مع الخيال، وأنَّ كلامنا جَعْجعة بلا طحن، حتى جئنا نضع في أيديهم الشاهد المحسوس على ذلك، ومن لي بعرب كالعرب، لا يقولون إلا ما يفعلون؟

 

   لا نَستطيع إِمداد فلسطين بالرجال لأنَّه ليس لنا ما لليهود مِن تسهيلات، وليس عندنا ما عندهم مِن اتصالات ومؤسسات، وإنَّما نستطيع أنْ نُمدَّ بالمال، فليعمل العاملون لذلك، وليقفوا جهودهم على ذلك، فإنَّه أيسر علينا وأنفع لفلسطين، وليقُم أهلُ الرأي والثقة بتكوين لجان مركزية في العواصم تتفرّع منها لجان فرعية في الأقاليم، وليُعلنوا عملَهم للأمة، ولتقم الأمة بواجبها، ولتعلم أن الغالي رخيص في سبيل عروبة فلسطين، وأنَّ صوم أسبوع في الشهر، وادّخار نفقته لفلسطين لَمِمَّا يَسْهُلُ على الفقير، وإنَّ هجر الشهوات أسبوعاً من الشهر وإرصاد نفقاته لفلسطين لَمِمَّا يَسهل على الغني، وأنَّ هجر الملاهي المبيدة للمال شهراً كاملاً، ووَقْفُ ما كان يُنفَق فيها على فلسطين لأمر ميسور للغني والفقير معاً، وإنَّ التعفُّف عن كماليات الحياة عاماً كاملاً وشِراء شرف الدهر بقِيَمِها لأمر غيرُ بعيد مِنْ هِمَّة العربي، وإنَّ النور الذي أشرقَ في نفس عثمان بن عفان فخرج من ماله وجهَّز جيش العسرة لغير غريب عن نفس المسلم.

 

ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد!...

 

   أما أنا، كاتب هذه السطور، فوالذي روحي بيده لو كنت أملك ما يملكه العموري([8]) من سخْل، أو ما يملكه البسكري من نَخْل، أو ما يَملكه الفلاح مِن أرض، أو ما يَملكه الحضري من دور ورباع، أو ما يملكه الكانز من وَرِق ووَرَق، لَخرجتُ من ذلك كلِّه في سبيل عروبة فلسطين، ثم لا تَجدُني مع ذلك منَّاناً ولا كنوداً، ولكنَّني أملك مِن هذه الدنيا مكتبة متواضعة هي كل ما يرثه الوارث عني، وإنني أضعُها خالصاً مُخلصاً، بكتبها وخزائنها تَحت تصرّف اللجنة التي تُشكَّل لإمداد فلسطين، ولا أستثني منها إلا نسخةً من المصحف للتلاوة، ونسخة مِن كلٍّ من الصحيحين للدراسة([9]).

 

 

 



[1]/ والأمازيغ أصلهم من حِمْيَر في أكثر أقوال المؤرخين والمحققين؛ فهم على هذا قحاطانيون من العرب العاربة، وهذا معنى قول ابن باديس وهو صنهاجي أمازيغي عن شعب الجزائر أنه إلى العروبة ينتسب (في طريق الإصلاح)

 

[2]/ كريميو صاحب القانون المشهور الذي اعتبر يهود الجزائر جميعا فرنسيين ابتداء من 24 أكتوبر 1870 (في طريق الإصلاح).

 

[3]/ أي ساترون وواقون إذ "الكِنُّ كلُّ شيءٍ وَقَى شئاً فهو كِنُّه وكِنانُه والفعل من ذلك كَنَنْتُ الشيء أَي جعلته في كِنٍّ وكَنَّ الشيءَ يَكُنُّه كَنّاً وكُنوناً وأَكَنَّه وكَنَّنَه ستره" كذا في اللسان (في طريق الإصلاح).

 

[4]/ ماركة : كلمة فرنسية معناها علامة (هامش الآثار)

 

[5]/ "المِدْرَهُ زعيم القوم وخطيبهم والمتكلم عنهم والذي يرجعون إِلى رأْيه والميم زائدة والجمع المَدارِهُ " كذا في اللسان (في طريق الإصلاح).

 

[6]/ ثبت أن كثيرا من الجزائريين تطوعوا في شاركوا في حرب 1948 رغم الحصار الفرنسي، وكتب في ذلك الباحث عبد الغني بلقيروس من جامعة البليدة كتابا سماه "من جهاد الجزائريين بلفسطين"، ومن المجاهدين الذين اشتركوا فيها لزهر شريط من تبسة وشارك في المقاومة التونسية أيضا ثم كان من الأوائل الذي لبوا بناء الجهاد في الجزائر(في طريق الإصلاح)

 

[7]/ الخميس الجيش والعسكر والأبيات منسوبة إلى ليلى بنت عبد الله بن الرحالالأخيلية ت 80هـ(في طريق الإصلاح)

 

[8]/ نسبة إلى منطقة "عمور" بالجزائر المشهورة بتربية الأغنام (هامش الآثار)

 

[9]/ شكلنا اللجنة المركزية في العاصمة (الجزائر) وشرعنا في تشكيل اللجان الفرعية، كل ذلك تحت إشرافي، فجمعت اللجان التي تمكنت من العمل تسعة ملايين من الفرنكات حملها أمناء منا إلى باريس ودفعوها إلى الأستاذ أحمد عبد الخالق ثروت سفير مصر إذ ذاك بفرنسا لقاء إيصالات رسمية ليدفعها إلى الجامعة العربية ، وقد فعل، فقد سألت الأستاذ عبد الرحمن عزام عنها حين قدمت مصر قبل إحدى عشرة سنة فأفادني وصولها ، ولا أدري ما فعل بها ولم يكن من الممكن إرسالها على غير هذه الطريق .

 

أما مكتبتي التي وهبتها لفلسطين، فما كاد الوفد الذي ألفناه لجمع الإعانات يرجع من رحلته الأولى حتى جاءت الأخبار باجتياح اليهود صحراء النقب ووصولهم إلى العقبة، وانهيار الجيوش العربية، إذ كانت لا ترجع إلى قيادة واحدة، وخروج الفلسطنيين من ديارهم حسب ما رسم الإنكليز ووكلوا تنفيذها إلى صنيعتهم بل عبدهم المطيع "عبد الله"، فظهر للجنة أن لا تتسلم المكتبة ولا تتسبب في تشتيتها مثل العرب (هامش الآثار)

تم قراءة المقال 3442 مرة