الأحد 16 ذو القعدة 1431

حرب تحرير الجزائر جهاد إسلامي لا ثورة إشتراكية

كتبه 
قيم الموضوع
(7 أصوات)

حرب تحرير الجزائر جهاد إسلامي لا ثورة إشتراكية

 

   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين أما بعد: فإن من القضايا الجديرة بالاهتمام في تاريخ بلادنا البعد الإيماني لحربها التحريرية، والخلفية العقدية لنضالها ضد المستعمر الصليبي، وآثار التأييد الرباني للمجاهدين في أرض القتال، وهذا أمر قد تجلى في شهادات أكثر المجاهدين الصادقين وفي كتابات المؤرخين المنصفين، وإن لم يرض به بعض من أراد تحريف ذلك النضال والقتال عن مقاصده التي رمى إليها صانعوه الأولون.

الجهاد حقيقة يقررها المجاهدون المؤمنون والمؤرخون المأمونون

إن حرب التحرير كانت جهادا إسلاميا وحربا عقائدية هذه حقيقة يقررها المجاهدون المؤمنون والمؤرخون المأمونون، فمن شهادات المجاهدين الميدانيين قول أحد أبناء الأوراس الأشم:"إن الفرق بين الثورة الجزائرية وغيرها من ثورات العالم المعاصر أنها ثورة شعب مؤمن له مقوماته الدينية التي تميزه عن غيره من شعوب العالم الأخرى، إنها ثورة دينية روحية استهدفت أغراضا تخدم الدين والوطن في الحياة الدنيا،

حرب تحرير الجزائر جهاد إسلامي لا ثورة إشتراكية

 

ورمت إلى تحقيق أهداف نبيلة في الحياة الأخرى هي نيل الشهادة التي تطهر أصحابها من الذنوب والمعاصي ولقاء الله طمعا في رحمته. أما ثورات العالم المعاصر فهي تنظيمات ترمي على تحقيق أهداف دنيوية بحتة تخلو من البعد الروحي الديني، وتفتقر إلى الخيط الذهني الذي يربطها بالله ربطا يراعي المصلحة العامة في الدنيا تماما كما يراعي متطلبات الحياة الآخرة. لقد كان مما نجحت الثورة الجزائرية منذ البدء في تكوينه أنها أوجدت مجتمعا ربانيا عابدا همه إعلاء كلمة الله بالصدق في العقيدة والعبادة والعدالة في المعاملات بين أفراده المجاهدين، من هنا كانت الفيوضات الإلهية التي يختص الله بها من يشاء من عبادة المؤمنين"([1]).

   ومن الشهادات أيضا قول أحد أبناء جرجرة الشامخة"إن المجاهدين الجزائريين وخاصة منهم الأوائل قد فلسفوا الثورة وفهموها فهما عميقا صحيحا، فهموها تلبية لأصوات القرون الأربعة عشر من التاريخ المشرق بأضواء الجهاد والفتوحات المحررة، فهموها بذلا للروح في ميدان الشرف قربانا لله عز وجل، فهموها موتا من أجل حياة وفناء من أجل بقاء وشقاء من أجل سعادة وثباتا من أجل تمكين ، فهم في حمى هذه الروح وهذه العقيدة وهذه القوة يهاجمون الجيوش الجرارة ولا يخشون ويقتحمون الخطر الداهم ولا يبالون ويسقطون في ميدان الشرف وهم يبتسمون"([2]).

