قيم الموضوع
(8 أصوات)

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: أما بعد فإن من قضايا العقيدة المهمة "قضية الرازقية"؛ وهي من أسس الإيمان بربوبية الله تعالى، ومن ثمرات الإيمان بصفاته جل وعلا وأسمائه الحسنى، وقد ظهر في زماننا هذا الخلل الواضح في هذه العقيدة، مما أدى إلى الانحراف البين في سلوك الناس وتصرفاتهم ومعاملاتهم، فأردنا لأجل ذلك إفرادها بمقالة، نختصر فيها أهم ما ينبغي اعتقاده في "الرزق" وأثر ذلك في الأعمال.

  

53-عقيدتنا في الرزق

   فنقول إن الله تعالى هو الرزاق بمعنى هو المتكفل بالرزق خلقا وإيجادا وإيصالا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:58) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سـبأ:39)، ورزقه نوعان ظاهر للأبدان وهو القوت والأطعمة ونحوها، ورزق باطن للقلوب وهو العلوم والمعارف التي بها تحيى، قال الراغب الأصفهاني في قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (المنافقون:10):"أي من المال والجاه والعلم…".

عقيدتنا في الرزق

1-أن المتفرد بالرزق هو الله تعالى وحده   

  من أصول العقيدة الإسلامية الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرزاق لا رازق إلا هو، ومن دونه فهو من الأسباب المخلوقة للرزق والتي تحتاج إلى رزق ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (فاطر:3)، وقال سبحانه: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (الملك:21). وقد يكون وصول الرزق بسبب وبغير سبب ويكون ذلك بطلب وبغير طلب، وقد يرث الإنسان مالا فيدخل في ملكه من غير قصد تملكه وهو من جملة الرزق.

2-عموم رزق الله تعالى للخلق

    ومما ينبغي اعتقاده في الله تعالى أنه يرزق الخلق جميعا كما قال تعالى : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) وأنه يرزق عباده المؤمن والكافر والبر والفاجر الرزق العام المطلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم" (رواه البخاري) وقال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( (الشورى:19).

3-كتابة الرزق وتقديره

    ومما ينبغي اعتقاده أيضا أن الله تعالى قد قدر رزق العباد وكتبه قبل خلق الخليقة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أحدكم  يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد…" (متفق عليه).

4-كمال رزق الله تعالى فهو رازق بلا مؤنة

   ومما ينبغي اعتقاده أن الله تعالى رازق بلا مؤنة أي بلا ثقل ولا كلفة، قال تبارك وتعالى:" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" (رواه مسلم).

5-تعلق رزقه بالمشيئة والحكمة

   ومما ينبغي اعتقاده أن صفة الرزق صفة فعلية متعلقة بمشيئته سبحانه، فالله تعالى يبسط الرزق لهذا اليوم ويضيقه على الآخر، وغدا العكس وذلك حسب مقتضى حكمته سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (الإسراء:30) وقال عز وجل: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى:27) فيعطي العبد امتحانا له كما يمنعه امتحانا، ويعطيه استدراجا له وإقامة للحجة عليه، ويمنعه لعله يتذكر أو يخشى، ويزيد العبد جزاء شكره وينقصه أو يمنعه جزاء كفره.

آثار العقيدة الصحيحة في الرزق

1-عبادة الله محبة وإجلالا

    وإذا علم العبد أن الله تعالى هو من يرزقه على الحقيقة دون سواه عبده حبا وإجلالا وأفرده بذلك ولم يجعل له ندا أو شريكا، قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ:24) فبين أن الرازق هو المستحق للعبادة وقرر أيضا أن العاجر عن الزرق لا يستحق أن يعبد قال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ)  (النحل:73).

2-توحيد الله تعالى في الدعاء

    ومن آثار الإيمان بصفة الرزق الرجوع إلى الله تعالى في طلب الرزق لا إلى النجوم وأصحاب القبور، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت 17).

