قيم الموضوع
(10 أصوات)

    الحمد الله والصلاة والسلام على رسول لله أما بعد: فإن لله سبحانه الحكمة البالغة في خلقه وفي شريعته، لم يخلق العباد لعبا ولم يتركهم سدى، ولم يشرع لهم الشرائع عبثا، بل خلقهم لأمر عظيم وهو عبادته سبحانه، وبين لهم الصراط المستقيم، وشرع لهم الشرائع ليحققوا تلك العبادة ويزدادوا بها إيمانا، فما من عبادة شرعها الله تعالى لعباده إلا فيها من الحكم الشيء الكثير علمها من علمها وجهلها من جهلها، وفي هذه المقالة شرح لما تيسر من حكم فرض الصيام وثمراته.

 

49-ثمرات الصوم وحكمه

1-إظهار العبودية لله تعالى

   أول حكم الصيام وأعظمها إظهار العبودية لله تعالى، حيث يترك العبد محبوباته ومشتهياته من طعام وشراب ونكاح، فيظهر صدق إيمانه وكمال عبوديته لله تعالى وقوة محبته له، فإن الإنسان لا يترك شيئا يحبه إلا لأجل ما هو أعظم حبا عنده، ولما علم المؤمن أن رضا الله سبحانه في الصيام بترك شهواته المجبول على محبتها قدم رضا مولاه على ما تريد نفسه وتهواه.

2-تحقيق تقوى الله تعالى

   ومن مقاصد الصوم تحقيق التقوى كما قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). وحقيقة التقوى أن تجعل بينك وبين النار وأسبابها وقاية، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"الصِّيَامُ جُنَّةٌ" (متفق عليه) جنة يستجن بها من النار أي يتقى به النار، وحد التقوى: فعل المأمور وترك المحظور، فإذا كان المؤمن صائما فإنه كلما همّ بمعصية تذكر أنه صائم فيمتنع عنها، وكذلك فإن من أثر الصيام أن مجاري الدم تضيق بسبب الجوع والعطش، وذلك يقلل من نشاط الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولأجل هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري). وقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحتفظ بصومنا ولا نغتاب أحدا.

3-فرصة للتوبة وتجديد العهد

   شهر الصيام موسم التوبة والإنابة إلى الله تعالى، وفرصة لتغيير الحياة والإقلاع عن المعاصي وتجديد العهد مع الله تعالى ، قال ِ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ" (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة)، وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله قلت آمين". (صححه ابن حبان) وإن شهر رمضان فرصة كل مؤمن بجوه الإيماني للإقلاع عن ذنوبه، وإن الله يفرح بتوبته، بل هو يبسط يده بالليل والنهار لمن أراد الأوبة والرجوع، وعليه أن يحقق شروط التوبة حتى تكون مقبولة عند الله تعالى من الإقلاع والندم على ما فات والعزم على أن لا يعود إلى الذنب.

4-الصيام مطهرة من الذنوب

   وقد جعل الله تعالى شهر رمضان محطة للتطهر من الذنوب السابقة فقال النبي  صلى الله عليه وسلم :" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ " (رواه مسلم) وإذا تحقق الإخلاص الكامل فيه كان كفارة لجميع الذنوب كبيرها وصغيرها ، قَالَ ِ صلى الله عليه وسلم :" مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه).

5-الصبر على الطاعة

  من حكم الصوم تعلم خلق الصبر، بل إن رمضان شهر الصبر،  فيه نتعلم الصبر على فعل الطاعة وعلى ترك المعصية، وفيه نصبر على طول الصلاة في قيام الليل فلا نعجز عن الفريضة فيه ولا في غيره، ولأجل ذلك جعل الله تعالى أجر من أخلص فيه أجر الصابرين، فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) (الزمر:10) وقال صلى الله عليه وسلم :" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" (رواه مسلم).

6-اكتساب الحلم ومحاسن الأخلاق

   والصوم مدرسة نتعلم فيه أيضا خلق الحلم والصبر على الناس وترك الغضب قال صلى الله عليه وسلم :" إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ " (متفق عليه). فالصيام يؤدبنا ويحسن أخلاقنا وليس الأمر كما يصوره بعض من لا خلق له وخلاق له.