    وبعد شهادة المجاهدين نذكر من كلام المؤرخين شهادة الدكتور يحيى بوعزيز رحمه الله وهو يصف خصائص ثورة نوفمبر:"وهي قبل هذا وبعده ثورة الجهاد والإسلام ، اعتمد فيها المخططون والمقاتلون الحافز الديني الإسلامي لحفز الناس وحشدهم على الجهاد والمقاومة والاستبسال، ولتوحيد كلمتهم ضد عدو واحد شرس وطاغ متجبر ومذل لهم ولعقيدتهم الدينية الإسلامية، وبالتأكيد لولا الدين الإسلامي ما كان للجزائريين أن يصنعوا تلك المعجزات، لقد كانت كلمة الله أكبر بمثابة السحر والإلهام للمقاومين الذين سموا بالمجاهدين لنفس الغرض ، وبواسطتها يقتحمون المعارك الكبرى، ويستقبلون الشهادة بابتسام، ويضحون بمصيرهم ومصير عائلاتهم وأملاكهم عن رضا وطواعية، لقد كان الدفاع عن الإسلام هو الهدف الأول للمجاهدين قبل فكرة الدفاع عن الوطن والحرية، ولو أنها جزء منه على أي حال"([3]).

   ويقول أيضا :"ولقد عشت كغيري من أبناء جيلي هذه الثورة كشاهد عيان، وعايشت أحداثها عن قرب داخل الجزائر وخارجها، وحظيت باللقاء والجلوس والتحادث والتحاور مع عدد كبير من قادتها العسكريين والسياسيين، وتجولت في الجزائر كلها من مغنية غربا إلى القالة شرقا، ومن البحر شمالا إلى تامنغست جنوبا، وحاورت المئات من المجاهدين الذين حملوا السلاح وعاشوا في الجبال وكتبت لهم الحياة لما بعد 1962م، وأجريت شبه استفتاء معهم، وكان السؤال التقليدي الذي أطرحه على كل واحد منهم هو لماذا حملت البندقية وصعدت إلى الجبل؟ فكان جواب الجميع:"من أجل الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ثم يعطفون على ذلك: طرد الاستعمار والحصول على الاستقلال والحرية "وهذا حتى مع الطلبة الجامعيين وكار المثقفين من ذوي الثقافة الغربية الذين قاطعوا الجامعات والمؤسسات والإدارات الاستعمارية"([4]).

    إن هذه الحرب كان حقا حربا عقائدية بين المسلمين والنصارى، وليس فقط بين الجزائريين والفرنسيين، وهذه الحقيقة كما وعاها المثقفون قد عاشها غيرهم من عامة الجزائريين وانطبعت بها نفوسهم وجرت بها ألسنتهم، وكم تعجبني كلمات كثير من كبار السن من الأميين عندما يعبرون عن الفرنسيين ومدة وجودهم فيقولون بالعامية:"النصارى" و"دولة النصارى"، لأنها تعبير بلغة شرعية عن حقيقة تاريخية يريد من رضع لبن فرنسا محوها وطمسها.

الجهاد حقيقة لا يرفضها إلا شيوعي أو علماني

    وإنه لا يخفى تسلل العناصر الشيوعية والعلمانية في دواليب قيادات الثورة قبل الاستقلال وتحكمهم في زمام الأمور بعدها، لذلك تجد كثير منهم يزعجه أن يسمى قتاله للفرنسيين جهادا والمقاتلون مجاهدين، بل يصر على كلمة ثورة وثوار ومحاربين، ويبدل كلمة شهيد بشهيد الوطن لأن الشهيد هو من قتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون شرع الله تعالى هو المهمين.

   ويؤكد هذا المعنى أعني رفض هذه المصطلحات ذات الدلالات الإسلامية المؤرخ محمد العربي الزبيري بقوله:"ولقد أثبت التاريخ منذ اللحظات الأولى التي وقع فيها العدوان الفرنسي على الجزائر أن الإسلام وحده هو القادر على تجنيد الطاقات الشعبية في وجه القوات الاستعمارية.‏ وعلى الرغم من تنكر بعض قادة الثورة للدور الأساسي الذي أداه الإسلام في جعل الجزائريات والجزائريين يستجيبون لنداء نوفمبر ويتفاعلون مع مخططات جبهة التحرير الوطني طيلة كل الفترة التي استغرقها الكفاح المسلح، فإن الحقيقة التاريخية تدل بما لا يدع أي مجال للشك، على أن الإسلام ظل دائماً هو القلب النابض للثورة، وأن مفاهيمه ومصطلحاته هي التي دفعت المواطنات والمواطنين إلى التضحية القصوى. لأجل ذلك فإن من الخطأ الفادح أن يقدم منظرون يجهلون واقع الشعب الجزائري وتاريخه ولا يعرفون من الإسلام سوى الاسم للثورة التي عرفت كيف تعيد للجهاد وظيفته"([5]).‏

