الجمعة 28 صفر 1447

" البدعة أحب إلى إبليس من المعصية" قراءة تحليلية لمدلول النص وسياقه ومجال إعماله.

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

" البدعة أحب إلى إبليس من المعصية"
قراءة تحليلية لمدلول النص وسياقه ومجال إعماله.
هذا النص ليس آية قرآنية ولا حديث نبويا ولا أثرا عن الصحابة وقع الاتفاق عليه ، وإذا لم يكن كذلك فهو ليس وحيا معصوما يجب على المسلمين الإذعان له .
لكنه كلمة حكيمة قالها الإمام سفيان الثوري وهو من أئمة أتباع التابعين الذين يصيبون ويخطئون ويحتج لأقوالهم ولا يحتج بهم، وإذا بحثنا عن حجته، وجدناها منصوصة له حيث قال رحمه الله معللا حكمه :"لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها"، فجنس البدعة حسب رأيه أخطر من جنس المعصية من هذه الحيثية ، لا من كل الجهات . 
ومعنى كلامه أن الواقع في البدعة إنما هو متدين بها يحسبها الهدى أو طريقا إلى رضا الله سبحانه، بينما الواقع في المعصية فهو يعلم أنه في سخط من الله تعالى، لذلك فإن الأول تدعوه نفسه للثبات على بدعته ، وبينما نفس الآخر تلومه عما هو فيه، ولو قدرنا ورود ناصحا إليهما فإن الواقع في البدعة سيشمر للدفاع عن بدعته والاستدلال عليها بما زين له الوقوع فيها ، بينما يحني العاصي رأسه حياء وإقرارا بسوء صنيعه ، وإن أخذته العزة بالإثم بأنه لن يدافع عن المعصية ولكنه إما أن يهاجم الناصح أو يحاول أن يجد لنفسه المسوغات التي ألجأته للمعصية، وأما الدفاع عنها فهو الاستحلال الموجب للكفر الذي لن يجرأ عليه، وهذا أيضا يبين أن العاصي أقرب إلى التوبة من المبتدع.
     وهذه الكلمة بهذا التفسير أقول بهذا التفسير لا شك في صوابها، وهي في المعني قريبة من عبارة :"إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة" (رويت مرفوعة ولا تصح)، ولعل الأسلم أن نفسرها بالقرب من التوبة والبعد عنها ونعبر بذلك، ولا نطلق حكم الحجب أو عدم التوبة بإطلاق كما قال الثوري، لأن الله تعالى هو الهادي الذي يهدي لنوره من يشاء والقلوب بين إصبعيه يقبلها كيف يشاء، ومن هدى صناديد من أهل الكفر لن يعز عليه أن يهدي من وقع في البدعة، وقد تاب من البدع في القديم والحديث أناس لا يحصون عددا والحمد لله رب العالمين.
    ومن الأدلة الشرعية على هذا الكلام قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104] قوله تعالى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [فاطر: 8] فإن قيل هذه الآيات وردت في الشرك والمشركين قيل العبرة بعموم اللفظ ، وجنس البدع ولا سيما الاعتقادية منها آيلة إلى معان شركية أو قريبة منها، فبدعة القدرية مثلا بدعة آيلة للشرك ، فإن من يقول إنه يخلق أفعاله فقد جعل نفسه شريكا لله تعالى في الخلق، ولذلك قيل القدرية مجوس هذه الأمة .
   وبعد النظر في حجة الثوري ومعناها وتقييدها نرجع إلى النص الأول :"البدعة أحب إلى إبليس من المعصية" فهل عدم التوبة أو ضعف احتمال التوبة يجعل المخالفة أحب إلى إبليس ؟ الجواب نعم فالشيطان غايته الاضلال {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] ولا يزال بالعبد حتى وهو في سكرات الموت ، وهنا نذكر بما قلنا أولا في شرح كلمة سفيان وهو أن جنس البدعة أحب إلى إبليس من جنس المعصية الذي يختلف عن القول بأن عموم البدع أحب إلى إبليس من عموم المعاصي ، وهذا معنى باطل لم يقصده سفيان الثوري رحمه الله تعالى وسيأتي شرح علة ذلك.
وخلاصة معنى قوله إلى حد هذا البيان : أن البدعة من حيث بعد صاحبها عن التوبة أحب إلى إبليس من المعصية .
    ثم إننا أمام مصطلح البدعة الذي له مدلول في اللغة ومدلول آخر في الشرع وربما تكون له مدلولات عرفية حسب مقاصد من تحدث بها، فأي المعاني أراد رحمه الله تعالى ؟ لا شك أنه لم يرد المعنى اللغوي الذي هو بمعنى المحدث، وإنما المعنى الشرعي الذي يعني المحدث في الدين الذي يقابل السنة ، وهي المقصودة في قول النبي صلى الله عليه وسلم :"كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ، وهذه البدعة تشمل بدع الأقوال والعقائد وأيضا بدع الأعمال والعبادات ، فأيها قصد الثوري بكلامه ؟ فيقال إن معرفة قصده يكون بمراجعة كلامه ومورد البدعة فيما أثر عنه ، ثم العصر الذي وجد فيه ما هو جنس البدع التي كان يواجهها الثوري رحمه الله ويحذر منها.