7-ترويض النفس وضبطها

   ومن ثمرات الصوم التمرن على ضبط النفس والتحكم فيها، واكتساب القوة على الإمساك بزمامها وتوجيهها إلى ما فيه خيرها وسعادتها، فإن النفس ميالة للدنيا وشهواتها وأمارة بالسوء ، وإذا أطلق لها العنان أوقعت صاحبها في المهالك، وإذا ملك زمامها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب وأسنى المطالب. قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات:40-41)

8-كسر الشهوة

   ومن حكم الصيام كسر الشهوة الحيوانية في الإنسان، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:" يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (متفق عليه) فجعل الصوم كالخصاء الذي يقضي على الشهوة ويزيلها.

9-نيل التواضع

   ومن حكم الصوم كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق وتلين للخلق، فإن الشبع والري ومباشرة النساء يحمل كل منها على الأشر والبطر والعلو والتكبر على الخلق وعن الحق.

10-الصوم مدرسة الإخلاص

   الصوم مدرسة نتعلم فيها الإخلاص، والصدق مع الله تعالى ذلك أن الصوم كف وترك ليس فيه عمل يشاهد، وجميع الطاعات الظاهرة ترى وتشاهد إلا الصوم فلا يراه إلا الله عز وجل لأنه عمل يخفى على الناس، ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: "إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" (متفق عليه).

11-بلوغ مرتبة الإحسان

     الصيام يدرب العبد على دوام مراقبة الله تعالى في الأقوال والأعمال ، بحيث يشعر في كل لحظة من يومه بأن الله يراه ، ومن حقق ذلك فقد بلغ مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".

12-تعلم الورع

   وفي شهر الصيام نتعلم الورع وهو الاحتياط في أمر الدين والعبادة، ومنه اجتناب المتشابهات والمكروهات وذرائع الحرام وما هو مختلف فيه بين أهل العلم، فإننا إذا صمنا تركنا مبطلات الصيام، المتفق عليها والمختلف فيها كالحجامة، وما هو ذريعة للإفطار كالمبالغة في الاستنشاق والسباحة والدواء الذي يوضع في العين والأذن.

13-تحقيق الزهد في الدنيا

   وفي شهر الصيام نتعلم أيضا معنى الزهد، إضافة إلى الزهد الواجب وهو الزهد في الحرام ، فإننا نزهد في كثير من المباح بالتقليل من ملاذ الدنيا والإعراض عن زخرفها، فإننا نقلل الطعام ومواعيده ونكثر من الصدقات والقربات.

14-تزكية النفوس

    ومن حكم الصوم أن القلب يتفرغ للفكر والذكر فيزكو بذلك ويلين، لأن تناول الشهوات على الدوام والإكثار منها يستوجب الغفلة، وربما قست القلب وأعمته عن الحق، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتصاد في الطعام والشراب فقال:"مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ" (رواه ابن ماجة والترمذي وصححه). قال الداراني :" إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق وإذا شبعت عمي القلب ". قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

15-شكر النعم ورحمة الفقراء

   في شهر رمضان تزكو النفوس وترق القلوب وترحم الفقراء، فإن الغني يعرف فيه قدر نعمة الله عليه بالغنى ويشعر بحال من حرمها من الناس ، فيحمد الله تعالى على هذه النعمة ويشكره على تيسيرها، ويدفعه ذلك إلى مساعدة إخوانه الفقراء الذين ربما بات أحدهم طاويا جائعا. فتتحرك نفسه نحو الصدقة والإغاثة، ولذلك" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ "(متفق عليه).

16-المنافسة في الخير

    رمضان شهر الجد والاجتهاد والمنافسة في الخيرات وفرصة للتجارة الرابحة مع الله تعالى، وكان بعض السلف يشعرون بهذا المعنى فإذا انقضى رمضان يقولون:"رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ".

17-الصحة والحمية

   وللصيام آثار صحية شهد بها الطب القديم والحديث تحصل بتقليل الطعام وإراحة جهاز الهضم طول النهار، وقد قال الأطباء: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء".

18-الابتلاء الموجب لعظم الجزاء

   ومن أعظم الحكم الابتلاء الذي من نجح فيه نال عظيم الجزاء من نيل رضوان الله ودخول جنته، قَالَ صلى الله عليه وسلم : "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ" (رواه أحمد وصححه الألباني).

وقَالَ صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" (متفق عليه).

قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له دلني على عمل أدخل به الجنة: " عليك بالصوم فإنه لا مثل له " (رواه النسائي وصححه ابن حبان ).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

تم قراءة المقال 14738 مرة