   ويقص أحد المجاهدين في الجنوب الغربي للجزائر في الصحراء أنه جاءهم مراقب يتفقد عناصر الجيش الذين كانوا تحت مسؤليته فقال له ما هو الشعار الذي يتعلمه المجاهدون معك ؟ فقلت له : إن هؤلاء المجاهدين يعتقدون ويرددون بأنهم التحفوا بالثورة باسم الجهاد في سبيل الله فقال المراقب : بل علمهم أنهم يجاهدون في سبيل الوطن ، فلما سمع المجاهدون بهذا الخبر فما كان منهم إلا أن رموا بنادقهم وقالوا بصوت واحد:" إما أن نقاتل العدو باسم الجهاد في سبيل الله وإما رجعنا من حيث أتينا"([6]).

   وقد حكى لي المجاهد أحمد قادري رحمه الله –مسؤول الأوقاف في الولاية الثالثة-مشادة كلامية دونها جرت بينه وبين أحد ضباط الجيش آنذاك حول كلمة الجهاد التي رفضها رفضا قاطعا بناء على توجهه الفكري المنحرف، ومما هو مأثور أن العقيد عميروش ثار على أحد الأطباء في الجبل لما كتب عبارة "محاربي جيش التحرير الوطني" بدل "مجاهدي جيش التحرير الوطني" واعتقد أنه شيوعي وهو إنما كتبها من غير قصد ولكن عميروش لم يسمح بمثل هذا الخطأ اللفظي الذي له مدلوله، ([7]). ولكن هؤلاء كانوا أقل من القليل في صفوف حاملي السلاح ضد المستعمرين، ولا نسبة لهم تعد في الشعب الجزائري، وبحكم كونهم من المثقفين فقد كانوا يناضلون في الجانب الإعلامي والسياسي، ولذلك كان لهم الأثر البارز في تحريف المسار وفي وضع المبادئ والأفكار التي لا يؤمن بها الشعب الجزائري المسلم، فوضعوا بصماتهم في وثيقة مؤتمر الصومام وفي جميع وثائق الثورة بعد ذلك([8]).

   وإن قيادة الولاية الأولى (الأوراس) التي رفضت مؤتمر الصومام لأجل لغته وكثير من أفكاره، قد ثبت عنها لما كلفت أحدهم بكتابة منشور يبشر بالثورة في الجنوب كتبه بلغة شيوعية وبناه على الدفاع عن الطبقة الكادحة فرفض وكُلف شخص آخر بصياغته فقال:"فما كان مني إلا أن ركزت في صوغه على الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ، وجوب طرد الاستعمار والعمل على إقامة الدولة الجزائرية في إطار المبادئ الإسلامية مهما كانت التضحيات"، وبعد أن اطلع عليه القادة ودرسوا ما فيه من أفكار ومعاني نال إعجابهم وأمروا بنسخه ونشره([9]).

الحرب جهاد لكن لما أراده ونواه

   لقد كان القتال ضد الفرنسيين جهادا لكن بالنسبة لمن أراده ونواه وعلم فضله وفضل الشهادة في سبيل الله، فكان شعاره في الميدان القتال حتى النصر أو الشهادة، وكان يطلق رصاصه مدويا مصحوبا بصيحات "الله أكبر" التي كانت ترعب العدو أكثر من صوت الرصاص، وكان جهادا لمن لم ينس ربه وحقه ووعده، فلا يزال رافعا يديه إلى السماء يسأل ربه النصر والتأييد.

