109-أحوال صيام يوم الشك غير منشورة
أحوال صيام يوم الشك
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فإن لصيام يوم الشك أحوال أربعة تفصيلها على النحو الآتي :
1-صوم يوم الشك بنية رمضان احتياطا
فهذا لا يجوز قطعا وقد قال مالك والشافعي في قول له إنه لو تبين بعد ذلك أنه من رمضان فإن عليه قضاءه ، لأن النية لابد أن تبيت بعد العلم بثبوت الهلال ، ولا ريب أن حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما شامل لهذه الصورة وقد قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ودليل التحريم والبطلان وتفسير وجه المعصية في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» متفق عليه ، فقوله صلى الله عليه وسلم :"لا تصوموا " المقصود به رمضان والأصل في النهي إفادة التحريم المقتضي للفساد، ولا معنى للاحتياط هنا لأنه يؤدي إلى الزيادة في رمضان والزيادة على المشروع مردودة.
2-صوم يوم الشك بنية نفل معتاد صومه
وذلك نحو صوم الاثنين والخميس أو صيام داود، ومنهم من ذكر صيام الدهر إذا اعتقد جوازه ، ومنهم من ذكر قصد استكمال شعبان عملا بظاهر حديث عائشة رضي الله عنها.
فهذا يجوز صومه قطعا لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ» وهو حديث متفق عليه .
وقد ثبت في الصحيحين واللفظ لمسلم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ - أَوْ لِآخَرَ -: «أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ»
والسُرر آخر الشهر حيث يختفي الهلال وهي أيام الثامن والعشرين وما بعدها، وهذه واقعة عين محمولة عند الشراح على من اعتاد صومه إذ لا يصح الأمر بالقضاء في نفل إلا لمن اعتاده .
3-صوم يوم الشك بنية قضاء فرض أو أداء لنذر.
فهذا يجوز أيضا لأنه إذا جاز النفل لسبب فجواز الفرض من باب أولى .
4-صوم يوم الشك بنية النفل في غير صور الاعتياد المذكورة
فهذا موضع اجتهاد وقد أجازه بعض العلماء منهم مالك أبو حنيفة، ومنعه الشافعي وذلك على سبيل الكراهة وقال بعض أصحابه بالتحريم.
حجة الجواز أن النهي خاص بصورة قصد الاحتياط، والزيادة في رمضان.
وحجة الكراهة أن النهي عام واستثناء الاعتياد دليل على أن المستثنى منه على خلاف المستثنى منه وأقل أحوال النهي الكراهة، وعلته الفصل بين الفريضة والنافلة وسد ذريعة قصد الاحتياط، وقد يقال إنه ثمة نهيان نهي عن صومه بنية رمضان وهو محمول على التحريم ونهي عن صومه بنية النفل وهو محمول على الكراهة .
والقول بالكراهة أظهر والله أعلم
ويرد على من قال بالتحريم الذي يلزم منه عدم صحة صوم النفل بأنه ليس منهي عنه لذاته كالعيدين، فإن صيام العيدين لا يجوز أداء لفرض ولا وفاء لنذر ولا نفلا معتادا، ومن صامه كان صومه باطلا، وصحة صوم يوم الشك في هذه الصور المذكورة دليل على أنه يوم صالح للصوم وأن النهي ليس مقصودا لذاته وإنما النهي المقصود لذاته هو نية الاحتياط والزيادة في رمضان، ونظير النهي عن تقدم الشهر بيوم أو يومين النهي عن صيام يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (رواه مسلم) وهو نهي كراهة لا تحريم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الأمين .
رحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان (خمس حلقات) غير منشورة
رحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان (1)
لقد كان عصر السلف العصر الذهبي للإسلام، برز فيه كثير من الأعلام المجتهدين الذين أثْروا الفقه الإسلامي بآرائهم واستنباطاتهم فأجابوا عن المسائل وعالجوا الوقائع بما فتح الله عليهم من علم، وخلدوا أسماءهم إذ اقترنت بتلك الاجتهادات التي تناقلها الناس، ولكن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يكتب الخلود والبقاء للمذاهب الإسلامية المعروفة؛ التي خُدمت وطُورت في العصور المتأخرة بما يتناسب وانحطاط الهمم عن تحصيل رتبة الاجتهاد.
ولا شك أن وراء هذا التقدير الإلهي حِكما هو أعلم بها سبحانه ؛ ولعل من هذه الحكم التي تتوسم في إبقاء مذاهب مختلفة لا مذهب واحد؛ حكمة إبقاء الخلاف المثمر للنقاش العلمي الهادف؛ والذي سيرد الناس حتما إلى المعين الأول للفقه الإسلامي كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن رجوع الناس في الاحتجاج إلى الكتاب والسنة هو إحياء لهما بعد الهجر، وبسط لسلطانهما على النفوس بعد خبو جذوة ذلك السلطان ، وتدريب للمتعلمين -وهم يستمعون إلى نقاشات العلماء- على طرق الاجتهاد والاستنباط ؛ حتى إذا بلغوا الرتب العلية وسئلوا في النوازل الجديدة والحوادث المتجددة لم يخرسوا ولم يتلعثموا ، بل أظهروا محاسن الشريعة وبرهنوا على خلودها وأبرزوا صلاحيتها لكل الأزمنة من خلال مصادرها التي لا تنضب كنوزها.
ولعل الناظر في الخلافات بين المذاهب الأربعة يلحظ كثرة اختلاف أبي حنيفة مع الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد حتى إن كلمة الجمهور صارت في مخيلة الكثيرين تعني الأئمة الثلاثة ؛ والثابت فعلا أن أبا حنيفة ينتمي إلى مدرسة عرفت في التاريخ بمدرسة الرأي التي تكثر من الاجتهاد بالقياس على النصوص والقياس على آراء الصحابة وآراء من بعدهم، بخلاف الأئمة الثلاثة الذين ينتمون إلى مدرسة الحديث لقلة احتياج أهلها إلى القياس على النصوص المعصومة، واقتصارهم على اتباع آثار الصحابة ومن بعدهم دون القياس عليها، ولقد كان لهذا الاختلاف دوافعه الموضوعية، ويأتي في مقدمتها وعلى رأسها قلة الأحاديث في العراق في عصر نشوء مدرسة الرأي وكثرتها بالحجاز في ذات العصر، وكان الواجب على العالم منهم أن يجيب عن المسائل بحسب ما حضره من أدلة؛ ولم يكن واجبا عليه الاحاطة بالعلم كله وإن ذلك لمحال، وقد علم هؤلاء الفقهاء أن الله تعالى تعبدهم بغلبة الظن لا باليقين وجعل للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا، ولولا ذلك لما تجرأ أحدهم على الافتاء ، فرحمهم الله رحمة واسعة.
وكما كانت لله تعالى حكم في بقاء مذاهب مختلفة؛ كانت له ولا شك حكم في تنوعها هذا التنوع الموصوف، ولعل منها أن الحق -والحق واحد لا يتعدد- لم يحفظ في مذهب واحد معين ولكن أكثره وجله محفوظ في هذه المذاهب الأربعة ، وقد قضى الله تعالى ببقاء الحجة قائمة على خلقه إلى قيام الساعة، فما اجتمعت عليه الأمة (الأربعة وغيرهم) فهو حجة قاطعة، وما اختلف فيه أئمتها فالحق لا يخرج عن أقوالهم ...فمرة يكون الحق مع أبي حنيفة ومرة مع مالك ومرة مع الشافعي ومرة مع أحمد وأحيانا مع أحد غيرهم، وهذا يتفق مع ما قضاه ربنا عزو وجل أن لا عصمة لأحد بعد نبيه صلى الله عليه وسلم إلا لمجموع أمته ...والعلم عند الله تعالى .
رحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان (2)
كنت عزمت على كتابة مقالات موجزة في بعض انفرادات الإمام أبي حنيفة الفقهية ؛ والتي رأيتها جديرة بالإشاعة لتبيين سداد فقهه فيها ورجاحة رأيه مقارنة برأي غيره من الأئمة ، وقدمت لذلك بمقدمة تحدثت فيها عن بعض الحكم القدرية لبقاء الاختلاف الفقهي ، ثم إن بعض التعليقات الطائشة التي كان حقها الحذف ولا كرامة لأصحابها؛ جعلتني أكتب مقدمة أخرى تتعلق بالخلافات التي كانت بين العلماء في العصر الذهبي للإسلام ، تلك الخلافات التي كثير منها داخل فيما يسمى بجرح الأقران الذي يطوى ولا يروى، لما فيه من أذى للجارح والمجروح معا ، وهو أذى لا ينقص ولا يحط من قدر العالم إلا عند العامة وأشباههم وأهل الأهواء والتعصب المقيت، وأما عند غيرهم فهي تؤكد على أن هؤلاء العلماء بشر من بني آدم وأنهم غير معصومين، والإمام أبو حنيفة رحمه الله كغيره من الناس يعتيره ما يعتري غيره من الأحوال النفسية من غضب ونحوه، كما أنه عرضة للخطأ والخطأ قد يكون في أمر يسير كما يكون في أمر خطير ، ولو أسقط الناس بالأخطاء المعدودة في بحر صوابهم وبسيئاتهم المغمورة وسط حسناتهم لما سلم أحد لا ناقد ولا منتقد، ولكن الله تعالى الذي كتب ذلك على بني آدم قد وضع لنا الميزان وحذرنا من الطغيان، والواجب أن يعرف كل واحد منا قدره وأن ينزل الناس منازلهم، وأبو حنيفة لم يدع لنفسه العصمة ولا ادعاها له أحد ، وكما أخطأ حتما في مسائل فرعية فقد أخطأ في قضايا أصولية منهجية بل قد أخطأ في أمور عقدية مشهورة، الأمر الذي جعل كثيرا من أقرانه وممن بعدهم يتخذون مواقف منه، وربما صدرت منهم عبارات فيها شدة في حقه ، وهي مواقف وعبارات لا يجوز بترها عن أسبابها الحقيقية وسياقاتها التاريخية، وما جبلت عليه النفس البشرية.
ولعل مما يحسن إيراده في هذا الموضع كلمة من كلمات ذهبي العصر العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله فيها تنبيه على معنى قل من ينبه له وهو يحل إشكالات ويدفع ما يظهر أنه من التناقضات إذ يقول في كتابه رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله (294-295) :« وأهل العلم إذا بلغهم خطأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغتر الناس بجلالته ربَّمـا وضعوا من فضله وغبروا في وجه شهرته مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته ، ولكن يظهرون تحقيره لئلا يغتر به الناس، ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحط الشديد على البخاري في صدد الرد عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه حتى لقد يخيل إلى القاري ما يخيل إليه مع ان منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال ، وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، ولعل مما حملهم على هذا علمهم بأن للعامة وأشباه العامة يغترون بفضل القائل في نفسه فإذا قال لهم العلماء أنه أخطأ مع جلالته وفضله قالوا قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم، وهكذا قال بعض الناس لعمار رضي الله عنه لما قال مقالته المتقدمة آنفا :« فنحن مع الذي شهدت له بالجنة يا عمار » يعنون أم المؤمنين . وبالجملة فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم من يخافون ضلال الناس بسببه ولو علم محبوا المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثلب أولئك الأكابر حمية وعصبية والله المستعان ». ونكتفي به حتى لا نقع في ضد ما أردنا ، ونكتفي فقط بأن نذكر بعضنا بأن قواعد التعامل مع السلف هي نفسها قواعد التعامل مع المعاصرين، ومن فرق فقد أخل بالميزان وولج باب الطغيان نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق والسلامة والرشد.
رحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان (3)
انفرد الإمام أبو حنيفة رحمه الله بآراء فقهية خالف فيها الأئمة الثلاثة ؛ آراء قد يرى فيها كثير من المعاصرين من غير المنتمين إلى مذهبه رحجانا على بقية المذاهب ، رجحانا قد يقترب من القطع أحيانا ، والظنون والعلوم في ذاتها متفاوتة وليست في رتبة واحدة ، وقبل أن أذكر النموذج الأول الذي ظهر لكاتب هذه السطور رجحانه ، أنبه أن قضية الترجيح نسبية تختلف باختلاف الأشخاص، وأنها خاصة لا تعنى العاجزين أو المدعين، ومع الأسف يرى من يكتب ويحسب ما ترجح عند إمامه هو الدين وما سواه خارج عنه ، وهذه عقلية اقصائية يبتلى بها كثير ممن يطالع كتابات ابن حزم رحمه الله قبل أن تتكون شخصيته العلمية وتستوي، ويرى أيضا على النقيض من ذلك بعض الأميين ممن لا يدرون ما العلم إلا أماني، يتحسسون من هذه الكلمة التي ملأت كتب الفقه المذهبي قبل الفقه المقارن، ومشكلة هؤلاء هي نفسها مشكلة سابقيهم إذ هم جميعا يتوهمون أن الترجيح هو إقصاء تام للرأي المرجوح، وأن الراجح في مرتبة كلام الله تعالى ورسوله الذي لا يحتمل الغلط ولا التأويل، وكثيرا ما يؤدي الوهم والغلط في التصور إلى الأحكام المتطرفة المتناقضة، كما حدث لمن توهم الإيمان شيئا واحدا لا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص ، فذهب بعضهم إلى التكفير بالمعاصي، وذهب آخرون إلى التسوية بين إيمان الأنبياء والصالحين والعصاة الفاسقين.
وبعد هذا التمهيد نقول من أوائل المسائل التي تدرس في الفقه الإسلامي مسائل النجاسات وكيفية تطهيرها ، وهي مسائل تعم الحاجة إليها في القديم والحديث .
ومما اختلف العلماء فيه حكم إزالة النجاسة بالمائعات من غير الماء ، فذهب الجمهور إلى أن غير الماء لا يكون مطهرا للمحل، حتى لو أزال عينها فمن أزال النجاسة من دم أو بول بالخل مثلا أو بأي مطهر من المطهرات الطبية الحديثة لا يكون ذلك مطهرا للثوب أو الجسم حتى يعيد غسله بماء مطلق ...بينما يرى الحنفية أن بعض المائعات قد تكون أبلغ في التطهير من الماء ومثلوا لذلك قديما بالخل ، ونمثل لذلك في عصرنا بالمنظفات الكميائية السائلة التي أخرجت الماء عن اطلاقه، وأيضا بالمطهرات الطبية وهي كثيرة متعددة، ولعلنا نستثنى المطهرات الكحولية لاعتبارها عند الجماهير نجسة في حد ذاتها.
ومن تأمل حجج الفريقين وأسباب الخلاف بينهم بتجرد وإنصاف رأى مذهب أبي حنيفة أظهر من غيره ، فأما الحجج النصية فلا قاطع فيها ولم يأت الجمهور بأي دليل صريح يمنع التطهير بغير الماء وما توهموه من حجج لو كان صحيحا لمنع من التطهير بالتراب والأحجار، ومما يستأنس به من المنقول لصالح الأحناف قول عائشة رضي الله عنها : «ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته بظفرها» رواه البخاري ومعناه "بلته بريقها ودلكته بظفرها وحكته به، ولا يقال هذه رخصة تتعلق بالقليل لأنه لا دليل على العزيمة المزعومة ولا على كون الدم قليلا .
وأما النظر في المعاني فلا يدع مجالا للشك في أن مذهب الحنفية أقوى من غيره ، فإن الجميع متفقون أنه لا تشترط النية في إزالة النجاسة والإجماع حجة وحديث ( يطهره ما بعده) حجة ، وكون السلامة من النجاسة تركا لا يفتقر إلى نية حجة، وإذا كان لا يحتاج إلى نية فلا معنى للزعم أنه عبادة غير معقولة المعنى لأن علامة العبادة الافتقار إلى النية حتى تكون مجزئة، فالجسم الذي كانت عليه نجاسة فأزيلت عينها بخل أو منظف سائل أو مطهر طبي يصير طاهرا ولا يحتاج إلى غسل بالماء لأن الماء لن يزيل شيئا حينها فمروره وعدم مروره سواء .
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 84):" وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ فِي الْمُدَاخَلَةِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَالتَّرْقِيقِ، مِثْلُ الْمَاءِ فَكَانَتْ مِثْلَهُ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْخَلَّ يَعْمَلُ فِي إزَالَةِ بَعْضِ أَلْوَانٍ لَا تَزُولُ بِالْمَاءِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّطْهِيرِ أَبْلَغُ".
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 429):" بل الخل، وماء الورد، وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة كالماء، وأبلغ والاستحالة أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء فإن الإزالة بالماء قد يبقى معها لون النجاسة فيعفى عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره» .وغير الماء يزيل الطعم واللون والريح".
وعلى قول أبي حنيفة بنى كثير من الباحثين تخريجهم للنوازل المعاصرة نحو حكم المياه المتغيرة بالمطهرات الحديثة وحكم التطهير بمغاسل البخار، وحكم التطهير بالمعقمات والمطهرات الطبية ولا أشك في صواب تخريجهم ورحم الله الإمام أبا حنيفة ..
والله تعالى أعلم
رحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان (4)
مسألة خطبة الجمعة بغير العربية
تحدثنا في الحلقة الماضية عن مسألة من مسائل الطهارة انفرد فيها أبو حنيفة رحمة الله برأي يرى أنه الأوجه والأقوى ، وهي مسألة إزالة النجاسات بغير الماء المطلق والذي يشمل في عصرنا المنظفات الصناعية والمطهرات الطبية كما يشمل الماء المضاف والمقيد ، وهي من المسائل التي يظهر أن الخلاف فيها يرجع إلى دورانها بين التعبد ومعقولية المعنى ، والقول بالمعقولية تؤيده شواهد متفق عليها مما يجعل المنصف يميل إلى رأي أبي حنيفة ميلا قد يرقى إلى حد اليقين ، ومن المسائل التي اختلف فيها الأئمة الأربعة وكان سبب الخلاف فيها أيضا دوران الحكم بين التعبد ومعقولية المعنى مسألة إلقاء خطبة الجمعة بغير اللغة العربية ، وهي مسألة تشددت فيها المذاهب الثلاثة تشددا غريبا حيث أكدوا على اشتراط كون الخطبة باللغة العربية ولو للأعاجم الذي لا يفهومنها، ومن تشددهم أنهم نصوا أنه إذا لم يوجد من يحسن العربية سقطت صلاة الجمعة ومن الغرائب أن تجد في كلام بعض الفقهاء التسوية بين القوم لا يحسنون العربية وبين قوم كلهم بكم في سقوط صلاة الجمعة ، وكأن هذه الخطبة ذكر مجرد عن المعنى يؤتي به على صفة معينة في وقت مخصوص، ولما طال النقاش في جدوى خطبة لا تفهم قال بعض الشافعية يكفي أن يعلموا أنه يعظهم وإن لم يعلموا ما يعظهم به !، ولا شك أن هذه ظاهرية لا يرتضى نسبة مثلها إلى دين الله تعالى، ولا سيما أنه لا يوجد دليل قاطع أو ظاهر على الاشتراط إلا ما توهم من حجية جريان عمل الناس في بلاد أهلها عرب، أو قياس لا يطرد ولا ينعكس وتنقضه الفروق الكثيرة مفاده اعتبار الخطبتين بمثابة الركعتين ومنه إعطاء حكم الخطبة حكم القراءة وحكم الكلام فيها بغير العربية حكم الكلام في الصلاة ، وحتى قول من قال منهم إن الجمعة تصح بغير العربية حال العجز لم ينظر إلى حال المستمعين ونظر فقط إلى حال الخطيب ، فلا يرخص له أن يخطب بغير العربية إن أحسنها ولو كان في بلد الأعاجم ووسط من لا يفهمها وإنما يرخص له إذا كان أعجميا لا يحسن العربية ..
وأما الحنفية فقد نصوا على صحة الخطبة بالفارسية ولو من عربي ، وهذا المذهب هو الذي يتناسب مع مقصد الذكر والتذكير المشار إليه في قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة: 9] وهو المتناسب مع قصد الافهام في الشريعة المنصوص عليه في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم: 4] ولا يضر المسألة أن ربطها بعضهم بالقراءة في الصلاة بناء على مذهبهم، لأنه بين المسألتين فروقا كثيرة عند الفريقين تمنع هذا القياس كما سبق.
وفي نهاية المطاف نتساءل عن جدوى الجمود على المذاهب في مسائل كشف البحث الموضوعي أنه لا حجج سالمة لها، وتبين أنها آراء تنافي مقاصد الشريعة وتمنع تحققها في الواقع ...
ومن الفقهاء المعاصرين –من غير الحنفية- من أجاز الخطبة بغير العربية كلها أو بعضها، وأوكد أن اختيارهم هذا كان من منطلق النظر في الأدلة الشرعية والمقاصد المرعية، وليس من منطلق تتبع الرخص وتكييف الإسلام وتفصيله حسب الواقع والأهواء.
تذييل
ولا بأس أن أنبه أنه في بلادنا لا يزال بعض الأئمة يتعرضون للتحذير أو التوبيخ وربما العقاب إن خطبوا في الناس باللهجة المحلية القبائلية مع أن الحاجة ماسة إلى ذلك ، ورغم أنهم لا يجعلونها خالصة بغير العربية بل القدر المجزئ منها يأتون به بالعربية ، وذلك بدعوى الحفاظ على المرجعة والتمسك بالمذهب ضد المذاهب الدخيلة، ونسمع بذلك رغم أننا نرى الوزارة الوصية من جهة أخرى ساكتة سكوتا تاما عمن يخطب بالدارجة لا بالفصحى ، بل تأذن في المخالفة وربما تشترطها في الأئمة المنتدبين في فرنسا. الأمر الذي يجعلنا نحكم بأن تصرفات الوزارة في القضايا الفقهية لا تخضع لاعتبارات علمية ومصلحية ثابتة وواضحة، وإنما هو المزاج وأهواء من يتولى المناصب فيها ويتصرف باسمها .
رحم الله الإمام حنيفة النعمان (5)
مسألة ولاية ذوي الأرحام في النكاح
طرقت في حلقتين سابقتين مسألتين ظهر لي فيها رجحان مذهب أبي حنيفة بما يقترب من القطع، الأولى مسألة جواز إزالة النجاسات بالمائعات سوى الماء المطلق ، والثانية جواز إلقاء خطبة الجمعة بغير اللغة العربية ، وقد رأيت أن انتقل إلى ذكر مسائل أخرى في السياق ذاته لكن من غير أبواب العبادات ، فأول ما خطر ببالي من المسائل ذات الخطر والتي لها صلة بواقع الناس في عصرنا وتكثر الحاجة إليها والسؤال عنها؛ مسألة ولاية ذوي الأرحام على المرأة في النكاح .
حيث أن المشهور والمعتمد في المذاهب الثلاثة حصر الولاية في العصبة، فإذا فقد العاصب انتقلت الولاية إلى السلطان مباشرة وكذا في حالة عضله أو غيبته.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن الولاية تنتقل بعد العصبة إلى ذوي الأرحام كالأخوال ونحوهم، وهذه المسألة إذا فتشت عن مآخذها لم تجد فيها قاطعا، وجل ما يعتمده الجمهور هو ظواهر آثار عن الصحابة معارضة بمثلها، بل هي معارضة بما هو أصرح منها وأقيسة القول بموجبها يثبت ولاية ذوي الأرحام ولا ينفيها، فقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«إذا بلغ النساء نص الحقائق فالعصبة أولى» لا خلاف فيه ولا يقوى على معارضة الاستدلال بما صح عنه أنه أجاز نكاح امرأة زوجتها أمها وخالها، وقولهم بأنَّ الولاية إنما تثبت صونا للقرابة عن نسبة غير الكفء إليها والمرأة إنما تنسب إلى عصبتها لا إلى غيرهم، معارض بأن قرابة المرأة الذين تلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء لا يختص بالعصبات، بل ذلك تابع لمن تربت في أحضانهم وبمن تزف من ديارهم، وإن تحدثوا عن الشفقة على المرأة والحرص على مصلحتها، فكذلك لا اختصاص لها بقرابة الأب؛ وهي موجودة في قرابة الأمّ؛ فلا معنى للتفريق بينهما، وهذه المعاني لم ينكر الحنفية أن وجودها في العصبة هو الغالب والأصل، ولذلك صرحوا بأن ولاية ذوي الأرحام استحسان اعتمد فيه الأثر والمصلحة، لكنهم ينقضون على الجمهور بأن تلك المعاني ليست موجودة في السلطان، وأن اطرادها يوجب تقديم ذوي الأرحام عليه.
ولا يختلف حال فقدان العاصب بجميع مراتبه عن حال عضله أو حال غيبته أو حال ما يسمى في عصرنا بالإهمال العائلي، فإن أولى الناس بتزويج المرأة التي تنشأ وتتربى عند أخوالها وتُصبح كأنها منهم هم أخوالها؛ لأنه يلحقهم النقص بنقص زوجها والعار بفسقها وفجورها، لأنها إنما تُخطب منهم وتزفُّ من ديارهم .
هذا مقتضى النظر المجرد والمتجرد في الأدلة الشرعية ، ولوجاهة هذا الرأي قد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغير واحد من غير الحنفية قديما وحديثا.
وفي عصرنا عصر المدينة الذي تلاشى فيه معنى القبيلة ومعنى جماعة المسلمين، ولم يعد السلطان الوارد ذكره في الحديث موجودا في أكثر الأحيان؛ وهو القاضي الذي شرطه العدالة وإقامة الشريعة، صار المصير إلى مذهب الحنفية متعينا لأنه محقق لمقاصد الولاية الشرعية في النكاح أو لأنه هو المحقق لها دون غيره، والله تعالى أعلم ورحم الله أبا حنيفة النعمان وجميع فقهاء الإسلام.
كلمة وفاء للشيخ محمد نعيم رحمه الله تعالى وفصول منتخبة من سيرته العطرة غير منشورة
كلمة وفاء للشيخ محمد نعيم رحمه الله تعالى
وفصول منتخبة من سيرته العطرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فإن الشيخ محمد نعيم رحمه الله أحب الناس إلى في تلمسان، هو رجل يُحب لسمته وخلقه وصلاحه ولعلمه ودعوته وبذله، ولقد كان سمته سمت العلماء الربانيين في كلامه وهندامه وانضباطه ونشاطه، ولا زلت أذكر أول يوم لقيته فيه في جامعة تلمسان، وكان يدرس في قسم العلوم الإسلامية علم القراءات وعلم الرسم والضبط، لم أكن أعرفه من قبل ولا حدثني عنه أحد، فلما رأيته سررت ولما كلمته انشرح صدري له، وإن القلب ليسر أن يرى من يستقبله بالبشاشة، وإن الصدر لينشرح لمن يلتمس في كلامه الصدق والتواضع؛ كيف وأنت إذا رأيته من بعيد ترى اللباس الأبيض؛ وإذا اقتربت لمست القلب الأشد بياضا، ولا أخفي أن رؤيتي له نازلا من سيارته مقبلا إلى الأقسام للتدريس؛ كانت تبعث في الهمة والنشاط، وقد كنت أرى فيه حب التعليم والسعادة به، وقد كان يدرس في الجامعة احتسابا كما كان يعلم القرآن الكريم في بيوت الله احتسابا، وبرا بوالده رحمه الله الذي نذر نفسه للتعليم القرآني قبله وعملا بوصيته، وقد حدثني يوما عن والده الشيخ برابح نعيم، أنه كان إذا زاره طلابه الذين حفظوا القرآن على يديه في منطقة "تونان" يسألهم، هل أنت تعلم القرآن؟ فمن أجاب بنعم هش وبش في وجهه وانبسط معه في الحديث، ومن أجاب بلا، أظهر له عدم رضاه عنه، واكتفى معه بأداء واجب الضيافة، فكانت همة الشيخ محمد في التعليم من همة والده رحمهما الله تعالى، ونرجو أن تكون همة طلابه ومن حفظ القرآن على يديه من همته في التعليم والبذل والعطاء، إني لم أتعرف على الشيخ إلا في سنة 2012 م، ولكن أهل تلمسان طالما حدثوني عن مواقف الرجل ومآثره، وهي مواقف تدل على متانة الدين والصلابة في الحق، والبذل في سبيل الله والعفة والزهد في الدنيا، والتخلق بخلق الإيثار والصبر على الأذى، وكم أذاه طلاب الدنيا وعبادها حسدا على ما أكسبه الله من مكانة ومحبة في قلوب العامة، وكم سعى الواشون به، فلم تفلح وشايتهم إلا عند من كان على شاكلتهم، وربما ردّ كيد الواشين في نحورهم وانقلب سعيهم كرامة للشيخ وفتحا له؛ ولا سيما إذا كانت وشاية عند أهل المروءة، وقد تركها الشافعي رحمه الله كلمة خالدة حين قال:" أصلح ما بينك وبين الله، يصلح الله ما بينك وبين الناس"، ولا يزال الناس يرون تصديق كلمته هذه، وقد رأى الناس ذلك الجمع الغفير الذي حضر جنازة الشيخ رغم قصر الوقت بين وفاته والصلاة عليه؛ إذ لم يكن بينهما إلا سويعات قلائل، وكثير من الناس لم يبلغهم الخبر إلا بعد دفنه، وإن الله تعالى هو الرافع الخافض والمعز المذل، وهو الذي إذا كتب القبول لعبد من عباده في الأرض لم يكن لأحد أن يقف في وجه إرادته، لقد كان الشيخ رحمه الله وليا من أولياء الله بالفعل والعمل وليس بالقول والرسوم المصطنعة، لو أراد الدنيا وزخرفها لوجد السبيل إليها، بل إنه قد عرض عليه كثير من حطامها فكان يمتنع ويتعفف ويؤثر غيره بها، قال أحد الأئمة البارحة :" إني أعرف الشيخ منذ 38 ثلاثين سنة، وأبوح لكم اليوم بشيء ربما لا يعرفه كثير من الناس عنه : لقد كان أبا للمساكين".
وأهم شيء شاهدته من الشيخ هو تفانيه في التعليم القرآني، حتى أنه كان يجهد نفسه في ذلك أيما اجهاد؛ حيث كان يفتح المقرأة يوميا من السابعة صباحا إلى العشاء، وجعل وقت الصباح وبعد الظهر للطالبات، وما بعد العصر إلى العشاء للطلبة، وقد دخل المشفى مرات من شدة الارهاق، وقد نصحته يوما وهو راقد في المشفى لا يقوى حتى على الكلام، وقلت له:" إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا"، ولقد فاجئني بعدها بسنين لما ساقنا الحديث عن عدم فتحه المقرأة يوم الخميس، فقال إنها نصيحتك قد جعلتها لنفسي وأهلي، والواقع الذي لا أخفيه أيضا أني لم أر يحترمني ويحسن الظن بي في تلمسان مثل هذا الرجل العجيب، والذي أعتقد اعتقادا جازما أنه أفضل مني مرات ومرات، في العلم والعبادة والخلق. ومما نشهد له به أنه كان معلما ومربيا في الوقت نفسه؛ فلم يكن تعليمه قاصرا على تحفيظ القرآن وأحكام تلاوته، بل كان حريصا على تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس، فكان يخصص وقتا لمدارسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو لقراءة مواضيع يختارها من كتب مختلفة سماها "قراءة في كتاب"، ومما أتشرف به أنه قرأ على الطلاب كتبي التي موضوعها (العقيدة والتزكية) نحو كتاب محبة الله تعالى، وكتاب عبادة الشكر، وكتاب عقيدة المسلم في الرزق.
وكان في الأشهر الأخيرة قبل أن يلم به المرض يغيب دوريا عن المقرأة لمرافقة أخيه الذي يكبره في علاجه من مرضه، وقد لقينا آخاه البارحة فقال ما معناه كنت أوصيه بما بعد وفاتي فكان يقول :" لعل الله يتوفاني قبلك"، قالها وهو صحيح معافى نسأل الله تعالى أن يرزقنا قصر الأمل وحسن الخاتمة، وأختم هذه الكلمة التي كتبتها على غير العادة مرسلة غير مرتبة برؤيا رأيتها قبل أيام ولم أدر تأويلها إلا بعد أن وصلني خبر وفاة الشيخ عبر الهاتف، وذلك أني رأيت الأرض في تلمسان انشقت شقا جعل عبور ابنتي من طرف إلى أخر شاقا عليها (وهي طالبة عنده) ، فتأولتها بهذه الفاجعة التي ألمت بنا، ولما قصصت الرؤيا على أحد الزملاء ممن تصدُق رؤاهم تلا علي مباشرة قول الله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] وذلك أنه روي عن ابن عباس في تفسير الآية : نقصها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها...نسأل الله أن يأجرنا في مصيتنا هذه أن يجعل للشيخ خلفاء من بعده يبذلون بذله وخيرا من بذله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تلمسان في 13 سبتمبر 2023
فصول منتخبة من سيرة الشيخ محمد نعيم العطرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين أما بعد فإنه يروى عن أبي حنيفة قوله لقصص الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه، وذلك أن في أخبارهم ما يرقق القلوب ويهذب النفوس، ويسوقها إلى أبواب الطاعات ويبعدها عن الآثام والشبهات ويقربها من رب البريات، وقد ألف السابقون كتبا جمعوا فيها من أخبار الصالحين من السلف، منها ما كان مصنفا على الأبواب ككتاب الزهد لابن المبارك، ومنها ما كان مرتبا على الأعلام ككتاب الزهد للإمام أحمد، ومنها ما كان مفردا لبعضهم كسيرة عمر بن العزيز لابن الجوزي، وكتب غير واحد في مناقب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد رأيت من حق الشيخ الولي الصالح محمد نعيم علي أن أكتب في خصاله ومناقبه ومواقفه شيئا يسيرا يكون دليلا على غيره، أو ربما يكون لبنة محفزة لطلابه ومعارفه أن يُلحقوا بها غيرها، وخاصة أن ما جمعته كان في وقت وجيز ومن عدد محصور جدا من طلاب الشيخ ومعارفه، ونسأل الإله العلي القدير أن ينفع بهذا المجموع الذي لم يكن لي فيه في أكثر الأحيان سوى التبويب والصياغة، وقد أبهمت الرواة في الغالب لعدم الحاجة إلى تسميتهم مع كونهم جميعا ثقات؛ فضلا عن أني تصرفت في مروياتهم وسياقاتها، وقد نظمتها في أربع وعشرين فصلا نسأل الله تعالى الإخلاص والثبات وحسن الختام.
1-فصل في بركة القرآن
بعد أن حفظ الشيخ القرآن ذهب إلى المغرب مع أخيه الأكبر ليواصل تعليمه، ومما حكاه الشيخ أن معلمته في الابتدائية طلبت من التلاميذ حفظ صفحة من سورة يس ، فلما جاء دوره للعرض شرع في القراءة ولم يتوقف حتى تجاوز الحد المطلوب، فقالت له المعلمة أتحفظها كاملة؟ فقال" بل أحفظ القرآن كله"، فأخذته إلى المدير وأخبرته بذلك ، فقام المدير باختباره وعجب منه، وسأله ما قصتك ؟ فأخبره محمد نعيم بأنه قد أتم حفظ القرآن على يدي والده، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، ثم إنه بعد ذلك بأيام قصّر في حفظ أحد الدروس، فأخذوه إلى المدير فلما رآه قال له: "ألست ذاك التلميذ الذي يحفظ القرآن الكريم كاملا"، قال" نعم ، فقال له المدير:" اذهب واعتن بدروسك"، ولم يعاقبه . فقال الشيخ :"نجوت من العقاب بفضل حفظ القرآن الكريم".
ومن بركة حفظه القرآن أن كان من جملة قلة من الجزائريين الذين كانوا مؤهلين للإلحاق بكلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية يوم افتتاحها، ومما يروى في هذا السياق أن والدته الكريمة كانت جزعة من اغتراب ولدها وبعده عنها؛ فسمعت في المنام هاتفا يقول ( اصبري فإن ابنك سيتعلم ويعلم) فهدأ روعها بعد ذلك.
2- فصل في بره بوالده
من أول ما نذكره من فضائل الشيخ نعيم بره بوالده، ومما يروى في ذلك ما ذكره الشيخ الطيب براهيمي حفظه الله ونفع به أن الشيخ محمد نعيم ترشح لنيل منصب مسؤول التعليم القرآني لدى مديرية الشؤون الدينية، وذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولم يكن ثمة من هو مؤهل لهذا المنصب غيره، فلما سمع والده الشيخ برابح جاءه من القرية وخاطبه بلهجة حادة بما معناه (أتريد أن تكون رئيسا على أسيادك) فما كان منه إلا أن سحب ملف ترشحه بلا مناقشة وترك ذلك لوجه الله وطاعة لوالده، ولا شك أن الله تعالى قد أبدله ما هو خير من ذلك ووفقه أيّما توفيق.
ومن مظاهر بره بوالده ومعلمه الأول الذي علمه القرآن؛ أنه كان يذكر محاسنه وأخباره ويثنى على جهوده ورباطه في التعليم ، وأنه خلّد ذكره بأن ألف كتيبا في التعريف به سماه الشيخ برابح بنعمر نعيم حياته وآثاره، وقد طبعه ووزعه مجانا .