3-الرجاء والطمع فيما عند الله تعالى

    ومن آثار الإيمان بصفة الرزق أن لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى، وأن يظل متعلقا به طامعا فيما عنده راجيا، سواء في الرزق الدنيوي أو الأخروي وسواء في قوت الأبدان أو قوت القلوب والأرواح.

4-التوكل على الله تعالى

   ومن آثار العقيدة الصحيحة في الرزق أن يتوكل العبد على ربه حق التوكل بحيث يثق فيه ويسند أمر رزقه إليه، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3)، ومن أول لوازم التوكل العملية في باب الرزق عدم ترك الطاعة والعبادة من أجل الرزق، قال تعالى: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة 11).

5-شكر الله تعالى وحمده سبحانه

   وإذا رزقنا رزقا ما فإنه ينبغي علينا أن نشكر نعمة الله وأن نعترف بفضل الله علينا، وأن نعرف قدرها وأن نضعها في موضعها، قال تعالى: (فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال 26)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" (رواه مسلم).

6-الإنفاق وعدم خوف الفقر

   ومن شكر النعمة الإنفاق في سبيل الله بلا خوف، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (سبأ 39) والخوف من الفقر ضعف في الإيمان وهو من أسلحة الشيطان الفتاكة، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268)، والذي يؤمن بأن الله تعالى رزقه أول مرة ويرزقه بسبب وبلا سبب، فإنه لا يبالي أن ينفق مما استخلفه الله تعالى فيه.

7-اجتناب تحديد النسل

    ومما سبق يعلم أن العزل خوفا من الفقر، أو تحديد النسل بحجة الرزق محرم في شرع الله تعالى، قال سبحانه: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (الإسراء:31)، فإنه لا يوجد إنسان يقسم رزقه مع إنسان آخر، وإنما لكل امرئ رزقه الذي كتبه الله تعالى له.

8-الرزق لا يدل على المحبة والرضا

   وإذا علم العبد أن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر فعليه أن لا يزكي نفسه أو يحسن الظن بها إذا ما رأى الله تعالى بسط له في رزقه، وقد قال تعالى عن  الكفار : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سـبأ:35) وقال سبحانه: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون:55-56) وقال عز وجل: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طـه:131).

9-الرضا بقسم الله تعالى بين عباده

    ومن آثار العقيدة الصحيحة في الرزق أن يرضى العبد بما قَسَم الله له في هذه الدنيا، ويُطهّر قلبه من الحسد، لأنه يعلم أن الله عدل لا يظلم العباد، وأنه إن أنقصه ومنعه فلحكمة ومصلحة ترجع إلى العباد، وأنه يعلم أن أعظم رزق هو رزق الآخرة وأن المحروم من حرم يومها، وقد قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32).

10-تحري أسباب الرزق المعنوية

   وإذا علم العبد أن الله تعالى يرزق من يشاء بحسب الحكمة وبحسب ما جعل له من أسباب فإنه لابد عليه أن يتحرى الأسباب الموجبة له، من توكل وشكر وتقوى وتحكيم لشرع الله وإقامة للصلاة واستغفار وصلة للرحم وغير ذلك، (انظر تفصيل هذه الأسباب بأدلتها في المطوية رقم 54)

    وكما أنه على العبد أن يتحرى أسباب الرزق؛ فإنه عليه أن يجتهد في ترك موانعه وأسباب محق بركته، كإظهار المعاصي والفجور، والتعامل بالربا، وقال ابن القيم:" وأربعة تمنع الرزق نوم الصبحة وقلة الصلاة والكسل والخيانة".

11-اجتناب أسباب الرزق الحرام

   ومن لوازم التوكل على الله في الرزق اجتناب أسباب الرزق المحرمة قال صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم" (رواه ابن ماجة وصححه الألباني). فإن من صحت عقيدته في الرزق وتوكل على الله تعالى لم يسلك السبل المحرمة في تحصيله، وما سلك طريق الربا والتحايل عليه، والسرقة والاختلاس والغش والرشوة والاحتكار وجحد الأمانة واستغلال أموال الناس دون إذنهم إلا من كان في عقيدته في الرزق خلل كبير.

    نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم قراءة المقال 8911 مرة