   وأما من يرفض أن يسميه جهادا وينكر أن يكون للإسلام أي دور في الحرب التحريرية، وزيادة على ذلك ربما لم يطلق رصاصة واحدة صوب العدو فهذا له ما أراد. "وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".

   إنه جهاد بالنسبة لـأولئك الذين كان أحدهم يقول وهو في سكرات الموت وهو يحتضر بعدما أصيب في معارك الكرامة :" إنني الآن أموت قرير العين غير آسف على شيء فالجنة أمامي والنصر ورائي"، ويقول آخر:" بعد لحظات ستنفلت روحي من هذا الوجود وتلتحق بربها، ولا شيء يؤسفني لأني أموت في سبيل الله"([10]).

   هؤلاء المجاهدون هم من كان يقسم عند التحاقه بإخوانه في الجبال على المصحف الشريف بأن يقاتل حتى النصر أو الشهادة([11]). وهم من كانوا يقفون في خشوع كبير لذي الجلال لأداء الصلاة فرادى وجماعات، يقول الشيخ محمد الصالح الصديق:"والمجاهدون في الصلاة الجماعية يتميزون عن غيرهم فيها بأن محاذاتهم للموت في كل وقت يجعلهم يشعرون بأنهم على الأهبة في كل لحظة، ومن هنا فهم في ساعة التجلي التي لا يشعرون فيها إلا بجلال الله وعظمته"([12]).

الفرنسيون يؤكدون أنها حرب الهلال والصليب

    إن حرب التحرير كانت جهادا، لأنها كانت ضد الاستدمار الفرنسي الذي كان استمرارا للحروب الصليبية، وهذا باعتراف الفرنسيين إبان الاحتلال وأثناءه وبعد الاستقلال، فإن المستدمر الصليبي كانت نيته يوم زحف على الجزائر كبح المد الإسلامي وإيقاف الفتوحات الإسلامية، وهذه الحقيقة ظهرت في تصريح رئيس الوزراء الفرنسي "دي بولينياك" بعد احتلال الجزائر حيث قال:" إن كان للصراع الذي أوشك أن يبدأ نتيجة هامة؛ فهي التي ينبغي أن تسجل لصالح النصرانية".

   وقال القس الذي رافق الحملة الفرنسية على الجزائر في أول صلاة لهم في جامع كتشاوة بعد تحويله إلى كنيسة :"إنكم جئتم معنا إلى هنا لتفتحوا من جديد أبواب النصرانية في إفريقيا"([13]).

    وقال سكرتير الحاكم الفرنسي للجزائر في عام 1932:" إن آخر أيام الإسلام قد دنت وفي خلال عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح"([14]).

   وكذلك أثناء الاحتلال فإن الفرنسيين أقاموا احتفالات في الذكرى المائة لاحتلال الجزائر، وصرح رئيس جمهورية فرنسا آنذاك أن القصد من هذه الاحتفالات:"تشييع جنازة الإسلام في الجزائر"([15]).

    وظهر ذلك بعد الاستقلال أيضا على لسان أحد كبار المستشرقين الفرنسيين في محاضرة ألقاها في مدريد بعد استقلال الجزائر عنوانها (لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر)، حيث قال فيها ما ملخصه:"إننا لم نكن لنسخر مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها أو زيتونها، إننا كما نعتبر أنفسنا سور أوروبا الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط، ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها، وليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة بواتيه جديدة ينتصرون فيها، ويكتسحون أوروبا الواهنة، ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه أثناء حلم الأمويين بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة، من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر"([16]).