3- فصل في الدعوة إلى الله تعالى والجهر بالحق
أما اشتغاله بالدعوة إلى الله تعالى؛ فكان منذ أن عاد إلى أرض الجزائر وتلمسان من طيبة الطيبة سنة 1982م، فكان خطيبا ومدرسا في مساجد تلمسان، ويشهد له الناس بأنه كان قوالا للحق أمارا بالمعروف ونهاء عن المنكر، ولا يبالي بما يقال عنه ولا بمن يعاديه، وهذا مما يرفع العبد في عين الله بخلاف من ينظر إلى قول الناس، ويتخاذل عن نصرة الحق خوفا من ردة فعل الناس، أو طلبا لرضاهم، أو مجاراة لهم فيما ألفوه من جهالات أو بدع وضلالات.
ومما حُكي لنا يوم جنازته أن الشيخ كان ثالث ثلاثة من شيوخ تلمسان (هو الشيخ الطيب والشيخ إدريس) وقفوا وقفة تاريخية لا تنسى وكانوا سببا في غلق أوكار الرذيلة في تلمسان، حيث أقاموا لقاء في الفضاء مع الجماهير؛ مما جعل السلطات تسارع إلى تطبيق القانون الذي يحمي الفضيلة ويقطع أسباب الفساد والرذيلة.
وكتب الدكتور أبو عبد الرزاق فتح الله دبوزة وفقه الله ما معناه:" شيخنا الطيب - حفظه الله - لا يذكر أحدا من أهل تلمسان كما يذكر الشيخ نعيم ولا يقدّم عليه أحدا، حبا وثناء ودعاء، ومما قص علينا من مواقفه العظيمة أنٌ الشيخ نعيم رحمه الله كان يدرّس في "ثانوية" عُرف مديرها بتطرّفه وبغضه التديّن وأهله، فكان يُضيّق على المحتجبات ووصل به الأمر أن منعهن من الدراسة؛ ولما تخاذل الأولياء خوفا لأن ذلك كان في سنوات الجمر، لم تجد التلميذات إلا الشيخ نعيم ليساندهن، حيث لجأ إلى عدد من الأفاضل ومنهم الشيخ الطيب، ودعاهم للدخول على المدير بوصفهم "أولياء تلاميذ" وليضغطوا عليه ويردعوه عن تعسفه، ففعلوا، قال الشيخ الطيب: فأظهرنا غضبا شديدا وأظهرنا للمدير التشريعات المدرسية، وهددناه باللجوء إلى القضاء، قال الشيخ: فكسر الله الجهول، وأعماه عن طلب وثائق الهوية التي تثبت كوننا الأولياء للتلميذات، وقد كنا فعلا أولياء لكن أولياء لتلاميذ يدرسون في غير تلك الثانوية، وهكذا عادت التلميذات بحجابهن إلى مقاعد الدراسة، ودفع الله عنهن ذلك الأذى بفضل الله تعالى، ثم بفضل غيرة الشيخ وحكمته وفطنته رحمه الله وأجزل له المثوبة.
4- فصل في التواضع وقبول الحق
فأما التواضع في الهيئة والسلوك والتعامل مع الناس؛ فهذا أمر مشهور لا يحتاج إلى وصف أو برهان، وأما عن تواضعه للحق فمما بلغني أن بعض طلابه القدامى ذكر أن الشيخ محمد نعيم كان شيخا مهابا ذا مكانة، ومع ذلك تجرأ ذلك الطالب ونصح الشيخ في مسألتين خلافيتين؛ وبين له أن اختياره فيها خلاف الصواب والسنة، فأصغى الشيخ للطالب بكل تواضع وشكره على نصحه، يقول الطالب ثم إن الشيخ أخذ بنصيحته، فلعله بعد تأمله في النصيحة أعاد النظر واقتنع بما أبداه الطالب كما أن يمكن أنه رأى أن ما ذكر الطالب هو الأفضل والأحوط فعمل به رحمه الله .
ومن مظاهر تواضعه أنه كان إذا طرحت عليه مسائل مع علمه بها أو بحثه فيها يراجع غيره، لعله ينبهه إلى دليل أو تفصيل أو فتوى ونحو ذلك، وقد كتب إلى أحد المقربين إليه أنه كان:" يتهيب الفتوى ويراجع فيها ويخاف منها كثيرا، ويقول هي أمانة عظيمة "، والعبد الضعيف كاتب هذه السطور لا يحصي كم مرة اتصل به رحمه الله مشاورا ومباحثا، ولا سيما في القضايا المتعلقة بالخصومات، والشيخ رحمه الله كان مرجع كثير من الناس في المسائل الشرعية.
5- فصل في الكرم والعطاء
وأما الكرم فهو من أظهر خصاله، يشهد ذلك من عرفه مدة طويلة ومن سافر معه، وممن عرفه مدة طويلة إمام قال يوم جنازته:" إني أعرفه منذ قرابة ثمان وثلاثين سنة وإني أراه يستحق اسم أبي المساكين"، ويقول آخر في شهادته :" إذا سافرت معه لا تسبقه لدفع ثمن الغداء، وكان يكرم العمال بسخاء" والمعنى أنه يكرم من يعرف ومن لا يعرف، وكذا كان شأنه مع الطلاب في مقرأته، وخاصة الطالبات البعيدات عن أهاليهم؛ ممن قدمن إلى الجامعة من ولايات أخرى.
ومن الوقائع التي بلغتني أنه كان يوما واقفا مع راوي القصة فأتته بنت وقالت له يا شيخ : لم نأكل منذ يومين ؛ فمد يده مباشرة إلى جيبه واستخرج خمسة آلاف دينار كاملة، وأعطاها للبنت وقال لها: أنفقيها على أهلك، هكذا تصرف بعفوية، ولم يتأول في ردها كما يفعله جلنا، حيث نقول إن أكثر المتسولين يتصنعون ويحترفون التسول، أو أن الفقراء بحق لا يعرفهم أكثر الناس من التعفف؛ فأفضل الصدقة ما يوصل إلى الفقراء في بيوتهم.
ومن الوقائع أن أحدهم يقول: إن الشيخ بعثه إلى امرأة فقيرة مقبلة على الزواج، ليستطلع له عن كل ما تحتاجه من لوازم عرسها، ثم إنه بعد ذلك أرسل إليها معه كل ما وصف له مما تجهز به المرأة يوم زفافها.
ومنها أن أحدهم يقول: إن الشيخ كان متكفلا بنفقة أرملة وكنتُ أنا من يوصل إليها نفقتها شهريا، يقول من غريب ما رأيت أني لما زرت قبر الشيخ بعد أيام من دفنه، نظرت في القبور الحديثة بجانبه؛ فوجدت قبرا دفنت فيه تلك المرأة رحمها الله تعالى.
وتقول أخرى في تعليق على ما سبق ذكره:" أتذكر يوم ذهبت لأداء العمرة فقصدت الشيخ لأودعه واعتذر عن الغياب، فقال لي انتظريني نصف ساعة، فذهب لبيته وجاء بـ300 أورو، وقال لي وزِّعيها بعد صرفها إلى الريال على المتسولين في طرقات مكة والمدينة، وعلى عمال النظافة هناك، قالت : فلما عدتُ أردت أخبره بأني أديتُ الأمانة كما أمرتني؛ فأشار إليّ بيده أن اسكتي، وكأنه لم يرد يسمع بذلك أحد".
6- فصل في التعفف والايثار
ومما سمعته من غير واحد أن أحد الأثرياء جاءه يوما ليهب له سكنا أرضيا ذي طوابق في وسط تلمسان، فقال له: أما أنا فعندي هذا السكن وهو يكفيني، وعلّق أحد الرواة بعد أن روى القصة :" لو كان غيره لربما تأول وقال أقبلها فأسكن أعلاها وأجعل أسفلها مدرسة قرآنية، ولكنه تعفف رحمه الله"، وقال آخر: إنه دلّ المتبرع على غيره ممن يحتاج إلى سكن فآثره على نفسه.
وكتب إليّ أحد المقربين إليه لما سألته عن هذه الخصلة بالذات فقال :" عرض عليه أحد الولاة مسكنا فلم يقبل عرضه وقال: الفقراء أولى به مني، وعرض عليه مرة الحج، فأجاب بقوله: أنا حججت ولله الحمد".
وحُدثت أن رجلا جاءه بملغ قدره 100 مليون فلم يقبل منه شيئا، لكنه أخذه منه بعد إلحاحه ووزعه على عدد من الفقراء، ثم قدم لصاحب المال قائمة تتضمن أسماء من استفاد من ذلك المبلغ.
ومن صور عفته أيضا أنه لم يكن يقبل الهدايا من الطلاب، وخاصة من يختم القرآن على يديه، وكان يقول لهم قدموا هذه الهدايا للوالدين. ومن صورها أنه كان يشتري بما يقدمه له المحسنون للمقرأة الفطور للطالبات ولا يتناول منه شيئا؛ روى هذا غير واحد، وزاد بعضهم في روايته :"ولا يرتاح له بال حتى يتأكد أنهن شبعن وإذا أحس بعدم كفاية الموجود خرج ليشتري لهن المزيد".
7- فصل في الورع
ومما يؤثر عنه في باب الورع أنه لما كان معلما في التعليم الثانوي كانت تحدث إضرابات، فلم يكن يستحل أخذ أجر تلك الأيام التي لم يعمل فيها وكان يتصدق به.
وكتب إلي أحد المقربين منه أنه كان:" شديد الورع إلى حد لا يطاق مثله، حيث كان إذا شك في شيء تركه ولو كانت له حاجة أو ضرورة" يقول : ومن أعجب أخباره وهي من النوادر أنه بلغه من غير جزم أن العمارة التي فيها مسكنه بنتها الدولة على أرض أخذت غصبا من أهلها في العهد الاشتراكي، فصار يبحث عن ملاكها حتى يعوضهم بثمن يقدرونه، فذهل من سمع الخبر من صنيعه".
8- فصل في الزهد
الذي لا يشك فيه أن الشيخ محمد نعيم رحمه الله كان زاهدا في حطام الدنيا متقللا من متاعها، وليس الزهد أن يخرج المرء من كل ما في يده حتى يصير هو محتاجا إلي غيره، ولكن الزهد أن لا تتطلع النفس إلى المزيد وإلى العيش الرغيد، ومن مظاهر زهد الشيخ ما سبق ذكره من تعففه عن أموال الناس، ومنه أيضا أنه رحمه الله كان مقصودا كثيرا في الرقية الشرعية، والرقية تستهلك من المرء وقتا وجهدا كبيرا، ومع ذلك لم يكن يقبل أن يعطى شيئا مقابلها، هذا مع إلحاح كثير من الناس على تقديم العطايا والهدايا، في حين نحن نرى من جعلها تجارة وطريقا للتكسب السهل والسريع.
ولما كان يدرس في الجامعة علم القراءات وعلم الرسم والضبط لم يكن يأخذ على ذلك مقابلا، بل كان يدرس فيها محتسبا مثل تدريسه في المساجد، وكان يصلي بالناس التراويح ويرفض أن يجمع له المال كما جرت به العادة فيما مضى، بل قال محدثي أنه صار يشترط فيمن يعينه في صلاة التراويح أن يكون ممن لا يقبل هذا المال حتى يتجنب جمع المال في المسجد، وقال :"إن أبغض الناس إلى الشيخ المتأكلون بالدين".
9- فصل في التعجيل في إيصال الخير الى مستحقيه
كان الشيخ رحمه الله من المسارعين في الخيرات والمعجلين بتوصيل الأمانات إلى أهلها ، ومما يروى في هذا الباب أنه حدَث أن جمع مال ليلة الختم في رمضان، وهو كما سبق لا يقبل هذا المال، يقول الراوي إن الشيخ لم يصل فجر ذلك اليوم إلا وذلك المال قد وزع على الفقراء وكان مبلغا ضخما.
ومما يروى في ذلك أنه كان من حين إلى آخر يؤتى بطرود كبيرة تحوي جلابيب، فلا تمضي إلا سويعات قلائل فتكون قد وزعت كلها على مستحقيها من طالبات المقرأة، وكذلك ما يقدم إليه من مال لصالح الطلاب؛ فإنه لا يبقيه عنده بل يسرع ويسارع في توصيله إلى أهله وإنفاقه عليهم؛ في مختلف مصالحهم العامة والخاصة.
10- فصل في الحلم
قالت إحدى طالباته في تعليق لها ما معناه أن مما تعلمته من الشيخ خلق الحلم ، ومن ذلك أن طالبة جريئة كانت توزع على طالبات مقرأته منشورات تحرم دراسة النساء على الرجال، فكانت تريد أن تكلمها في صنيعها فصدها الشيخ وقال: "دعيها يا بنيتي، إنها ستكبر وتتوسع مداركها"، وتضيف قائلة:" ثم إن هذه الطالبة وقعت في مشكلة، فكان الشيخ أول من سعى لحل مشكلها؛ رحمه الله وطيب ثراه".
11- فصل في العفو عمن ظلمه وأساء إليه
كان الشيخ رحمه الله عندما يتحدث عمن يؤذنوه ويمكرون به ويوشون به يقول دائما هدانا الله وإياهم ، ويروي الشيخ الطيب لبعض جلسائه أن رجلا وسماه كان لا يحب أهل الدين والعلم عموما، والشيخ محمد نعيم خصوصا إلى درجة أنه كان يبصق على الأرض إذا مر أمامه، وذلك في سنوات التسعينيات؛ فلما توفي ذلك الرجل لم يجدوا من يغسله حتى طرقوا باب الشيخ نعيم؛ فاسترجع وأجاب الطارق فغسل الرجل وكفنه وأدى حقه على المسلمين كاملا.
وكتب إليّ أحد الطلاب قال:" كان أكثر المواقف أثرًا على قلبي، أنّه ذات ليلة من ليالي رمضان والشيخُ مقبلٌ على المحراب يصلّي بنا صلاة التهجّد؛ وقبل أن يشرع في التكبير لمح وريقة ملقاة على سجادة الإمام، فلما فحتها وقرأها ارتسمت على وجهه ابتسامة التعجّب، ثمّ أقبل علينا وأخبرنا بمحتوى الورقة، وقال: إنها رسالة من أحد طلبته؛ يقول فيها: يا شيخنا قد اغتبتك وتكلمت فيك بغير حقّ، وإني أطلب منك الصفح والعفو؛ قال الشيخ:" قد عفوت عنك في الدنيا والآخرة وإني سأُهدي لك ثواب هاتين الركعتين".
12- فصل في حفظ كرامة الناس
كان كثيرا ما يقدم المال لمن يحتاجه على أنه قرض؛ ثم إنه يخبر المقترض بأنه عفا عنه لعلمه بأنه لو قال له إنه هبة أو صدقة لم يقبله، يقول أحدهم:" فلما عزمت على رد المال قال: لا ترجعه قد نويته لله، فعلمت أنه قصد به الصدقة ابتداء وسترها بالقرض حفظا لكرامتي".
وكان يقول لطالبات الحي الجامعي إذا مرضتن فلا تتغيبن عن المقرأة، فإنه يوجد معكن طبيبات يدرسهن هنا، وهن في خدمتكن وحتى الدواء مجاني، والواقع أنه هو من كان يتكفل بشراء الدواء ولا يخبر الطالبات بذلك.
13- فصل في خدمته للطلبة والطالبات
وهذا الباب إذا فتحنا الباب للروايات فيه لم يغلق، ومن ذلك إعداده للمقرأة قبل حضور الطلبة بكل ما يلزم، ففي الفترة الصباحية المخصصة للطالبات كان يعد لمن يحضر منهن بعد الفجر فطور الصباح، وكان يحضر لهن الشاي بيده وربما يشتري لهن الطعام بنفسه، وفي أيام البرد يجدن المدفئة قد أوقدت قبل وصولهن، وفي الأيام المطيرة يجدن منشفات وضعت عند المدخل لتجفيف الحجابات.
وحدث مرةً أن كلف بعض الطالبات بشراء طعام لغداء الطالبات، فأرادت المكلفات الاقتصاد فاشترين ما يسمى في تلمسان بالكاران؛ فزجرهن رحمه الله على فعلهن، وأمرهن بشراء طعام محترم يليق بهن ما دام المال موجودا. وكان بعضهن يصمن الاثنين والخميس؛ فإذا شعر الشيخ بذلك -حين امتناعهن عن فطور الصباح- يخرج قبيل العصر من المقرأة ليجلب لهن التمر والحليب، وغير ذلك مما تجود به نفسه ليأخذنه معهن إلى الإقامة الجامعية .
وكان كثير العناية بالطالبات المقيمات بالأحياء الجامعية البعيدات عن أهاليهن، فكان لهم بمثابة الأب والكفيل يقضي جوائجهن كشراء المطبوعات الجامعية والعلاج كما سبق، أو تكاليف التنقل إلى ولاياتهن، ولا سيما من يعلمها فقيرة أو يتيمة.
ومن الأمور العجيبة أنه لما كان يفتح المقرأة بعد الفجر مباشرة كان يخرج قبل الفجر بسيارته فيسير في الطريق الرابط بين الأحياء الجامعية ومسجد بلال بن رباح، يحرس الطالبات ويراقبهن عن بعد حتى يشعرن بالأمان، وربما كان يتصل ببعضهن بالهاتف حتى يدفع عنهن الخوف ويؤنسهن أثناء السير، هذا قبل أن يغير التوقيت ويجعله على الساعة السابعة صباحا رحمه الله تعالى.
وكتبت إحداهن تعليقا على هذا الفصل :" صدقت يا أستاذنا كنت طالبة عنده، وكنت أعاني من ألم في فمي، فدلني الشيخ إلى الأطباء وتكفل بالعلاج جزاه الله كل خير ورحمه رحمة واسعة"
14- فصل في التفاني في التعليم القرآني
كان الشيخ رحمة الله في السنوات العشر الأخيرة من عمره بعد تقاعده من قطاع التعليم؛ قد تفرغ للتعليم القرآني كل التفرغ حيث كان يفتح مقرأته من الفجر إلى العشاء ثم صار يفتحها من السابعة صباحا إلى العشاء، وكان تدريسه يوميا عدا الجمعة ثم أضاف يوم الخميس إلى الجمعة بعد أن أحس بحاجة إلى بعض الراحة، حيث كان يمرض بسبب الإرهاق الشديد، فلم يكن يغيب عن المقرأة في بعض السنوات إلا سويعات كان يقتطعها ليحضر للتدريس في الجامعة، ثم صار يعتذر عن التدريس في الجامعة من شدة اهتمامه بطلاب مقرأته، وكذلك انقطع تماما عن الرقية لأنها كانت تأخذ منه وقتا طويلا، رغم ما فيه من نفع، ورغم أن كثيرا من الناس ربما لا يأتمنون على أسرارهم إلا الشيخ ولا يثقون في غيره في هذا الباب .
15- فصل في الانضباط في التعليم
كان الشيخ محمد نعيم رحمه الله منضبطا جدا في تعليمه من ناحية الالتزام بالوقت والحرص وعدم الغياب إلا لظرف قاهر، وكان ملازما للمقرأة طيلة النهار لا يخرج إلا لحاجة ملحة أو مصلحة من مصالح الطلاب، بل كان لا يجيب على الهاتف وهو في المقرأة، ومن مظاهر انضباطه كما تقول إحدى الطالبات أنه لم يشرع في شرح كتاب إلا التزم بالوقت الذي حدده حتى يتمه، ولا يبالي بعدد الحضور. وكما كان هو ملتزما كان حريصا على الزام الطلاب بالحضور، وقد يتساهل مع طلاب المدارس والجامعات لكن يوم السبت لا يكاد يعذر فيه أحدا بالغياب، تقول طالبة إنها أحست بالتعب لمرض بها فاستأذنته في الخروج لترتاح في الإقامة فقال لها : بل ابقي هنا وإن وافتك المنية سمينا عليك المقرأة، ويقول آخر اتصلت به وقلت له قد يتعذر على زوجتي الحضور اليوم فهي متبعة بسبب الحمل كما أنها تعتني بطفلتها التي لم تبلغ السنتين، فقال له إذا كانت تستطيع أن تقرأ فلابد أن تحضر وتحضر معها ابنتها .
وذلك لأنه يعلم أن طول انقطاع الطلبة بالأعذار الهينة؛ قد يكون ذريعة للفتور ومن ثم الانقطاع الكلي.
16- فصل في حكمته في التعليم
ومما عرف به الشيخ الحكمة والتدرج في التعليم ومراعاة أحوال المتعلمين ومستواياتهم يقول أحد الطلاب الذين حفظوا القرآن على يديه :" في البداية كان لا يصحح لي إلا اللحن الجلي حتى ظننت أني أحسن القراءة، وهو إنما يفعل ذلك اتباعا لسنة التدرج في التعليم وحتى لا ينفرني، يقول: فلما تقدمت في الحفظ وعرضت عليه نحو خمسة أحزاب صار يصحح لي وينبهني إلى عشرات الأخطاء التي كان يسكت عنها قبل ذلك، ولو فعل ذلك في البدايات لجعلني أمل وأرى حفظ القرآن غاية مستحيلة" .
ومن مراعاته لأحواله الطلاب ما ذكرته طالبة قالت : كنت أحفظ كما يحفظ الناس، لكن ما إن أكملت حزبين من سورة البقرة حتى ثقل علي الحفظ واستصعبته جدا لا أدري لماذا، فانقطعت عن المقرأة، فسأل عني ، فذهبت إلى المقرأة معتذرة وقلت له لم أعد أستطيع الحفظ لذلك انقطعت، فقال لها : إن جلوسك هنا في بيت من بيوت الله تقرئين القرآن وتحاولين الحفظ وتحضرين لدرس "قراءة في كتاب" في المواعظ؛ أفضل من بقائك في الإقامة، تقول فكان كلامه هذا كالدواء، وقد وفقت لحفظ اثنين وعشرين حزبا من القرآن الكريم.
وكما كان مشجعا للطلاب في حفظ القرآن كان أيضا متلطفا رحيما بهم في الجامعة فكان لا يرد المتأخرين كما يفعله البعض، وقد حدثت قصة مع أحدهم وصل إلى الباب ولما رأى الشيخ هم بالرجوع نظرا لتأخره كثيرا عن بداية الدرس، فناداه الشيخ وقال:" هذه مجالس تحفها الملائكة ولو حضرتم كفارة المجلس فقط لكان خيرا".
17- فصل في الصلح بين الناس
إن الشيخ قد رزق مكانة عالية جعلته مقصد الناس في حل مشكلاتهم، ورزق مهابة في النفوس جعلت الخصوم يذعنون لنصحه وتوجيهه، وقد وفقه الله تعالى في فض نزاعات كثيرة بين الأزواج وبين الأقارب والجيران والشركاء، وكان رحمه الله ربما شاورني في بعضها مما يتعلق بالحقوق المالية والأملاك. وكان رحمه الله أيضا ذا حكمة وأناة لا يعجل في هذه الأمور، ويسعى دائما للإصلاح ورد المظالم، وهذا باب عظيم من أبواب الخير، وقد قال ربنا عز وجل {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 114]
18- فصل في عبادته
وأما عبادته رحمه الله فهذا مما قد يعسر استحضار الشهادات فيه لخفائه وعدم ظهوره، ولكن وجدنا بعض الروايات لا تخل من شذرات في هذا الباب يقول مرافقه في العمرة:"رأيته في العمرة قليل النوم مكثرا من قراءة القرءان، لا يكاد يخرج من المسجد إلا لضرورة ولا يدخل المحلات التجارية أبدا، ويقول ما يباع هنا يباع في بلادنا، ومن التفريط العظيم أن تسافر إلى الحرم ثم تنشغل بغيره".
وتقول إحدى الطالبات :"وكان إذا صلّى بنا الفجر أطال، فقد يقرأ في الركعة ثمنا أو ما يزيد عليه بقليل، ويقرأ بتأن وكان يخشع في كل الصلوات التي حضرتها حتى نبكي ونحن نصلي معه"، وتقول :" وكانت له عادة جميلة كنت أحبها كثيرا حيث كان عندما يفرغ من صلاة الفجر؛ لا يباشر التحفيظ ولا يتحدث إلى أحد ولا يفعل شيئا؛ حتى يأتي بأذكار الصباح وهو يجول داخل المقرأة".
19- فصل في رقة القلب وسرعة الدمعة
إن الشيخ رحمه الله كان ذا ابتسامة جميلة، وكان أيضا ذا نظرة حادة تدل على حزم وشدة فيه، ومما يرويه الطالبات أنه كان كثيرا ما يغضب منهم إذا رأى منهن تقصيرا أو فتورا فيزجرهن، لكن سرعان ما يعطف عليهن ويخشى من نفورهن فيظهر لهم رضاه وحلمه .
ومما يحكيه أحد طلابه أنه زاره في المقرأة في الصباح فاستقبله وأكرمه وأجلسه مكانه وأمره أن يعظ الطالبات، يقول الراوي وهذا من تواضع الشيخ ، وأنه فعل ما أمر به الشيخ بعد تردد، ثم إن الله فتح عليه فاسترسل في الوعظ والتذكير؛ حتى لمح الشيخ يحاول إخفاء دمعته وتأثره بكلامه رحمه الله رحمة واسعة.
20- فصل في كراماته
قال الراوي :"أخبرني أحد تلامذته الذين درسوا عنده بالثانوية أن الشيخ حدثهم عن أيام دراسته بالجامعة الإسلامية بالمدينة، فقال حدث له مرة في أيام الامتحانات أنه رأى في المنام في موضوع الامتحان وتكررت الرؤيا على مدار ثلاثة أيام، وفي الرابع يوم الامتحان وجد الموضوع كما رآه في المنام؛ لا ينقص منه حرف واحد".
21- فصل في دعوته إلى التوحيد الخالص وتعظيم السنة
كتب أحد الطلبة معلقا على منشور لي :" وقد يضاف الى فضائله في سيرته رحمه الله، أن (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لشيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حجم صغير كان يلازمه في جيبه ويقول لطلبته: "هذا ما لا يفارقني"، ويذكر أيضا أنه تميز بقوة في لين، فمع لين جانبه وتواضعه كان قويا في الحق، وإنكار المنكرات كما في حادثة امتناعه تسليم خيمة لوازم العزاء، وأنكر على طالبها ودعاهم للسنة في أحكام الجنائز".
وذكرني تعليقه هذا بحادثة قصها علي الشيخ رحمه الله حيث إنه كان في منتصف الثمانينيات يدرس كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب، قال فثارت ثائرة بعض الناس حتى خطبوا خطبة جماعية تحذر منه كان عنوانها (جاءنا وهابي)، وحدثني أنه لما دعي إلى نظارة الشؤون الدينية -كما كانت تسمى يومها- أخذ الكتاب منزوع الغلاف، وقال لمن سأله انظر هل في هذا الكتاب شيء يخالف الدين، فنظر فيه فلم يجد ما ينكر ورده إليه .
22- فصل في آخر درس ألقاه على الطالبات
كان الشيخ فضلا عن تعليم القرآن الكريم له حصص في تعليم أحكام التلاوة، وحصص سماها قراءة في كتاب، يشرح فيها مواضع منها وربما يقرأها كاملة إن كان حجمها صغيرا، ومن الكتب التي كان يقرأ منها الموطأ وآثار ابن باديس، وكتب الشيخ أبي بكر جابر الجزائري؛ نحو نداءات الرحمن، ومنهاج المسلم، وهذا الحبيب يا محب في السيرة النبوية، وكان آخر درس ألقاه الشيخ في المقرأة على الطالبات متعلقا بحجّة الوداع ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر درس من دروس السيرة النبوية، ثم دعا بدعاء مطول تم تسجيله وبثه.
وتقول إحدى الطالبات: لقد كان الشيخ كثير الذكر للموت في آخر أيامه في المقرأة، وفي هذا اليوم -يعني يوم ختم درس السيرة النبوية -قال عبارة لم نلقي لها بالا: (المقرأة مغلقة والملتقى الجنّة) ثم كتب على السبورة: المقرأة مغلقة من يوم كذا إلى مالا نهاية ...وقد اعتقدنا أنه يمزح كما كانت عادته حين يرى منا فتورا وكسلا فيهددنا بغلق المقرأة؛ حتى نستعيد همتنا ونواصل بجد، ولكنها لم تكن مزحة وقد صارت حقيقة ، فقد أغلقت المقرأة وأطفئت أنوارها وصرنا نرى أنفسنا أيتاما رغم أن والدينا لازالوا أحياء".
23- فصل في رثاء الشيخ محمد نعيم
نشر جمال بوعزي في حسابه قصيدة للشيخ الطيب براهيمي- حفظه الله - يرثي فيها الشيخ محمد نعيم _رحمه الله_ بعنوان (إلى اللقاء يا أعز الأصدقاء) فننقلها برمتها في هذا الموضع.
بكتك محاريب أخي و منابر و مدرسة كنت فيها تحاضر
توالت دموع الحاضرين غزيرة و أخرى احتوتها أن تسيل المحاجر
شباب أتى من كل صوب و جانب وما منهمو إلا حزين وحائر
رثتك بيوت الله يا خير صاحب وقد حزنت من ذاك تلك المحاضر
جموع أتت عجلى لتشييع شيخها وقد شاركت في الحشد حتى الحرائر
عرفت نعيما و النعيم مؤمل كريما ودودا تجتبيه النواظر
لقد جمعتنا ذكريات جميلة صفا ودنا فيها وطابت خواطر
فلم ألقه إلا ضحوكا مرحبا كلام نعيم بلسم وجواهر
فمن ذا يقيم الدرس بين شبابه ومن عن كتاب الله سوف يناظر
ألم يقرأ القرآن عذبا مرتلا وكم قلدته في الأداء حناجر
تلاوته أغرت شبابا فأقبلوا على الدين تحذوهم جنان أواسر
جمعت ألوف الناس حيا و ميتا وتاقت بَوادٍ للقا وحواضر
و علمت أجيالا و سرت مسيرة و قاسيت أوصابا و أنت مصابر
فلم تنقطع يوما عن الدرس لحظة إلى أن دهاك الدا وأنت مثابر
و يسأل إخوانه في كل مرة وإن زرته يوما حوتك المفاخر
وما كنت ترجو في المقابل أجرة ولكن قصدت الله معْه تتاجر
فلو كنت تسعى للحطام لنلته ولكن رجوت الله والله شاكر
حملت لواء الذكر في زمن الردى وقلت الى الأعمال هيا نبادر
ومن يرفع القرآن يعل مكانه و تطربه في دار الخلود البشائر
ستفقدك الأجيال شيخا مربيا وتفقدك الأقسام بله المحابر
ولا غرو أن الغصن غصن بن رابح ومن يجهل الأفضال إلا مكابر
جزاك إله الخلق خير جزائه وجاورت خير الخلق نعم المجاور
و أسكنك الفردوس رفقة أهلنا وأشياخنا يا رب إنك قادر
فهذا الذي قد قلته قد خبرته وثمة عند الله تبلى السرائر.
24- فصل في رؤيا صالحة رئيت له بعد موته
كتبت إحدى الطالبات في حسابها وقالت:" وقف عليّ شيخي رحمة الله عليه عليّ في المنام قبيل الفجر، سمعت صوتاً يهمس لي بنيتي، وعندما ذهبت اتجاه الصوت وجدت شيخي رحمة الله عليه في بستان أخضر يضحك، لباسه من نور وحتى صوته الذي كان يخرج من فمه من نور، وقال لي بنيتي لا تحزني ولا تقلقي، فأنا عند ربي مع الصديقين والشهداء والصالحين ومع الصحابة رضوان الله عليهم أعادها عليّ ثلاث مرات، وقال قولي لأخواتك لا يحزنّ ولا يقلقن عليّ فأنا عند ربي ومع الصديقين والشهداء والصالحين ومع الصحابة رضوان الله عليهم أعادها عليّ ثلاث مرات أيضاً ، بنيتي لا تبرحي ثغرك وقولي لأخواتك لا يبرحن ثغرهنّ ولا يتخلّفن عن المقرأة، ولا عن قرآنهنّ حتى يلقين الله ويجتمعن معي، هنا في الفردوس الأعلى ثم استيقظت ". وصاحبة الرؤيا الآن معلمة قرآن والحمد لله على نعمته.
وأرسلت لي أخرى رؤيا تقول فيها: رأيت الشيخ نعيم رحمه الله في المنام كان يمشي وهو متعب يريد صعود درج إلى منزل أبوابه سوداء، فأمسكت يده وساعدته وبدأ يصعد الدرج وإذا بنا نرى رجلين عند باب البيت الذي يقصده سألته من هذان الرجلان فقال لها هذا فلان وابنه وعندما اقترب منهما قاما إكراما له، وأخبرها أنهما هم من أعطاه هذا المنزل، فلما دخلنا المنزل وجدناه غرفة واسعة ومنظمة، فقلت للشيخ استلقي هنا ووضعت تحت رأسه وسادة وسألته هل تشعر بالبرد لأغطيك، فقال لي لا أنا بخير ولا أشعر البرد". وسألت عن تأويلها عن الشخصين المذكورين، وتأويل الرؤيا حسب المعبر أن الشيخ تعب في آخر عمره ولكن الله تعالى عوضه عن تعبه وعن تعليمه القرآن بالنعيم والراحة، بدلالة أن الشخصين المذكورين كلاهما حفظ القرآن على يديه، والغرفة الواسعة أمن وآمان، وكذا عدم احتياجه للغطاء يدل على أن ما قدم من أعمال كفاه للنجاة بين يدي الله تعالى.
تم المقصود بعون الله تعالى وفضله ورحمه الله رحمة واسعة
108-حكم المنتحر وواجب الأحياء تجاهه غير منشورة
حكم المنتحر وواجب الأحياء تجاهه
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» رواه مسلم
قد يضع بعض الناس حدا لحياته ويستعجل موته لسبب أو لآخر، وحكمه عند باريه بحسب أعماله وما وقر في قلبه، هو بالنسبة إلينا من أصحاب الكبائر المستحقين للوعيد الشديد، الذين إن عاقبهم الله تعالى فبعدله وإن عفا عنهم فبفضله سبحانه، وله حق على المسلمين أن يصلوا عليه ويستغفروا له، وذلك من فروض الكفايات كما هو معلوم، وينبغي على أهله وأقاربه وأصحابه ومعارفه أن يستكثروا له من الدعاء بالرحمة، ومن شاء منهم أن يهب له من ثواب عمله صدقة أو غيرها فليفعل، وأصحاب الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحوج إلى الرحمة والإحسان من الأحياء من غيرهم.
وما نص عليه بعض الفقهاء من ترك أهل الفضل للصلاة على قاتل نفسه وغيره من المشتهرين بالكبائر-استدلالا بترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة على من قتل نفسه-؛ ليس من باب عقوبة الميت ولكن هو من باب الزجر للناس الأحياء حتى ينتهوا عن تلك المعاصي، وتعظم في نفوسهم... ودعاء النبي صلى عليه وسلم في الحديث أعلاه للمنتحر بكمال المغفرة لجميع أعضائه؛ فيه تأكيد لما ذكر من مقصد ترك الصلاة، كما أن فيه تأكيد لعقيدة أهل السنة في أصحاب الكبائر، من أنه مستحق للوعيد يخاف عليه ولا يجزم بالحكم عليه بدخول النار فضلا عن الخلود فيها، وهو في المشيئة المنصوصة في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48] مشيئة مقيدة بحكمة الله تعالى وعدله.
من وحي طوفان الأقصى (5) : الموافقات التاريخية غير منشورة
من وحي طوفان الأقصى (5) : الموافقات التاريخية
ونحن نتتبع الأحداث المتتابعة التي يمر بها قطاع غزة، ترجع بنا الذاكرة إلى أحداث مماثلة لها في تاريخ جهاد الجزائر المجيد؛ تماثل وتوافق قد يكون ناتجا عن دراسة المقاومة الفلسطينية لتاريخ حركات التحرر الحديثة لتأخذ منها العبر، وقد يكون من ثمار حكمة العقول المدبرة والمخططة لمعركة طوفان الأقصى من غير اعتبار بالغير، ومهما يكن فإنها موافقات إن لم تكن مقصودة فإنها تتضمن موافقات قدرية، وقد اتفقت في الفعل كما اتفقت في الأثر المرجو، وإن المؤمل أن تكون نهاية معركة الطوفان وما يتلوها من معارك هذه الحرب الطويلة هو دحر العدو وإسقاط دولته وإزالتها من الأراضي الفلسطينية كلها كما زال الاحتلال الفرنسي عن الجزائر.
الهجوم الشامل ونتائجه
إن ذلك الهجوم الكاسح الذي كان فجر يوم السابع من أكتوبر ودام يوما واحدا؛ ثم رجع المجاهدون إلى قواعدهم بعد أن كبدوا العدو خسائر كبيرا في الأرواح والعتاد؛ ليذكر كل عارف بمحطات حرب تحرير الجزائر بهجوم الشمال القسنطيني الذي حدث في يوم واحد وهو يوم 20 أوت 1955م، وإذا كان هجوم المقاومة قد شمل كل مدن وثكنات ما يعرف بغلاف غزة ، فإن هجوم الشمال القسنطيني قد غطى أيضا نحو 26 مدينة وقرية، استهدف فيها كل المنشآت الحيوية الاستعمارية، ومراكز الشرطة والجيش، ومزارع المعمرين، وقد تمكن المجاهدون الجزائريون من احتلال عدة مدن وقرى في هذا اليوم الأغر قبل رجوعهم إلى قواعدهم غانمين.
وإذا كان الهدف الأساس المعلن على لسان المقاومة الفلسطينية؛ هو فك الحصار المضروب على المسجد الأقصى، فإن من أهداف هجوم الشمال القسنطيني الظاهرة يومها هو فك الحصار العسكري عن منطقة الأوراس التي تقع جنوب الشمال القسنطيني .