فأما إذا نظرنا في كلامه فإننا نجد قوله :"من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه" راوه عنه ابن وضاح في البدع والنهي عنها وأبو نعيم في الحلية، ونجد أيضا قوله :"من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه ولا يلقها في قلوبهم" رواه عنه أبو نعيم في الحلية ، وهذان النصان خاصان ببدع الأقوال والاعتقادات كما هو واضح ، وإذا عدنا إلى عصر أتباع التابعين فإن البدع التي كانت قد ظهرت وجابهها الجهابذة منهم كمالك والثوري وأضرابهم هي بدع الأقوال والاعتقادات أعنى مقالات الجهمية والقدرية والشيعة والخوارج، وأما بدع الأعمال فكانت قليلة ولم تأخذ في ذلك العصر طابع العموم ، وإنما عمت مع ضعف الفقه الإسلامي وانعزال طائفة العباد والزهاد وتميزهم عن الفقهاء والمحدثين ، مما جعلهم يقعون في محدثات من العبادات غير متقيدة بمروايات السنة وضوابط الفقهاء .
   وإذا حكما السياق التاريخي لهذا النص نفهم كلمة الثوري على هذا النحو البدعة الاعتقادية من حيث بعد صاحبها عن التوبة أحب إلى إبليس من المعصية.
تفريع على التحليل
    وهذا النص سواء خصص بالبدع الاعتقادية التي لا شك في دخولها فيه أو حمل على عموم البدع باعتبار معنى البعد عن التوبة ، فإن العلماء يسوقونه في مضمار التحذير من البدع والزجر عن التلبس بها ، وليس مساق عقد المقارنات بين آحاد البدع وآحاد المعاصي على سبيل العموم .
    ومن شرد ذهنه على هذا المعنى الأخير ولم يراع حيثية المقارنة ولا السياق التاريخي ربما وقع في شناعات من الأقوال ، وخاصة إذا أدخل في البدعة البدعة العملية سواء كانت حقيقية أو إضافية، وسواء كانت متفقا على بدعيتها أو مختلفا فيها ، فقد تجد بعض العامة وأشباههم من يجعل القراءة الجماعية للقرآن (وهي محل خلاف عند المتأخرين) أو استعمال السبحة في الذكر بقصد العد (وهي مباحة على الراجح) بدعة أشر وأشنع وأحب إلى إبليس من شرب الخمر الذي هو أم الخبائث ومن قتل النفس الذي هو أعظم ذنب بعد الشرك بالله تعالى.
    وإذا سألتهم عن دليلهم على زعمه هذا يتلوا عليك كلام الثوري تلاوة من يتلو القرآن إلا أنه لا يجوده ، معتقدا قطعية دلالته وحجيته وما هو إلا كلام بشر يصيب ويخطئ ، وقد رأينا مدلول كلامه وحاجته إلى التقييد وأنه خاص ببدع الاعتقاد ولو سلمنا شموله لبدع الأعمال فكون جنس البدعة أخطر، لا يستلزم أن كل بدعة أخطر من كل معصية ، اللهم إلا إذا كان فعلهما واحدا أعنى أن فعل المبتدع والعاصي واحدا ، فالقتل فعل واحد لكن قتل الخارجي للمسلم أخطر من قتل قاطع الطريق له، واستعمال آلات الطرب واحد لكن يزعم التقرب بها إلى الله أبعد منه من الذي يلهو بها لهوا مجردا.
    هذا على سبيل التنزل وإلا فإن الترجيح بين آحاد البدع وآحاد المعاصي مرجعه إلى النظر المقاصدي الذي لا تراعى فيه حيثية واحدة وهي جهة الفاعل كما في قول الثوري ولكن تراعى فيه حيثيات أخرى منها ما يتعلق بالمآلات والأثر على الناس والمجتمع، ومنها ما يتعلق بدرجات المفاسد، من جهة ما يترتب على الفعل من إخلال بمقاصد الشارع أهو الإخلال بالضروريات أم الحاجيات أم التحسينيات، وإذا كان في جميعها إخلال بالضروريات فينظر في ترتيب الضروريات وهكذا. فأمر الموازنة أمر علمي دقيق ولا يتم بمثل هذا العبث الذي يتجرأ عليه العوام وأشباههم في عصر شيوع القلم وانتشار الجهل.
    وإن من أشر البدع في دين الله تعالى بدعة تحكيم الرجال واعتقاد عصمتهم وتنزيل كلامهم منزلة القرآن حيث يحتج به من غير نظر في مخالفته وموافقته ، وفي هذا العصر شاعت هذه البدعة مكتسية ثوب السنة فانطلت على كثير من الناس، حيث استخرجت آثار للسلف كان تساق مساق الوعظ والاستئناس وصارت تسوق على أنها قواعد السنة فتوضع في غير محلها لتهدم أصولا قطعية ثابتة ، ومن تلك الآثار قول ابن المبارك : "من خفيت علينا بدعته لم تخف علينا ألفته"، الذي نقل من سياقه بعيدا عن مراد صاحبه بنفس الطريقة ، واستعمل في هدم أصل حسن الظن بالمسلم المعروف باستقامته، وفتح به الباب للتجسس وتتبع العورات ، ولإلقاء التهم بالظنون الكاذبة ثم الوشايات المغرضة التي تتضمن استباحة ما هو أكثر من عرض المسلم نسأل الله العفو والعافية والهداية والتوفيق.

تم قراءة المقال 48 مرة