فتاوى الجهاد وقود الحرب

    إن حرب الجزائر كانت جهادا والمحاربين كانوا مجاهدين لأنهم استجابوا لنداءات الأئمة والعلماء الذين أفتوهم بوجوب الإلتحاق بصفوف الثوار وأن ساعة الحق قد آنت، وأن موتهم في سبيل الله هو وصولهم إلى الحياة الحقيقة الأبدية، وأن قتالهم للعدو لا خسارة فيه فإما نصر وإما شهادة، ولقد كان من تلك الفتاوى ما سطر بالقول والحبر ومنها ما سطر بالعمل والدماء والسبق إلى ميدان الشرف، ومن تلك الفتاوى التي سجلت بالحبر فبقيت شاهدة على الحق مجلية للحقائق بيان الشيخ البشير الإبراهيمي والفضيل الوتيلاني الصادر في الثاني من نوفمبر والذي جاء فيه:" فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الذي لو قسمت فرائضه لكان للجزائر منه حظان بالفرض والتعصيب واهتزت النفوس طربا لهذه البداية التي سيكون لها ما بعدها"([17]). وكذا البيان الصادر في اليوم التالي الذي تضمن فتوى صريحة بوجوب الجهاد حيث جاء في آخره:" اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليوم واجبا عاما مقدسا فرضه عليكم دينكم، وفرضته عليكم قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرا مصلحة بقائكم لأنكم اليوم أمام أمرين: إما حياة أو موت، إما بقاء كريم أو فناء شريف"([18]).

وعظ وتذكير في قلب المعركة

   ولا يغفل دور العلماء والأئمة والوعاظ وأهل اللغة والبيان الذين كانوا في صفوف الجيش ومع بقية الشعب، يثبتون القلوب ويرفعون الهمم ويبشرون بالفلاح، فبكلماتهم تتجدد العزائم وبتذكيرهم تسمو النفوس وتشرئب نحو المعالي في ثبات غير مبالية بالصعاب وبالبلاء الذي يصيبها في ذات الله عز وجل.

   فمنذ اندلاع الحرب وإعلان الجهاد اتجه المجاهدون نحو الجماهير يخاطبونها باللغة العربية دون سواها ويشحذون عزيمته وروحه الجهادية بواسطة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فكان الاتصال بالشعب مباشرا مستمرا من طرف مسؤولي الثورة من سياسيين وعسكريين وقضاة، وكان التذكير بواجب الجهاد ضد الغزاة المحتلين متواصلا حتى تحررت الجزائر([19]).

   ومن هؤلاء المجاهدين الذين كانوا في الميدان يقومون بهذه المهمة الشيخ محمد الصالح الصديق الذي يحكي لنا هذا المشهد المؤثر:"وإن كنت أنسى فلن أنسى ما دمت حيا اجتماع المجاهدين في قرية (تبودوشت) ببني جناد (قرب أزفون) ليلة السابع عشر من رمضان سنة 1955م وكانوا مختلفين سنا وزيا وسلاحا، ولا أكتم الحقيقة أني فكرت طويلا في هؤلاء الذين أقدموا على مواجهة قوة من أعظم القوى في العالم، وعزموا على مقارعة جيوش وفيالق يزحم بها الفضاء، ويضيق بها بساط الغبراء، أليسوا مجرد مغامرين يستحثون خطاهم إلى الموت؟ ولكن ما لبثت أن تذكرت فإذا أنا يقظ مبصر تذكرت صنائع الإيمان والعقيدة، وتذكرت أبطال التاريخ الإسلامي الذين صنعوا مجد الأمة بإيمانهم وعزمهم وبطولتهم .

   فالعقيدة الصحيحة هي التي فتحت على المؤمنين الأولين ذلك الملك الواسع وصنعت من إيوان كسرى مجدا لسعد بن أبي وقاص، وتمخضت هذه المعاني في نفسي ، وتصورت كل مجاهد أمام عيني قد تقمص روح خالد أو طارق، وعندما أنهيت كلمتي فيهم كبروا في لهجة صادقة ، وجملة "الله أكبر"تضمنت سر الاعتقاد وسر الجهاد وسر الفداء وسر النصر والتمكين.