وكما كان الرد الصهيوني بالوحشية التي رأينا ورأى العالم أجمع في هذه الأيام الخوالي، ولا تزال أعداد ضحاياه في تزايد وقد تعذر ضبطها ضبطا دقيقا، فقد ردّت السلطات الاستعمارية الفرنسية يومها بوحشية منقطعة النظير على تلك الهجمات، فشنت حملة اعتقالات واسعة شملت آلاف المدنيين، ونكلت بأعداد لا تحصى منهم، وأحرقت المزارع وقصفت القرى من الجو والبر، وارتكبت مجازر رهيبة منها مجزرة ملعب سكيكدة الذي حشرت فيه الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وأعدمت كثيرا منهم بدم بارد انتقاما لخسائرها الفادحة، وقد قدر عدد ضحايا تلك العمليات الإجرامية ما بين الـ12000 و13000جزائري .
وكما أن بني صهيون قد قاموا بتسليح المستوطنين في الضفة الغربية للمشاركة في الحملة الانتقامية، فإن فرنسا قد قامت أيضا بتسليح المعمرين الأوربيين، فشكلوا ميليشيات ساندت الجيش في العمليات الانتقامية.
وكان من الآثار العاجلة المحصلة لطوفان الأقصى تحطيم الأساطير التي نسجت حول جيش الاحتلال المرتب الخامس عالميا، وهذا أول ما حصله هجوم الشمال القسنطيني؛ فقد حطم في نفوس الجزائريين ما غرس فيها من أن جيش فرنسا لا يقهر .
ومما أفرزه هجوم الشمال القسنطيني توسع رقعة الثورة حيث انضمت مناطق كثيرة إليها بعد الهجوم، كما ازداد عدد المنخرطين في صفوف جبهة وجيش التحرير الوطني من جميع فئات الشعب وعلى اختلاف انتماءاتهم.
وهذا ما نتمنى أن يحدث إثر هذا الطوفان على الوجه التام والأكمل وإنه لقريب وليس ذلك على الله تعالى بعزيز.
ومن آثار هجوم الشمال القسنطيني التشهير بالثورة الجزائرية في العالم ولفت الانتباه إليها، والدفع إلى إدراج ملفها في جلسات الأمم المتحدة، وكان ذلك في دورتها العاشرة سبتمبر – نوفمبر 1955.
ولقد دفعت الأعمال الاجرامية الانتقامية للعدو الصهيونية -التي أعقبت الطوفان- إلى عودة القضية الفلسطينية إلى أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، وإن كانت تلك العودة لم تؤت ثمارها؛ فإن الأثر على شعوب العالم كان عظيما جدا، وقد صرفت الأنظار عن كل الأحداث الساخنة وبؤر التوتر في العالم، حتى نسي الناس حرب أوكرانيا وأزمة تايوان ومعارك السودان.
ساعة الصفر
لقد اختارت المقاومة الفلسطينية صبيحة السابع من أكتوبر الذي يصادف نهاية احتفالات عيد العرش اليهودي، كما اختار المجاهدون في الجزائر انطلاق الحرب التحريرية ليلة 31 أكتوبر إلى 01 نوفمبر المصادف لعيد جميع القديسين عند النصارى الكاثوليك.
إلا أن إخواننا في غزة اختاروا أفضل أوقات الإغارة، وهو بعد الصبح وليس ساعة 00 كما فعل الجزائريون.
ولقد سمعنا العدو وحلفاءه جميعا يصفون عملية طوفان الأقصى بالعملية الإرهابية رغم أنها عملية مندرجة ضمن حق الدفاع المشروع ضد المحتل وأعماله الإجرامية التي لم تنقطع يوما ، وكذلك أصبحت الجرائد الفرنسية معلنة في صفحاتها الأولى عن حدوث أعمال إرهابية في ربوع الجزائر، وقد لازم ذلك الوصف المجاهدين طوال سنوات الكفاح إلى حين طرد فرنسا من الجزائر.
التحالف الغربي
وفي سياق ذكر حلفاء الكيان نذكر أنه كما سمعنا مسارعة دول من الحلف الأطلسي وعلى رأيها الولايات المتحدة إلى تأييد الكيان الغاصب في حقه المزعوم في الرد والانتقام تأييدا سياسيا وعسكريا وماليا، فإن دول هذا الحلف قد ساندت فرنسا كذلك منذ نوفمبر 1954 حيث حصلت الأخيرة على دعم بمختلف الأسلحة الجوية والبرية ودعمت بمدربين أمريكيين وبفيالق من ألمانيا الاتحادية وغيرها من دول الحلف، وفي وثائق الثورة ما يدل على مشاركة غير الفرنسيين وقد أطلق (كما هو موثق في جريدة المجاهد عام 1959 م) 2071 أسيرا ألمانيا و439 إسبانيا و447 إيطاليا، ولذلك كثيرا ما نسمع أن الجزائر هزمت فرنسا ومن ورائها الحلف الأطلسي، ونحن نقول اليوم إن جرائم الاحتلال في غزة لا يتحملها الكيان الصهيوني وحده ولكن يتحمل وزرها كل الدول التي أيدتها: الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ولن يمحو إثمها ومسؤوليتها تراجعٌ في الموقف، أو تلطف في الخطاب، أو تقديم مساعدات إنسانية مهما عظمت.
سفارة الأسرى
لقد كان من أهداف طوفان الأقصى المعلنة أسر ما أمكن من الجنود وأخذ عدد من المدنيين كرهائن ليتم فداؤهم بجميع الفلسطينيين الذين يملؤون سجون الاحتلال، وهو ما عبرت عنه المقاومة بتبييض السجون، وما إن بدأت عمليات الإطلاق لدواع إنسانية والتي صحبتها تسجيلات لبعضهم وتلتها عمليات التبادل؛ حتى ظهرت نتيجة أخرى كان وقعها أعظم من عملية التبادل في حد ذاتها، وهي تصريحات اليهود المسرحين المثنية على التعامل الحسن للمقاومين لهم وما قدموه لهم من رعاية وإحسان، ولقد كانت صور التوديع أعظم الشهادات وأبلغ من الكلمات ، الأمر الذي دحض كل الدعاوي والأكاذيب المعادية التي تصف المقاومين بالوحشية ونحوها، وفي الجهة المقابلة فإن عملية إطلاق الأطفال الفلسطينيين الأسرى قد صدم العالم أجمع؛ لأنه أظهر حقيقة مرة كانت خفية، وأما شهادات المسرحين المسموعة والمكتوبة والمصورة والمنقولة بالواسطة؛ فقد كشفت اللثام عن أحق الناس بوصف الإرهاب والوحشية والهمجية.
وهذا الأمر يذكرنا بما كان يعانيه الجزائريون في سجون الاحتلال من تعذيب وتنكيل، كما يذكرنا أيضا بعملية إطلاق الأسرى الفرنسيين وغيرهم التي قام بها جيش التحرير الوطني ، وهو وإن لم يرق في حدود علمي إلى عملية التبادل، فقد حقق أهدافا إعلامية عظيمة للثورة، حيث كشفت اعترافات وتصريحات الأسرى زيف الدعاية الفرنسية ضد الثوار، حيث أكدوا على أنهم وجدوا من المجاهدين معاملة إنسانية طيبة-وهي المعاملة التي تفرضها الشريعة الإسلامية-، وقد نقلت جريد المجاهد سنة 1959 شيئا من تلك التصريحات نقلا عن غيرها، ومن تلك التصريحات قول أحدهم :"إننا نحب أن نعلن عن المعاملة الطيبة التي لقيناها من الوطنيين الجزائريين فلم نتعرض أبدا للشتم أو الإهانة، ولم يستعمل ضدنا أي ضغط مادي أو معنوي، كنا نتناول طعامنا قبل الجميع، وفي بعض الأحيان كنا نخجل من هؤلاء الرجال الذين يعاملوننا بمنتهى الطيبة والروح الإنسانية في الوقت الذي خربت ديار أكثرهم وقتلت عائلاتهم" وقال أيضا :"وأضاف: “كنا نظن أننا وقعنا بين أيدي عصابة من القتلة، ولكننا اكتشفنا جيشا نظاميا ولقينا رجالا يمتازون بالنظام والحماس والعزيمة القوية، ويكافحون لتحقيق مثل أعلى يؤمنون به".
الموافقات المأمولة
لعل من الموافقات التي نأمل تحققها أن يأتي يوم تتوحد فيها الفصائل الفلسطينية كلها على مبدأ تحرير كل فلسطين، كما توحدت جل الأحزاب الجزائرية تحت لواء جبهة وجيش التحرير الوطني، وأن تعلن رفض مخطط التقسيم لا أن تترجى تطبيقه كما رفضت جبهة التحرير الوطني مقترح فرنسا بتقسيم الجزائر وفصل شمالها عن جنوبها، لأنه لا يقبل بالتقسيم إلا دعيٌّ لا يؤمن بعدالة قضيته ومطلبه، وأما الصادق المؤمن بقضيته فلا يقبل التنازل عن شبر من أرضه، والذي نتمناه أن يتم التوحد عن قناعة جماعية بوحدة الهدف والمصير، وأن لا يستغرق الوقت الذي استغرقته جبهة التحرير الوطني، وأن لا يدفعوا إلى السير في مسارها الذي كان مكلفا جدا.
من وحي طوفان الأقصى (4) : الطوفان كاشفا غير منشورة
من وحي طوفان الأقصى (4) : الطوفان كاشفا
سجل في ذاكرتك وإياك أن تنسى إن هذه الأحداث الأليمة الجارية لابد أن تحفظ وتستصحب مدى الحياة، هذه الأحداث التي تعجز الألسن والأقلام عن وصف وحشيتها وتصوير فظاعتها، بل إن العقول لتصاب بالشلل والذهول لمدة طويلة من هول ما ترى العين وتسمع الأذن فلا تقوى حتى على التفكير ولا تقوى بقية أعضاء الجسم عن الامتثال حتى لو أراد القلب ذلك.
إن هذه المجازر البشعة الموثقة بالصوت والصورة في مكان الحدث قد كشفت للمسلمين ولبقايا البشر في العالم عدة حقائق، وإن الموقف الدولي الذي أيدها بالدعم المطلق أو ساندها بالصمت المطبق أو شجع مرتكبيها بالكلام المملول المرتبك والشجب الجبان أو الاستنكار بعد فوات الأوان قد أزال اللثام عن وجوه شيطانية طالما كانت متلفعة بوشاح الإنسانية وكشف للمخدوعين عن زيف مبادئ الغرب التي لا تزال تخدر بها الشعوب وخاصة الشعوب الإسلامية.
لقد كشفت هذه الجرائم كذب دعاوى القيم الانسانية حيث خرس أهلها ومدعوها، وقد كانت الدول العربية الراعية للقيم الإنسانية -عجل الله سقوطها- أول المباركين للوحشية الإسرائيلية، ولم تستنكر إلا لما بلغ الطغيان منتهاه، لا لإنقاذ الفلسطينيين ولكن محاولة لانتشال نفسها من الورطة التي وقعت فيها، فلم يسمع ذلك الاستنكار وسط صراخ بقايا البشر في العالم، ولم يلتفت إليه مواقف أو مخالف لهوان صاحبه وافتضاحه، بل التفت الناس باهتمام إلى الصهيونيين الذين أدركوا الخطر وخافوا أن تمحى شماعة معاداة السامية وهابوا من مقدمات زوال دولتهم؛ فرفعوا أصواتهم عاليا بأن نتنياهو مجرم حرب، وقالوا نضحي برئيس وزراء لا محالة زائل ولا نضحي بالحلم الصهيوني.
لقد كشفت لنا الأحداث في فلسطين زيف ما يسمى حقوق الإنسان وما يُدَّعى من حقوق الأطفال ويُمنَّى به من حقوق النساء، إن هذه الحقوق وما يلفها من إنسانية إنما يدعو إليها ويروج لها أناس انخلعوا من الإنسانية ذاتها؛ أجسادهم أجساد بشر لكن أرواحهم أرواح شيطانية؛ فما حقوق الإنسان عندهم إلا حقوق الإنسان المجرم والشاذ جنسيا والمنحرف المماثل لهم، وليست حقوق الطفل هي التي نعرفها؛ ولكنها حقهم في سرقة الأطفال من يد أوليائهم وتلقينهم الشذوذ وكل انحراف عن الفطرة السوية، وحقوق المرأة إنما هي حقهم في تحريفها أيضا عن أنوثتها وطبيعتها وتصييرها سلعة يستمتع بها، أما حق الحياة وحق العلاج وحق التعليم وحق التعبير والحرية والأخوة والمساواة فما هي إلا شعارات خداعة وما هي إلا وسائل يغوى بها الناس لتحقيق الغايات المذكورة.
لقد كشفت لنا الأحداث أن ما يسمى بالمجتمع الدولي إنما شخص كفيف أصم أبكم إذا تعلق الأمر بالمسلمين أو الفلسطينيين خصوصا ، وكشفت أن جمعية الأمم المتحدة إنما هي مؤسسة خاصة مملوكة لدول معدودة تخدم به أفكارها وسياستها في العالم ، وأن المنخرطين فيها منهم من هم في رتبة الأسياد والراشدين، ومنهم من هم في رتبة العبيد والسفهاء المحجور عليهم؛ الذين يتوجب عليهم دفع المستحقات ثم السمع الطاعة وتنفيذ ما يملى عليهم فقط، نعم يسمح لهم بالتعبير عما في أنفسهم وذلك يكفيهم.
ولقد أكدت لنا الأحداث –ولم تكشف - حقيقة حكام العرب، الذين جعلوا من الوصول إلى الحكم هدفا وغاية يضحى من أجلها بالشعوب التي يحكمون فكيف الشعوب التي لا يحكمون، لقد بينت الأحداث أن العربي بات عربي النسب والعرق لا عربي الصفات والأخلاق، وبينت أن المسلم اسمه لم يعد مشتقا من الاستسلام لرب العزة جل جلاله الذي بيده الملك ، ولكنه مشتق من الاستسلام لعدو الله وعدوه، فجعل من إسلامه حجة على هوانه وخنوعه، ففي الوقت الذي تجلد فيه أمته وتهان كرامته يرفع هو عقيرته بالدعوة إلى السلام والعيش في وئام في صورة إليها المنتهى في القبح والذلة.
لقد كشفت لنا هذه الأحداث أن الحرية الحقة لا يؤمن بها إلا آمن بالعبودية لله تعالى، وكان القرآن دليله والسنة منهاجه، وهذا حال أهل غزة الذين لم يتركوا ما أوجب عليهم دينهم ولم يتنازلوا عن حقهم في أرضهم؛ بخلاف من تهود منهم ورضي بمساكنة الغاصبين وحمل جنسيتهم والوقوفِ لعلمهم وقبل أن يحكم بقوانينهم، إنهم لم يتركوا دينهم وواجباته فقط ولا تنازلوا عن أرضهم فحسب، بل إنهم فيما يظهر قد ماتت فيهم كل الأحاسيس الفطرية؛ فتنكروا لروابط الدم ولم تتحرك فيهم الإنسانية التي تحركت في بقايا البشر في العالم، وحال من ألف العيش الرغيد والأمن الموهوم في أرض الشتات واللجوء لا يختلف حال أكثرهم عن حال هؤلاء.
لقد كشفت الأحداث أقنعة كثيرة لكثيرين من الغافلين، وأكدت حقائق لطالما بينها المهتدون بهدي القرآن المكتفون به عما سواه وما أكثر ما كشفت وأكدت وحسبنا في هذا المقال ما ذكرنا، والله حسبنا ونعم الوكيل.
من وحي طوفان الأقصى (3): سندعمهم من غير أن ندعمهم غير منشورة
سندعمهم من غير أن ندعمهم.
إنهم تحت القصف محاصرون لكنهم للمواجهة مستعدون، بينما نحن المتفرجون عليهم المتتبعون لأخبارهم خائفون، ومن شدة خوفنا نرفض كل نوع من المواجهة ونجدد الدعوة للسلام، ونتمنى أن يحن قلب العدو ويحل السلام.
إنهم رغم ضعفهم وقلة حيلتهم ليسوا خائفين لا من الجوع ولا من العراء ولا من الموت، ونحن نخاف من كل ذلك، بل إننا نخاف مما هو أدنى من ذلك.
إنهم يرجون دعمنا لأن قضيتهم في الواقع وفي الأصل هي قضيتنا؛ وإنما كان قدرهم أن يولدوا هناك ونحن ولدنا هنا، إنهم يؤدون فرضا عينيا لا كفائيا فهو لم يسقط عنا ، فلا يظنن ظان أنهم ينوبون عنا وأنهم أنقذوا شرفنا، بل إنهم بقدر ما ارتفعوا وعلا شأنهم وشمخت هاماتهم، بقدر ما دنا شأننا وازداد ذلنا وتنكست رؤوسنا، هذا باختصار ما يكتبه التاريخ عنهم وعنا.
إنهم يرجون دعمنا ولا شك وهو حقهم علينا ، ونحن مترددون إن لم ندعمهم خفنا على سمعتنا ومن ردود أفعال من ينظر إلينا ممن حولنا ومن شعوبنا، وإن دعمناهم خفنا من عدونا ومن الانجرار إلى ما لا نريد وهو ما لم نستعد له ولم تستعد له شعوبنا، لسنا مستعدين للموت في سبيل الله رغم أننا كل يوم نموت في سبيل ما دونه، لسنا مستعدين لما دون الموت رغم أن كثيرا منا ملازم له لا ينفك عنه، لسنا مستعدين إلى درجة أن بعضهنا سيموت بمجرد سماع دوي الانفجارات، بل بسماع إنذار الصفارات، بل سيموت قبل ذلك؛ بمجرد سماعه خطاب إعلان الحرب الذي سيقطعه عما ألفه من متع الدنيا.
ومع كل ذلك نحن نعلن أننا لسنا جبناء ولسنا بخلاء ونحن من جهة أخرى نخاف على أهلنا وشعوبنا؛ لذلك سندعمهم من غير أن ندعمهم، سندعمهم بالماء لا بالوقود، سندعمهم بالخبز لا بالبارود، سندعمهم بالدواء وربما بالأطباء لا بالجنود، سندعمهم سياسيا لا عسكريا ، سندعمهم إعلاميا لا استخباراتيا، سندعمهم ولن نصرح للأعداء بأنها قضيتنا وإنها قضية عقيدة إسلامية، بل سندعمهم ونقول لهم إنها قضيتهم وحدهم وهي قضية عادلة وقضية إنسانية .
من وحي طوفان الأقصى (2): الترتيب السياسي لما بعد الطوفان: زوال السلطة لا زوال حماس غير منشورة
من وحي طوفان الأقصى (2): الترتيب السياسي لما بعد الطوفان: زوال السلطة لا زوال حماس
مع بدء المعارك العسكرية البرية على أرض غزة الأبية-التي يصفها الاحتلال بالمناورة تحقيرا لجند الله العظام فيها الذين لا تصغرهم الكلمات ولا تنقص من قدرهم مثل العبارات- بدأ الحديث هنا وهناك عن مصير أهل غزة بعد زوال حماس؛ من يحكمهم ومن يسير شؤونهم؟ فتطايرت شطايا الرؤى ووجهات النظر والاقتراحات من هنا وهناك تحملها عناوين المقالات وتحليلات المحللين عبر الفضائيات، وذلك في إطار حرب نفسية إعلامية موجهة ضد المسلمين في فلسطين والعالم وضد قادتهم خصوصا، وكأنهم يقولون إن هذه المناورة مدتها لن تطول لذلك لابد من التفكير في الأمر من الآن وكأنهم يؤكدون على أن نتيجتها معلومة ولا شك فيها؛ فلا مجال أن تأملوا في النصر، ولا أن تحلموا حتى في إطالة أمد المعركة؛ بل تعالوا أيها العرب وأيتها السلطة لنفكر فيما بعد المناورة ولنتشاور في حكم غزة بعد زوال حماس.
أما الفلسطينيون في غزة فلا أظن تلك الأخبار تؤثر فيهم أو أنها تنال حظا من اهتمامهم إلا بقدر معرفة شيء مما يدور في خلد العدو، ومراقبة تفاعل الخونة من أبناء يعرب مع تلك المقترحات، وإلا فهم مشغولون بما يعنيهم، وقادتهم السياسيين أنضج من أن تأسرهم الدعاية المعادية في مثل هذه الظروف وكذا الكتائب العسكرية أقوى وأمتن من أن تنال من معنوياتهم مثل هذه المناورات الكلامية؛ وذلك أنا نحسبهم رجالا رباهم القرآن وصقلتهم المحن والتجارب.
ولن أخوض في هذا الأمر من منطق تكهنات محللين والخبراء الاستراتجيين فإني لست بالكاهن ولا أحب الكهانة، ولكنني سأتحدث عما ينبغي أن يكون مهما كانت النتائج، أعني مهما كانت درجات الانتصار ومهما مس العدو من ذل وانكسار، أتحدث عن الذي ينبغي أن يحدث في البيت الفلسطيني الصغير قبل الوطن العربي والإسلامي الكبير، فإن هذا الطوفان المبارك قبل انقضاء أيامه لابد أن يجعل الفلسطينيين قبل غيرهم يراجعون أنفسهم وترتيب أوراقهم ، لا أعنى أهل غزة فإن جمهور أهلها قد حزموا أمرهم وعرفوا مصيرهم واختاروا خندقهم، ولكن أعني أهل الصفة الغربية وغيرهم من الفلسطينيين في مختلف بلاد العالم، وأعنى المنضوين تحت لواء حركة فتح على وجه الخصوص والمنتمين إلى كتائبها ككتائب شهداء الأقصى، فلا خيار أمام أهل الجناح السياسي إلا أن يعلنوا خلع محمود عباس وأن يلوحوا بالتراجع عن معاهدة السلام وأن يستعدوا فعلا لذلك، ولا خيار لتلك الكتائب -إن كان فيها بقية باقية من الرجال ذوي المروءة والشرف- إلا أن يعلنوا العودة إلى "الحرب الثورية طويلة الأمد أسلوباً، وإلى الكفاح المسلّح وسيلة، وأن يجعلوا شعارهم "حتى تحرير فلسطين كل فلسطين".
أقول إن هذا هو الواجب زوال ما يسمى بالسلطة الفلسطينية لا زوال حماس، زوال السلطة لا الحلم بإعادة بسط نفوذها على قطاع غزة، هذا هو الواجب حدوثه الآن، لأن اليهود لم يدعوا شكا لدى كل العقلاء أنهم لا يؤمنون بالسلام، ولا يقرون باتفاقيات أوسلوا ومدريد ولا بقرارات الأمم المتحدة، ولا بحدود 67 ولا بمشروع غزة أريحة، ولا بأي خرافة أخرى، إنهم يؤمنون بشيء واحد هو وطنهم القومي من النيل إلى الفرات وفقط.
فلابد أن يعترف بقايا الجيل الذي قبل بإقامة دولة اليهود على نصف أرض فلسطين بخطئهم، وأن يعلنوا ذلك جهرة للأجيال التي نشأت بعدهم، وأن يعلنوا ندمهم وتوبتهم، وإلا فإن كل الأرواح التي أزهقت وتزهق في الضفة والقطاع منذ 1992 ستكون في رقابهم، ولن يفارقهم وصم الخيانة إلى الأبد.
يتعجل بعضنا ويفترض أنه ينبغي على الدول العربية والإسلامية المطبعة مع اليهود قديما وحديثا أن تستحي من سوء صنيعها وأن تقطع علاقاتها مع اليهود وترجع إلى سابق عهدها، فنقول إن ذلك سابق لأوانه وإنه لن يكون ما دام في الفلسطينيين من يجلس إلى الصهاينة ويتقاضى راتبه عبر بنوكهم، نعم إذا حدث هذا الواجب المأمول حينها فقط يتجدد الأمل في أن يتوقف زحف التطبيع، وحينها يمكن الحديث عن التراجع عن التطبيع، وحينها نتوقع من الدول العربية الرافضة للتطبيع أن ترفع من مستوى مواقفها السياسية ومن مستوى الدعم المادي العلني والسري للمقاومة، وحينها نأمل ونرجو ونأمل ونرجو .
ولا يخفى أن المطبعين والمهادنين والراضين بتقسيم أرض فلسطين كلهم يقولون إننا لا يمكن أن نكون أكثر فلسطينيةً -أي وطنيةً- من الفلسطينيين أنفسهم؛ فإذا رضوا هم بالتطبيع والتقسيم فلمَ نوصف نحن بالخيانة؟ وإنما الخائن من خان صاحب القضية لا من أيده في موقفه، وهذه حجة داحضة لأن الخيانة هي الخيانة لا يختلف من سبق إليها عمن تأخر، فضلا عن تضمنها مغالطة الفصل بين الفلسطينيين وبقية الشعوب في واجب الدفاع عن أرضهم الإسلامية، ولكننا مع ذلك نؤكد أن نقض التطبيع لابد أن يبدأ من الداخل الفلسطيني قبل أي جهة أخرى، وإننا لنتمنى ذلك، بل إننا لنراه قريبا بإذن الله تعالى.
من وحي طوفان الأقصى (1): مصانع الأرحام وكتائب الأطفال غير منشورة
من وحي طوفان الأقصى (1): مصانع الأرحام وكتائب الأطفال
إن من المحزن المؤسف مشاهدة تلك الأرقام التي تتجدد كل يوم لتحصي لنا عدد ضحايا الوحشية الصهيونية مبرزة عدد الأطفال والنساء الذين نالهم القصف الهمجي، ومؤكدة على نسبتهم إلى العدد الإجمالي من الضحايا، ولا شك أن حرص وزارة الصحة الفلسطينية على تقديم هذه الأرقام مفصلة بهذا التفصيل إنما هو للفت انتباه سكان المعمورة إلى أفعال خطيئة العالم المعاصر الدولة المسماة إسرائيل، لعلهم يردعونها أو يوقفونها أو يكبحون جماحها أو يردونها عن غيها، ولعل قادة الكيان اللقيط يستحيون من ثقل حصيلة قبيح جرمهم، وأما سكان المعمورة ففيهم من لا يزال على الفطرة الإنسانية يحملون في صدورهم أفئدة بشرية فتراهم في مختلف جهات العالم يهبون فرادى وجماعات ليعلنوا استنكارهم لتلك المجازر اليومية التي تلحق الشعب الفلسطيني، ولكن فيهم أيضا طائفة من منتكسي الفطرة القاسية قلوبهم، العنصريون الذين لا يتألمون إلا لقتل الطفل الأبيض والمرأة البيضاء، وفيهم أنصار الكيان اللقيط الموصوفون بأنهم أبناء الشيطان أهل الكبر والحسد والحقد والمنعوتون بأولاد الأفاعي أهل الخبث والمكر والخداع، الذين تجدهم ينتشون برؤية تلك الأرقام وتزايدها وربما يعدون ارتفاعها متناسبا مع زيادة حسناتهم التي تقربهم إلى الخالق لأن كتابهم المقدس، نص على أن عقوبة أعداء اليهود قتل الأطفال ولو كانوا رضعا وعلى قتل النساء ولو كن حوامل، بل بالغ في التوصيف حتى نص على شق بطون الحوامل، والذين لا يؤمنون بالكتاب من بني صهيون من اليهود وغيرهم، يؤمنون بشيء آخر، وهو أنهم يعيشون حربا ديموغرافية بين مع الفلسطينيين، بل إنهم يعيشون حربا ديموغرافية مع سكان العالم كله ، وقد تكلموا كبار منظريهم عن ضرورة خفض سكان العالم إلى ثلثه، وهم يدعمون تحديد النسل والنسوية والمثلية وينشرون الدعارة والحروب والمخدرات والأوبئة في إطار هذه الحرب، وفي فلسطين الأبية على وجه الخصوص إن قد حيرتهم مصانع الصواريخ وحيرتهم أرحام نسائها أكثر، وقد أقلقهم مصدر تمويل سلاحهم وأقلقهم تزايد أطفال الفلسطنيين الذين هم قوام كتائب المستقبل، يخطئ من يتصور ساحات الحرب الديمغرافية مقصورة على ساحة منع عودة اللاجئين أو الاستمرار في سياسة الترحيل أو مواصلة الدعاية لاستقطاب اليهود إلى إسرائيل، بل هي متضمنة لساحة الإبادة والتقتيل، إن مما يؤرق هؤلاء المجرمين منذ سنين هو أرحام النساء الفلسطينيات والعدد المتزايد للمواليد، الذي يعوض أعداد الضحايا الشهداء مند ثمانية أربعين والذين يوشك أن يعوض أيضا أعداد المرحلين إلى الأردن ولبنان وغيرها من البلدان، وإذا كان بنو صهيون يدسون في الدواء واللقاحات وغيرها من المصنوعات الغذائية ما يسبب العقم في دول العالم الثالث، فإنهم في فلسطين صنعوا يوما قنابل مسيلة للدموع تحوي مواد تسبب الإجهاض أو تشوهات خطيرة للأجنة ، تلك المواد التي وقعت جل دول العالم على حظر استعمالها في الحروب في معاهدة حظر الأسلحة الكميائية إلا بعض الدول منها الدولة اللقيطة، ولعلنا من هذا المنظور نفهم لماذا هم يقولون إننا نضرب قواعد حماس وأهدافا مشروعة، إنهم يضربون مصانع الأرحام وكتائب الأطفال.
وفي الجانب الآخر أجد أن من الشعوب القليلة في العالم التي لم تخدر بمشكلة تحديد النسل والتي قد تبنى على وهم ضيق مساحة الأرض أو نفاد مواردها هو الشعب الفلسطيني، ربما لأنهم استقلوا بمناهجهم التربوية عما يخططه الصهيونيون للعالم بواسطة مؤسسات الأمم المتحدة، ولأنهم لا يصغون لما يروجه الإعلام المأجور في العالم كله لأنهم أعلم الناس بكذبه ولأنهم أيضا آمنوا بأن للعالم ربا واحدا هو خالقه ومدبره ورازق كل نسمة فيه، منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، من خالط الإيمان بشاشة قبله لم يصغ إلى الذين نصبوا أنفسهم أربابا للعالم كله يتحكمون فيه ويرسمون الخطط لأهله ويعاملون الأمم معاملة القصر والسفهاء الذين لا يدرون أين مصلحتهم، ولأنهم فقهوا أيضا مقاصد الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على الإنجاب وعلى التكاثر، وهو تكثير سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم السواد الذي يفخر به لا الذي يبرأ منه، سوادا يعيش بالإسلام ويموت على الإسلام ومن أجل الإسلام، لقد فقهوا سنن الله تعالى في الكون كما فقهت المرأة الفلسطينية في ظل الحياة الضنك التي سلطت عليها شيئا من وظيفتها في الحياة غفلت عنه المرأة المترفة في مختلف أصقاع العالم، وقد سجلت إحداهن وهي تبكي أولادها وأولاد شعبها المقهور وتقول : (اقتلوا أيها المجرمون...فإننا لن نبيد ما دامت لنا أرحام)، نعم اقتلوا يا من يقودون حرب إبادة جماعية، فإن البقية الباقية ستحمل الراية بقوة أشد وعزم أكد وهمة أعلى، على قدر وحشية الإجرام الممارس في هذه الأيام، الذي سيبقى محفورا في ذاكرة كل فلسطيني وفي ذاكرة كل مسلم.
مقالات حول المولد النبوي غير منشورة
مقالات حول المولد النبوي
حول المولد 1:
أخيرا صار العيد ذكرى ..إنه تحول إيجابي ولا شك، لكن تصحيح الأسماء لابد أن يتبعه التقويم للمسميات ..فالأعياد في الإسلام عيدان لا ثالث لهما..وقيل عاشوراء ثالثها ولا رابع لها... أما الذكريات فما أكثرها، بل قال الابراهيمي رحمه الله في وقته لابد أن نستكثر منها .. فاظهار الفرح والسرور والاحتفال، وتعطيل الدراسة والأعمال أمور ملازمة للأعياد لا للذكريات التي لا حد لها ..ولا يجوز نقل خصائص العيد الديني إلى الذكرى التاريخية لأن ذلك يصيرها عيدا مستدركا، وذلك عين الزيادة في الدين التي لا ينبغي أن يختلف في منعها لبدعيتها، وإن من يفصل الذكرى عن العيد من حيث الاسم والحقيقة والخصائص الملازمة؛ فالذكرى عنده للعبرة واستنهاض الهمة وليست للذبائح والمأكولات، ولا للصيام أو الصلوات، ولا للرقص أو الحفلات؛ أو ادخال السرور على الاطفال أو اشعال الشموع وتفجير المفرقعات...لقد كتبت قبل سنوات أن علماء الجمعية أيام الاستعمار كانوا يعتبرون البدع كلها ضلالة ولا حسن فيها عندهم؛ وإنما كانوا يحيون المولد دون أن يعتبروه عيدا دينيا، وإنما هو ذكرى تاريخية كذكرى بدر والفتح والقادسية وحطين...ووثقت ذلك في كتابي الرد النفيس الطبوع سنة 2008 ..وفي هذه السنة لفت انتباهي تغير تعبير الوزارة؛ فلا أدرى أهو تغيير جديد أم قديم، كما لا أعلم هل التجديد والاصلاح سيقف عند حدود الألفاظ؟ أم أنه سيتعدى إلى تصحيح الأعمال والممارسات إفتاء ونصحا وإرشادا...(هذا تحليل وليس تحليلا).
حول المولد 2:
الاحتفال بالمولد ثلاثة أنواع :
الأول احياء الليلة بذكر سيرة المصطفى عليه السلام وشمائله والإكثار من أعمال البر فيها.
والثاني : تخصيصها بإيقاد الشموع وأنواع من المأكولات والنفقات وادخال السرور على الأولاد بالحلوى واللباس.
والثالثة: تخصيصها بأنواع الغناء والرقص والاختلاط وربما يضاف اليها الذبح لغير الله تعالى.
والنوع الأول هو الذي استحسنه بعض الفقهاء؛ وهو الذي كان علماء الجمعية يقيمونه ويحاربون به مظاهر الاحتفال الأخرى ...
وقد وجدت في المعيار المعرب (7/ 99-101) فتوى للمانعين شاملة باللفظ والمعنى للأنواع الثلاثة جميعا ، وهي جديرة بالقراءة حرية بالتأمل، صاحبها ابو عبد الله الحفار محمد بن علي الأنصاري ت811.
جاء فيها:" ..وليلة المولد لم يكن السلف الصالح وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادةً على سائر ليالي السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعظّم إلا بالوجه الذي شرع في تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله، لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع، والدليل على أن السلف لم يكونوا يزيدون فيها على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها، فقيل إنه صلى الله عليه و سلم ولد في رمضان، وقيل في ربيع، واختلف في أي يوم ولد فيه على أربعة أقوال، فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف، ولكن لم تشرع زيادة تعظيم، ألا ترى أن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس، وأفضل ما يفعل في اليوم الفاضل صومه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة مع عظيم فضله، فدلّ هذا على أنه لا تحدث عبادة في زمان ولا مكان إلا إن شرعت، وما لم يشرع لا يفعل، إذ لا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها .
ولو فتح هذا الباب لجاء قوم فقالوا: يوم هجرته إلى المدينة يوم أعز الله فيه الإسلام فيجتمع فيه ويتعبد .
ويقول آخرون: الليلة التي أسرى به فيها حصل له من الشرف ما لا يقدر قدره، فتحدث فيها عبادة .
فلا يقف ذلك عند حد، والخير كله في اتباع السلف الصالح الذين اختارهم الله له، فما فعلوا فعلناه وما تركوا تركناه.
فإذا تقرر هذا ظهر أن الاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوب شرعًا، بل يؤمر بتركه، ووقوع التحبيس عليه مما يحمل على بقائه و استمرار ما ليس له أصل في الدين، فمحوه و إزالته مطلوب شرعا.
ثم ههنا أمر زائد في السؤال أن تلك الليلة تقام على طريقة الفقراء، وطريقة الفقراء في هذه الأوقات شنيعة من شنع الدين، لأن عهدهم في الاجتماع إنما هو الغناء والشطح، ويقررون لعوام المسلمين أن ذلك من أعظم القربات في هذه الأوقات وأنها طريقة أولياء الله، و هم قوم جهلة لا يحسن أحدهم أحكام ما يجب عليه في يومه و ليلته، بل هو ممن استخلفه الشيطان على إضلال عوام المسلمين، و يزينون لهم الباطل ويضيفون إلى دين الله تعالى ما ليس منه، لأن الغناء والشطح من باب اللهو واللعب وهم يضيفونه إلى أولياء الله، و هم يكذبون في ذلك عليهم ليتوصلوا إلى أكل أموال الناس بالباطل، فصار التحبيس عليهم ليقيموا بذلك طريقتهم تحبيسا على ما لا يجوز تعاطيه، فيبطل ما حبس في هذا الباب على غير طريقته، ... والله تعالى يمن علينا باتباع هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واتباع السلف الصالح الذين في اتباعهم النجاة".
