وهذا الدرس يجتمع فيه الوضوح والخطورة، فهو درس واضح لأنه متعلق بالثبات في الفتن، وما من ناصح خطيب أو كاتب إذا تحدث عن الفتن العامة، والخطوب المدلهمة التي تصيب الأمة، إلا وتجده يأمر بالتثبت والثبات، والحلم والأناة، يأمر بالثبات على الحقّ ولزوم غرز العلماء، وعدم الميل مع العواطف والشبهات.
وهو درس خطير؛ لأنه متعلق بالدعاة من خطباء ووعاظ وطلبة علم، الدعاة الذين ينبغي أن يكونوا أول من يمتثل هذه النصيحة، لأن حاجة الأمة إلى ثباتهم أكثر من حاجتها إلى ثبات غيرهم، واضطراب الواحد منهم أو انحرافه يقود إلى اضطراب أمة من الناس تقتدي به أو انحرافها، وقد قيل: "زلة العالِم زلة العالَم".
ولا يعقل أن نطلب من عامة الناس -مع ضعف علمهم وزادهم- أن يتحلوا بالثبات، وهم يرون أهل القدوة من أبناء الصحوة يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، وتتجارى بهم الآراء التي لم يكونوا يعرفونها من قبل.
ولا يعقل أن نلوم العامة -وهم أهل للعذر بجهلهم وعدم من يرشدهم- وكثير منهم إنما يزل ويضل لزلل غيره وضلاله ممن عرف الحق وأسبابه وطرق تحصيله.
إن الفتن التي تأتي كالعواصف فتلعب بالعواطف، وتتسارع فيها الخطوب فتضعف أمامها القلوب، ويصبح الحليم فيها حيران لا تستثني الخاصة من تأثيرها، ولا تعفي المنتسبين إلى العلم من سحرها؛ فترى فيهم الصريع والغريق، ومن رمته الرياح في واد سحيق.
كثير من الدعاة تحت تأثير العاطفة أو الجماهير أو حرب نفسية يغير موقفه في مسائل شرعية، كانت عنده قبل حدوث الفتنة قطعية، يغير موقفه ولا أقول اجتهاده لأن تغير الرأي لم يكن بناء على اجتهاد ونظر في الأدلة، بل بفعل أمر خارج عنها؛ وذلك أن الأدلة هي هي لم تتغير، ومعارفه ووسائل فهمه لا يمكن أن تتطور بين عشية وضحاها، ولست أنكر أن يغير العالم أو طالب العلم رأيه في المسائل التي كانت عنده اجتهادية تقاربت فيها المآخذ عنده، ولكن الذي أنكره وأستغربه أن يترك ما كان يعتقده قطعيا إلى ضده قبل أن يتحول إلى اعتباره اجتهاديا، بل إن منهم من ينتقل من القول بقطعية تحريم أمر ما إلى القول بقطعية جوازه أو وجوبه، ومعنى القطعية هنا أن الرأي المخالف لا حظ له من النظر، وأن من ذهب إليه يجب أن ينكر عليه.
وكم رأينا من هذا الصنف أناسا في فتنة الدماء بالجزائر، كانوا في بداية ظهور الأحزاب يَغلُون في القدح فيمن خاض في السياسة من الدعاة، ويعاكسونهم في كل شيء ويتكلَّفون الرد عليهم، ويصفونهم بما لم يصفهم به العلماء ومن هو أكبر منهم علما، فلما وصلت البلاد إلى وضع رأى فيه الناس ما رأوا من ظلم وتعد وفساد استسلم هؤلاء الناس إلى عواطفهم، وغيَّروا منهجهم وأصبحوا ينافسون خصومهم السابقين في الخطب التحريضية، وسبقوا كثيرا منهم إلى الفتوى بوجوب الخروج على الحاكم، فكان منهم ما كان، وظل بسببهم كثير من الإخوان.
لقد كان المشهد مخيبا للآمال، وكان وقع تلك المواقف التي أظهروها شديدا في نفوس كثير من طلبة العلم، حيث زاد من غربة الحق وأهله، كما زاد في مدة الفتنة وفي نتائجها المدمرة على الأمة والدعوة.
ويشاء الله تعالى أن يمد في أعمار كثير من هؤلاء حتى انكشفت المحنة وزالت الفتنة، وكان المؤمل أن يستفيدوا منها دروسا وأن يقفوا مع أنفسهم وقفات، ولكنهم خيبوا الأمل مرة أخرى، وكأنهم اغتروا بما أسدل الله عليهم من ستر؛ فتمادوا في تمايلهم مع الجماهير وجريانهم مع الأهواء، إذ ما كادت فتنة الدماء تخفت حتى جاءت فتنة الغلو في التجريح، فسارع إلى ركوبها جماعة من هؤلاء، دون خوف من الله تعالى أو حياء من عباده، يلعبون بدين الله تعالى ويتاجرون به وهو من وراءهم محيط.
وإن الذي يعيد شريط الأحداث المتسارعة يجد نفسه يقول:"حقا إن الفتن محك يمتحن به ثبات الدعاة قبل غيرهم"، وهذا يجعلنا نراجع أنفسنا في إخلاصنا وعقيدتنا وصبرنا وعقلنا واتزاننا، وتكويننا وتوجيهنا لغيرنا.
إن أعظم الدروس التي ينبغي أن تستفاد من الفتن ما يستفيده الدعاة لأنفسهم لا لغيرهم، وهو الشيء الذي ينبغي أن يطيلوا فيه النفس لا غيرها من العبر والدروس العامة، وإننا في هذه الأيام إذا تأملنا ما صحب الأحداث من مواقف وكتابات ومناقشات، خلصنا إلى أن أرضية الدعوة لا تزال هشة، حيث رأينا ارتجال المواقف، وإصدار الفتاوى التي لا زمام لها ولا خطام، وخوض الصغار فيما يتوقف فيه الكبار، إضافة إلى ما ألفناه من تفرق الصف والتشتت.
والذي أخافني أكثر أن يهتز بعض الدعاة بفعل الأحداث ليناقش ما كان يعد من قطعيات المنهج تحت شعار المراجعات، ومظلة القدح في الثوابت بعد إلباسها ثوب المتغيرات.
نسأل الله تعالى الهداية والثبات في الدنيا وعند الممات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.