   وتضاءلت أمامهم عندما انبرى للحديث أحدهم وهو في السبعين من العمر يدعى (عمي علي) ذو لحية كثيفة بيضاء تطل من عينيه شرارة العزم والحماسة، أمنيته الوحيدة منذ زمن طويل أن يمتد به الأجل حتى تندلع الثورة فينتظم في صفوف المجاهدين، وقال في إصرار وتصميم ما مؤداه باللغة الفصيحة :"إننا قد عاهدنا الله أن نواصل جهادنا حتى نحرر الجزائر أو نفوز بالشهادة"([20]).

عقيدة في القلوب ومصاحف في الجيوب

    ومن الأمور المأثورة عن المجاهدين والمؤثرة في النفوس أخبار اصطحابهم للمصحف الشريف لتلاوة القرآن الكريم الذي كان يعتبر زادا تتقوت به القلوب وتتزود به النفوس وتتقوى به الأبدان، لمواجهة العدو بثبات في الميدان، ويزداد الأمر تأثيرا إذا تعلق الأمر بأحد المجاهدين الكبار أو شهيد من الشهداء الأبرار.

    ومن هؤلاء العقيد عميروش رحمه الله تعالى الذي استشهد وهو يحمل في جيبه المصحف الشريف([21])، ولعله يكون المصحف الذي أرسله إليه الشيخ العربي التبسي حين طلب منه أن يكتب له وصية يعمل بها في الجهاد.

    ومن هؤلاء ذاك المجاهد البطل الذي تحصن في مكان منيع بين الصخور في كمين نصبه المجاهدون لقوات الاحتلال بالقرب من ذراع الميزان، وما إن بدأ إطلاق النار حتى أخذ يرسل نيران رشاشه بمهارة فائقة ، لا يطلق رصاصة إلا حين يستيقن أنها قاتلة، كان من حين إلى آخر يطلق بحنجرته القوية تكبيرة تخترق الفضاء وتردد صداها الجبال فتنخلع لها القلوب الضعيفة وتستأنس بها القلوب العامرة بالإيمان وتلهب مشاعرها وتدفع أصحابها إلى الأمام غير مبالين بما يصيبهم، ولم تمض ساعة من الزمن حتى أقلق جنود الاحتلال وأحدث فيهم حيرة وبلبلة ، وصارت قذائف المدفعية جلها مصوبة إلى الصخور التي تحصن بها، فأصابته شظية قنبلة تطايرت من خلفه فسقط شهيدا بعد مقاومة ضارية وبعد أن أحدث في العدو مجزرة رهيبة.

    أخيرا بلغه الله مناه وهو الذي كان كلما خرج إلى معركة من المعارك قال لإخوانه في لهجة الجاد الذي لا يمازح من كان له شهيد في الجنة يريد أن يوصي إليه بشيء، فأنا إلى الجنة اليوم ذاهب ، وعندما يعود من المعركة يبدي تأففا وأسفا لتخلفه عن قافلة الشهداء.

   وعندما انتهت المعركة وانسحب المجاهدون وساد السكون صعد ضابط فرنسي مع بقايا جنوده إلى مربض الأسد الهصور وهناك وجدوا ما أذهلهم وأثر في نفوسهم ، فبعدما وجدوا جثته ممزقة صب عليه قائدهم وابلا من الشتائم قبل أن يستخرج من قلنسوة "قشابيته" مصحفا صغيرا وقطعة من خبز الشعير، تأمل الضابط ما في يده مليا ثم أخذ المصحف وفتحه ونظر في صفحات منه، ثم أخذ قطعة الخبر يحاول كسرها بأسنانه ليتعرف مدى قدمها ويبوستها، ثم التفت إلى جنوده وقال لهم:"تعلموا هذه الحقيقة: إن المدافع والقنابل قد تقضي على الأشخاص كما قضت على هذا الرجل ولكمها لا تقضي على العقيدة والإيمان". ولشدة تأثير المشهد والكلمة التي قالها القائد تفطر قلب راوي القصة-وهو حركي- ندما وأسى فقرر من حينه التوبة إلى ربه والالتحاق بصفوف المجاهدين([22]).