حول المولد 3:
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ألقى خطيب من الخطباء سلسلة من الخطب في تقرير بدعية المولد ...ربما قاربت العشر خطب، حتى مل الناس من الموضوع، لم تكن خطبه من نوع الخطب المرتجلة التي يكثر فيها الإعادة والتكرار، وإنما كانت خطبا مرتبة مبوبة مكتوبة تقرأ على مسامع الحضور كل جمعة، ولعل مما زاد في ملل الناس: اعتماد السرد وقراءة فتاوى المالكية المتقدمين برمتها مع كثرتها، والأسلوب العلمي في مناقشة أدلة المخالفين أو توجيه آراء علماء آخرين...
ولما حل القرن الميلادي الجديد وكانت جدَّت أمور وحدثت أحداث، وجاءت مناسبة المولد فصعد الخطيب نفسه في المسجد نفسه ليقرع أسماع الناس برأي جديد ولغة جديدة: "إن إحياء المولد ابتداء من اليوم سنة حميدة وقد فعلها الأعلام ..وإحياء المولد بذكر السيرة والشمائل لا ينكره إلا غلاة الوهابية"..وحمل كل ما سبق أن سرده على مسامعهم من حجج وفتاوى على الاحتفالات التي تصحبها المعاصي والشركيات كاحتفالات الصوفية ونحوهم..وكان فيمن حضر السلسلة القديمة والخطبة اليتيمة طلبة علم ذوو فهم وحفظ، لم يزعجهم تغير الرأي بقدر ما ساءهم الأسلوب؛ وتجاهل ما يعلمون أنه قيده ببنانه وأملاه بلسانه، كفتوى الإمام الشاطبي وفتوى الفقيه المحدث الشهير أبي عبد الله الحفار الغرناطي المالكي وهو محمد بن علي الأنصاري (ت:811) وهي التي نقلت في المقال السابق-ولا شك أنه ليس وهابيا-...
وإني بعدما قسمت الأحوال وحصرت محل النزاع في ذلك المقال سأل بعض الاخوة، عن الخلاف في الصورة الأولى هل هو سائغ؟
والجواب: أن قول العالم المبني على الحجة الصحيحة في نظره سائغ ولو أداه إلى الجواز، وذلك طبعا غير مانع لمخالفه بالحجة أيضا أن يصف العمل بالبدعة...
إن الذي لا يسوغ قطعا ويجعل المرء من أهل الأهواء أن يغير فتواه بتغير الدول، وأن يبغي على من خالفه بالقول والعمل؛ فيسوغ لنفسه ما يمنع منه مخالفه، وأن يتجاهل آراء العلماء بعد أن اطلع عليها، أو أن يحرفها عن مراد أصحابها فيجعل خاصها عاما أو عامها خاصا، أو يبترها عن سياقها فيصور المانع مجيزا أو العكس..ونحوه مما يندرج في معنى الاخلال بالأمانة..نسأل الله الاخلاص والتوفيق والسداد والثبات.
تفنيد نسبة كتاب الحيدة لعبد العزيز بن يحيى الكناني غير منشورة
تفنيد نسبة كتاب الحيدة لعبد العزيز بن يحيى الكناني
جمعني هذا الصيف سفر مع أحد الأصدقاء القدماء الأفاضل؛ فأخذنا حديث المذاكرة والذكريات إلى ذكر كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، فأثنى صاحبي على ما فيه من حجج دامغة أفحم بها السني المعتزلي، فقلت له إن بعضهم ينسب الكناني إلى الكلابية التي ظهرت أيام المحنة ، ومذهب الكلابية قريب جدا من مذهب أهل السنة، ولذلك نحتاج إلى إعادة قراءة الكتاب مرة أخرى قراءة متفحصة، وقد مضى على قراءتنا له أكثر من ثلاثين سنة، قلت هذا مع أنه لم يكن خافيا علي وعلى صاحبي الكلام المتعلق بنسبة الكتاب إلى الكناني، سواء من جهة السند أو من جهة المحتوى حيث أن ظاهر تلك المناظرة يوحي أن المأمون قد يكون اقتنع بمذهب أهل السنة، ولذلك لم نؤثر الخوض فيه مرة أخرى وخاصة مع بعد العهد وبعدنا عن المصادر.
ولما قفلنا من السفر واستعدت أنفاسي؛ رجعت إلى الكتاب فقرأته في مجلس واحد ، متأملا مادته وحبك أحداثه ، فوقفت على الموضع الذي نُسب فيه الكناني إلى نفي صفتي السمع والبصر، وهو رأي لم يقل به لا ابن كلاب ولا غيره من المنتسبين للسنة، ووجدت عبارة محتملة للقول بتصويب المجتهدين، وأخرى تحتمل نفي تجدد الكلام، وعجبت للمريسي الذي ينفي صفة الكلام كيف يثبت صفة النفس لله تعالى، وكيف يغامر تلك المغامرة السمجة فيدعي أن لفظ جعل في القرآن كله بمعنى خلق..
قرأت مشاهد تلك المناظرة، وتتبعت ألفاظ الحوار بين الأشخاص الذين تقاسموا الأدوار فيه ، فوجدت آثار الصنعة والتلفيق بادية فيه ، وأهم شيء سجلته بعيدا عن المحتوى العلمي كان متعلقا بالحدث التاريخي وأشخاصه زمانا ومكانا، فزمن المناظرة هو زمن فتنة القول بخلق القرآن وامتحان العلماء من طرف المأمون كما صرح فيه مؤلف الكتاب، وقد أقحم فيه فقرة غير منسجمة مع سياق القصة ليبين من خلالها أن أحمد بن حنبل كان في السجن في تلك الأيام، وبالرجوع إلى بعض المصادر التاريخية تبين أنه يفترض أن تكون أحداث القصة جرت ما بين شهر ربيع الأول من سنة 218 وشهر رجب من السنة ذاتها.
والمكان حسب زعم الكاتب هو بغداد حيث جهر بنفي القول بخلق القرآن بحضرة كاتب المأمون عمرو بن مسعدة الذي اعتقله بسبب قوله، ثم جرت المناظرة في قصر المأمون حسب ادعائه، وكان الخصم هو بشر بن غياث المريسي ويسانده شخص سماه محمد بن الجهم بن صفوان، وكان الحكم بينهما المأمون ذاته.
ولا تتفاجأ أيها القارئ إن قيل لك إن عمرو بن مسعدة كاتب المأمون، كان قد توفي قبل ذلك خلال سنة 217 هـ وقيل سنة 215 هـ .
ومما ينبغي أن يعلم أن المناظرات كانت تقام بين يدي المأمون فعلا، لكن قبل قرار فرض تلك العقائد على الناس، أما في أيام المحنة فالقائد هو نائبه العسكري الخزاعي، وليس بشر المريسي الذي كان يومها قد هرم وبلغ سن الثمانين، ولم تنقض تلك السنة حتى كان قد هلك.
وأما الضربة القاضية التي تسقط هذه القصة رأسا فهي أن المأمون كان غائبا عن بغداد مدة المحنة كلها، حيث كانت بدايتها برسالة للمأمون، مؤرخة بشهر ربيع الأول 218 هـ أرسلها من الرقة، إلى نائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي يأمره بامتحان الناس، كذا وثقه الطبري في تاريخه.
وكانت الرسالة الأخيرة واردة من طرسوس، طلب فيها إحضار بعض العلماء إليه، وقد أرسلهم إسحاق بن إبراهيم، لكن لما بلغوا الرقة جاءهم نبأ وفاة المأمون بطرسوس، وكان ذلك في رجب 218 هجرية.
وهذا الخلل التاريخي الواقع في القصة دال على ضعف واضع الكتاب من الناحية التاريخية ، كما أن ذلك الخطأ الشنيع المتعلق بصفتي السمع والبصر يدل على جهله بعقيدة أهل السنة ، وباقي ما جاء فيها مما لا ينتقد يدل على أنه كانت لديه مصادر عقدية استطاع أن يصوغ من مادتها حوارا –سيناريو- ممتعا انتصر فيه لمذهب أهل السنة والجماعة على المعتزلة.
لكن القاعدة عندنا أن الغاية النبيلة لا تطلب إلا بالوسيلة الشريفة، وكما لا تنصر العقيدة بالأحاديث الموضوعة فلا تنصر بالقصص الملفق، والفرق بين الحديث وهذه القصة أن الحديث الموضوع يرد سندا ومتنا لأنه منقول عن معصوم، وأما الحجج التي تضمنتها القصة فتبقى قائمة بذاتها ولا تحتاج إلى إسناد، لأن العبرة بها في ذاتها لا بقائلها أو ناقلها.
ولعل من البحوث الجديرة بالإنجاز لمن هو مقتنع قناعة تامة بعدم ثبوت كتاب الحيدة لعبد العزيز بن يحيى الكناني رحمه الله، أن يجتهد في اكتشاف المصادر التي اعتمد عليها واضع الكتاب محمد بن الحسن بن أزهر المتوفي سنة 320هـ ، فإنها ولا شك مصادر قديمة ومهمة جدا .
العمل التطوعي :مفهومه وأهميته ومجالاته غير منشورة
العمل التطوعي :مفهومه وأهميته ومجالاته
....
محاضرة ألقيت يوم 27 أوت 2023 بجيجل
ضمن نشاطات الجامعة الصيفية للمجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية والأوقاف.
....
الحمد لله الذي خلقنا ولم يتركنا سدى ولا هملا والذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، والصلاة والسلام على النبي الأمين المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد فإن الله تعالى قد أسكننا في هذه الأرض وأمد في أعمارنا حسب ما قدره لنا للاجتهاد والعمل، ثم إنه جامعنا ليوم لا ريب فيه، يضع فيه الموازين فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، وهذه الموازين لا تثقلها الأعمال الواجبة المفروضة فحسب؛ بل إن أكثر ما يثقلها ما نعده من النوافل والتطوعات، وإنه لا يدري أحدنا ما هو العمل الذي سيكون سبب نجاته، والعبد الذي يؤمن بقوله تعالى في الحديث القدسي :"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفيه"، ينبغي عليه أن يحرص على ما ينفعه في آخرته وأن لا يحقر من المعروف شيئا، نعم قد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لمن قال إنه سيأتي بالفرائض لا يزيد عليها ولا ينقص :"أفلح إن صدق" ولكن من منا يزعم أنه يأتي بالفرائض على وجهها كاملة غير منقوصة، وكلنا يعلم من حاله أنه يأتي بأعمال أخرى قد تكون ماحية للحسنات ومذهبة لأجرها.
وإن أثقل شيء في الميزان حسن الخلق، وإن صدقة السر تطفئ غضب الرب سبحانه، وقد غفر الله لرجل لإماطته الأذى من طريق الناس، إنها أعمال يحسبها أحدنا هينة لأنها ليست واجبة متعينة، ولأنها يسيرة ليست كبيرة، ولكنها عظيمة في ميزان الله تعالى لما لها من أثر على الفرد في نفسيته وعلى المجتمع في تماسكه وتنميته.
ولما كان جنس هذه الأعمال النوافل التطوعية يكتسي أهمية كبيرة وله أثر بالغ في إصلاح المجتمع، دعانا إخواننا في المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي الشؤون الدينية لإلقاء محاضرة في هذا السياق؛ يكون موضوعها أهمية العمل التطوعي وأثره، ونحن شاكرون لهم دعوتهم وتشريفهم لنا بأن نكون حاضرين معهم في هذا اليوم الأغر، مشاركين لهم في هذا النشاط المبارك، وقد رأيت أن يكون عنوان هذه المحاضرة حسب ما تضمنه من عناصر "العمل التطوعي: مفهومه وأهميته ومجالاته"، وليس مقصورا على أهميته ، فنبدأ ببيان المفهوم ونجعله مدخلا للمحاضرة ثم نتحدث عن الأهمية هو المقصود الأول، ثم نذكر مجالات هذا العمل التطوعي مما سيوضح لنا اتساع أثره في المجتمع، وسأحاول قدر الجهد ربط عناصر الموضوع بالإمام الذي يعتبر من أهم المحركين والفاعلين في مجال العمل التطوعي، نسأل الله التوفيق والسداد.
تمهيد : مفهوم العمل التطوعي
التطوع لغة: مشتقٌّ من الطوَّع، وهو نقيض الكره، ومنه قوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (آل عمران: 83). ويقال طاع له إذا انقاد له، وأطاعه إذا نفذ أمره، وطاوعه إذا وافقه، قال الأزهري (3/ 66): والتطوع: "ما تبرعت به من ذات نفسك فيما لا يلزمك فرضه". ومنه قوله تَعَالَى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (البقرة: 184) ، وقوله: (الذين يلْمِزونَ المَطَّوِّعينَ) أي المتطوعين بالجهاد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما زاد على الفرائض (إلا أن تطوع).
وأما العمل التطوعي في الاصطلاح:
فقيل :"هو ما يتبرّع به المرء من أعمال الخير من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه".
وهو تعريف مأخوذ من المعنى اللغوي ويلاحظ عليه أمور هي:
1-أن العمل التطوعي قد يكون فرديا وقد يكون جماعيا .
2-أنه أبهم الأعمال الخيرية، والأفضل تفصيلها حتى لا يتوهم انحصارها في الجوانب المادية والبدنية؛ إذ هي تشمل جوانب فكرية ودينية وأخرى اجتماعية .
3-أن الحديث عن عدم الفرضية يختص بالفرد لا بالجماعة لأن كثيرا من الأعمال التطوعية قد تعتبر فروضا كفائية على الجماعة، فالأفضل أن نربط ذلك باحتساب الأجر من الله تعالى .
ولذلك نقول في تعريف العمل التطوعي هو :"ما يقوم به فرد أو جماعة من أعمال بدنية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية أو دينية احتسابا للأجر".
ولا بأس أن نشير أن علماء الاجتماع الوضعي يستعملون عبارات أخرى تلتقي مع ما ذكرناه، وقد تختلف عنه بعض الشيء، فيذكر بعضهم أنه (الجهد أو العمل الذي يقدمه أفراد أو مؤسسات)، وهذا متفق في المعنى مع العنصرين الأولين المتضمنان في التعريف المختار، وأما العنصر الأخير فيعبر عنه بقوله (إيمانًا منهم بمبدأ معين أو تجسيدًا للانتماء للمجتمع، دون تلقي أي ربح أو حافز مادي) فالدافع عندهم هو المبادئ مهما كانت وتجسيد الانتماء، والدافع عندنا دافع ديني هو الإيمان بالله تعالى الذي جعل هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، فهذا الايمان هو الذي يحركنا، وهو من غير شك يجسد أيضا حقيقة الانتماء للأمة وقد النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه، وعبارة (دون تلقي ربح أو حافز مادي) قد لا يتنافى عندهم مع طلب الشهرة المحضة وقولنا احتسابا للأجر عبارة كافية شافية يحترز بها عما ذكروا وعما لم يذكروا من قوادح الإخلاص .
مصطلحات ذات صلة
ولابأس أن نشير إلى مصطلحات قريبة من المصطلح المختار (العمل التطوعي) حتى لا يذهل الباحث في هذا المجال عن بحوث ومقالات وعن نصوص وأدلة قد تكون مفيدة له فيما يطلبه ، ومن هذه المصطلحات:
1-العمل الخيري ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 110).
2-العمل التعاوني، ومنه قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: )
3-العمل الإغاثي، ومنه حديث حق الطريق عن عمر رضي الله عنه (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) رواه أبو داود.
4-العمل الدعوي، ومنه قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (فصلت: 33) وإن من وسائل الدعوة إلى الله تعالى الإحسان والصدقة والإغاثة .
المطلب الأول : أهمية العمل التطوعي أو فضائله الفردية والاجتماعية
أما أهمية العمل التطوعي التي ألمحنا إليها في صدر هذه المحاضرة فنبرزها من خلال الحديث عن فضائله التي ترجع إلى الفرد والفضائل التي ترجع إلى الجماعة .
الفرع الأول : الفضائل الفردية
أما الفضائل التي ترجع إلى الفرد فمنها الآجل ومنها العاجل وهي كالآتي:
1-تحصيل الأجر والثواب
وقد ذكرنا أنها أكثر ما يثقل الموازين وقد قال رسول الله ﷺ: (في كل ِّكبدٍ رَطبة أجر) متفق عليه فمن غرس شجرا أو حفر بئرا فكل من أكل منه أو شرب من إنس وبهيمة للمرء فيه أجر وثواب، وقال صلى الله عليه وسلم:"الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" متفق عليه. وقال:" إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو علم ينْتَفع بِهِ أوولد صَالح يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسلم
2-مغفرة الذنوب
وقد جاء في الحديث: (إنَّ صدقةَ السر تُطفئُ غضب الرَّب) وفي الصحيحين أن الله غفر لبغي زانية في سقيها لكلب كاد يهلك عطشا.
3-النجاة والفلاح
ويتبع الثواب ومغفرة الذنوب ويجمعها الفلاح والنجاة يوم القيامة، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:77).
4-زيادة الإيمان بلوغ مراتب الإحسان
وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعة الواجبة محصورة وأما الطاعات التطوعية فغير محصورة ، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان معه بتوفيقه وتسديده في كل حركاته وسكناته، ولا يزال كذلك حتى يرتقي إلى مراتب الإحسان.
5-تحصيل السعادة النفسية
من الجزاء المعجل للعباد على أعمالهم أن تنزل عليهم السكينة وتغمرهم السعادة ، وهذا شيء وجداني يحسن به كثير ممن يقوم بالأعمال التطوعية، ومصداقه في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، فالحياة الطيبة الموعود بها تكون في الدنيا، والجزاء يكون في الآخرة ، ويعلل ابن تيمية رحمة الله هذه السعادة التي يشعر بها المرء بأن الله تعالى شكور ، وأول شكره للعمل المقبول أن يحس بالمرء بهذه السعادة التي تثبته وتدفعه إلى المزيد ، ويقول إن من لم يجد تلك السعادة إثر عمل الخير فليتهم عمله وليعلم أنه مدخول.
6-نيل المعونة من الله تعالى
من الفضائل المتعلقة بالأعمال التطوعية المتعدية إلى الغير أن الله تعالى يعين العبد على مصالحه ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: « وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ». مُتَّفق عَلَيْهِ، وقال: « وَمِنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ » رواه مسلم. وهذا مما تحبه نفوسنا المجبولة على حب العاجلة، ولا يقدح ذلك في عمل العامل ما دام الرجاء في الله تعالى، وما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلا ليشجعنا على التضحية والإيثار والبذل والعطاء فلا نبخل لأن المعطي حقيقة هو الله تعالى .
الفرع الثاني: الفضائل الاجتماعية
وأما الفضائل الجماعية أو الاجتماعية فهي فضائل تحصيلها في العاجل، وتفصيلها فيما يأتي:
1-تحقيق الأخوّة الإيمانية والتكافل الاجتماعي
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)، وهذه الأخوة تظهر في عدة مجالات عملية تؤدي إلى تماسك المجتمع، وسياق الآية الكريمة جاء في الاصلاح بين المختلفين، وأكثر ما تظهر فيه هذه الأخوة فيما يبذل دون مقابل ودون أن يكون واجبا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، ثمّ شبّك بين أصابعه) متفق عليه، وقال ﷺ: (تَرى المؤمنينَ في تراحُمهم، وتوادّهم، وتعاطُفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تَداعَى له سائر جسده بالسَّهرِ والحُمَّى) متفق عليه.
2-تربية النفس على الروح الجماعية
أكثر ما يهلك الناس داء الأنانية وحب الذات، والإسلام دين يحث على الجماعة وخدمة الجماعة، ويظهر ذلك في عباداته التي هي أركانه التي تمني الشعور الجماعي للأمة، والانخراط في العمل التطوعي يعلمنا البذل لصالح الغير بل يعلمنا الإيثار في هذا علاج لهذا الداء داء الأنانية وتربية على ما يسمى بالروح الجماعية وقد قال تعالى في صفة الصحابة الكرام: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9)، أي: يقدمون خدمة الآخرين على النفس، والمصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
3-ملء فراغ الشباب
ومن مصالح الأعمال التطوعية الجماعية أنها تملء أوقات فراغ الشباب بالعمل النافع وتصرفهم عن كثير من المساوئ التي تدفع إليها البطالة ، وقد قيل :
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للدين أي مفسده
فالفراغ بالنسبة للشباب إذا اجتمعت معه عوامل أخرى يعتبر مفسدة ، والكيس من الدعاة العاملين من يسعى لتوظيف طاقات الشباب في أوقات فراغهم فيما فيه نفع عام، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:» إني لأبغض الرجل أراه فارغا لا في أمر دنياه ولا أمر آمر آخرته».
وإذا كانت تلك الدعوة صادرة من إمام وخارجة من بيت الله تعالى فهي تحمل صبغة دينية دعوية ، إذ هي زيادة على ملء الفراغ تشعر الشاب بعزة الانتماء إلى زمرة المؤمنين، وتربطه ببيت الله تعالى، وتجعله يشعر بسعة هذا الدين وارتباطه بحياة الناس.
4-اكتساب الخبرة في الإدارة والتسيير
إن العمل التطوعي الجماعي في إطار الجمعيات والمنظمات نحو منظمتكم هذا لا شك أنه يكسب كل واحد منكم خبرات لم يكن ليكتسبها خارج هذه الأطر، خبرات إدارية واطلاع على القوانين وتعلُّم مهارات في التسيير والتخطيط، ويستفاد ذلك من خلال الممارسة وتبادل الأفكار مع الزملاء من المتطوّعين ، هذا فضلا عن ملامسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمختلف طبقات الناس.
5-مكافحة مظاهر الظلم والاستغلال
من الآثار الإيجابية للعمل التطوعي رفع الظلم ومكافحة كثير من مظاهر استغلال حاجة الناس؛ فالقرض الحسن مثلا عمل تطوعي فيه محاربة للمرابين المستغلين لحاجة الناس، والتوزيع الخيري للمؤونات والمساعدات وقت الأزمات فيه محاربة للمحتكرين المستغلين لمثل هذه الأوقات، ودروس الدعم التطوعية فيها مكافحة ومحاربة لدروس الدعم التجارية التي يقوم بها من لا يجوز له ذلك، وبأسعار خيالية.
6-الدعوة إلى الله تعالى وتثبيت الناس
أما الدعوة إلى الله تعالى فتظهر في الدروس والمواعظ وتظهر في التعليم القرآني ، وكذلك في التوزيع الخيري إذا كان متعلقا بتوزيع الكتب والمطويات والأقراص ونحوها، وتظهر أيضا في المهام التي ينبغي أن يضطلع بها المسجد نحو التعليم التحضيري ومحو الأمية ودروس الدعم في اللغات ومختلف المواد التعليمية، فاحتضان هؤلاء المتعلمين في بيت الله تعالى هو نوع دعوة لهم إذ قد يكون فيهم تارك الصلاة والمتهاون بها ، ودخول بيت الله بمجرده فيه تذكير بالله تعالى وربط للعبد به، بل إننا بهذه الأعمال التطوعية قد نصرف فئات من أولادنا عن الدراسة في الأماكن المختلطة والتي يدرس فيها تغربيون علمانيون كما أننا نوفر على أهليهم أموالا قد يتكلفون دفعها وهم كارهون لشدة حاجتهم.
إن خروج قفة رمضان من المسجد فيه دعوة لله تعالى وكذا خروج قافلة إغاثة منه، وخروج الشباب لزيارة المرضى في المشافي ، ومما يدل على هذا المعاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أن الصدقة من وائل الدعوة إلى الله كما في حديث الذي وقعت صدقته في يد سارق وزانية وغني فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ ".
ولا يخفى عليهم أن المنصرين والماسونيين والقاديانيين غيرهم إنما ينشرون دعوتهم في البلاد الإسلامية عن طريق المال وعن طريق الجمعيات الخيرية والتعليمية والثقافية ، ويعطون عطاء من لا يخش الفقر ويستغلون حاجة الناس والضغوط الاجتماعية التي يعيشها الناس في بعض المناطق من أجل استمالتهم إلى نحلهم الضالة .
7-تحقيق فرطت فيه الدولة أو عجزت عنه من الفروض الكفائية
وذلك عن طريق تسخير المسجد ومرافقه وإنشاء الجمعيات المختصة ، وخير ما نمثل له في ظل هذا العنوان في عصرنا وبلدنا التعليم القرآني، فإن المدرسة لا تعلم القرآن والمسجد لابد أن يقوم بهذا الواجب، وهو غير قادر بمن يؤطره تأطيرا رسميا فلابد من الاستعانة بالمتطوعين، بل إن هياكله لا تكفي لاستيعاب كل من يريد حفظ القرآن فلابد من إنشاء جمعيات تسد هذه الحاجة بهياكلها ومؤطريها، هذا مثال عن الفروض الكفائية التي فرطت فيها الدولة.
وفي الختام نذكر إخواننا الأئمة أن من أهم التحديات التي يواجهونها في عصرنا هي علمنة الحياة وحصر الدين في العبادة المحضة وفي بيوت الله تعالى، ولذلك إنه من الواجب عليهم أن يخرجوا بهذه الدعوة إلى الناس وأن يبينوا لهم أن دين الله تعالى مرتبط بكل جزئية من حياة الناس، فالإمام لا ينتظر فقط من يأتيه إلى المسجد بل عليه أن يخرج إلى الشارع وأن يتعاون مع الجمعيات التي تعالج القضايا الثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية والاقتصادية، طبعا وهذا الاسهام لا يشك أنه عمل تطوعي منه وهو جهاد عملي يصب في معناه الكلي في إظهار التصاق الشريعة بحياة الناس.
ونؤكد أيضا أن الارتقاء بحياة الإنسان في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، فيه معنى دعوي من ناحية أخرى، وذلك أن الحاجة والحرمان والهم قد يكون مانعا للناس من التوجه إلى العلم الشرعي ومن الاهتمام بوعظ الواعظين ونصائح المرشدين.
المطلب الثاني : مجالات العمل التطوعي
إن مجالات العمل التطوعي في حق الامام تتجاوز التدريس والخطابة وتعليم القرآن، لأن هذه من واجبات الإمام، وسنحاول الكشف عن أهم المجالات- في عجالة – لأن ذلك مما يبين اتساع أثره كما أشرنا سابقا.
1-التعليم القرآني وما تعلق به.
وقد النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُكُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه» . رَوَاهُ البُخَارِيّ وقال:" إن الدال على الخير كفاعله: رواه الترمذي.
2-الدعوة إلى الله تعالى
وقد قال صلى الله عليه وسلم: « فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
3-التطوع ببناء المساجد وعمارتها:
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» متفق عليه ، والذي نؤكد عليه في هذا المقام ضرورة توجيه الناس إلى معنى العمارة الإيجابي والأكثر إفادة لأن كثيرا من المتبرعين يحبون رؤية أثرهم فيتبرع بأموال ضخمة لما يزخرف به المساجد ولإطالة الصومعة ولا يتبرع للأمور الباطنة المتعلقة بتجهيز المدارس القرآنية ونحو ذلك ، ومثل هذا التوجيه ضروري مقدمته التذكير بالإخلاص في العمل وموضوعه بيان الأجر المرتب على الشيء المتبرع به والذي له ارتباط بالأثر الناتج عنه.
4-الصدقة والسعي على الأرامل والأيتام
وقد قالَ النبي صلى الله عليه وسلم : عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ بِالْخَيْر. قَالُوا: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ. رواه مسلم.
5-التطوع بإطعام الطعام،
وقد قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان:8-9)، قال ابن العربي فيها ست مسائل : «-تنبيه على المواساة؛ ومن أفضل المواساة وضعها في هذه الأصناف الثلاثة ...- دون توقع مكافأة، أو شكر من المعطي»
وهذا أمر موجود في عصرنا خاصة في شهر رمضان.
6-إصلاح ذات البين
أما هذا فمما نؤكد عليه لغياب الاهتمام به رغم عظم أثره الاجتماعي ، فالإصلاح بين الأزواج وبين الجيران وبين الأقارب من المهام الاجتماعية التطوعية المنوطة بالإمام في مسجده وفي محيطه، وإذا فرط فيه ربما لم تجد من ينوب عنه فيه ؛ فلابد أن يسجل فيه حضوره وأن يلفت الناس إلى هذا الدور الذي يقوم به، وذلك من خلال وعظه ومن خلال من يحيط به من الناس ومن خلال تخصيص أوقات لذلك أو القيام بحملات إصلاح من حين لآخر ، وقد قال الله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(سورة النساء:114). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة » رواه الترمذي
7-البيئة ونظافتها
ومن المهام التطوعية الاهتمام بالبيئة بالدعوة إلى حملات التشجير وحملات النظافة وما يصب في معنى الحفاظ على البيئة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من مُسلم يَغْرِسُ غَرْسًا، أو يَزْرَعُ زَرْعًا، فيأكلَ منه طَير، أو إنسان، أو بَهِيمة، إلا كان له به صدقة». متفق عليه. وقال «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» رواه مسلم.
8- مكافحة الفساد بكل أنواعه
ومن الأعمال التطوعية مكافحة الفساد وأهله بالنهي عنه ممارسة والتبليغ عن المفسدين لقطعه ومنع انتشاره، وقد قال الله تعالى: (قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف: 94، 95) فقد طلبوا من ذي القرنين أن يحميهم من هؤلاء المفدسين بمقابل ؛ لكنه آثر أن يفعل ذلك تطوعا في سبيل الله من دون مقابل، ويأجوج ومأجوج في عصرنا ألوان وأشكال.
9-الشفاعة الحسنة وقضاء حوائج الناس
ومن الأعمال التطوعية الشفاعة الحسنة والسعي في قضاء حوائج الناس وقد قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (النساء:85) وقال الحسن البصري رحمه الله:(لأن أقضي حاجة لأخ أحب إلى من أن أصلي ألف ركعة ولأن أقضي حاجة لأخ أحب إلي من أن أعتكف شهرين) والإمام بفضل الله تعالى يملك من الجاه ما يجعل احترام لدى فئات من المجتمع إذ الكل يصلي خلفه ويسمع وعظه ، فعليه أن يستثمره هذا الجاه في رد المظالم ورفع الغبن وإيصال الحقوق إلى أهلها والتنبيه على أصحاب الحوائج بأنواعها .
ومن خلال هذا الاستعراض السريع لمجالات العمل التطوعي يظهر أن أثره قد شمل المجالات التعلمية والثقافية والتربوية والدعوية والبيئية والصحية ، والاقتصادية من صدقة وإطعام الطعام ونحوه، والاجتماعية المحضة كإصلاح ذات البين ومكافحة الفساد وقضاء حوائج الناس.
خاتمة : شروط العمل التطوعي أي شروط قبوله ونجاحه
ونحتم هذه المحاضرة بالتنبيه على شروط قبول العمل التطوعي عند الله ونجاحه في الواقع وهي شرطان أو ثلاثة
الأول : الإخلاص
وقد قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر:11)، قال ابن القيم رحمه الله: «فأمّا النيّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصحّ بصحّتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة" أعلام الموقعين(4/199).
وفقدان الاخلاص في العمل التطوعي كما يبطل أجره فإنه يفسده في الواقع حيث تدخله جملة من الآفات القاتلة كحب الظهور والشهرة والترأس والاستبداد بالرأي وجعل العمل مطية للمصالح الشخصية ونحو ذلك .
الثاني : الالتزام والإتقان
وقد قال رسول الله ﷺ: (إن الله تعالى يحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملاً أن يُتقِنَهُ)، والواجب الكفائي على الأمة ونفل في حق الأفراد لكنه يتعين عليهم بالشروع فيه، فمن التزم بعمل فعليه أن يتمه كما عليه أن يتقنه كما يتقن الأعمال الواجبة والتي يتلقى عليها أجرا أو أكثر.
ومما يلحق الاتقان الشرط الثالث وهو الانفاق من الطيب الكسب: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا" رواه مسلم، وهذا الوصف عام سواء كان الشيء المتبرع به مالاً أو عينًا أو وقتا أو جهدًا. فلا يقبل عمل من يتغيب عن عمله الواجب ليتفرغ للعمل التطوعي كما لا يقبل ممن يسرق ويختلس ليتصدق.
ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يسددنا ويلهمنا إلى مراشد أمورنا وسبحانك الله وبحمدك أشهدك أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
أصل شبهة التجسيم ولازمها غير المتناهي غير منشورة
أصل شبهة التجسيم ولازمها غير المتناهي
إن أول ورطة وقع فيها المتكلمون من المعتزلة والجهمية اعتمادهم على ما سمي دليل حدوث الأجسام لإثبات أن العالم مخلوق؛ ليتسنى لهم بعدها إثبات الخالق وإقناع ملا حدة الفلاسفة بوجوده؛ هذا الدليل الذي لا يأبه بمثله الفلاسفة أورد شبها عظيمة لدى معتمديه حيث رسخ في نفوسهم شبهة التجسيم وجعلهم ينفون الصفات عن رب العالمين .
ثم إن الأشعري رحمه الله تعالى لما ترك مذهبهم والتزم العودة إلى طريق السلف سلم لهم صحة ذلك الدليل، وظن أنه سيسلم من شبهة التجسيم إذا نفى الصفات الفعلية -التي تستلزم التغير والانتقال حسب تصور المعتزلة-، وظن أنه إذا أثبت الصفات الخبرية مع التأكيد نفي التكييف سيسلم أيضا من تهمة التجسيم التي كان يشهرها المعتزلة في وجه أهل الحديث.
لكن الأشعري لا يزال متهما بالتجسيم -رغم كل ذلك ورغم تصريحه بنفي الجسمية في بعض كتبه-، وكيف يسلم الأشعري أو حتى الأشعرية أتباع الجويني نفاة العلو والصفات الخبرية من هذه التهمة، وهم يثبتون لله تعالى صفات المعاني كالعلم والقدرة والكلام، التي يصر المعتزلة على نفيها ووصف كل من يثبتها بالتجسيم وبمشابهة النصارى في أقانيمهم، واسمع إلى القاضي عبد الجبار وهو يؤكد ذلك في المغني (4/280) حيث قال:" فصل في أن القادر بقدرة لا يكون إلا جسما "، وكون الله تعالى قادرا بقدرة هي عقيدة أهل السنة جميعا أهل الحديث والأشعرية المتقدمين والمتأخرين، واسمع إلى القاضي عبد الجبار وهو يؤكد على أصل الشبهة الذي ذكرناه أعلاه حيث قال (7/85) تحت عنوان إبطال القول بأنه سبحانه متكلم بكلام قديم :"على أن تجويز كلام قديم من جنس هذا الكلام يوجب تجويز جسم قديم من جنس هذه الأجسام، وتجويز ذلك يبطل طريق معرفة حدوث الأجسام ؛ وذلك يؤدي ألا تصح طريق معرفة القديم تعالى أصلا فضلا عن كلامه"اهـ. من هذا التقرير يعلم أن أصل الشبهة واحد وهو دليل حدوث الأجسام، وأن شبهة التشبيه الكامنة في نفوس المتكلمين الدافعة لهم لنفي الصفات لن تقف عند الصفات الخبرية الذاتية بل تتعداها إلى غيرها.
ثم إن الفلاسفة الذين سعى المعتزلة لإقناعهم بأن العالم مخلوق أو لإرضائهم بنفي الجسمية لم ولن يرضوا عنهم ، واسمع جيدا إلى ابن رشد الحفيد وهو يقول في مناهج الأدلة (135):" وليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأوَّل سبحانه ، إذ ليس عندهم برهان ولا عند المتكلمين على نفي الجسمية عنه، إذ نفي الجسمية عندهم عنه انبنى على وجوب الحدوث للجسم ، وقد بينا في صدر هذا الكتاب أنه ليس عندهم برهان على ذلك ، وأن الذين عندهم برهان على ذلك هم العلماء "اهـ. والعلماء عنده هم الحكماء الفلاسفة فدليل حدوث الأجسام المعتمد عند المعتزلة لم يفد أرباب العقول قناعة لا بوجوب وجود الخالق الأول ولا بتنزيهه عن الجسمية ، والتنزيه الحق الذي يطمح إليه الجميع لا يعرفه إلا الفلاسفة النفاة .
وأصرح منه في رمي المعتزلة بتهمة التجسيم ابن سينا الذي قال في كتابه التعليقات (ص:308):"المعتزلة يظنون أنهم قد أثبتوا الأول ليس بجسم وليس الأمر على ذلك، فإن براهينهم خيلت لهم أنه ليس بجسم ، ثم لما جاؤوا إلى تفصيل أحواله شبهوا أحواله وأفعاله بأحوال الإنسان ..."اهـ وهكذا لن ترضى عنك الفلاسفة حتى تتبع ملتهم، فالمعتزلة عند أهل التجريد كلهم مجسمة مكيفة رغم كل ما فعلوه مع النصوص ورغم كل ما قالوه في حق الله تعالى، وقال ابن سينا بعدها (309):"ولا يغني عنهم قولهم إنه قادر بذاته لا بقدرة".
فالمعتزلة ترى أهل الحديث مجسمة وإن صرحوا بالتنزيه وترى الأشاعرة متناقضين ومجسمة وإن صرحوا بالتنزيه وبنفي صفات الأفعال وغيرها، والفلاسفة كذلك ترى المعتزلة من جملة المجسمة، ولا يسلم عندهم من التجسيم إلا أهل التجريد المحض المثبتون للوجود المطلق عن المقولات العشر.
ولا تتفاجأ أيها القارئ إذا قيل لك إن شبه الفلاسفة قد سرت إلى جسم المعتزلة والأشعرية فاختطفت أبا الحسين البصري من المعتزلة والفخر الرازي من الأشعرية فصار الأخير يصنف في علومهم –بما فيها السحر- ويزعم أن الخلاف معهم في الصفات لفظي تارة كما في نهاية العقول للرازي (2/239) وينصره آراءهم تارة أخرى كما في المعالم ، لست أنا من قال ذلك ولكنه ابن التلمساني الشارح الذي قال (333):" يقال له قولك : "إن العلم نسبة مخصوصة والقدرة كذلك"، ممنوع وهذا مذهب لك ولأبي الحسين ، وأنتما غير مساعدين عليه ، ولم تقيما برهانا على صحة ذلك ، وخصومكما في هذه الدعوى الأشعرية وبقية المعتزلة...أما الأشعرية فقد علمت أن العلم والقدرة والإرادة عندهم موجودات ذات نسب لا مجرد نسب"اهـ. وخصومه قبل الأشعرية والمعتزلة السلف وأهل الحديث الذي بنوا عقيدتهم على الكتاب والسنة بعيدا عن شبهات الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم
وإنه ليس كلامي ولكن كلام السنوسي الذي يقول في شرح أم البراهين (28):" وليحذر المبتدئين جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة، وأولع أصحابها بنقل هوسهم وما هو إلا كفر صراح من عقائدهم، التي ستروا نجاستها بما ينبهم على كثير من اصطلاحاتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات، وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما في ذلك ، وقل أن يفلح من أولع بعجمة كلام الفلاسفة ، أن يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه ، وكيف يفلح من والى من حاد الله تعالى ورسله؟ وخرق حجاب الهيبة ونبذ الشريعة وراء ظهره ، وقال في حق مولانا عز وجل وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام ما سولت له نفسه الحمقاء ، ودعاه إليه وهمه المختل"اهـ. ولكن كثيرا من الناس في عصرنا لم يسمعوا نصحه مع الأسف الشديد فوقعوا فيما حذرهم.
من فتاوى محمد يحيى الولاتي في مظاهر الشرك في الربوبية والألوهية غير منشورة
من فتاوى محمد يحيى الولاتي في مظاهر الشرك في الربوبية والألوهية
أولا : فتوى في شرك الربوبية
قال محمد يحيى الولاتي (ت:1330هـ) رحمه الله :"وأما ما أثبتوه لهم مما ينافيه الشرع العزيز بأن كان خارما لإجماع أو مخالفا لنص قطعي فإنه مردود عليهم، مثل قولهم أي بعض المتصوفة إن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه أي ذلك العصر، ويقولون هو عماد السماء ولولاه لوقعت على الأرض ، وهذا القول كفر أو قريب من الكفر -أعاذنا الله منه- لما فيه من الشرك واعتقاد الوحدة بين الخالق والمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ويكذبه صريحا قوله تعالى (قُلْ مَنْ يَّرْزُقُكُم مِّنَ اَ۬لسَّمَآءِ وَالَارْضِۖ أَمَّنْ يَّمْلِكُ اُ۬لسَّمْعَ وَالَابْصَٰرَ وَمَنْ يُّخْرِجُ اُ۬لْحَيَّ مِنَ اَ۬لْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ اُ۬لْمَيِّتَ مِنَ اَ۬لْحَيِّ وَمَنْ يُّدَبِّرُ اُ۬لَامْرَۖ فَسَيَقُولُونَ اَ۬للَّهُۖ) (يونس:31) ففي الآية تصريح بأن الذي يدبر أمر العالم كله هو الله تعالى، وأن قول المتصوفة إن القطب هو الذي يدبر الأمر كذب باطل من نزغات الشيطان، سواء قالوا إنه يدبر الأمر بإذن الله أو بغير إذنه ، فإن قالوا بغير إذنه فقد أفردوا القطب بالربوبية والملك، وذلك كفر صريح، وإن قالوا بإذنه قلنا : قد قال عبدة الأصنام هذه القولة قبلكم فقالوا إن أصنامهم هي المدبرة لأمورهم بإذن الله تعالى، ولم يخرجهم عن دائرة الشرك-نعوذ بالله منه- بدليل قوله تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ وَسَخَّرَ اَ۬لشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَ۬للَّهُۖ ) (العنكبوت: 61) وقوله تعالى : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَ۬للَّهُۖ فَأَنّ۪ىٰ يُوفَكُونَۖ) (الزخرف:87) وبدليل الآية المتقدمة وهي قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَّرْزُقُكُم مِّنَ اَ۬لسَّمَآءِ وَالَارْضِۖ أَمَّنْ يَّمْلِكُ اُ۬لسَّمْعَ وَالَابْصَٰرَ وَمَنْ يُّخْرِجُ اُ۬لْحَيَّ مِنَ اَ۬لْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ اُ۬لْمَيِّتَ مِنَ اَ۬لْحَيِّ وَمَنْ يُّدَبِّرُ اُ۬لَامْرَۖ فَسَيَقُولُونَ اَ۬للَّهُۖ) (يونس:31) ففي الآيات التصريح بأن المشركين مقرون بأن الله هو الخالق الرازق المسخر المالك المدبر للأمر، ولم ينفعهم ذلك حين أسندوا ذلك مجازا لأصنامهم لما في ذلك من الشرك، فكان من نسب تدبير السماء والأرض وما فيهما إلى القطب، فإنه مشرك ولا ينفعه اعتذاره بأن ذلك بإذن الله تعالى والله أعلم "..الرحلة الحجازية ت محمد حجي ط2- (ص319)
ثانيا : فتوى في شرك الألوهية
وسئلت أيضًا عن الحكم الشرعي فيما يفعله أهل المغرب من الذبح على قبور الصالحين تقربًا بهم في قضاء حوائجهم وندائهم للموتى واستغاثتهم بهم يطلبون منهم حوائجهم، يقولون يا فلان اقض لي حاجتي الفلانية، ومنهم من يقول يا فلان توسلت بك إلى الله تعالى في قضاء حاجتي. فسئلتُ عن الذبح المذكور هل هو بدعة محرمة فقط أو كفر أعاذنا الله منه أو كبيرة فقط؟ وعن طلب الحوائج من الأولياء أصحاب القبور والاستغاثة بهم هل هو بدعة محرمة أم لا؟.
فأجبت، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، بأن الذبح على قبور الأولياء تقربًا إليهم في قضاء الحوائج بمنزلة الذبح على الصنم تقربًا إليه بذلك. فإن قالوا نحن لا نعتقدهم آلهة ولكنا نتقرب إليهم بالذبح ليتوسطوا بيننا وبين الله تعالى في قضاء حوائجنا، قلنا لهم كذلك عبدة الأصنام فإنهم قالوا مثل هذه القولة ولم يخرجهم ذلك عن دائرة الشرك- أعاذنا الله منه- كما حكي الله تعالى ذلك عنهم بقوله (مَا نَعْبُدُهُمُۥٓ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اَ۬للَّهِ زُلْف۪ىٰٓۖ) (الزمر:3) فلا فرق بين من تقرب إلى الولي بالذبح عند قبره في قضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى وبين عابد الصنم في تقربه إليه بالذبح عنده لقضاء حوائجه يعتقد أنه واسطة بينه وبين الله تعالى، لأن الولي مخلوق لا ينفع ولا يضر ولا تأثير له كما أن الصنم كذلك، فقد كان الذبح على الأصنام والذبح على القبور من سنة الجاهلية فحرَّمها الله تعالى على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحرَّم تعالى في كتابه العزيز الذبح على الأصنام تقربًا إليها وجعله كفرًا بقوله تعالى (وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اِ۬للَّهِ
بِهِۦ) (المائدة:3) وقوله تعالى (وَمَا ذُبِحَ عَلَى اَ۬لنُّصُبِ) (المائدة:3)ولم يقبل منهم اعتذارهم بقولهم (مَا نَعْبُدُهُمُۥٓ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اَ۬للَّهِ زُلْف۪ىٰٓۖ) وحرم الله تعالى أيضًا على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذبح على القبور بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام»، رواه أبو داود في سننه عن أنس. فقد كان من سنة الجاهلية الذبح على القبور وحرمه الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما حرم الذبح على النصب أي الأصنام. فمن ذبح على قبور الأولياء تقربًا إليهم فقد أحيا سنة الجاهلية التي أماتها الشرع العزيز قبله.
فإن قالوا نحن نذبح على اسم الله تعالى وعبدة الأصنام يذبحون على اسم الصنم، وهذا فرق بيننا وبينهم.
قلنا لهم هذا لا ينهض فرقًا ولا حجة لأنكم تذبحون على اسم الولي مع اسم الله تعالى فتقولون بسم الله هذه ذبيحتك أيها الشيخ فلان، واعتقادكم في حالة الذبح مع اسم الولي لا مع اسم الله تعالى، لأن الولي هو الذي تطلبون منه قضاء حوائجكم، فهو المقصد الأعظم عندكم. فذكركم لاسم الله تعالى عند الذبيح إنما هو صورة لفظ لا يصحبها قصد، ونظر الله تعالى إنما هو إلى القلوب لا إلى صورة اللفظ. فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) قال تعالى : (لَا يُوَ۬اخِذُكُمُ اُ۬للَّهُ بِاللَّغْوِ فِےٓ أَيْمَٰنِكُمْۖ وَلَٰكِنْ يُّوَ۬اخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ اُ۬لَايْمَٰنَۖ) (البقرة:225) ففي الحديث والآية التصريح بأن نظر الله تعالى مَنَاطُهُ نية العبد لا عمله ولا قوله. ومعلومٌ ضرورةً أن الذابحين على قبر الولي مقصودهم الأعظم إنما هو التقرب إلى ذلك الولي لا التقرب إلى الله. وكذلك إذا قلت لأحدهم إن كنت لا تقصد التقرب إلى الله تعالى بذبيحتك على قبر الولي فلان فاذبحها في بيتك على اسم الله فقط وتصدق بلحمها على المساكين فإنه لا يساعدك في ذلك أبدًا، ولا يقبل إلا ذبحها عند القبر.
فإن قالوا: الفرق بين الذبح على قبر الولي والذبح على الصنم أن الصنم جماد والولي صالح من صلحاء الأمة المقربين عند الله؛ فتعظيمه بالذبح ليس كتعظيم الجماد الذي هو الصنم، ونحن لا نقصد إلا تعظيم الولي ولا نقصد تعظيم القبر الذي هو جماد كالصنم.
قلنا لهم: تعظيمكم للولي بذبحكم على قبره بمنزلة تعظيم النصارى- لعنهم الله تعالى- في زعمهم لعيسى -عليه السلام- يذبحهم على صورة الصليب التي هي جماد.
فإن قالوا : لسنا كالنصارى في ذلك فإن النصارى يعتقدون أن الصليب ربهم وأن عيسى ابن الله، تعالى الله عن ذلك كله علوًا كبيرًا، ونحن لا نعتقد في القبر أنه رب ولا أن صاحبه ابن الله تعالى.
قلنا لهم: أما قولكم إنكم لا تعتقدون في صاحب القبر أنه ابن الله فصحيح فإنكم لا تعتقدون ذلك ولا تقولونه بألسنتكم. وأما قولكم إنكم لا تعتقدون أنه رب فكذب، فإنكم وإن لم تقولوا بألسنتكم إنه ربكم فإنكم تعتقدون إثبات صفة الرب له فتعتقدون فيه التأثير بالنفع والضر، واعتقاد التأثير لغير الله تعالى كفر- أعاذنا الله منه-.
فإن قلتم نحن لا نعتقد فيه التأثير أصلًا.
قلنا لهم معيار ذلك أن تذبحوا في بيوتكم وتتصدقوا بلحم الذبيحة وتنووا ثواب الصدقة لأنفسكم أو لوالديكم وتتوسلون إلى الله في قضاء حوائجكم بعملكم الصالح هذا الذي هو الصدقة المذكورة، فإن توسل العبد إلى الله تعالى بعمله الصالح وردت به السنة الصحيحة كما في حديث أصحاب الصخرة الثلاثة الذين أواهم المطر إليه فانطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة فانفرجت عنهم. توسل أحدهم ببره لوالديه، وتوسل الثاني إلى الله تعالى بوفائه لأجيره في أدائه حقه إليه بعد نمائه، وتوسل الثالث بعفافه عن الزنى بمحبوبته بعدما مكنته من نفسها، وحديثهم أخرجه البخاري في صحيحه. فلو كنتم لا تعتقدون التأثير في الولي لما أتعبتم أنفسكم في سوق الذبيحة إلى قبره، فلولا اعتقادكم التأثير فيه ما سقتموها إليه بل ولا خصصتموه بها والله أعلم.
وقد أفتى العلماء قبلنا بتحريم الذبيحة على قبور الأولياء وقالوا إنها كالذبح على الأصنام...فبان لك أيها الناظر أن النذر للقبور والذبح عليها داخل في عموم الشرك- أعاذنا الله منه- لشمول قوله تعالى (وَمَا يُومِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَۖ) (يوسف:106) له.
ومن علامة أنهم يعتقدون التأثير بالنفع والضر في أصحاب القبور أنهم ينفرون ممن يرشدهم إلى الاستغاثة بالله وحده والذبح له والتصدق بالمذبوح على المساكين، لا سيما إذا قال لهم هذا الولي الذي تذبحون على قبره لا ينفع ولا يضر فينفرون ممن يرشدهم إلى نحو هذا الرشد وتشمئز قلوبهم من كلامه، ويفرحون لمن يقول لهم الولي سيدي فلان لا يذبح أحدٌ على قبره لحاجة إلا قُضيت، ولا مريضٍ إلا برئ، ولا مكروبٍ إلا فرج عنه، فيستبشرون ويهشون لصاحب هذا الكلام الباطل الزائغ عن الحق، فيصدق عليهم قوله تعالى (وَإِذَا ذُكِرَ اَ۬للَّهُ وَحْدَهُ اُ۪شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اُ۬لذِينَ لَا يُومِنُونَ بِالَاخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ اَ۬لذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَۖ) (الزمر:45) أعاذنا الله من حالهم وأرشدنا وإياهم إلى طريق الصواب.
ومنهم من إذا نهيته عن الذبح على القبور والاستغاثة بهم وطلب النفع منهم وتلوت عليه قوله تعالى (إِنَّ اَ۬لذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ لَنْ يَّخْلُقُواْ ذُبَاباٗ) (الحج:266) الآية، وقوله تعالى (وَالذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَئْاٗ وَهُمْ يُخْلَقُونَۖ ٢٠ أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٖۖ ) (النحل:20-21) وفسّرت له الآية بأنها شاملةٌ لدعاء الأولياء والاستغاثة بهم لأنهم من الذين من دون الله تنكر لك وجهه ويكاد يبطش بك لو قدر فيصدق عليه قوله تعالى (وَإِذَا تُتْل۪ىٰ عَلَيْهِمُۥٓ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ تَعْرِفُ فِے وُجُوهِ اِ۬لذِينَ كَفَرُواْ اُ۬لْمُنكَرَ) (الحج:72) ففي هذه الآية والآيتين قبلها النعي على من يدعو الأولياء من دون الله ويتقرب إليهم بالذبح والله أعلم.
الرحلة الحجازية (ص325-330)
دور المعلم في بناء شخصية المتعلم وتعزيز انتمائه الحضاري غير منشورة
دور المعلم في بناء شخصية المتعلم وتعزيز انتمائه الحضاري
محاضرة ألقيت في الجامعة الصيفية للمنظمة الوطنية لأساتذة التربية
بولاية مستغانم بتاريخ 14 محرم 1445 الموافق ل02 أوت 2023
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فقد اخترت لهذه المناسبة موضوعا يتفق مع شعار الجامعة الصيفية وحرصت على أن يكون محل اهتمام جميع الحاضرين وليس فقط أساتذة مواد الهوية فجعلت عنوانه "دور المعلم في بناء شخصية المتعلم وتعزيز انتمائه الحضاري" وذلك أن العملية التربوية تقوم على أركان هي المعلم التلميذ والبرامج أو المحتوى وهناك من يضيف الطرائق والأهداف، ونحن في كلامنا عن الإصلاح أو الحفاظ على الهوية نركز كلامنا غالبا عن المحتوى ؛ فأردت اليوم أن ألفت الانظار إلى أن بناء شخصية التلميذ وتعزيز انتمائه لا يقف فقط على مواد الهوية بل هو يرتكز أيضا على دور المعلم مهما كانت المادة التي يدرسها حتى لو كانت التربية البدنية أو اللغة الفرنسية .
أيها الأساتذة الأفاضل يقول المولى عز وجل: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ (آل عمران: 79) فأمر معلمي الكتاب بأن يكونوا ربانيين والربانية مأخوذة من التربية ولذلك كان مما قيل في تفسير معنى الرباني : هو الذي جمع بين التعليم والتربية ، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ومنهم من قال هي نسبة إلى الرب جلاله وهو يؤكد المعنى المراد ولا يعارضه فإن المنسوب إلى الرب يجب أن يكون مصلحا وليس مجرد ناقل للمعلومات.. والوزارة التي تنتمون إليها تسمى وزارة التربية الوطنية ومنظمتكم اسمها المنظمة الجزائرية لأساتذة التربية .
ومن هذه المعاني ينبغي أن نتخذ من هذه المهنة التي اخترناها وهي التعليم عبادة وقربة نتقرب بها إلى الله تعالى، وطريقا نسهم به في عملية إصلاح المجتمع ، وسبيلا لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان قدر الإمكان.
ونختم هذا التمهيد لهذه المداخلة بقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله وهو يقول في مرشدة المعلمين (2/ 111):" أعيذكم بالله يا أبنائي المعلّمين أن تجعلوا كل اعتمادكم في تربية الصغار على البرامج والكتب. فإن النظم الآلية لا تبني عالمًا ولا تكون أمّة ولا تجدّد حياة، وإنما هي ضوابط وأعلام ترشد إلى الغاية، وتعين على الوصول إليها من طريق قاصد وعلى نهج سويّ. أما العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها ويقتبسونها منكم، وما تبثّونه في أرواحهم من قوة وعزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم. وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وكل هذا مما لا تغني فيه البرامج غناء. ولو كانت البرامج تكفي في التربية لكان كل عالم مربّيًا، ولكن الواقع خلاف هذا".
وقد رأيت أن أقسم مداخلتي إلى مبحثين الأول التوجيه بالقدوة والثاني التوجيه باللسان .
المبحث الأول : التوجيه بالقدوة
إن أهم طرق التربية على الإطلاق هو التربية بالقدوة وذلك لعظم أثره ، ولذلك لعموم إعماله إذ كل فرد من أفراد المجتمع يمكن أن يكون مربيا بسلوكه حتى وإن لم يقصد ذلك، وفيما يخص المعلمين فإنها طريقة متعينة ويجب أن تكون مقصودة، والأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم تنقسم إلى قسمين أخلاق تجب عليه مرتبطة بعملية التعليم وهي التي تصنف ضمن أخلاقيات مهنة التعليم، وأخلاق أخرى لابد أن يتحلى بها يمكن أن نسميها بالأخلاق الذاتية
المطلب الأول : أخلاق مهنة التعليم
أما الأخلاق التي تصنف في أخلاقيات المهنة فمنها الصبر والحلم، ومنها الحزم مع الانبساط ، ومنها الحرص على إفادة التلاميذ ، ومنها الحرص على استثمار الوقت كلها في ذلك ومنها العمل بمقتضى العلم وعدم مخالفة العمل للقول ، وأخيرا معاملة التلاميذ مثل معاملة الأبناء.
وهذه لخصال كلها مهمة وأهمها التي ينبغي التأكيد عليها هي الأخيرة ، وقد أشار إليها سيد المعلمين صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح :"إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم" رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح، وتكتسب هذه الخصلة أهميتها من كون أهم أسباب نجاح المربي في مهمته توفر عنصر الثقة ، ولا شك أن التلميذ الذي يشعر أن معلمه يعالمه معاملة الأب سيثق في هذا المعلم ثقة مطلقة، فيصدفه في كل خبر يقوله ويمتثل كل طلب يطلب منه، وفي هذا المعنى يقول الشيخ الإبراهيمي رحمه الله (2/ 112-113):" إن من الطباع اللازمة للأطفال أنهم يحبّون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر. فواجب المربّي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة"، ثم ذكر بعض الصفات التي تجعل المعلم أبا فقال :" أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسألهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة". ثم ختم توجيهه بقوله :" وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ".
المطلب الثاني : أخلاق المعلم الذاتية
سبق أن ذكرنا أهمية التربية بالقدوة ونزيدها تعضيدا بكلام الإبراهيمي (2/ 113) حيث يقول :"وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا ... ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين".
وقد رأيت محل الاقتداء والتأثير في أربعة أنحاء الأول في عبادة المعلم وطاعته لربه سبحانه والثاني في كلامه وما يجري على لسانه ، والثالث في هيئته وهندامه والرابع : في تعامله مع غيره ولا سيما أقرانه من المعلمين.
الفرع الأول : المعلم قدوة في عبادته وطاعته لله تعالى
لابد أن يعلم التلاميذ أن معلمهم يقيم الصلاة وحريص على المحافظة عليها في وقتها ، ولابد أن يعلموا منه تعظيم الصيام والحرص على صيام النافلة ، وإظهار هذه الأمور بقصد اقتداء التلاميذ من باب من سن في الإسلام سنة حسنة وليس من باب الرياء ، التفريق محلة القلب بنية المعلم ، وليس كل من أظهر العبادة كان مرائيا ، وقد قال تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
واحرص أيها المعلم أن يراك تلاميذك مبتعدا عن مواطن الشبهات فضلا عن مواضع الحرام، ولابد أن تنكر المنكرات فإن لم يكن باللسان فلا أقل من أن يعلم ذلك من تقاسيم وجهك .
وربما اندرج هذا في العمل بمقتضى العلم ، وكم أعجبتني وصية الغزالي لتلميذه والمثل الذي ضربه له في هذا السياق إذ قال في كتابه أيها الولد :" لا تكن من الأعمال مفلسا، ولا من الأحوال خاليا، وتيقّن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد. مثاله لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب، فحمل عليه أسد عظيم مهيب، فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟! ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل".
الفرع الثاني : المعلم قدوة في كلامه وكل ما يصدر من لسانه
ومن الأشياء التي تؤثر في بناء شخصية المتعلم الكلام الذي يصدر من معلمه ولا نقصد الكلام الذي يساق قصدا للتعليم فقط أو التوجيه ، ولكن كل كلام يصدر منه وخاصة الذي يتكرر منه ويعتبر طبعا له كإفشاء السلام ورده، وكحمد الله تعالى والثناء عليه، وكالاستغفار والدعاء، ومثله في الأهمية الاستشهاد بآي القرآن وبالأحاديث النبوية، ومثله الحرص على افتتاح الدرس بالحمد والصلاة على النبي صلى الله وعليه وسام وختمه بكفارة المجلس أو سورة العصر، وهذه أخلاق لا يختص بمعلم العلوم الإسلامية ولا درس التربية الإسلامية .
وفي جهة الترك ينبغي اجتناب كل كلام بذيء أو جارح قبيح واجتناب رفع الصوت والقهقهة ونحو ذلك مما يسيء إلى المرء ويبطل الاقتداء به أو يجعله قدوة سيئة .
الفرع الثالث : المعلم قدوة في هندامه وهيئته
ومن الأمور التي ينبغي أن نقف عندها والناس فيها بين الافراط والتفريط الحفاظ على الهندام والهيئة المحترمة، واجنب الهيئة المبتذلة إذ ليس كل ما هو جائز أن يلبس يلبسه المعلم ، فلباس الرياضة مثلا لا يصلح أن يكون لباسا لمعلم الرياضيات ، وكما يجتنب اللباس المبتذل يجتنب أيضا اللباس الدال على الترف والاسراف ، والاعتدال في كل شيء مطلوب ، وبالنسبة للمعلمات فأمر الحجاب لا يتحدث عنه وإنما يتحدث عن التزام شروطه التي تحقق غايته وحكمة تشريعه .
ومن الكلمات التي أعجبتني في هذا السياق كلمات الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في حلية طالب العلم حيث يقول : "وعليه، فازور عن زيف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخى الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المجدون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتاً صالحاً، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة التعبير عن الذات؟! فكن حذراً في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك".
وعلينا أن نقف مع قوله :"اللباس عنوان على انتماء الشخص" وقوله:"والناس يصنفونك من لباسك"، وقفات جادة، ونخرج عليها أحكام كثير من الألبسة والهيئات.
الفرع الرابع : المعلم قدوة في تعامله مع إخوانه المعلمين
إن التلاميذ يرمقون المعلم ويراقبون كلامه وطريقة جلوسه ومشيه ومما يشد انتباههم أكثر طريقة تعامل المعلم مع بقية المعلمين ، وماذا يقول عنهم وعن المواد التي يدرسونها، فليحذر المعلم من أن يتطرق إلى قلبه داء الحسد فيسلط لسانه لتعيير زملائه فإن ذلك مما يحط من أقداركم جميعا الذام والمذموم عند الجميع أو عند البعض، وإن كانت ثمة خلافات فلا ينبغي إظهارها والجهر بها أمام التلاميذ فإن ذلك مما يؤثر سلبا على نفسيتهم ومما يؤثر على قضية الاقتداء، وهذه الظاهرة موجودة والظاهر أنها قديمة جدا حيث وجدنا علماء الحديث يحذرون من جرح الأقران ويقولون إنه يطوى ولا يروى ، ووجدنا الغزالي رحمه الله في الإحياء يحذر من تزهيد أهل التخصصات بعضهم من بعض ، حيث قال (1/ 57):"أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه، ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير " واسترسل في ضرب الأمثلة ، ونحن في عصرنا نجد ما هو من قبيل هذا وقريب منه من ذم العلوم الأدبية والإنسانية والاجتماعية من طرف أساتذة العلوم التجريبية والتقنية ، وهذا غلط كبير جر على الأمة ويلات وضع لها حجر عثرة كبير في طريق نهضتها.
واسمعوا إلى وصية الإبراهيمي المندرجة في هذا المعنى إذ يقول (2/ 115):"إنكم جنود الإصلاح، فأصلحوا نفوسكم وداووها من داء الأنانية والغرور وتلاقوا على الحرفة الجامعة بالأخوّة والتعاون، والتساند والتضامن".
المبحث الثاني : التوجيه باللسان
ننتقل إلى الطريقة الثانية للتوجيه وهي التوجيه باللسان ، التي قد يكون تذييلا على عنصر في درس، وقد يكون في مقدمات الدروس أو في مناسبات تقتضي ذلك، وسنقسم الكلام إلى قسمين أحدهما متعلق بربط المادة المدرسة مهما كان موضوعها بما يخدم عناصر الهوية ويعزز الانتماء الحضاري للطفل، والثاني متعلق بالاستدراك على البرامج وقضايا أخرى.
المطلب الأول: ربط المواد المدرسة بما يعزز الانتماء الحضاري للطفل
إن العلم إن يحط بمقدمات تحفز على تحصيله يبقى علما جافا ، وربط العلوم الكونية وكل ما يدرسه التلميذ في المدرسة بدينه أو بما هو واقع في مجتمعه يعتبر من أهم المحفزات للتحصيل ومن أهم القوى الدافعة للمنافسة والتفوق، وإن القوة الدافعة لبناء الحضارة في الإسلام هو الدين ولا شك ، وإن أصر مخالف من العلمانيين على أن التحدي هو القوة الدافعة قلنا فلتكن إذن تلك القوة الدافعة هي نصرة الدين، وما دمنا نعيش في حالة ضعف فلتكن تلك القوة هي التحدي الإسلامي.
الفرع الأول : توظيف محتوى المادة لخدمة العقيدة
إن العلم كله يدل على الخالق سبحانه إذا كان علما صحيحا ، ولذلك لا ينبغي أن يغفل المعلم المربي وهو يشرح درسه أن يلفت انتباه التلاميذ إلى الحكمة التي تقف وراء ذلك العلم وإلى القوة التي انتجت عناصره ، وهي حكمة الله عز وجل وقوته ، فمعلم الرياضيات وهو يتبين دقة الحسابات والمعادلات في الجبر أو قواعد الهندسة في المسطحات أو الكرويات بإمكانه أن يربط ذلك بدقة صنع الخالق جل وعلا الذي خلق كل هذه العوالم وكل هذه المعاني النظرية التي جهد العقل البشري على مدى قرون من أجل استكشافها وضبطها، ومن أغرب ما سجلته ذاكرتي أن أستاذ الرياضيات كتب لنا أمام كل تمرين آية -فيما أذكر- ولقد بقيت وقتا وأنا أتأمل وجه العلاقة بين التمرين وتلك الآية وأغربها هو ما علق في ذهني حيث كتب لنا الأستاذ أمام تمرين متعلق بحل معادلات من الدرجة الثانية قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وبعد الحل انتبهت أنه كان يقصد أن الدالتا إذا لم يتغير فالحل دائما هو نفسه والعنصر (ب) سواء كان موجبا أو سالبا فإنه إذا رفع إلى القوة اثنين سيبقى دائما نفسه، فلما لم تتغير الحقائق أو تغيرت المعطيات تغيرا شكليا فإنه لا يمكن أن تتغير النتائج، لقد رسخ هذا المعنى في نفسي –رغم بعد الإشارة - بسبب الجهد الذي بذلته في الربط قبل الحل ولعظم العجب بعد أن فقهت مراده.
وكذلك في درس الكمياء الذي يتعرض فيه إلى تنوع المواد وكثرتها واختلاف بسبب اختلاف مكونات وحداتها الأساسية البسيطة وبسبب اختلاف حالاتها المركبة ، فإنها ولا شك تدل على قدرة وحكمة ودقة صنع الخالق سبحانه وتعالى ، ولعل الأمر أظهر في مادة العلوم الطبيعية المتعلق بالخلق الإنسان وغيره من الكائنات ومن نبتات وغيرها ، وكذلك الجغرافيا وما يتضمنه من دروس حول المناخ وتنوعه وعن التضاريس واختلافها وما يتعلق بالفلك أو طبقات الأرض ، فهذه كلها علوم كونية تدل على مكونها وعلى علمه وحكمته وعلى عظيم قدرته وقوته سبحانه .
وكذلك الأمر في التاريخ بتفسير حوادثه من غير إهمال للإرادة الإلهية وكذا بقية العلوم المتعلقة بواقع الناس فإن القرآن الكريم والشريعة الغراء قد عالجت كل قضايا الانسان والاجتماع والاقتصاد ، والأمر أظهر من أن ينبه عليه في مادة النحو والصرف وذلك لارتباط شواهده بالقرآن الكريم قبل غيره . وهكذا لا يخلو علم من صلة تربطه الدين سواء من جهة الأمر الكوني أو الأمر التشريعي .
وهذا الذي نقوله يستدعي منا معاشر المعلمين توسيع ثقافتنا بدراسة شريعتنا ودراسة الإعجاز العلمي الذي ينبغي الخوض فيه باعتدال وعقلانية دون جحود أو مغالاة .
وإذا تحدثنا عن صحيح العلم الدال على الله تعالى ، فلا نغفل عن ضعيفه وغلطه حيث يجب أن يكون لدينا من الزاد العلمي ما يمكننا به تصويبه أو نقده ونقضه وأعني بذلك النظريات الفاسدة والافكار الخاطئة التي قد تتضمنها النصوص المدرسية أحيانا.
الفرع الثاني : استحضار أعلام الحضارة الإسلامية
ومما يندرج في هذا المضمار وهو ربط المواد بما يعزز الانتماء الحضاري للطفل استحضار منجزات الحضارة الإسلامية وأعلامها القدامي ، سواء في الرياضيات أو الطب أو الفلك أو الجغرافيا أو الكمباء وغير ذلك ، فهذه الأسماء نحو الخوارزمي والبيروني وابن رشد وابن سينا والإدريسي وجابر بن حيان وغيرهم؛ لابد أن تكون حاضرة في دروسنا ، وكذلك منجزات الإدارة الإسلامية والقضاء الإسلامي التي لم تسبق إليها أمة من الأمم ، وكل العلوم التي انفرد بها المسلمون وأسست للعلوم المنهجية كعلم الحديث الذي هو أساس المنهج التاريخي أو الاستردادي وعلم أصول الفقه الذي هو أساس المنهج التحليلي أو الاستنباطي .
ومما نضمه إلى هذا المعنى إظهار الأسف على هجرة الأدمغة التي صارت تبنى حضارة غير حضارتها وتعمق الهوة بين العالم المتطور والعالم الاسلامي، وذلك حتى نحصن هذا الجيل ولو فكريا من أن يكون مصيره مصير الجيل الذي سبقه ، حيث صار المسلمون يفخرون بجنسيات المخترعين في بلاد الغرب بدلا من الفخر باختراعات تنسب إليهم أعني إلى بلدانهم، وهذا نوع من لباس الزور.
وهذا المطلوب يستدعي منا أيضا توسيع اطلاعنا على منجزات الحضارة الاسلامية وعلى واقع الأمة .
الفرع الثالث : التوجيه نحو القراءة البناءة
ومما ينبغي اعماله في هذا المضمار توجيه التلاميذ إلى قراءة كتب تسهم في بناء شخصيتهم الإسلامية المطلوبة وتصنع وعيهم وتعزز الانتماء الحضاري لهم ، ومن طرق التوجيه ذكر المراجع الاسلامية الهادفة والإحالة اليها والاستشهاد بأقوال مؤلفيها ، فالمعلم عندما يذكر مرجع الفكرة التي يطرحها فهو يدعو إلى قراءة ذلك الكتاب ويصنع نوعا من الفضول لدى التلميذ يدفع للبحث عن الكتاب لمطالعته ، ولعل هذا إن لم يحدث مع أكثرهم أو كثيرهم فسيحدث حتما مع بعضهم ، فذكرك لتفسير ابن باديس أو كتاب العقائد له أو آثار الابراهيمي هو نوع من الدعاية والتوجيه وهناك كتب ذات عناوين مثيرة يكفي ذكرها لإثارة ذلك الفضول ونذكر على سبيل المثال كتاب "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله ، وكتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".
ومما ينخرط في هذا السياق تعظيم الشخصيات العلمية الإسلامية في نفوس التلاميذ ، فعندما تذكر شعرا للشافعي تقول الشافعي لغوي والفقيه وأصولي وطبيب فتعرفهم حتى لا يتوهموه مجرد شاعر، وعندما تنقل مفهوم العبادة عن ابن تيمية أو كلمة من كلماته تنبههم أن ابن تيمية محدث وفقيه مصلح وسياسي دافع عن الاسلام في زمانه بالقلم والسيف، وعندما تستشهد بكلام لابن باديس او موقف تذكرهم أن ابن باديس عالم ومفسر جدد الدين وحافظ على كيان الأمة في وقت كانت آيلة إلى الذوبان والزوال وهكذا كلما ذكرت عالما تفتح قوسا للتعريف به أو تدرج جملة اعتراضية لن تعدم منها فائدة بإذن الله تعالى.
المطلب الثاني : الاستدراك على البرامج وأمور أخرى
ومما يلتحق برابط موضوعات المواد المدرسة بما يعزز الانتماء الاستدراك على تلك الموضوعات تصحيحا لأغلاطها أو تكميلا لنقصها وأمور أخرى نضمها الى هذا المعنى في آخر مطلب في هذه المداخلة .
الفرع الأول : معالجة النقائص التي لا يعالجها برنامج والتي في البرنامج
من الأمور التي وجدنا الابراهيمي –وهو عالم من علماء الاجتماع والتربية – ينبه عليها المعلمين (2/ 114) معالجة النقائص الموجودة في التلاميذ والتي لا تتعرض لها البرامج الدراسية ، وفي زماننا هذا نلحق بها معالجة نقائص البرنامج ذاته وتصحيح أغلاطه ومغالطاته مع الأسف الشديد ، فعندما تجد في البرنامج نصا عن كاتب ياسين أو له في كتاب اللغة الفرنسية أو غيره تستدرك معلومات لا تذكر عنه ككونه ملحدا صاحب كلمات شهيرة يهاجم فيها الإسلام وشعائره وعلى هذا فقس .
ومما يقال في هذا المضمار للمعلمين أن اجعلوا من برنامجكم التوجيهي واقع الأمة والآفات المنتشرة فيه كالرشوة والمحسوبية والأنانية والتهريب والمخدرات والتنصير والإلحاد ..الخ ولا تنتظر أن تجد كل ما يحتاجه التلاميذ في بناء شخصيتهم أو تعزيز انتمائهم لدينهم في مناهج وبرامج منظومة تربوية منكوبة لا تزال تدمر تدميرا ممنهجا ، ونقول كما قال الإبراهيمي (2/ 116) في هذا المعنى :" فانظروا إلى الاستعمار، واعرفوا الطرق التي سلكها لقتل أمّتكم فاسلكوا ضدّها لإحيائها. وادرسوا الوسائل التي تذرع بها لاستعباد أمّتكم فاستخرجوا منها وسائل تحريرها".
الفرع الثاني: الحذر من بث اليأس
أيها الأساتذة إن مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية كثيرة وعويصة لكن لا ينبغي أن تكون مثبطة لكم عن آداء مهامكن على أكمل وجه ، ولا ينبغي أيضا أن تظهروها للتلاميذ فيرون فيكم الضعف واليأس فيسري ذلك إلى نفوسهم، ولقد رجعت إلى آثار الإبراهيمي لأنقب عن مشاكل التعليم العربي في زمنه فوجدت حصرا لتلك المشاكل فيما يأتي (2/ 244) 1- التذمر من فقد السكنى واضطراب المعيشة. 2- غلاء أسعار الضروريات، وعدم قيام الأجور بها. 3- افتتان بعض المعلّمين بالنزعات الحزبية. 4- عدم انضباط البرامج.