   هذه مجموعة خواطر متناثرة جمعتها في عجالة لخدمة الفكرة التي جعلتها عنوانا لهذه المقالة وحرصت على توثيقها من مصادرها عسى أن ينفع الله تعالى بها، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والصدق والوفاء، وأن ينشر في أمتنا الأمن والود والإخاء، وأن ينفي عنها تآمر وكيد الأعداء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 



[1] / الحياة الروحية في الثورة الجزائرية لمحمد زروال (70).

[2] / صفحات من جهاد الجزائر لمحمد الصالح الصديق (56).

[3] / موضوعات وقضايا من تاريخ الجزائر والعرب (2/152).

[4] / موضوعات وقضايا من تاريخ الجزائر والعرب (2/492-493).

[5] / تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962) لمحمد العربي الزبيري (2/179-180) ومن هؤلاء القادة الذين أشار إليهم بوضياف ، ومن الكتاب الذين صرحوا بأن حرب التحرير لم تكن جهادا جودي أتومي في كتابه العقيد عميروش أمام مفترق الطرق (187).

[6] / المجاهد راوي القصة هو محمد لحمر المدعو عبد الجبار كما في مقال البعد الروحي واثره في نجاح ثورة النار والنور خلال ثورة نوفمبر المباركة ، لأحمد تواقين ، أعمال الملتقى الوطني الثاني حول البعد الروحي في ثورة التحرير المباركة (191) .

[7] / انظر الثورة في الولاية الثالثة ليحيى بوعزيز (321)، هذا وإننا نجد في صفوف الثوار من المقاتلين والسياسيين بعض الشيوعيين المتورطين في الأزمة البربرية (1949) الذين اعتبروا الصراع بين الإسلام والنصرانية في الجزائر صراعا بين مستعمر ومستعمر !!! انظر نداء الحق لمحمد عباس (153).

[8] / يقول المجاهد العميد عمار بن عودة وهو ينتقد وثيقة الصومام :" وتحفظنا كذلك على مبدأ العلمانية، وكان رأينا أن هذه المسألة سابقة لأوانها، فكيف ندعو الناس على الثورة باسم الجهاد ونرفع راية العلمانية في آن واحد؟!" انظر ثوار عظماء لمحمد عباس (221).

[9] / اللمامشة في الثورة لمحمد زروال (300-301) وانظر أيضا (369).

[10] / صفحات من جهاد الجزائر (163).

[11] / العقيد عميروش أمام مفترق الطرق لجودي أتومي (177-178).

[12] / معجزة شعب لمحمد الصالح الصديق، أعمال الملتقى الوطني الثاني حول البعد الروحي في ثورة التحرير المباركة (64).

[13] / الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي والتربية في الجزائر لرابح تركي (66).

[14] / التعليم القومي والشخصية الجزائرية لرابح تركي (109).

[15] / التعليم القومي والشخصية الجزائرية لرابح تركي (110).

[16] / قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله لجلال العالم (33).

[17] /آثار البشير الإبراهيمي (5/37).

[18] / آثار البشير الإبراهيمي (5/47).

[19] / البعد الديني في التنظيم الاجتماعي والمقاومة إبان الثورة التحريرية لمختار فيلالي أعمال الملتقى الوطني الثاني حول البعد الروحي في ثورة التحرير المباركة (116).

[20] / صفحات من جهاد الجزائر (42-43).

[21] / فرنسا والأطروحة البربرية لأحمد بن نعمان (336).

[22] / صفحات من جهاد الجزائر (145-148) بتصرف .

تم قراءة المقال 16010 مرة