فقلت سبحان الله إنها المشاكل ذاتها التي كانت سنة 1948 ما زالت مستمرة ، لكنها لم تكن أبدا عائقا أمام المعلمين الذين خرجوا ذلك الجيل الذي أحيا البلاد وحررها ، وإن رجعنا الى الثلاثينيات فأول مشكلة كانت تعترض المعلم هي السجن بتهمة التعليم العربي فاعتبروا أيها المعلمون ، وإن مما كان يشد عزائم هؤلاء المعلمين ثبتوا وثبتوا غيرهم مثل هذه الكلمات التي قالها الابراهيمي رحمه الله (3/ 265):" ولكنكم جنود، ومتى طمع الجندي في رفهنية العيش؟ وأسود، ومتى عاش الأسد على التدليل؟ وهو يشعر أن التدليل تذليل. إنكم- يا أبنائي- رجالُ حركة، فلا تشينوها بالسكون، وأبطال معركة، فلا يكنْ منكم إلى الهوينا ركون".
والمقصود هو الثبات من جهة والحذر الاحباط ومن نقل ذلك الاحباط النفسي إلى التلاميذ في حين أنتم مطالبون برفع هممهم وتقوية عزائمهم .
الفرع الرابع : قل كلمتك وابذر البذرة وتوكل الله
أيها المعلم قل كلمتك وابذر البذرة وتوكل على الله فعل من بين التلاميذ الذين هم في القسم أمامك من سيكون له شأن في الأمة وأنت لا تدري ، كما قال محمد الخضر حسين (12/ 2/ 106) :"لا يدري كثير من الناس أن الطفل واحد من رجال الأمة إلا أنه مستتر بثياب الصبا، فلو كشف لنا عنه وهو كامن تحتها لرأيناه واقفاً في مصاف الرجال القوَّامين، لكن جرت سنَّة الله أن لا تتفتق أزوار تلك الأستار إلا بالتربية شيئاً فشيئاً، ولا تؤخذ إلا بالسياسات الجيدة على وجه من التدريج".
فلا تحتقرن أيها المعلم جهدك، فقد تكون مجرد كلمة عابرة وجهد يسير منك يفعل في نفوس الطلاب الأفاعيل ، ومما هو مأثور عن بعض أعلام الأئمة أنهم كانوا صناعة كلمات قيلت من معلمين كان لها أثر عظيم في نفوسهم .
ككلمة إسحاق بن راهوية وهو في حلقة بين طلابه حيث قال:" لو أن أحدكم يجمع كتابا فيما صح من سنة الرسول "، وكان في الحاضرين البخاري رحمه الله الذي وقعت تلك الكلمة العابرة فغرست في نفسه ثم أثمرت صحيح البخاري ، ذلك الكتاب العظيم الذي نفع الله به الأمة جمعاء وخلد به البخاري اسمه إلى قيام الساعة.
مثلها كلمة البرزالي وهو يخاطب تلميذة الذهبي إذ قال له لما رأى خطه الجميل: إن خطك هذا يشبه خط المحدثين . قال الذهبي فحبب الله لي علم الحديث . وبفضل هذه الكلمة انخراط الذهبي في علم الحديث صار علما متميزا فيه وفي علم الرجال، وتميز أيضا في علم التاريخ الذي لا يبارى فيه وذلك أنه أدخل فيه مناهج التوثيق والنقد المعتمدة عند المحدثين فرحمهم الله رحمة واسعة .
وفي الأخير نسأل الله تعالى التوفيق والسداد للمعلمين والمعلمات ونسأله سبحانه علما نافعا وعملا متقبلا ، وسبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وأستغفرك وأتوب إليك .
تقديم لكتاب أبشروا.. لم يعد المسيح ابنا لله غير منشورة
تقديم لكتاب أبشروا.. لم يعد المسيح ابنا لله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإنَّ نقد الكتاب المقدّس عند النصارى وبيان تحريف نصوصه وتزييف حقائقه؛ من أهمِّ الموضوعات المطروقة بقوّة في عصرنا في مجال التبشير بالإسلام ومواجهة المدِّ التنصيري، أو ما يسمى بمقارنة الأديان، وإنَّ مما أسهم في تحريك عجلة النقد انفتاح الغربيين على المنهج العلمي لتحقيق التراث بالرجوع إلى الأصول الخطية والمقارنة بينها؛ هذا العلم الذي نشأ وترعرع في ظلِّ الحضارة الإسلامية في بيت علماء الحديث؛ قبل أن ينتقل إلى العالم الغربي ويجد طريقه إلى التوظيف مع ظهور الطباعة.
وفي العقود الأخيرة ظهرَ ما يشبه موجةً من التصحيحات لطبعات الكتاب المقدس، تصحيحٌ يتبعه تنقيحٌ، والتنقيحُ تتبعه مراجعةٌ من طرف باحثين مستقلين وجمعيات منظمةٍ، والمجال ما زال مفتوحًا، وقد انتبه كثيرٌ من العلماء والدعاة المسلمين لهذه الثورة الحادثة داخل البيت النصراني؛ فوجدوا في ذلك حجَّةً جديدة تُثبت وقوع التحريف في الكتب المقدّس، ففضلا عن فقدان الأصول العتيقةِ، وفضلا عن التناقضات بين نصوصه وأغلاطه العلمية، وفضلا عن الاختلاف فيما يثبتُ من أسفاره وما لا يثبت منها؛ تبين لهم التحريف جليا عن طريق التَّرجمة غير الأمينة من اللغة الأصلية التي كُتبت بها المخطوطات، بل تجلَّى العبث الذي حدث في المخطوطات على أيدي النسَّاخ من عصرٍ إلى عصرٍ آخر، وهذه الأمور وإن كنَّا نقول إنَّها تجلَّت فإنَّ جلاءها بقي في النطاق الأكاديمي، وعند فئة من المتخصِّصين في دراسة اللاهوت المسيحي، فكان لابدَّ من إخراج هذه الحقائق لعموم الناس وللنصارى الغافلين والمرتدِّين المخدوعين على وجه الخصوص، وكان من العلماء الذين انبروا لهذا الواجب فأبلوا فيه البلاء الحسن، وطوَّروا به منهج الحوار مع النصارى وجدَّدوا منهجَ الجدال مع أهل الكتاب أخونا الفقيد الشيخ الدكتور يزيد حمزاوي رحمه الله تعالى، الذي شهدناه يُلجمُ قساوسة أفنوا أعمارهم في التنصير في مختلف بقاع العالم، ورأيناه يأتيهم بما لم يسمعوا به من قبل؛ فكان أحدهم ربما يبني محاضرة كاملة على نصٍّ إنجيلي؛ فيستظهر الشيخ يزيد في المناقشة أنّ هذا النّص محذوفٌ في النسخة التي عنده وكثير من النسخ أو من أكثرها فيبهت الذي كفر، وكما أنفق الشيخ يزيد رحمه الله كثيرًا من وقته في المناظرات، فقد سخَّر شيئا من وقته للجمع والتأليف فطبعَ في حياته ثلاثة كتب ضمَّنها كثيرا من ثمار دراساته ومقارناته، وتتبُّعه لنصوص الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، وأوَّل هذه الكتب : "النصرانية وإلغاء العقل"، وثانيها "الإنجيل المحرف يهين المسيح"، وثالثها "المسيحية البضاعة المغشوشة"؛ كما كانت له مشاريع أخرى لمَّا يُتِمَّها منها هذا الكتاب الذين بين أيدينا والذي عنوانه : "أبشروا، لم يَعُد المسيح ابنا لله" وهو كتاب وضع لبنته في ملف أنشأه عام 2014م، والظاهر أنَّه قد شُغل عنه، أو رآه مشروعا يتطلَّب استقراء عميقا وشيئا من الأناة والتدقيق؛ فلم يكمله حتى توفاه الله تعالى، وقد وُجد ملفٌّ آخر أنشأه في مارس 2021م نقَّح فيه المادة القديمة، وأدخل فيه نصوصا جديدة رجاء أن يشرحها، كما أدرج عبارات للتذكير بمسائل عسى أنْ يوسِّع البحث فيها، وبقيت على حالها.
وقد التمس مني ورثته الكرام أن أنظر في هذا الكتاب لأضع له تقديمًا عسى أن يجدَ طريقا إلى الطباعة؛ وخاصةً أنَّه تنقصُه المقدمة والخاتمة، وقد ظهر لي أنَّ الكتاب يحتاجُ أيضا إلى شرح تلك المواضع المشار إليها، وتفسيرِ رموز طبعات الكتاب المقدس المعتمدة -وهي كثيرة-، ويحتاج أيضا إلى كتابة مدخل أشار إليه المؤلف في الفهرس وأحال إليه في ثنايا الكتاب، وهو مدخل كان ينوي أن يتحدَّث فيه عن ظاهرة التحريف.
وقد أدرجت الشرح في الحاشية، ووضعت بعض العناوين الجانبية في المتن بين قوسين معكوفين [] ليعلم القارئ انتهاء الفقرة والانتقال إلى أخرى، وبيَّنت جلَّ رموز المصادر في نهاية هذا التقديم، كما حرصتُ على صياغة المدخل من كلام المؤلِّف نفسه رحمه الله مما وُجد من آثاره، فاقتبست نصوصه وربطت بينها بكلمات جعلتها بين معكوفين أيضا، وأشرت إلى الحذف بثلاث نقاط، وخاصةً تلك النصوص التي فُرِّغت من محاضرةٍ مسجَّلة، وقد تضمَّن هذا المدخل بيان مفهوم التحريف، وحديثا عن النُّسخ الخطيةِ القديمةِ للكتاب المقدَّس، وحجم التعديلات والاختلافات التي فيها، ثم تذكيرا بتعدُّدِ الأناجيل المفقودة، وتاريخِ تقرُّر القول ببنوَّة المسيح البنوة الحقيقية، الذي يتوقَّع أنّه تاريخ انطلاق حملة تحريفٍ واسعة النطاق لخدمة هذه العقيدة الجديدة.
وبقيتْ تنقص المدخل حلقة صغيرة للرَّبط بينه وموضوعات الكتاب، وهي أنَّ التصحيحات الحديثة للطبعات الجديدة الناتجة عن مراجعة المخطوطات القديمة -على ما فيها من علل- عددٌ لا بأس به منها متعلِّقٌ بالنصوص المثبتة لبنوَّة المسيح عليه السلام بنوَّةً حقيقية، وفي هذا الكتاب جمعٌ لأهمّ تلك النصوص المغيَّرة وتحليلٌ لها تحت عنوان مثير:" أبشروا.. لم يعد المسيح ابنا لله!!" وقد أمتعنا المؤلف رحمه الله بتحقيقاته المنثورة في هذا الكتاب، وبأسلوبه المتميز في عرض المسائل، نسأل الله تعالى أن يتقبَّله منه، وأن يجعله في ميزان حسناته، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه .
رموز طبعات الكتاب المقدس
من الأمور المهم التقديم بها لهذا الكتاب تبيِين رموز طبعات الكتاب المقدَّس التي وردت فيه، ونظرا لتكرر ذكرها في عدَّة مواضع رأيت أن أبينها في آخر هذا التقديم قبل الولوج في نص الكتاب، وقد تمكَّنت من التعرف عليها إلا رمزا واحدا، وفيما يأتي ذكر رموز طبعات الكتاب المقدس باللغة الإنجليزية مرتبة حسب حروف المعجم اللاتيني، وتتلوها رموز طبعات الكتاب المقدس باللغة الفرنسية .
رموز الطبعات باللغة الإنجليزية
American Standard Version (ASV).
English Standard Version (ESV)
Holman Christian Standard Bible (HCSB)
Living Bible Version) LBV(
King James Version (KJV)
New American Bible (NAB)
New American Standard Bible (NASB)
New Century Version (NCV)
New English Bible (NEB)
New International Version (NIV)
New Jerusalem Bible (NJB)
New King James Version (NKJV)
New Living Translation (NLT)
New Revised Standard Version (NRSV)
Revised English Bible (REB)
Revised Standard Version (RSV)
Today's New International Version (TNIV)
رموز الطبعات باللغة الفرنسية :
La Traduction Oecuménique de la Bible (tob).
louis Segond (LSG)
La Nouvelle Bible louis Segond (NLS)
وبقيت الطبعة المرموز لها ب (LSB) فلم أجدها إلا أن تكون ترجمة فرنسية للطبعة القياسية بالإنجليزية legacy standard bible (LSB)
كتبه الفقير إلى عفو ربه محمد حاج عيسى
تلمسان في 17 شعبان 1443 الموافق ل20 مارس 2022
الإمام أبو بكر ابن العربي في الجزائر متعلما ومعلما غير منشورة
الإمام أبو بكر ابن العربي في الجزائر متعلما ومعلما
الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي أحد علماء الإسلام الموسوعيين الأفذاذ، وأحد أهم مراجع دعاة النهضة والاجتهاد، وإن في القراءة لما كتبه متعة نفسية وفكرية، وتربية للشخصية العلمية القوية، كما أن الاستشهاد بتحريراته وتحقيقاته صار في عصرنا زينة للبحوث العلمية، ولا أبالغ إن قلت إن مجرد ذكر اسمه ليغمر بعضنا سعادة ويجعله يتلهف لسماع رأيه واختياره أو استدلاله واستنباطه، وذلك لما تضمنته مؤلفاته من علوم وفوائد ودرر ، ولما احتف بسيرته من أحداث ومواقف، وإن أهم أسباب تميز ابن العربي عن غيره من أهل بلاده في زمانه وإحرازه لتلك المنزلة العلية ؛ رحلته المشرقية؛ تلك الرحلة التي ودع فيها مدينة اشبيلية فطاف فيها في البلاد وكان منتهاها مدينة السلام بغداد ، قبل أن يعود إلى موطنه ، ولا شك أن من رحل من الأندلس إلى المشرق يكون قد مر بالشمال الافريقي، واستقر في بعض مدائنه في الذهاب والإياب، وإن من المدن التي أخبرنا ابن العربي في بعض كتبه أنه حل بها ثلاث مدن تقع حاليا ضمن الحدود الجزائرية، وهي على التوالي مدينة بجاية ومدينة بونة أو عنابة في رحلة الذهاب وهي رحلة الطلب التحصيل، ثم مدينة تلمسان في رحلة العودة وهي رحلة التعليم والإفادة.
ابن العربي في بجاية
لقد أبحر ابن العربي من ميناء ميورقة وذلك خلال سنة 485 هجرية في اتجاه بجاية، التي كانت أول محطة له خارج الديار الأندلسية حسب ما دونه في قانون التأويل ص424، وقد كانت بجاية في ذلك الوقت تحت حكم منشئيها وهم الحماديون وكان الخليفة يومها المنصور بن الناصر، وقد أخبرنا ابن العربي أنه لقي بها جماعة من أهل الفقه وصفهم بأهل المسائل وممن كان رأسا فيهم أبو عبد الله محمد بن عمار الميورقي الكلاعي أصله من ميورقة وطلب العلم بالقيروان وصقلية ومصر ومكة واستقر ببجاية وهو مترجم في ترتيب المدارك 8/ 159 والتكملة 2/72 –ط دار الغرب-ولم تذكر سنة وفاته، وقد حلى ابن العربي هذا الشيخ بقوله أنه كان:" رأساً فيهم، مشاركاً في مَعَارِفَ حَدِيثٍ وَمَسَائِلَ وَأدَبٍ، وربما كانت عنده في الأصول إِشارة لا تُومِىءُ إلى المراد، منسوجة على منوال الباجي ونظرائه"، والمقصود بالأصول أصول الدين وعلم الكلام، ولعل عدم قناعة ابن العربي ورضاه عن طريقته في الكلام مرجعها لسلوكه طريقة المتقدمين من الأشعرية التي تختلف عن الطريقة التي تلقاها ابن العربي من كتب الجويني وعن تلاميذه .
وممن لقيه من العلماء في بجاية قاضيها حيث قال :"ولقيت خاصة دولتها، ورأيت رأس وزعتها: القاسم بن عبد الرحمن" وقد كنى عن خطة القضاء برأس الوَزَعة أي الذين يزعون ويكفون الناس عن الظلم ويمنعونهم عن المنكرات، وأما ما فسره به المحقق من أنه رئيس العسكر فغير مناسب لما سيمدحه به وما يذكر من خبره، حيث قال ص 424:" رواء ورويّة، وإتقان في الأدب، وقوة على الصناعة الكتابية، جمالُ قطره، أو قل جلال عصره"، ولم يهتد المحقق إلى ترجمة له ولم أجد من سمي بالقاسم بن عبد الرحمن في عهد الحماديين إلا قاض من قضاتها كان بقسنطينة بعد هذا العصر؛ لعله هو نفسه تحول إليها بعد ذلك ، ذكره البيذق في كتابه أخبار ابن تومرت (ص 51)-ط باريس-، ويظهر من حكاية ابن العربي أن هذا القاضي البجائي كان متواضعا حيث قصد زوار بجاية- ابن العربي ووالده- وهما في الفندق حيث قال ص 425:"قَصَدَنَا إلى منزلنا وهو على محل من الدولة عظيم، وفي رؤسائها مقدم زعيم، في حجرة بخان السلطان كنا تبوأناها، ولم ير عليه في ذلك غَضَاضَةً، كما يفعله من كان في المعلومات قُرَاضَة"، وقد تحاور هذا القاضي معهما في قضايا مختلفة وطالت مدة هذا الحوار فيما يظهر، حيث واصل ابن العربي حديثه فقال :" فسألنا عن حالنا وطريقنا وَمَقْصِدِنا، وتفاوضنا معه، والحديث يَسْحَبُ ذيلَهُ، ويولج في نهاره ليله، وهو في أكثر كلامه ينتحى قيلة، والكلام -كما جاء في المثل- ذو شجون، وفيه الصفاء والأجون، ولا يستنكر فيه الجد والمجون"، ثم وقف ابن العربي مع تفصيل مسألة علمية جرت بينهما أثارت إعجابه بهذا الشيخ القاضي الذي وصفه بحداثة السن وحفزته أكثر لطلب علم العربية والتمكن من دقائقها ، فقال :" حتى وقعنا في حديث جُرَيْج ، فقلت له: سمعت التَّنُوخِيّ شيخ العربية عندنا يقول: ليس في كلام العرب اسم فيه فاءُ الفعل [وعينه] حرفاً واحداً إلا قوله في هذا الحديث: يا بابوس. فقال على البديهة: وأين هو من دَدٍ"، وأصل كلمة بابوس "ببس" بمعنى الرضيع، وقد اختلف في كونها عربية أو معربة ، وكلمة "دد" المستدركة من الشيخ البجائي معناها اللهو واللعب، وقد جاء في الحديث «لَسْتُ مِنْ دَدٍ، وَلَا الدَّدُ مِنِّي بِشَيْءٍ»- رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني-، ويقول ابن العربي مسجلا شعوره وعزمه إذ سمع هذا الاستدراك ص 426 :"فأعجبني استدراكه في بلده وهو فتى، على شيخ بلدي في معرفته وسنه. وكان ذلك مما رغبني في تحصيل العربية وضبط غريب الحديث".
ثم أخبرنا ابن العربي أنه قرأ في بجاية سنن أبي داود برواية أبي بكر بن داسة التمار فقال :"وقرأنا فيها كتاب أبي داود برواية التمار"، ولم يبين لنا الشيخ الذي سمع منه. وهذه الرواية مسموعة في الاندلس من طريق شيخه ابن عتاب عن ابن عبد البر عن أبي محمد ابن عبد المؤمن عن ابن داسة كما في فهرست ابن خير وابن عطية فلعل ابن العربي وجدها بسند آخر عن غير شيخه في بجاية .
ابن العربي في عنابة
ثم إنه انتقل إلى عنابة وكانت تسمى يومها بونة -وكانت تحت سلطة الحماديين أيضا-، وحسب ظاهر كلام ابن العربي فقد سلك إليها طريق البحر تارة من غير ابتعاد عن الساحل ، وطريق البر تارة أخرى حيث قال :"ثم خرجت عنها تارة متساحلين نقطع البحر قطع القفر، وحالة مُصحِرِينَ نطوي السباسب طيّ التجار للسَّبَائِب"، ومعنى السباسب القفار السبائب الكتان الرقيق –كما في حاشية قانون التأويل - .
ولقي هناك فقيها كان -حسب تعبير ابن العربي- هو مرجع أهلها، وقد تعذر الوقوف على ترجمة له ، فلا يعلم من خبره إلا ما ذكره ابن العربي في كتابه حيث قال :" فلقيت ببُونَة فقيهها المسمى بسعد من أصحاب السُّيُوريّ شيخ متوسط في الطريقة" . فأفادنا إضافة إلى اسمه "سعد" أنه كان فقيها متزهدا معتدلا في زهده، وعرفه بنسبته إلى أحد شيوخ القيروان وهو عبد الخالق بن عبد الوارث أبو القاسم السيوري، أحد أعلام المالكيين المجتهدين المتفنين ممن لهم عناية بالحديث والقراءات، توفي سنة 460 هـ. ولم يعين لنا ابن العربي شيئا مما أخذه عن هذا الشيخ المذكور من أهل عنابة . وذكر أنه انتقل بعدها إلى تونس وغيرها من المدائن مواصلا طريقه الى المشرق.
ابن العربي يحل بتلمسان في طريق العودة
لقد خرج ابن العربي من إشبيلية وله من العمر سبع عشرة سنة ، وبقي متقلبا في البلاد المشرقية بين مدائنها مدة قاربت العشر سنين، ثم عاد قافلا إلى موطنه في الأندلس ، وكان لابد أن يمر على بلاد الشمال الافريقي ، عاد ابن العربي بعد أن أتم تكوينه العلمي بلقاء علماء كبار من مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية ، ولم يكتف بما حمل من علم في صدره حتى حمل معه مؤلفات كثيرة من شتى العلوم التي حصلها، مؤلفات سمعها أو نسخها وقابلها بأصولها، وهي مراجع نفيسة لم يكن لها وجود في المغرب الإسلامي قبل إدخال ابن العربي لها، وقد سرد في كتابه سراج المريدين عناوين تلك الكتب التي جلب معه (4/ 399-411).
وكان من تلك الكتب كتاب الدبوسي الحنفي الذي سماه أسرار الله في المسائل والذي ذكر أنه يقع في عشرة أسفار (4/ 405)، فلما وصل إلى ذكره قال:" وقد كنت وردت من تلك الديار الكريمة، سنة خمس وتسعين فنزلت بتلمسان، وبفاس"، وكانت تلمسان في تلك السنة المذكورة تحت نفوذ المرابطين، وقد ذكر أنه كان يقرئ الطلبة من هذا الكتاب فأعجبهم موضوعه وهو الخلاف العالي وهو ما يسمى في عصرنا بالفقه المقارن، وغالب المقارنة فيه بين الحنفية والشافعية، ورغم إعجابهم بالكتاب وبما جلب من علوم؛ فإن العربي يذكر أن واحدا فقط ممن كان يحضر مجالسه رغب بعدها في الرحلة إلى المشرق طلبا للعلم، ولم يبين هل كان من أهل تلمسان أم فاس، حيث قال رحمه الله :"وكنت أذكر منها مسائل، وأعجبهم من أغراضها، فما تحركت لذلك همة، ولا نشأت عزيمة، إلا لرجل واحد، علم أني إذا سئلت قراءتها أو إعارتها، أقول: هي من أواخر الكلم، فإذا أخذتم أوائلها، مكنتكم منها وتاقت نفسه إليها، فرحل إلى العراق، وكتبها من مدرسة الحنفية، بمدينة السلام، وجاء بها"، وهو إنما خص هذا الكتاب بهذا التعليق ليبين أن رحلة هذا الطالب وجلبه لهذا الكتاب قد انتفع به ابن العربي بعد أن نهبت داره وفقد كثيرا من كتبه حيث قال :"وكان ذلك من جميل صنع الله معي، فإنه لما ذهب ببعضها، عند فيِّ الدار، أسفت لها، ولما مضى من أمثالها، مما لا أجبره، إلا بالرحلة مرة أخرى، فأعلمت بأن هذا الرجل، جلبها فاستدعيتها، وجبرت ما فاتني منها، ولكن النسخة التي جلبها هذا الرجل سقيمة، لم يعرضها بالأم، ولا قرأها على شيخ، ففيها سقم كثير، فما سلم منها عندي صُححتْ منه، وبقي ما لم يكن عندي على سقمه، والله يصحح لنا أدياننا وعلومنا برحمته".
ولم تنقطع صلة أهل تلمسان بالإمام بعد ذلك المرور العزيز بل قد استمرت ، حيث إنا نجد في مؤلفاته التي أحال إليها ولم تصل إلينا "محاسن الإحسان في جوابات أهل تلمسان" ذكره في قانون (ص: 471) من الطبعة الأولى. ونسأل الله تعالى يصحح لنا نياتنا ويسدد أقوالنا وأعمالنا بمنه وكرمه .
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس غير منشورة
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ". رواه البخاري
كثير من الناس مخدوع في هاتين النعتمين، ولم يخدعهم ويغرر بهم إلا أنفسهم الأمارة بالسوء أو التي بليت بالغفلة الطويلة، وذلك أنهم باعوها بثمن بخس وهي نفسية جدا، وإذا أنفقت أو اتلفت لا يمكن إرجاعها ولا تعويضها أبدا، فعلى المؤمن الكيس أن لا ينفقها إلا فيما يكافؤها نفاسة؛ فإن أنفقها في تفاهات أو أتلفها في معصية الله فهو مغبون ولم يخدع إلا نفسه.
وهذا الغبن لا يظهر في الدنيا وإنما يظهر للناس يوم الحساب يوم توضع الموازين فيسألون عن النعيم؛ وفي مقدمة النعيم الذين يسالون عنه أربع نعم ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر وهي العمر والصحة والعلم والمال.
فالمقصود بالفراغ هنا هو الزمن وساعات العمر التي هي محل الأعمال والأقوال، وحياة المرء دائرة بين فراغ وشغل، والكيس ليس له وقت فارغ من كل كسب، بل هو بين كسب الدنيا وزرع الآخرة؛ والله تعالى يقول (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح: 7- 8)
والمقصود بالصحة هنا ساعات العافية في النفس والجسد، وقد جاء في الحديث ان المرء يسأل عن جسده فيم أبلاه، في رواية عن شبابه لأن سن الشباب هي سن عافية البدن في أغلب الأحوال، والمؤمن من اغتنم حال صحته قبل مرضه وفراغه قبل شغله وشبابه قبل هرمه .
والناس في التعامل مع نعم الله تعالى قسمان رابح مغبوط وخاسر مغبون.
وطريق الربح شكرها ومن شكرها وضعها في موضعها، وعدم اهدارها فيما لا ينفع وتجنب استعمالها في معصية الرب سبحانه وتعالى .
وطريق الخسارة كفرها ومن كفرها تضييعها وتركها دون استثمار واستعمالها في ما لا ينفع وفيما يغضب الرب سبحانه .
ثم إن من كان حاله الاغتنام للفراغ وللصحة في الأعمال الصالحة؛ ثم شغل فامتد شغله أو مرض فطال مرضه؛ فإن الله تعالى برحمته ومنه وكرمه يكتب له ما اعتاد من أعمال الخير؛ كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» رواه البخاري.
فعلى المرء الاستكثار من الأعمال الصالحة والمداومة عليها، ولا سيما في وقت اجتماع النعمتين على وجه الكمال.
قال بن الجوزي رحمه الله :"قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم".
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
تسديد طريق النظر ومنهج التفكير غير منشورة
تسديد طريق النظر ومنهج التفكير
إن الكتاب المنير المنزل من الحكيم الخبير كتاب قد خاطب العقل والوجدان، وتضمن العقيدة والشريعة وكل ما يحتاجه الإنسان، هو كتاب متكامل مغن غيره لمن تدبره تستنبط منه أحكام النازلات وتستلهم منه طرق ذلك استنباط، إنه كتاب نظم منهج الحياة كلها تأصيلا وتفصيلا بما في ذلك منهج العلم والتعلم ومنهج النظر والتفكير، ومما يتعلق بهذا الأخير الذي يعتبر أساسا لغيره: دعوة القرآن الكريم إلى النظر والتدبر وإلى الحوار والجدال، ونهيه عن الغفلة والمراء والتقليد والعجلة، وقد سدد ربنا عز وجل طريق النظر ومنهج الحوار في مواضع منها قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (الإسراء: 46)
فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب المشركين بالحجج العقلية التي تبين فساد ما هم عليه وبالمواعظ التي تحرك الوجدان وتثير الرغبة والرهبة من الديان، جاء التوجيه الرباني بالانتقال إلى تعليم هؤلاء الأميين منهج التفكير، لأن خطاب الحجة والموعظة لم يعد نافعا معهم بعد أن لقنوا أجوبة جاهزة تعقل عقولهم عن التدبر يعلقون بها على كل آية منزلة، وهذا التوجيه جاء في سياق ذكر تلك الأجوبة المعلبة التي كان يتلقاها الأتباع الماسورون بتعظيم الأصنام الحجرية الصماء البكماء والأصنام البشرية التي سلموها لها عقولهم لتفكر نيابة عنهم ، حيث قال تعالى قبلها (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) فهذه نماذج للردود التي كانت تتكرر في كل مرة .
الأول : اتهام النبي صلى الله عليهم في سلم في نيته وهو حب العلو وصرف وجوه الناس إليه، وهذا يجعل الناس لا يستعمون إليه أصلا.
والثاني : وصف القرآن الكريم بكونه كذبا وافتراء وهو متضمن لاتهام النبي صلى الله عليه وسلم باختلاقه فهو كلام بشر، وهذا يجعل من يستمع إليه يحكم على الكلام بحكم مسبق ومعلوم سلفا وهو كونه كذبا وافتراء فلا يتدبره.
والثالث: وصف القرآن بأنه سحر وهذا يعتبر مرحلة أخيرة وجوابا جاهزا لمن استمع إلى القرآن فأثر فيه، والمراد بالسحر قلبُ الحقائق وتزيينها والتأثير على القلوب والعقول بسلبها اتزانها.. وبفعل هذا المخدر الفكري كل وجد من نفسه ميلا إلى تصديق القرآن يرجع ويرد على نفسه وعلى غيره بأننا إنما تأثرنا وملنا لكون هذا الكلام سحرا.
ولتسديد المنهج والسلامة من هذه الحواجز المانعة من تدبر الكلام وجه ربنا عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) أي: أشير عليكم وأوجهكم بخصلة واحدة، تختصر لكم طريق النظر هي قاعدة فيها انصاف وعقل وعدل، لا تلزمكم بتصديقي وإنما تعينكم للوصول إلى الحقيقة .
وهذه الخصلة تتضمن الخطوات الآتية:
الأولى: أن تنهضوا بهمة وتجرد لله تعالى فيكون قصدكم اتباع الحق لا غير وهذا معنى قوله (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ).
الثانية : أن تأخذوا الكلام المنزل وتتباحثوا في معانيه فيما بينكم مجتمعين، أو كل واحد مع نفسه وهذا معنى قوله (مَثْنَى وَفُرَادَى). ويلاحظ أن في الآية تقديما للتباحث الجماعي على الفردي، وذلك لما فيه من تعاون على تسديد الفهم ممن حقق الشرط الأول.
وظاهر قوله (مثنى) التي تعنى اثنين اثنين حصر المباحثة بين اثنين لا أكثر، لأن كثرة العدد تفتح مجالا للغط ويدخل فيها من لم يحقق الشرط الأول وهو التجرد، فيصرف غيره عن التحليل الموضوعي لكلام الله تعالى. وقد قيل في تعليل حصر المباحثة في صورة الفردية والزوجية أن "المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه" (ذكره ابن عاشور رحمه الله).
والخطوة الثالثة : وهي المدلول عليها بقوله (ثم تتفكروا) والتفكر المعطوف على ما قبله ب"ثم" هو غير التفكر في معنى الكلام المنزل، وإنما هو تفكر في تلك التهم الجاهزة التي تم تلقينكم إياها، التفكر هنا هو التدبر في أحوال هذا الرسول بتجرد وانصاف هل هو فعلا مجنون، وما هي دلائل الجنون في كلامه، وصفاته؟ هل هو مُعلم ومن هو هذا البشر الذي علمه؟ فهل هو فعلا مريد للعلو في الأرض؟ فما دلائل صحة هذه التهمة؟ هل هو فعلا كذاب وهل عهدتم عليه كذبا قط ؟
ويلاحظ أن المطلوب الأساس من خلال اتباع هذه المراحل هو منع المرء من استعجال اتخاذ موقف؛ يتبعه صرف النظر نهائيا في القضية المطروحة والحجج المنزلة، إنه منع من استعجال المراد منه إعطاء فسحة زمنية كافية للعقل ليقوم بواجب النظر المناط به بإنصاف، وتهيئة الأسباب التي تعينه على هذا الانصاف وهي أولا قصد إصابة الحق لا المغالبة، ثم تدبر الكلام بعيدا عن الشخص الذي أحيط بتهم تصرف الناس عن تأمل كلامه سواء كان هذا التدبر فرديا أو ثنائيا، ثم بعد التباحث في الكلام يأتي التفكر في حقيقة التهم التي قبلتموها من قبل بالتقليد المحض؛ فصدتكم عن النظر الموضوعي، النظر المتجرد من رواسب الماضي وما عشتم عليه دهرا، والمتخلص من الحواجز التي وضعتها الأصنام البشرية أمام عقولكم.
لماذا يلحدون؟ ولماذا يتنصرون؟ غير منشورة
لماذا يلحدون؟ ولماذا يتنصرون؟
حدثنا الدكتور يزيد حمزاوي رحمه الله تعالى أنه دعي لنصيحة شاب تنصر في أحد الأحياء الراقية في العاصمة، وقد تبين له أن جهله بالإسلام مساو لجهله بالنصرانية وقد سأله عما وجده في النصرانية وأعجبه وهو غير موجود في الإسلام؟
فكان أول شيء ذكره أن قال :"في الإسلام يجلد الزاني وليس ذلك موجودا في النصرانية"...فقال له يزيد في النصرانية يوجد ما هو أشد من الجلد ! لما هو أدني من الزنا قال الشاب : ما معنى ذلك؟
قال يزيد : من نظر إلى امرأة أجنبية نظرة شهوة يستحق في النصرانية أن تقتلع عينه ومن لمسها تقطع يده ...تعجب الشاب وأنكر ذلك ، ولم يكن عنده إلا إنجيل واحد لعله إنجيل لوقا -وهو الذي كان يوزع مفردا للدعاية يومها - فأظهر له يزيد النص في إنجيل متى فبهت المسكين...
وقد فهم يزيد رحمه الله من لقاء هذا الغر أنه إنما ترك الإسلام فقط من أجل أن يتحرر من قيود الشرع، وليطلق العنان لنزواته وشهواته بلا حدود ..
أقول : وليس هذا الشاب هو الوحيد من يفعل ذلك من أجل هذه الغاية، وإن هؤلاء يعلمون في قرارات أنفسهم أن تغيير الدين أو إنكار الأديان لا يقلب الحقائق ولا يغير شيئا، ولكنهم يفرون بترك الدين من النفس اللوامة -أو تأنيب الضمير كما يقال-، يريدون عيش لحظات الفسق والفجور دون أن تعقبها ساعات ألم الوحشة في القلب والضيق في الصدر...
إنهم يكفرون بالله تعالى وبدينه فقط من أجل قتل قلوبهم؛ فتفقد الإحساس ولا تتألم بعد ذلك باقتراف ما يخالف الشريعة والفطرة.. إن الكفر بالنسبة إليهم هو التحرر من القيود المعنوية التي تفرضها الشرائع على أفعال العباد، لذلك هم يلهجون بالحديث عن الحرية ويرفضون العبودية التي هي عبودية للخالق جل وعلا، ولذلك تجدهم يصورون الدين بصورة الأغلال وصورة السجن وصورة التعصب والانغلاق وصورة التخلف وغيرها من الصور التي تقابل بصورة حرية القول وحرية الفعل ، حرية الاعتقاد والتعبير والتصرف حتى لو كان تصرفا حيوانيا مخالفا للعقل السليم والفطرة السوية...
وكذلك تفعل كثير ممن ضاقت ذرعا بأحكام الشريعة -وعلى رأسها الحجاب-، فتتذرع للتنصل منها بدين النصرانية -أو دين الحرية وعبادة الهوى-، ليس قناعة بغير الإسلام، ولكن بحثا عن الراحة النفسية المفقودة، وتخلصا من مطاردة لوم النفس ومن كلام الناصحين...
كيف يتعلم الأولاد السرقة غير منشورة
كيف يتعلم الأولاد السرقة
1-يتعلم الأولاد السرقة من خلال مشاهدة الأفلام، التي تصور السرقة وفصولها وحيلها وفنونها ومغامراتها، ولا سيما التي يكون السارق فيها بطل الفيلم، أو بطلا مشهورا في غيره من الأفلام، وقد تكون الدعاية أصرح عندما يصور السارق مدفوعا إليها تحت ضغوط المجتمع، أو حين يجعل السارق شخصا رقيقا محسنا، وكذلك عند يصور المسروق المجني عليه ظالما مترفا؛ حيث يتعاطف المشاهدون مع المجرمين، ويجدونهم مجرد ضحايا، الواجب معاقبة من ألجأهم إلى السرقة، أو الواجب مكافأتهم لأنهم كانوا لعنة سلطت على السراق الكبار.
2 - يتعلم الأولاد السرقة من إقرار الوالدين، وذلك عندما يأخذ الولد شيئا من حقوق إخوته خفية فلا يعاقب، أو يختلس شيئا من الحلوى ونحوها فلا يعاتب.
وكذا اقتداء بالأم التي يراها تأخذ المال من جيوب زوجها دون إذنه وعلمه.
3- يتعلم الأولاد السرقة بسكوت الوالدين عن سؤالهم عن مصدر ما يجدونه عندهم من نقود أو ألعاب أو أدوات؛ يعلمون أنها لم تُشترى لهم.
ويتعلمون السرقة عندما يُلزمون بتعويض ما ضيعوا من لعب في الشارع بأي وسيلة، وما فقدوا من أدوات في المدرسة بأي طريقة.
فبعض الأولاد يسرق كرة غيره أو قلم غيره خوفا من والديه ، وبعضهم يسرق بأمر من والديه مع الأسف.
4- يتعلم الأولاد السرقة إذا عاينوا من والديهم استهانة برد الحقوق إلى أهلها، ومن ذلك أن يروا من والدهم حجد أمانات هي عنده، وأن يكون ديدن الأم عدم رد ما تستعيره من الجيران أو أن تنكره إذا طلب منها أو تدعي هلاكه وهو قائم.
ومن ذلك استهانتهما بتلك النقود الزائدة التي يردها البقال خطأ لمن اشترى منه، وعدم حرصهما على إرجاعها إليه .
5-يتعلم الأولاد السرقة عندما يرون صاحب البقالة يشتري من أقرانهم ما يعلم أنه مسروق من البساتين المجاورة من زيتون أو تين أو غيره.
بل إنهم يتعلمون السرقة إذا رأو الكبير فيهم لا يبالي أن يأخذ من ثمر شجر مملوك لغيره على حافة الطريق، أو من شجر تدلت أغصانه خارج سور البستان.
ويتعلمونها من كل من يشترى المسروقات أو يدفع الأطفال إلى سرقتها كالحداد الذي يشترى من الأطفال القطع الحديدية حتى لو كانت حديد غطاء المجاري أو لوحة من لوحات إشارة المرور.
6-يتعلم الأولاد السرقة إذا رأوا والدهم يضع المغناطيس أو غيره ليعطل عداد الكهرباء، وإذا طلب منهم المساعدة على عكس اتجاه عداد الماء ؟
ومنهم من يتعلم ذلك من والده التاجر الذي يراه في متجره يطفف في الميزان ، وربما يطلب مساعدته في إعادة ضبطه.
وكذا كل من يشرك أولاده في صنعته ، ثم يمارس الغش والتدليس أمام أنظارهم، فهو يعلمهم طرق سلب الناس أموالهم ويهون في نفوسهم أكل الحرام.
7- يتعلم الأولاد السرقة إذا كلفوا بطلب الرزق وهم في سن مبكر قبل تمام نضج عقولهم، روى الإمام مالك في موطئه بسند صحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال في خطبة:"...وَلَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ..."، وهذا الأثر رآه ابن عبد البر غير محتاج للشرح لوضوحه، ولكن في زماننا هذا قد نحتاج إلى ذكر صور تبين صدقه مع تعليلها.
ومنها : أننا إذا كلفناه نفقة نفسه أو غيره، وهو غير قادر على الكسب لأنه لا صنعة له ولا خبرة، فإننا نكون قد أمرناه بالسرقة بطريق غير مباشر.
ومنها : أن شأن الصغير غير الناضج الافتتان بالمال إذا وضع بين يديه، فمن يشغل صغيرا في محل ويمكنه من صندوق المال، أو يكلفه بقبض المال او نقله، يكون قد عرضه لتعلم السرقة والاختلاس.
8- يتعلم الأولاد السرقة، لأسباب نفسية تدفعهم للاعتداء على أملاك الغير، وهي في الغالب نتيجة اتصاف الأولياء بالبخل أو الجور، فعندما يبخل الأب على أولاده بما يرونه متاحا لكل لأقرانهم وهو قادر عليه بلا كلفة، فإنهم قد يلجأون إلى سرقة النقود من الأم لاقتنائها أو سرقة تلك الأشياء من بعض أقرانهم، وأكثر من ذلك تأثيرا الجور وعدم العدل في العطية بين الأولاد ، الأمر الذي يجعل الحسد ينمو في قلوبهم فيدفعهم إلى الاعتداء على ما يملكه غيرهم جهرا أو سرا .
9-يتعلم الأولاد السرقة ، بمجالسة المنحرفين في حيهم ، وعدم نهيهم عن مخالطهم، وبعض الأولياء يدفع أولاده إلى تلك المخالطة وإلى امتهان السرقة دفعا، وذلك بتسليط عقوبة الطرد من البيت عليهم .
ومما يدخل في معنى دفع الأولاد -الشباب- إلى تعلم السرقة الزج بهم في السجون من أجل جنح تتعلق بالضرب أو نحوه حيث يخالطون المجرمين المنحرفين والسراق المحترفين.
10 يتعلم الأولاد السرقة ، إذا مكنوا من الألعاب التي تجعلهم يستهينون بالكسب الحرام ككثير من اللعب القديمة والحديثة التي تبنى على القمار، ولعل من أهمها القمار باللعب بالكريات؛ حيث يأخذ الرابح كريات من خسر... ومعظم النار من مستصغر الشرر.
11-يتعلم الأولاد السرقة ، إذا طرق أسماعهم وتكرر ذلك، أن المسؤول الفلاني سارق ولم تنله العقوبة، وأن الدكتور الفلاني سارق وهو في أعلى المراتب.
ولا تستغرب أن يتعلم طفل السرقة إذا كان والده سارقا، ولا تعجب أن يستسهل شعب السرقة إذا كان رئيسه يوما قد اشتهر بها.
وكما قيل :
إِنْ كَانَ رَبُّ البَيْتِ بِالطَّبْلِ ضَارِبَاً ... فَلاَ تَلُمِ الصِّبْيَانَ فِيهِ عَلَى الرَّقْصِ
وقريب منه :
إِذَا كَانَ رَبُّ البَيْتِ بِالدُّفِ مُوْلَعًا ... فَشِيْمَةُ أَهْلِ الدَّارِ كلّهمُ الرَّقْصُ
الكتب الصفراء 3 : غير منشورة
الكتب الصفراء 3 :
من أفاضل الأساتذة الذين درسنا عندهم الشيخ محمد بن مكي، أستاذ الفقه المالكي والفقه المقارن؛ كان حييا متواضعا خلوقا، ومعينا للطلاب ناصحا لهم فاتحا لأبواب بيته ومكتبته...زرته في البيت الذي استأجره في الزغارة (أعالي بولوغين) ولعل ذلك كان سنة (1416هـ-1995م) فتعرفت عنده على رجل رجع من الغربة بعد توبة وأوبة؛ فأخذه الحنين إلى أسلافه الذين كان فيهم كثير من الأئمة ..فأخذ يجمع آثارهم المخطوطة والمطبوعة...التقيت به في أكثر من لقاء، وكان يحضر كتبا من خزانة إمام عاصمي سماه لنا "الأكحل" يومها، وأظنه "أحمد بن يحيى الأكحل" (إمام الجامع الكبير والمولود 1324-1905) وكان مما جلبه مجموع فيه مؤلف للشريشي وآخر للقلصادي و"نظم في علم الغبار"، كانت كلمة علم الغبار غريبة، أخذت أقرأ؛ فاجتمعت علي ثلاث صعوبات: صعوبة خط المخطوط، وصعوبة صياغة النظم وصعوبة علم أجهله؟؟ وبعد بذل مجهود فهمت المقصود، كانت البيت الأول حول كيفية كتابة الرقم 1، والبيت الذي يليه متعلقا بالرقم 2...وهكذا ..كان أمرا مفاجئا وغريبا جدا، هل تدريس الأرقام يحتاج إلى أبيات تحفظ؟ كل هذا الوقت ينفق من أجل كتابة الأرقام العشرة؟ (قد أكون أخرجت النظم عن عصره فالمشكلة في لا فيه ..لا علينا) ..
وكان ثمة مجموع آخر مما يحضرني أنه احتوى على أم البراهين في التوحيد للسنوسي وبعدها مباشرة حرز للوقاية من التابعة فيه طلاسم ومربعات (والعياذ بالله)، سبحان الله مجموع جمع التوحيد ونواقضه؟؟. وكان مما جلب كتابا مطبوعا لما رأيته عجبت أيضا، لأني طالما سمعت عنه؛ كنت أتخيله كتابا ضخما، فإذا به كُتَيّب يقع في 16 صفحة لا أكثر، وفي صفحة الغلاف يوجد 16 دائرة كالفهرس لصفحات الكتاب، كان عنوانه "قرعة الأنبياء"، وهو أشهر كتاب معتمد في استطلاع الغيب والتنبؤ بالمستقبل؟؟ لابد أن أؤكد هنا أن لون الكتاب كان "أصفر"..
ولعلي أقف هنا مع أخبار الكتب الصفراء؛ صانعة التفكير الإسلامي في عصور الانحطاط...فعلم الحساب لم يعد علما مسيلا للذهن بل صار في شكله مجمدا له، وعلم التوحيد محيي القلوب ورابطها بخالقها ومحرر عقولها ورافعها عن درك الشرك والخرافة والوثنية؛ صار مجموعة من الأقيسة المنطقية الجافة المقيدة للعقل؛ التي لا تؤثر في وجدان ولا تنتج عملا في الميدان، ولا تقي حافظها من أوضح صور الشرك ونواقض الايمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..مع الأسف هذه الكتب كانت هي الغالبة وهي صانعة الفكر والعقل في تلك العصور ..فإذا سمعتم قدحا من مصلح في الكتب الصفراء فلا ينصرف ذهنكم إلا إليها..
ثم جاء عصر النهضة وتطورت الطباعة ...ذهبت الكتب الصفراء ...لكن بقيت العقول الصفراء المتحجرة...ومعركة التجديد والاصلاح مازالت مستمرة، وأختم كلامي باقتباس الطاهر بن عاشور رحمه الله الذي جعله عنوانا لكتاب في إصلاح التعليم "أليس الصبح بقريب".
كتب في 25 أفريل 2017
الكتب الصفراء 2: غير منشورة
الكتب الصفراء 2:
قبل أن أوسَرَ في تلمسان كنت أسيح في الأرض من حين إلى آخر، ومن أكثر المناطق التي وطئتها قدمي منطقة "تيزي وزو"، وذلك لحاجة الدعوة والتعليم فيها، ولقربها من العاصمة، إضافة إلى كثرة معارفنا فيها.. والرِّحْلات الدعوية في القرى والأرياف عظيم نفعها؛ إذ هي سياحة بمعناها اللغوي والشرعي، يجمع السائح فيها بين فوائد هذه وتلك في آن واحد، ومن تلك الرحلات رحلة إلى منطقة "أقبيل" التابعة لعين الحمام (لعلها كانت في 1426هـ-2005م)، وكنا رفقة متكونة من أربعة من المشايخ... والمقصود من أحداث تلك الرحلة مشهد في بيت إمام قرية "آيت لعزيز" يومها، وكان ممن جلس معنا كهل من أهل القرية أتى مرحبا بنا وجلب معه عددا من المخطوطات، إنه ابن الامام السابق الذي توفي منذ عقود، وقد جاءنا بشيء من ميراث والده ليتعرف عليه وعلى أهميته، وكنت أكثر الرفاق احتفالا بتلك المخطوطات "الصفراء" ..أذكر منها ثلاثة ..إحداها ..كانت قطعة من تفسير القرطبي..وأخرى في المواعظ وأحوال الآخرة يكثر فيها سرد الأحاديث لعلها من مؤلفات الثعالبي، وثالثة كانت في الفقه مبتورة الأول والآخر قرأت كثيرا من أوراقها لعلي أحدد المتن المشروح أو الشارح أو عصره فلم أفلح، كان الأمر يحتاج إلى وقت وإلى مراجع ..كل ما عرفته أنه شرح متأخر لمتن صغير في الفقه ..وقد استوقفتني مسألة في الصيام أطال فيها الشارح بنقل الآراء المتعارضة والمتداخلة، وهي مسألة "ابتلاع الذباب" ..استوعبتها وألقيتها على الجماعة تحلية للمجلس، ومازالت مرتبة في ذهني على النحو الآتي: من ابتلع ذبابة هل يبطل صومه الأمر يختلف بين أن يكون الذباب كثيرا فيعفى عنه، وبين أن تكون ذبابة واحدة يمكن التحرز عنها فيؤاخذ، ويُفرَّق بين أن يكون نائما فيعذر أو مسيقظا فلا يعذر، ويفرق بين أن يبتلعها أو يستخرجها؛ وإذا استخرجها يُفرَّق بين أن تتجاوز مخرج الحاء من الحلق أو لا تتجاوزه فإذا تجاوزته كان الاستخراج قيئا متعمدا وإلا فلا (على خلاف في المخرج المعتبر)..ضحك الجماعة ...وذهب أحدهم يذكرنا بنظائرها من المسائل النادرة في الفقه الشافعي، أو التي هي محض خيال نحو التي قرأناها قديما في كتاب "بدعة التعصب المذهبي"...
هذا لون آخر من الكتب الصفراء التي صنعت الفكر الإسلامي في عصور الانحطاط.. وينبغي أن نلاحظ عند النقد: أن المسألة وردت في شكل نقول متعارضة يعقب بعضها على بعض، وغير مرتبة الترتيب المذكور أعلاه.. وأنها وردت في شرح كتاب حجمه يدل على أنه موضوع للمبتدئين ..وأنه مخطوط باليد ..والأهم من كل ذلك أن يتنبه إلى أن نقدي موجه للمنهج التربوي وطريقة صناعة عقلية المسلم في العصور المتأخرة، وليس إلى ذات المسألة أو إلى اللون "الأصفر"؟؟؟
كتب في 22 أفريل 2017
الكتب الصفراء 1 غير منشورة
الكتب الصفراء 1
كان جدي رحمه الله رجلا فلاحا عاميا محبا للصالحين، وكان والدي رحمه الله بارا به ومن بره أنه كان يأخذني إلى البادية في الإجازات لخدمة جدي وإعانته في أعماله منذ نعومة أظفاري، فتعلمت أشياء كثيرة لم أكن لأتعلمها في غير تلك البيئة؛ لقد كانت البادية كتابا مفتوحا لمعرفة نمط مختلف تماما عما نعرفه عن الحياة في المدينة؛ لقد تعلمت معنى الرعي وواجباته وأعمال الفلاحة وآلاتها وجني الثمار ..في أمور كثيرة ليست هي التي أريدها الآن ...
ومن الأشياء التي فتحت عليها عيني هناك صنف من الكتب كان لونها "أصفر"، ولم يكن عند جدي إلا كتابان أحدهما كتاب بدائع الزهور لابن اياس، والثاني تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي ...كان جدي أميا لكن صحبته للإخوان الرحمانية جعلته يقتني هذين الكتابين، وإذا زاره قارئ يطلب منه أن يقرأ عليه شيئا من قصص بدائع الزهور أو مواعظ تنبيه الغافلين...وكثيرا ما كنت أقص عليه القصص حتى أجده غط في نوم عميق ..
فأما تنبيه الغافلين فهو كتاب يرقق القلوب ويهذب النفوس ..مليء بالأحاديث والحكم والمواعظ والقصص.. لكن كانت تزعجني أسانيده الطويلة والمتكررة... لكنها كونت لي تصورا عن كيفية نقل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأورثتني صبرا على قراءتها...مع مرور الوقت وتقدم السن عرفت شيئا اسمه الصحيح والضعيف ....فبحثت عن المؤلف قبل أحاديثه فكانت دهشتي عظيمة عندما قرأت قول الذهبي في مصنف الكتاب أنه يروي الموضوعات ..لكني لم أندم أبدا على قراءته..
وأما بدائع الزهور فكان جذابا بقصصه الخيالي واسرائلياته الملصقة بقصص الأنبياء ..الذي كان يحزنني يومها أن الكتاب (الجزء) ينتهي مع قصة سيدنا عيسى عليه السلام ..وعلق بذهني شيء كثير من خرافاته كوجود نوع من المخلوقات اسمهم "البان"، وقصة الشابين الذين سارا بحثا عن منبع النيل حتى وصلا إلى الجنة، وقصة عوج بن عنق العملاق الذي كان يمسك الحوت في أعماق البحر ويشويه في الشمس ، ونجى من الطوفات رغم كفره لأن الماء وصل إلى ركبتيه، وأعان نوح عليه السلام في بناء السفينة بجلب الحطب (من الكوفة إلى الحيرة أو العكس؟؟) وكان مضحكا جدا ذلك الخبر القائل أنه إذا غضب على قرية بال عليها فغرقت ..
مرت الأزمان وبدأت تطرق أسماعنا كلمات "الإصلاح والطرقية" و"السنة والبدعة" و"الخرافات والاسرائليات" و"عصور الانحطاط والكتب الصفراء"..فعرفت حقيقة ماذا كنت أقرأ...لم أندم أيضا لقراءته لأن تلك القصص صارت لي زادا وبرهانا على فساد المناهج التربوية في عصور الانحطاط ... التي جعلت كثيرا من المثقفين من أبناء المسلمين يصدق مقولة من قال "الدين أفيون الشعوب"..
وعندما قرأت تفسير ابن باديس أول مرة وجدته يذكر هذا الكتاب الأخير في مقام نقد عصور هجر القرآن أو "عصور الظلام"..التي مرت بها أمة الإسلام، فعرفت أن هذا الكتاب كان من أهم مصادر الثقافة في تلك العصور...والحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى..
كتب في 20 أفريل 2017
من فقه زكاة الفطر غير منشورة
من فقه زكاة الفطر
من مقاصد الصيام المعروفة الشعور بحاجة الفقراء، وقد ناسب ذلك تشريع مواساتهم أثناء شهر الصيام وفي نهايته، إذ في الناس من يمضى نهاره في رمضان صائما وليله طاويا ويوم العيد لن ينعم بالفرحة لحمله هم قوته، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم في إطعام الصائم الفقير وجعل لمن أطعمه مثل أجره، وأوجب زكاة الفطر في نهاية الشهر لتكون طهرة للصائم ولتتم فرحة الفقير بكفايته عن السعي أو السؤال، وليكون يوم العيد يوم عطلة رسمية مضمونة الرزق للجميع، يتفرغون فيها لصلة الأرحام وإدخال السرور على الأهل والأولاد.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكثير هذا الطعام المخرج من خلال : 1-تعميم هذه الزكاة وجعلها غير مختصة بالأغنياء عامة لكل من عنده قوت يومه وزيادة، مقدرة بحسب الرقاب دون نصاب، 2- ثم تقديرها بصاع من طعام مع أن الفرد المسلم يكفيه منه مد أو مدان على أكبر تقدير، وننبه أن تقدير الزكاة بالصاع هو تقدير للواجب المجزئ والزيادة تمنع في التشريع، ولا تمنع في الأداء وهي صدقة واحتياط –خلافا لمالك رحمه الله-..
واختلاف العلماء في وقت الوجوب هل هو إدراك مغرب ليلة العيد أو الفجر، له ارتباط بتعين الوجوب، وليس تحديد زمن الإخراج –إلا على رأي ضعيف- فكل المذاهب تجيز إخراج الزكاة قبل العيد؛ فمنهم من أجاز إخراجها قبله بيومين، ومنهم من زاد الثالث ومنهم من قال من نصف الشهر، ومنهم من قال من أوله وقيل غيرهذا...وقصة أبي هريرة مع الشيطان في نظري عمدة في فقه هذه المسألة؛ فزكاة الفطر كانت مجموعة قبل أكثر من ثلاثة أيام من العيد وكان أبو هريرة مكلفا بحراستها .. وقد أعطى منها الشيطان لما زعم أنه فقير قبل ثلاثة أيام من العيد على الأقل ثم زاده وزاده...وهذا يؤيد قول من أجاز إعطاءها من أول رمضان لأنه لا مانع من هذا التقديم بعد وجود السبب وهو الصيام، لكن لا ينبغي أن يكون التعجيل عاما في الأمة؛ حتى لا تستهلك وينتقض المقصود الأهم وهو الإغناء يوم العيد.
وفي قصة أبي هريرة أيضا تشريع جمعها في مكان واحد وتوزيعها منه -في المنطقة الواحدة-، وهذا من شأنه أن يضمن تعميم التوزيع للفقراء مع عدالته، كما أنه يعطي من يسهر على توزيعها سلطة تقديرية في تعجيل تقديمها قبل العيد بأيام -وربما من منتصفه- وذلك حسب الكمية المجموعة والمتوقع جمعها بالنسبة لعدد فقراء المنطقة، بهذا نُحصِّل الإغناء الواجب يوم العيد والمستحب قبله، وقد يصبح الفقير غنيا قبل العيد فيؤدي هو أيضا زكاته ولهذا الصنيع أثره الديني والنفسي والاجتماعي.
وقد يتهاون بعض الناس أو يغفل عن إخراج زكاته قبل العيد حتى يدركه صباحه وليس له القوت الكافي ولا يجد المكان الذي يشتري منه ..فهل نأمره بقضائها بعد الصلاة، أم نرخص له بإخراجها نقدا ليدرك الوقت، قولان محتملان أظهرهما التأخير والقضاء لظهور معنى التعبد في القوت..ولأن القضاء يشرع في حق من لم يتذكرها إلا بعد الصلاة..وما أبيح للضرورة أو استثناء للحاجة لا يجوز جعله شرعا عاما في كل الأحوال..
ومن العادات المرتبطة بعيد الفطر في بعض المناطق "الوزيعة" حيث يشترك القادرون حسب الاستطاعة أو اقساط معينة لشراء البقر وذبحها وتوزيع لحمها على جميع سكان القرية فقرائها وأغنيائها من دفع ومن لم يدفع من دفع كثيرا ومن دفع قليلا ، وهذه عادة حسنة تحقق المقصود المشار إليها إلا ان ربطها باللحم يرجع إلى عهد الاستعمار حيث كان الفقر عاما واللحم لا يؤكل إلا الاعياد والمناسبات، وإني أرى تغيير توقيتها إلى ما قبل رمضان لأن حاجة الناس اختلفت، واللحم صار يطلب في رمضان لا في العيد..
ومن محدثات العصر "فقه رمضان" التي كانت شكلا من أشكال تضامن الدولة وتوزيع المال العام على المحتاجين والفقراء في شهر رمضان، وقد اختاروا أن تكون المساعدة عينية لا نقدية ..لأنهم قدروا المصلحة فيها في هذا الشهر ..ثم لعدم الكفاية أو لإرادة التخلي عن هذا المشروع حول إلى المساجد ليصير شكلا من أشكال التضامن الشعبي ..
الطبيب يستفتي ولا يفتي غير منشورة
الطبيب يستفتي ولا يفتي
"الطبيب هو من يفتي " عبارة خطيرة يكثر تردادها هذه الأيام؛ في التعليق على فتاوى أهل العلم في نوازل هذا الوباء الذي حل بالبشرية، سواء كانت تلك الفتاوى تتضمن رخصة أو عزيمة، إباحة أو تحريما، وبغض النظر عن مصدرها سواء كان فردا أو هيئة علمية.
وقد أَعجبَ بريقها كثير من الناس واغتروا بلفظها وغفلوا عن معناه وخلفيتها، يردّدها حاقدون على الدين، وجاهلون بشروط الفتوى في دين الله تعالى، وقد يؤيدهم عارفون لكن بمعنى مجازي -بإسناد الفعل لغير فاعله لعلاقة بينهما- وهو أمر لا تدركه العامة فيزيدون الأمة تغريرا وغفلة.
إن الفتوى التي هي توقيع عن رب العالمين يتخذها المكلفون حجة بينهم وبين الله تعالى يوم القيامة، لا يجوز أن تصدر إلا من فقيه استحق وصف الفقه باستجماع شرائطه من معرفة بالكتاب والسنة والإجماع والخلاف ومقاصد الأحكام الجزئية والكلية وإحاطة تامة بعلم أصول الفقه الذي هو آلة الاجتهاد مع إلمام بفروع الفقه المسطرة على الأقل وفق مذهب من المذاهب الإسلامية.
والفتوى وظيفة الفقيه ومعناها تنزيل الحكم الشرعي المناسب للسؤال المطروح وإيجاد حل شرعي للنوازل المستجدة من خلال معارفه المحصلة وبواسطة آلاته المكتسبة، وأضاف العلماء شرطا زائدا مهما في الافتاء سواء كان مجرد جواب مسألة عادية أو نازلة جديدة وهو التصور الكامل للمسألة والنازلة، وهو ما عبر عنه ابن القيم رحمة الله بفقه الواقعة، فلا يفتي الفقيه في الطلاق حتى يعرف تفاصيل مهمة تتعلق باللفظ والوقت والشخص المطلّق ولا يفتي في عقد من العقود المالية حتى يطلع على جميع بنوده وشروطه، ولا يفتي في مسائل الأطعمة والأشربة والأدوية المصنعة حتى يعرف أصلها وتركيبها وتأثيراتها النافعة والضارة وهكذا.
ومنه يعلم أنه لا جديد في أحكام الإفتاء، فالمريض يصف حاله للمفتي لتكون الفتوى صحيحة، وكذا المطلّق والمتعامل الاقتصادي وصانع الطعام والدواء كلهم يجب عليه أن يصف الحال ويدقق في الوصف ويصدق فيه ليتمكن الفقيه من الوصول إلى الحكم المناسب للحالة، لأن غياب عنصر مؤثر، أن عدم الصدق فيه قد يقلب الحقيقة رأسا على عقب، وكذلك الأمر في القضايا المتعلقة بالأمراض المعدية ودرجة خطورتها وطريقة انتقالها والأسباب التي تزيد في انتشارها أو تقي منها، كلها أمور يصفها الطبيب الصادق الأمين (لا الطبيب التاجر أو الطبيب السياسي) أقول يصفها الطبيب الصادق الأمين أو الأطباء، وبعد ذلك يمكن للفقيه أن يعطي الحكم الشرعي المناسب، وإن اختيار حل مناسب من جملة لا تتناهى من الاحتمالات لا يمكن أن يستقل به طبيب لا صلة له بالفقه، والفقةُ ليس افعل ولا تفعل كما يتخليه كثير من العامة .
كيف تتصورون الطبيب الذي يرجع إلى الفقيه في أحكام طهارته وصلاته وصيامه وزكاة ماله وبيعه وشرائه وزواجه وطلاقه وأحيانا يرجع غليه في أمور سهلة موجودة في كل كتب الفقه؛ فقط ليرفع شكا راوده فيها، وذلك حتى يطمئن على عبادته ومعاملته ويكون مرتاح الضمير إذا لقي ربه، كيف تتصورون من هذا الطبيب أن يتجرأ على الخوض في قضايا النوازل التي لا تدرس في الكتب ولكن تدرك بالاجتهاد .
إن الطبيب لا يفتي والاقتصادي لا يفتي والفلكي لا يفتي والمخترع لا يفتي وكلهم يرجع إلى المفتي إلى المفتي الكفء، الطبيب لا يفتي كما أنه يمكن أن يتخذ قرارات سياسية أو اقتصادية ملزمة، وفي هذه النازلة وظيفة الطبيب التشخيص وتقديم المعطيات والتوقعات والحلول الممكنة والمقترحة، وبعدها المفتي الكفء يفتي في تلك الحلول فردا كان أو جماعة، وبعدها يأتي القرار والحكم السياسي الذي صفته الإلزام بما قدره المفتي، فالحكم ملزم بخلاف الفتوى التي هي مجرد إخبار، وإذا تحددت الوظائف لم يجز لأحد أن ينتحل صفة الآخر بلا مؤهلات.
وإذا أراد مشكك أن يشكك في قدرات مفت ما فيقال له إن مدعي الفقه العاجز ليس حجة على عجز الشريعة، ونحن في عصر ينبغي أن نتجاوز فيه الفرد إلى الجماعة فيما يهم أمر الأمة خاصة، وحينها يقال حتى لو سلمنا وجود عجز في جانب من الجوانب لدى فقيه فإن بالاجتماع يحدث التكامل وتسد الثغرات وكل اجتماع تكون فيه البركة ويد الله مع الجماعة.
إن هذه الكلمة التي يعترض بها على الفقهاء اليوم "الطبيب هو من يفتي" يقال مثلها في مناسبات أخرى، فيقول قراء الصحف متتبع القنوات:"وما دخل الفقيه في مسائل السياسة وهو يعيش وسط كتبه لا يخرج عنها"، وفي مسائل الاقتصاد والتجارة يعترض الأمي المحدود الاطلاع على الفقه بأن لا شأن له بها لأن هذه المعاملات معقدة التي لا وجود لها في عصر السلف...
وهكذا نرى أن الفكر العلماني قد عشش في عقول كثير منا وصار خلفية يصدرون عنها من غير وعي- وآخرون يصدرون عنها عن وعي - إن العلمانية هي فصل الدين عن جميع مناحي الحياة وحصره في أمور الآخره، إن العلمانية -بفتح العين- من العالم والمراد فصل الدين عن عالم الدنيا، ويكذب علينا العلماني ويقول هي من العلم -بكسر العين- ليبشر بها ويسهل عليه جعل الشريعة على الهامش بدعوى التخصص العلمي، فالاقتصاد للاقتصاديين والقانون للقانونيين والسياسة للسياسيين والرياضة للرياضيين والتربية للتربويين...الخ، ويبقى الدين بمرجعيته المزعومة داخل أسوار المسجد لا يتعداها.
إن العلمانية داء عضال قد سرى في فكر الأمة وثقافتها على مر عقود حتى صار كثير منا يعيش بها وينطق وهو لا يدري، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا ويبصرنا بعيوبنا ويهدينا إلى مراشد أمورنا، والحمد لله رب العالمين.
كتب في 8 أفريل 2020
لكل مقام مقال غير منشورة
لكل مقام مقال
1-عندما تكون في مقام الترهيب من الغيبة والتحذير من خطرها: وذكرت إثمها وعقوباتها ونصوص الوعيد الواردة فيها ، فلا داعي ولا موجب أن تتحدث عن المواضع التي تجوز فيها ، لأن الموقف غير مناسب ، وربما سيكون ذلك كالناسخ والمزيل لأثر الترهيب ، وإذ جل السامعين بعد أن حملتهم على تذكر ما سبق لهم اقتراف لهذه الكبيرة؛ ستنقلهم من مقام اتهام النفس إلى مقام محاولة تبرئة النفس؛ فيحاول كل واحد منهم أن يكيف غيبته ضمن صنف من تلك الأصناف، وقد يقول بعضهم ما دامت الاستثناءات كثيرة متعددة فلا شك أن ما وقعت فيه داخل في أحدها ، والله غفور رحيم فيعفي نفسه حتى من محاولة تخريج غيبته على نحو جائز .
2-وإذا كنت في مقام الترهيب من ترك الصلاة وتأخيرها عن وقتها ؛ فلا يصلح أن تختم حديثك في الرد على من قال بكفر من فعل ذلك ، وربما تستطرد في ذكر أحاديث الشفاعة وفضل لا إله إلا الله ومن قالها خالصا من قبله ومات عليها ، لأنك بفعلك هذا قد مسحت ما كتبت وهدمت ما بنيت ، وبدلا من أن ترفع همة العاصي ليسرع إلى التوبة؛ فتحت عليه باب الإرجاء وتأخير التوبة ، وربما أدخلت في قلبه الغرور والتعلق بالأماني وكل ذاك ضد مرادك.
3-وكذلك إذا كنت في مقام الترهيب من الرشوة التي استهان بها الناس تحت مبررات عدة وصاروا يسمونها بمسميات شتى... لا يصلح أن يتحدث عما يسمى استثناءات أو يعتبر ضرورات ، لأن ذلك سيلغى الموعظة من أساسها لأن الناس ما شاع فيها هذا الداء إلا تحت ستار الاستثناء ودعوى الضرورات وزعم رفع ظلم متوهم أو إحقاق حق متنازع فيه ولم يثبت أنه حق...فلكل مقام مقال ولابد من توجيه الخطاب بما يناسب الواقع والحال.
4-ومن الطرائف التي وقعت لي قبل قرابة عشر سنوات ، أني دعيت إلى ثانوية في ولاية بومرداس لإلقاء محاضرة، وكان موضوعها "ظاهرة الانتحار "، وبعد أن صلت وجلت في الترهيب من الانتحار والزجر عن أسبابه والحديث عما يبعد المسلم عنه ...أخذ الكلمة بعدي مدير الثانوية فأثنى على المحاضرة ومدحني ثم نحرني ؛ إذ قال للتلاميذ إن لكل قاعدة استثناء وذكر حادثة محمد البوعزيزي رحمه الله التي لم تكن بعيدة، وذكر قصة أخرى لا أعرفها ولا أذكرها، ولقد كان بإمكانه أن يستطرد أكثر فيذكر العمليات الانتحارية ضد الاحتلال اليهودي؛ لكنه لم يفعل والحمد لله، غفر الله لنا وله ...
الحث على اغتنام رمضان غير منشورة
الحث على اغتنام رمضان
خطبة ألقيت يوم 27 شعبان 1429 الموافق لـ29أوت 2008م في مسجد الفرقان (بالبليدة).
أما بعد :
فإنه لم يبق إلا أيام معدودات على انقصاء ذلك الشهر العظيم الذي قَالَ عنه النبي :" ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"، هذا الشهر شهر شعبان الذي له من الفضيلة والمزية أن النبي كان يصوم فيه ما لا يصوم في غيره، فيسأله أسامة يا رسول الله لماذا تصوم فيه ما لا تصوم في غيره فقال : ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ" ولا يزال كثير من الناس يغفلون عنه مع وجود حديث النبي يتلى ويذكر به كل عام، فالناس لا يزالون يغفلون عنه، ليست غفلتهم عن صيامه، ولكن غفلة عن تمام هذا الحديث الذي بين فيه النبي سر إكثاره من الصيام في شعبان وأنه شهر ترفع فيه الأعمال، ترفع فيه أعمال السنة كلها، أتعلمون ما معنى ذلك، تعرض أعمالكم عباد الله! ماذا عملتم من رمضان الذي ذهب انقضى في السنة الماضية إلى شعبان، ترفع هذه الأعمال وتعرض على رب العالمين، هذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، وأكبر دلالة على ذلك أنه يمضون شعبان كسائر الشهور في ميدان الأعمال الصالحة والمسابقة إليها، إذا ما استثنينا صومه، وهو سواء بالنسبة إليهم فيما يقترفونه من معاصي وفيما يجترحونه من سيئات، وفيما يضيعونه من أوقات، وخاصة في هذا العام الذي صادف شهر شعبان فصل الصيف وشهر العطل.
لماذا نقول هذا الكلام وشهر شعبان أوشك على أن ينتهي؟ نقول هذا الكلام ليحس كل واحد منا بأن عليه أن يتوب ، وأنه قد قصر ، ليعلم الجميع أنهم معنيون بالحديث عن التوبة، والرجوع إلى الله تعالى، في شهر رمضان الذي هو على الأبواب، عباد الله إن من رحمة الله بنا ومن منِّه وكرمه أن جعل في هذه الدنيا نفحات تعرض فيها الرحمات، فعلينا أن نتعرض لنفحات الرحمن سبحانه عسى أن تصيبهم نفحة منها فنرحم رحمة لا نشقى بعدها أبدا، إننا جميعا عباد الله معنيون بالحديث عن التوبة، فدعوا الغرور والاستعلاء جانبا، عباد الله إننا نقصر وإننا نعصي، وإن ربنا سبحانه يعفو ويحلم ويوفق عباده للتوبة وأسبابها . عباد الله إن من أعظم نعم الله تعالى علينا أن نوفق لإدراك شهر رمضان..، أسلم رجلان من قضاعة في عهد النبي في زمن واحد ولعل ذلك كان في يوم واحد، أما أحدهما فاستشهد وأما الآخر فعاش بعد الأول سنة كاملة، فرأى أحد الصحابة الثاني منهما سبق الشهيد إلى الجنة، فجاء يسأل النبي عن ذلك لما يعرفه من فضل الشهادة وأنها مكفرة للذنوب وأنها من أسباب مغفرة الله تعالى ودخول الجنة، فكيف يسبقه إلى الجنة هذا الذي مات ميتة عادية؟ فأخبره النبي أنه عاش بعده سنة صام فيها رمضان وصلى وكذا وكذا من صلاة لم يصلها الأول. فلا نغفل عباد الله عن هذه النعمة التي -إن شاء الله تعالى – وفقنا الله إليها ، نقول إن شاء الله تعالى لأننا لا ندري لعله فينا من تقبض روحه غدا أو بعد غد فلا يدرك هذه النعمة ويحرم منها.
عباد الله شهر رمضان شهر الخيرات شهر القرآن وشهر الغفران الذي قال فيه النبي :" إذا كان أو ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة). إن كثيرا منا أصبحت أحاديث الترغيب والترهيب لا تعني شيئا بالنسبة إليه، الذي يؤثر فيه أن يرغب بالدرهم والدينار ، الذي يهز كيانه أن يوعد أو توعد بأمر محسوس يصيبه في الدنيا، أما وعد الله تعالى ووعيده الذي هو في الآخرة فإنه يراه بعيدا وهو والله قريب ، إنه قريب منا ما رغبنا فيه وما رهبنا منه، إن من قسوة قلوبنا أننا أصبحنا إذا سمعنا الحديث عن الجنة والنار لا نتأثر! إنها الجنة تفتح أبوابها حتى لا يغلق منها باب، والنار تغلق أبوابها حتى لا يفتح منها باب، وينادي مناد المؤمنين الذين في قلوبهم الإيمان أقبلوا هلموا إلى رحمة الله تعالى، إلى مغفرته إلى عفوه إلى صفحه، تعالوا واستدركوا ما فاتكم، لقد قصرتم في أعمال، لقد ضيعتم أوقاتا، وفرطتم في عبادات وغفلتم وظلمتم واعتديتم وربما أشركتم وابتدعتم!.. ها هي يد الله سبحانه وتعالى تبسط للمسيء ليتوب وليرجع وللغافل ليستيقظ، ينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، رمضان رحمة من الله تعالى رحمة مهداة ونعمة مسداة، علينا عباد الله أن لا نضيعها كما ضيعنا سائر أعمارنا، علينا أن لا نغفل عنها كما غفلنا عن شعبان وكما غفلنا في سائر الشهور، رمضان الذي نهاره صوم ونبينا يقول :"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "غفر ما تقدم من ذنبه" ليس أمرا سهلا أن تغفر جميع الذنوب ولكنَّ فضل الله عظيم، شهر رمضان الذي ليله قيام ونبينا يقول :"من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، قيام رمضان نافلة ليس واجبا ومع ذلك من فضل الله تعالى علينا من منه وكرمه ومن سعة رحمته سبحانه وتعالى أن جعله كفارة لجميع الذنوب والخطايا، فأقبلوا على الله عباد الله ولا تكونوا من الغافلين ولا تكونوا من الفاترين، الصوم من أعظم العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى وركن ركين من أركان الإسلام وعمود من أعمدته ركيزة من ركائزه، وأجره لا يقدره إلا الله تعالى، قال النبي :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف"، هذا في الحسنات جميعها الحد الأدنى الحسنة بعشر أمثالها، والله تعالى قد يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل :"إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ". لأن الصوم هو الصبر إن شهر الصوم هو شهر الصبر، والله تعالى يقول عن الصابرين :" إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10)، ولأنه العمل الذي يمتحن فيه العباد ويظهر إخلاصهم لله تعالى، كل العبادات الظاهرة يراها الناس، قد يكون للعباد فيها حض، لكن الصوم بينك وبين الله تعالى، عبادة ظاهره لكنها خفية، من الذي يطلع عليك من الذي يراك إلا الله تعالى."إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به "جزاء لا يعلمه إلا رب العزة جل جلاله، إن المؤمن ليفرح وليسعد إذا سمع مثل هذه الأحاديث المرغبة في الصيام والمبينة لفضائله، وإنه أيضا حينما يسمع حديثا آخر يتمالكه الخوف والرعب، فقد صعد النبي يوما المنبر فقال آمين آمين آمين، فقيل يا رسول فقد فعلت كذا وكذا فما الخبر فقال:" إن جبريل جاءني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين" فقلت آمين .
من أدركته كل هذه الفضائل من أدركته هذه المنحة الربانية، ثم بعد ذلك أعرض عنها ولوى عنقه وولاها ظهره ولم يأبه بها ولم يلتفت إليها، المنادي ينادي أقبل إلى الله تب إليه وحاسب نفسك، ها هي أبواب الجنة قد فتحت وهو لا يبالي، إن من كان كذلك يستحق من الله تعالى أن يبعده من رحمته. دعاء دعا به جبريل عليه السلام وأمن عليه النبي ، عباد الله إن الاستهانة بأمر الجنة والنار إذا ما كان باللسان فهو كفر الذي يقول لا أبالي بالجنة ولا أخاف دخول النار إنما هي حكايات، وكذلك الذي لا يبالي عمليا بأمر الجنة والنار يعيش في الدنيا حياة البهائم يأكل ويشرب ويتمتع، فهذا على خطر عظيم، فلنعظم شعائر الله ولنعظم دين الله، ولنستجب لله تعالى ولرسوله إذا ما دعانا لما يحيينا، إذا ما دعانا لما فيه خيرنا وصلاحنا في دنيانا وأخرانا.
عباد الله إن من ضيَّع شهر رمضان فهو لما سواه أضيع، من غفل في رمضان مع أن مردة الشياطين مصفدة ونفسه للطاعة مهيئة، والناس يذكرون الله ، وفي النهار صيام في الليل قيام من غفل مع كل ذلك متى يستيقظ؟ متى يستيقظ من غفلته؟ رمضان شهر الإخلاص ومراقبة الله تعالى، شهر من عاشه كما أراد الله تعالى وصل إلى حقيقة التقوى، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة:183). لعلكم تتقون والجنة لا يدخلها إلا المتقون، والله تعالى إنما يتقبل من المتقين .
عباد الله فلنقف مع أنفسنا وقفة للمحاسبة بل وقفات، فلنحاسب أنفسنا، وليس فقط لشعبان بل للسنة كلها ، كم صلينا؟ كم صلينا من صلاة في المسجد؟ كم من صلاة ضيعناها وأخرجناها عن وقتها؟ كم من صلاة نمنا عنها؟ نحاسب أنفسنا في الزكاة، هل نحن نؤدي الصدقة الواجبة؟ هل نحن نعين الفقراء؟ كم من صدقة تصدقنا بها؟ كم من بيت من بيوت الله أسهمنا في بنائه؟ في الصيام كم صمنا من النوافل؟ في العلم كم من مجلس علم حضرناه؟ كم من مسألة تعلمناها في هذه السنة؟ وكم من مجلس علم أعرضنا عنه وضيعناه؟ كم من عمل خير قمنا به؟ وكم من عمل خير كان أمامنا وكان بإمكاننا أن نقوم به أو نسهم فيه فضيعناه ؟ فلنحاسب أنفسنا عن كل ذلك وغير ذلك؟ ولنحاسب أنفسنا أيضا عن أشهر رمضان التي مضت، كم من رمضان فات وانقضى من السنوات الماضية وندمنا بعده؟ ندمنا بعد أن تصرمت أيامه وانقضت ساعاته، بعد ذلك قلنا يومها وساعتها يا ليتنا عملنا ويا ليتنا اجتهدنا، ويا ليتنا أطعنا وسارعنا؟ كم قد مر علينا من رمضان، فلم نعرف كيف نستغله ؟ وكيف نستثمره ؟
فلنحاسب أنفنا لنشحذ الهمة لنقوي العزيمة، لنستقبل هذا الشهر بنفوس قوية مقبلة على الله وعلى الأعمال الصالحة، تتنافس في الخيرات وتسارع إلى الطاعات، ولنستعد ولننظر أيضا في الأسباب التي جعلتنا نضيع رمضان في السنوات الماضية، لماذا أضعتَ رمضان؟ اسأل نفسك ما هي الأشياء التي شغلتك؟ وما هي الأشياء التي صدتك عن سبيل الله وعن طريق الله؟ ما هي الأشياء التي جعلتك محروما أو مقصرا ؟ وهذا الكلام لجميع الناس، وأنا أولكم، لا يوجد إنسان -فيما أظن- إذا انقضى رمضان يقول بأنه قد قامه إيمانا واحتسابا، وصامه إيمانا واحتسابا، وقام فيه من الطاعات ما كان بإمكانه، لا يقول ذلك إلا مغرور، وإننا لنقرأ كلام العباد الزاهدين والعلماء الصالحين يأسفون على ذهاب هذا الشهر العظيم، ويخافون أن لا تتقبل أعمالهم، فهل نحن خير منهم ؟ ما من إنسان عمل إلا وكان بإمكانه أن يعمل أكثر، فالكلام موجه إلى جميع المؤمنين، إلى جميع من يرجوا الله واليوم الآخر دون استثناء، نسأل الله تعالى أن يبلغنا إلى هذا الشهر العظيم ، وأن يوفقنا لصيامه وقيامه ومعرفة قدره أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ....
*******
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد فإن من الوقفات التي يجب أن نقفها مع أنفسنا أن ننظر في العوائق التي يجعلها الشيطان وأعوانه في طريق المؤمنين ليصدهم عن استغلال هذا الشهر الكريم، لنسلم منها ونحذرها، وكذلك علينا أن نسطر برنامجا يوميا مكثفا لأعمالنا في هذا الشهر المبارك لأن أيامه ستنقضي بسرعة البرق، فاجعل عبد الله لنفسك برنامجا مكثفا تداوم عليه في هذا الشهر، اصبر شهرا واحد لعل أن تصيبك رحمة الله تعالى.
ولنبدأ بهذه العوائق وهذه الحفر التي توجد في طريقنا والتي تصدنا، وأولها ظاهرة تضييع الأوقات، شهر رمضان بالنسبة إلى كثير من الناس أصبح مشكلة، يومه طويل وثقيل عليهم، حتى أن منهم من يصرح بلسانه ويقول لأصحابه تعالوا نقتل الوقت، والناس في هذا التضييع متفاوتون منهم من يضيع ساعتين ومنهم من يضيع النهار كله ، يضيعونها في النوم وفي اللعب وأمام التلفاز ...، وهنا يظهر لنا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، إن الذي يتعمد تضييع الوقت في رمضان وينتظر أذان المغرب على أحر من نار الجمر، هل هذا صام إيمانا واحتسابا؟ هل هذا محتسب للأجر؟ هذا إنما يصومه مجبرا مكرها، وهذا محروم من أجره وليس له إلا الجوع والعطش، هذا ينفض من أجره بحسب ما ضيع من أوقاته، إن من الناس من لا ينال أجر صومه، فكيف يطمع لأن يكون ماحيا للسيئات.
ومن هذه العوائق المعاصي التي تقسي القلوب، عباد الله شهر رمضان شهر الرقابة، فإنك في كل لحظة تذكر بان الله تعالى يراك، فلماذا لا تغض البصر في الطريق وفي البيت أمام التلفاز؟ لماذا لا تمسك لسانك عن عورات الناس في الطريق وبيت الله تعالى؟ لماذا لا تكف أذاك عن المؤمنين الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم؟ إن المعصية في الأشهر الفاضلة والأماكن الفاضلة ليست كغيرها من الأوقات والأماكن، فإن المعصية وإن كانت لا تضاعف فإنها تعظم وتغلظ، فليس من يعصى الله تعالى في بيته كمن يعصيه في المسجد، وليس كمن يعصيه في مكة أمام الكعبة، وليس من يعصيه في سائر الأشهر كمن يعصيه في رمضان، وهذه المعاصي تقسي قلوبنا وتزيدنا غفلة وتحرمنا من أجر الصيام ومن فضائل رمضان، ومن الوصول إلى مقاصد الصيام، فعلينا أن نتقي الله تعالى سرا وظاهرا بقلوبنا وألسنتنا وأعمالنا.
ومن هذه العوائق الفتور، الفتور والاسترخاء، كثير من الناس ربما يقضي الأيام الأولى من رمضان على أحسن ما يرام، لكن سرعان ما يفتر ويفشل ويترك ويرجع القهقرى، عباد الله إن الصبر من أعظم الواجبات علينا، والصبر منه صبر على المحرمات ومنه صبر على الواجبات فعلينا أن نصبر، علينا أن نصبر على العمل في هذا الشهر المبارك، من لم يصبر على الطاعة في الدنيا فهل يصبر على نار جهنم وحرها يوم القيامة؟ من لم يصبر على هذه الأعمال اليسيرة هل يصبر على عذاب يوم القيامة؟ من لم يصبر على طاعة في أيام معدودات هل يصبر على عذاب طويل في نار جهنم أو في القبر؟
من هذه العوائق أيضا رفقاء السوء الذين يقودون الإنسان إلى تضييع الأوقات، ويجرونه إلى المعاصي ويسببون له الفتور، فعلى كل واحد منا أن يختار الرفيق فإن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، يختار رفيقا يساعده على الطاعة في هذا الشهر المبارك يصحبه إلى صلاة الجماعة، يوقضه إذا لم يستيقظ لصلاة الفجر أو للسحور، يصحبه إلى حلق العلم، يعرض عليه القرآن أو يحفظ معه القرآن، رفيقا يتعاون معه على البر والأعمال الصالحة، ومن أراد التوبة وأن تحسن توبته فعليه أن يفارق رفقاء السوء، فإن كثيرا من الناس يعزم على أن يحافظ على صلاة الجماعة في رمضان أو يكون متهاونا في أمر الصلاة فيعزم على المداومة عليها ابتداء من رمضان، ولكنه في الوقت نفسه لا يفارق أهل السوء، لا يفارق الفساق أهل الفجور والخمور، فسرعان ما يفتر وسرعان ما يرجع القهقري، لأنه يوجد عند هؤلاء من المغريات ومن الملهيات ومن الشهوات، التي تروق للنفس وتستهويها ما لا يوجد في بيت الله تعالى وفي الطاعة والعبادة، حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، وثمة عوائق أخرى نذكرها ضمن صفحات البرنامج المقترح للصائم القائم في رمضان .
عباد الله لا بد أن يبدأ يومنا قبل الفجر، ابتداء من وقت السحر، ويخطئ كثير من الناس هنا فيزهد في السحور، فإن السحور بركة ، ويخطئ كذلك من يتسحر قبل أن ينام لأن من السنة تأخيره، إذا استيقظتَ عبد الله في وقت السحر تنال بركة السحور وبركة تأخيره، وتقوم في الثلث الآخر من الليل تدعوا الله تعالى حين يزل إلى السماء الدنيا، فيقول هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فاستجب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فرصة تستغلها لتناجي فيها ربك وتدعوه. وإذا استيقظت للسحور فإنك تحافظ على صلاة الفجر في وقتها وفي الجماعة، وقد قال :"من صلى البردين دخل الجنة " أي الصبح والعصر. ثم تبكر إلى الصلاة فتحتل الصف الأول وتجيب المؤذن وتدعوا الله بين الأذان والإقامة، وإذا صليت في جماعة تبقى في مصلاك تذكر الله تعالى وتدعوا وتستغفر وتستغفر لك الملائكة إلى طلوع الشمس ثم تصلي صلاة الضحى، وتحافظ على أذكار الصباح، وتتلوا ما تيسر من كلام الله تعالى، فتفتتح يومك بالدعاء وبذكر الله تعالى. وفي الحديث : "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، فإذا استيقظ الإنسان باكرا، فإنه يكون نشيطا ويبارك له في وقته وفي جهده، وفي ماله أيضا إذا ما خرج للعمل أو للتجارة.
وهكذا في سائر اليوم علينا أن نحافظ على الصلاة في جماعة فإنها من سنن الهدي التي لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وجاء عن النبي أن :"من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق" (رواه الترمذي). من صبر أربعين يوما يصلي الصلاة في جماعة ولا يتأخر، ومعنى يدرك التكبيرة الأولى أن تدركه الإقامة وهو داخل المسجد ويكبر الإمام وهو في الصف ، فتكتب له بذلك براءة أبدية من النار ومن النفاق.
ومن الأعمال قراءة القرآن، فإن رمضان الشهر الذي أنزل القرآن، وكم هو طويل عن هجر الأمة لكتاب ربها سبحانه وتعالى...، وإن السلف لم يكونوا من الهاجرين للقرآن، كانوا يقرأونه وكانوا يفهمونه وكانوا يعملون به ، ومع ذلك إذا جاء رمضان يعكفون على قراءته الختمة تلو الختمة، الكبير والصغير الغني والفقير العالم والجاهل الحاكم والمحكوم ، يروى عن المأمون الخليفة العباسي أنه يختم في رمضان في كل ثلاث ختمة ، بل روي عنه أنه ختم ثلاثا وثلاثين ختمة، فمع عظيم مسؤوليته في الدولة وكثرة أشغاله، ومع ذلك لم يغفل عن قراءة القرآن، من السلف من كان يختمه في ثلاث وفي سبع ومنهم كان يقرأه مرة في النهار ومرة في الليل كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فلا نغفل عن كلام رب العلمين والذي به ترق قلوبنا وتصلح أنفسنا وبه نهتدي إلى طريق ربنا .
وعلينا أن نكثر من الصدقة فإن النبي كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، فتصدقوا وابحثوا عن مجالات الصدقة الجارية في المساجد وغيرها ، يا عبد الله لا تدع باب يفتح لك من أبواب الصدقة إلا أسهمت فيه ولا تشتكي من قلة ذات اليد، فإن من أنفق أنفق الله تعالى عليه، ومن أوكأ أوكأ الله عليه، فإن من أسباب الرزق النفقة ومن أسبابه الصدقة في سبيل الله تعالى، والصدقة تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى.
ولكي لا تضيع صلاة المغرب في جماعة بكِّر إليها بعد انتهائك من العمل ليدركك الأذان وأنت في المسجد، ولتعلم أن العبد في صلاة ما دام ينظر الصلاة ، بل حاول أن ترابط في المسجد من العصر إلى المغرب، ولتجعل ذلك وقت ذكر، وقراءة القراءة، وعلينا أن نحرص عند الإفطار أن لا نكثر من الأكل وهذا من العوائق التي تصد الناس عن الخير فإن كثرة الأكل تدعوا إلى الفتور وإلى التقاعس عن صلاة العشاء فضلا عن التكبير إليها، فضلا عن حضور مجالس العلم قبل العشاء، فضلا عن قيام الليل، وإذا حضر يحضر بقلب ساه لاه لا يدري ما يُقرأ ولا ما يقول في سجوده.
وإن من الاستعداد لرمضان الاستعداد لأعمال البر فنخصص أموالا للصدقة ، ومن كان من الميسورين يبرمج العمرة في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة مع النبي ، اجمع المال لتنفق ولتتصدق، وبعض الناس يجمعون المال ليملأ البطون في رمضان بأنواع المأكولات ويسرفون فيها اسرافا عظيما، وإذا أردنا أن نعرف حال الأمة في رمضان مع الأكل، فلنذهب إلى الصيدليات، ولنسأل ما هو الدواء الذي يباع أكثر من غيره في هذا الشهر، والجواب هو دواء التخمة، -أمة بطون أصبحنا لا أمة جهاد وعبادة- ما الفائدة في أن تجوع في النهار ثم ترهق نفسك بالمأكولات في الليل؟ هل بهذه الطريقة تصل إلى حقيقة التقوى؟ هل بهذه الطريقة تقوم الليل وتتدبر القرآن؟ هل بهذه الطريقة تشعر بحال الفقراء والمساكين وترأف بهم وتحقق مقاصد الصوم الأخرى كلا وألف كلا إذا علينا أن نقتصد في الطعام ونعلم أن الأطباء مجمعون أن الصحة في الحمية وأن الداء كل الداء في كثرة الأكل ، من قديم الزمان إلى يومنل هذا ، فليست قوته الإنسان ونشاطه بكثرة الأكل بل هي سبب الفتور والخمول ، من أراد النشاط حسبه لقيمات يقمن صلبه ، هكذا عاش العلماء وهكذا عاش المجاهدون ، الإمام الشافعي يقول لم أشبع منذ عشرين سنة إلا مرة واحدة ، فلما شبع ماذا صنع قيأ نفسه ، لأنه إذا شبع لم يطلب العلم ، ولا يقوى على قيام الليل ، ولنحذر من القيام في ليالينا من التلفاز مدمر الأخلاق ، التلفاز الذي أفسد عقائدنا وأذهب رجولتنا ونزع الحياء منا وصدنا عن سبيل ربنا فلنحذر منه خاصة في شهر رمضان ، فإنه يذهب حسنات النهار لما فيه من محرمات، وإن القنوات أصبحت تخصص ميزانيات عالية هذا الشهر ، وتخصص كما هائلا من البرامج قنوات البلدان العربية وكأن شهر رمضان هو شهر التلفاز واللهو لكن الذي لا يعلمونه ولا يشعرون به أن مردة الشياطين قد استخلفتهم في الصد عن سبيل الله وعن ذكر الله وعن الصلاة ، فالمردة صفدت فخلفتها تلك القنوات ومن يسيرها، بأنواع من البرامج الملهية المقسية للقلب المذهبة للحياء والأخلاق تكشف فيها العورات ويستمع فيها على الغناء وغير من المنكرات والمخازي ومن الأمور التي تعرفونها، إذا التلفاز من أعظم العوائق التي ينبغي أن نحذر منها من ابتلي به فليقاطعه فليقاطعه في شهر رمضان ، لا يفتحه في شهر رمضان ، تب إلى الله في رمضان على الأقل حتى تسلم لك عبادك ، ولا تكون من المبعدين ، ولا تكون من المطرودين ، قاطعه والزم بيت الله تعالى .
وعلينا أن نجتنب السهر في الأمور الفارغة وفي الأمور التي لا تنفع ، لا ينبغي السهر إلا فيما فيه نفع في علم أو في مذاكرة وإلا بعد أن يقوم الليل فعليه أن ينام مباشرة بنية القيام للسحور ولصلاة الفجر ، ومن كان هذا حاله فهو مأجور على تلك الساعات التي أغمض فيها عينيه.
علينا أن نسعى للحفاظ على هذا البرنامج أو أكثر منه وإنه ليسير عسى أن نكون من المرحومين.
إن هذا الشهر سيمر وتنقضي أيامه وعلينا أن نشمر على سواعدنا أن نشد مآزرنا وأن نعزم أن لا نضيعه هذه المرة وأن نحاول تسجيل أكبر عدد من الحسنات عسى أن يرحمنا رب الأرض والسماوات.
نسأل الله تعالى أن لا يحرم من فضله وأن يوفقنا إلى جنته وأن يسهل لنا طريق طاعته وأن يحفظنا من شر الصادين عن سبليه ، فاللهم اهدنا فيما هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
من جرائم تجار الكتاب مدعي التحقيق غير منشورة
من جرائم تجار الكتاب مدعي التحقيق
قد وقفت قبل مدة على خطأ فظيع وقع فيه بعض تجار الكتاب في تحقيق الإشارة للباجي رحمه الله (ت:474)، ثم وقفت على طبعة ثانية وقع فيها صاحبها في الخطأ ذاته، فبحثت يومها في النت عمن بين هذا الخطأ فلم أجد، وقد وقفت اليوم على ثالث تابع سابقيه في الخطأ ذاته؛ فعزمت على تبيان هذا الخطأ نصيحة للطلاب عسى أن تجد من ينتفع بها .
ويتمثل هذا الخطأ الشنيع التي تواطأ عليه أصحاب الطبعات الثلاثة في إقحام نص كتاب آخر مع نص الإشارة، وهو المقدمة الأصولية لابن القصار رحمه الله (ت:397) برمتها من أولها إلى آخرها .
ولا أدري كيف لم يتفطن جميع هؤلاء إلى أنهم قد جمعوا كتابين اثنين تحت غلاف واحد رغم ما يأتي:
1-تكرر المواضيع الأصولية في الفهرس التي أعد للكتاب المزعوم ، فلا يخفى على كل نبيه؛ فضلا عمن يدعي التحقيق أن العالم لا يكرر طرح المسائل في موضعين من كتاب واحد، وإن كرر مسألة لضرورة اقتضتها فلا يكرر جل مسائل الكتاب.
2-أن المجموع الذي وجد فيه الكتابان -إن كانوا فعلا رجعوا إلى المخطوط فيه فاصل واضح بين الكتابين ، حيث يصرح الناسخ بأنه تم كلام ابن القصار في أصول الفقه ثم ذكر اسمه وتاريخ النسخ.
3-أن كتاب مقدمة لابن القصار قد طبع وحقق أكثر من مرة ، الأولى سنة 1996 وصد عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق أ محمد السليماني، والثانية سنة 1420-1999 وصدر عن دار المعلمة بالرياض بتحقيق مصطفى مخدوم.
4-أن كتاب الإشارة أيضا قد طبع طبعات علمية كثيرة منها طبعة بتحقيق د محمد علي فركوس سنة 1416-1996م صدرت عن المكتبة المكية بمكة المكرمة ودار البشائر الإسلامية بيروت، ومنها طبعة صدرت عن دار ابن حزم سنة 1421-2000م بتحقيق أد مصطفى مخدوم ، وطبع قبل ذلك طبعات كثيرة مذكورة في مقدمات هذه التحقيقات.
5-ولا حاجة لنا للحديث عن اختلاف الكتابين لغة ومنهجا، فإن ذكر ذلك يعد من نافلة الكلام أمام الدلائل الحسية المذكور في النقاط السابقة.
والذي يعجب له أنهم تتابعوا على الخطأ الفضيحة نفسه رغم بعد الزمن بين طبعاتهم ، فالسارق والمدعي منهم مع كثرة مطبوعات الكتاب قبله لم تقع يده إلا على النسخة التي تفضح صنيعه ، وهذه الطبعات هي كالآتي:
1-طبعة عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة .ط2-1418 الموافق ل1997م.
زعما الحصول عن نسختين إحداها غير واضحة مما جعلهما يعتمدان اعتمادا كليا على صورة للنسخة الأزهرية رقم (170) -وهي في الحقيقة مجموع ضم الكتابين ، ولم ينشروا صورا عن المخطوطات.
2-طبعة محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1-1424 الموافق ل2003م.
وزعم اعتماد نفس المخطوطة وطبعة هندية عنها ، وطبعات تونسية قديمة ..
وقد صور ثلاث صفحات من المخطوط هي نفسها التي صورها محمد علي فركوس في طبعته عشوائيا موافقة لما في ص247-257 من المطبوع وللصفحة الأخيرة (الأخيرة فقط من الازهرية)..ومن العجب أن مدعي التحقيق زعم إن أحداها هي اللوحة (أ) رغم عدم وجود المقدمة التي يبدأ بها النص في طبعته، ورغم وضوح تعلق محتواها بأحكام الأخبار.
3-طبعة الدكتور ناجي السويد ، المكتبة العصرية صيدا بيروت ، ط1-1431 الموافق ل 2010.
ولم يذكر شيئا عن المخطوطات ولم يدع شيئا ..
والذي يحير في الطبعات الثلاث : هو تلك المقدمة التي جاءت في أوله والتي ليست من كتاب الإشارة قطعا لما سبق ، ولا هي مقدمة كتاب ابن القصار؟؟ .
أد مصطفى مخدوم قد صور لنا اللوحة الأولى من مخطوط المكتية الأزهرية (170) وليس فيها المقدمة...فمن أين جاءت تلك المقدمة ؟؟
وحسبنا الله ونعم الوكيل
منهج البحث في علم اصول الفقه ...الحلقة الرابعة ....منهج الاستدلال في المسائل الأصولية غير منشورة
منهج البحث في علم اصول الفقه ...الحلقة الرابعة ....منهج الاستدلال في المسائل الأصولية
محاضرة القيت عبر الزومفي أكاديمية مفكرون بتاريخ 28 أكتوبر 2022
سنقسم هذه المحاضرة إلى ثلاثة نقاط:
1. ضرورة الاستدلال في أصول الفقه.
2. أنواع الأدلة التي يستدل بها الأصوليون.
3. ضوابط الاستدلال.
الذي لا شكّ فيه أنَّ الاستدلال في علم أصول الفقه أمر ضروري، فهو العلم الذي يعلمنا الاستدلال فكيف يجوز أن تكون الكتب التي تصنّفُ فيه خالية من الاستدلال؟ لا شكّ أن الاستدلال في علم أصول الفقه ضروريٌ جداً، ولا عبرة بقولٍ في دين الله سبحانه ما لم يبن على دليل.
وأوّل من فعل الاستدلال وبنى عليه أصول الفقه هو الإمام الشافعي رحمه الله، إذ ما من مسألة تَعرّض لها إلا وبيّنها بالدليل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ومن لسان العرب، كذلك الذين ألفوا بعده من الكتب التي وصلتنا، كتاب الفصول للجصاص، مقدمة ابن القصار، الإحكام اابن حزم الظاهري، كل المؤلفين في العصور الأولى كانوا يبنونَ كتبهم الأصوليّة على الدليل، ولم يختفي هذا الدليل إلا في عصور متأخرة بدافع الاختصار، فهؤلاء المختصرين صاروا يحذفون ما يظنّونه إضافياً، أو غير ضروري فيحذفون الأمثلةَ وقد يحذفون الأدلّة الشّرعية التي تبنى عليها القواعد الأصوليّة، وهذا خطأ منهجي أدى إلى سوء فهم هذا العلم وإلى سوء تصوّره مع الأسف الشديد.
إذاً الاستدلال في أصول الفقه أمرٌ ضروري ولا شكَّ فيه، لكن هل الفقهاء اعتمدوا على الدليل؟
نعم اعتمدوا على الدليل، أليس مشهوراً عنهم أنّهم يخرجون الأصول من الفروع؟
نعم، يخرجون الأصول من الفروع لتثبيت آراء الأئمة التي لا نصّ لهم في القضايا أصوليّة، والكتب التي وصلتنا، مثلاً كتاب المقدمة لابن القصار بعدما يثبت الراي بالتخريج، يعود بعد ذلك ليسوق الأدلة نصرة لهذا الرأي، بل إنه في مسألة أو في بعض المسائل خرّج عن الإمام مالك رأياً ونصر خلافه.
إذاً تخريج الأصول من الفروع لا يستلزم التّقليد ولا نفيَ الدليل الشرعي، والفصول للجصاص الحنفي، مليء بالاستدلال وهو مبنيٌ على الاستدلال على القضايا الأصولية.
نطرح سؤالاً آخر بعدما اتفقنا على أن الأصول لا بدّ أن يكون مبنياً على الأدلّة، هل يشترط في هذه الأدلّة أن تكون قاطعة، أو أن توصل إلى القطع؟
هنا اختلف الأصوليون، المتكلمون على وجه الخصوص قالوا: مسائل أصول الفقه قطعيّة ولا تبنى إلا على أدلّة قطعيّة، وذهب غيرهم إلى الضّد من ذلك وأنه لا يشترط، وأنّ المسائل الأصوليّة كسائر مسائل الدّين فيها ما هو قطعي وفيها ما هو ظنيّ، يعني ليست كل مسائل أصول الفقه في مرتبة واحدة.
فعندما نتكلم عن قاعدة عربية القرآن هذه مسألة قطعية لا يجوز الشكّ فيها وتبنى على أدلّة قطعيّة، بالاستقراء من كتاب الله تعالى ومن سنة النّبي ، لكن عندما ننتقل إلى مسألة المعرب، هل يوجد في القرآن كلمات عربتها العرب قبل نزول القرآن الكريم؟
هذه مسألة خلافية والأدلّة فيها ظنيّة، والشّافعي رجح رأياً وغيره رجح رأياً آخر، فهل نقول عن هذه المسألة أنها قطعية؟
لا نستطيع، فالمسائل الأصولية ليست في رتبة واحدة، عندما نتكلم عن حجية خبر الواحد، الصحيح هذه مسألة قطعية، ولكن عندما نتعرض للتفاصيل كحجية المكاتبة، أي هل إذا كتب عالمٌ إلى عالمٍ آخر بحديثٍ هل يكون لذلك حكم الاتصال، هذه مسألة خلافية منهم من ردّها وقال منقطعة، ومنهم من قال متصلة، ومنهم من قال إذا عرف وميّز خطه ...إلى غير ذلك، فهذه مسألة جزئية لا يمكن أن نشترط فيها القطع.
حجية القياس باستقراء آراء السلف مسألة قطعية، لكن عندما نتحدث عن أمور جزئية في القياس كمسألة القياس الجليّ، هل هو مفهوم موافقة أو قياس جلي؟
هذه مسألة ظنيّة، للشافعية لهم رأي ولغيرهم رأي آخر، لا يمكن أن ندعيَ القطع في جميع مسائل الأصول، لا يمكن أن ندعي القطع ولا يجوز لنا أن نطلب القطع، لأنَّ بعض المتكلمين أو جلُّهم، أو الذين ساروا على طريقة الباقلاني على وجه الخصوص وضعوا هذا الأصل، وقالوا مسائل الأصول قطعية ولا تثبت إلا بالدليل القطعي، لكن ماذا كانت النتيجة إذا لم نجد الأدلّة القطعية التي طلبوها، وصلوا إلى التّوقف، فظهر مذهب الوقف، أو مدرسة الواقفة، أو الواقفيّة في أصول الفقه، الأشعري، الباقلاني، الغزالي في المستصفى على وجه الخصوص، الآمدي كثير من المسائل يقولون بالوقف.
ليس التّوقف بمعنى إلى حين ظهور الراجح، لا، الراجح عندهم الوقف، فيجب أن تتوقف لأن هذه المسألة تكافأت فيها الأدلة، والظنون لا يرجح بعضها على بعض، وبالتي الراجح الوقف، ولكن الوقف في أصول الفقه سيؤدي على تعطيل هذا العلم المنهجي، إلى هذا الذي أسّس عليه أصول الفقه.
أدى أيضاً إلى جعل بعض المسائل قطعية وهي في الحقيقة نظرية أو تحتاج إلى إثبات إلى غير ذلك، وقد أدى ذلك إلى بعض الأحكام الجائرة على المخالف، تكفيراً أو تفسيقاً، ففي جعل أصول الفقه قطعيا وإلحاقه بأصول الدين كما صرح بعضهم خطأ.
ثم إنه لا يمتنع أن يكون الدليل ظنيا وبالتّراكم والاستقراء وضمّ الدليل إلى الدليل يصبح قطعيا.
ثم إن المتكلمين رأوا أن الأدلّة الشّرعية غالبها طني إن لم يكن في الثبوت ففي الدّلالة، فلجؤوا إلى الأدلّة العقلية طلباً للقطع، لكن هذا غير مسلم لهم ؟ والاستقراء هو الطريق الصحيح للوصول إلى القطع؟ الذي لا شكّ فيه والذي سار عليه المتقدمون ابتداءً من الإمام الشافعي هو سلوك طريق الاستقراء في الأدلّة الشّرعية، للوصول إلى هذا القطع الذي نبتغيه، وكلنا نود أن تكون هذه المسائل قطيعة وخاصّةً في علم هو الميزان هو الذي حكم بين المذاهب في القضايا الخلافية، نود ذلك، لكن إذا أوصلنا الدليل إلى التّرجيح بالظّن فنقفُ عند التّرجيح بالظّن.
أنواع الأدلة التي نحتكم إليها في علم أصول الفقه:
1-كتاب الله تعالى: وهو رأس الأدلة لأن الإيمان بالله تعالى مبنيٌ على الإيمان بكتابه وأن الكتاب موحى به إلى النّبي وهو حجة، الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقتضي تصديق الرسول والإيمان بكلامه، فلا جدال في حجية القرآن الكريم عند مسلم.
2-السنة النّبوية: حجية السنة مستفادة من كتاب الله تعالى بأدلةٍ لا تعدُ ولا تحصى، والشافعي عندما ذكرها في الرسالة ذكرها في اعتبار أجناسها لا باعتبار آحادها، وجعل أول جنس من الأدلة الإيمان برسالة الرسول .
لما نأتي إلى أصول الفقه أول القضايا الأصولية حجية السّنة، من أين نستفيد حجية السنة؟ من كتاب الله تعالى.
لَما نأتي إلى حجية الإجماع نستفيدُها من كتاب الله تعالى ومن سنة النّبي ، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ).
هذا أقوى دليل على حجية الإجماع من السنة النّبوية، قوله تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) هذا دليل على حجية الإجماع، ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)) هذا دليل على حجية الإجماع.
3- ونستدل أيضاً بآثار الصحابة رضي الله عنهم، فتاويهم، أقضيتهم، حواراتهم، مناظراتهم، توصلنا إلى قضايا كثيرة جداً، بل توصلنا إلى جلّ المسائل لمن أحسنَ استثمارها، وأحسن استخراجها في عصرنا هذا توجد دراسات عديدة جداً في هذا الاتجاه، استخراج أصول الفقه من أقوال أصحاب النّبي هذه الدراسات مختلفة في جامعات متعددة، فيها استخرجت قضايا كثيرة جداً، والدراسات التي اطلعت عليها أقل ما يقال فيها أنها تحتاج إلى مزيد بحثٍ، لأنهم في الغالب أنهم يتوقفون عند المسائل الظاهرة المنصوصة أو القريبة من المنصوصة.
والذي تحدث عنه الأصوليون قديماً هو الاستقراء، الأبياري رحمه الله تعالى يقول: من تتبّع أقضية الصحابة وفتاويهم ومناظراتها واستقرأها وصل إلى القطع الذي نطلبه، اعتماد أقول أصحاب النبي دليل مهم جداً في أصول الفقه، والمقصود اتفاقه، لا حجة في أقوال الصحابة إلى ما اختلفت فإذا وجدنا الصحابة يسيرون في اتجاه واحد وعلى منهج واحد لفهم كلام الله وتعالى وفي التعامل مع سنة النّبي وفي طرق الاستفادة، طرق الألفاظ وغيرها، فلا شكّ أننا نحن ملزمين في اتباع أصحاب النّبي .
4-ومن الأدلّة أيضاً استقراء اللغة العربية، إجماع أهل اللغة العربية حجة في علم أصول الفقه وجه ذلك أنَّ القرآن عربي، والسنة عربية فلا بدّ أن تفهم على ضوء لسان العرب، ولا شكَّ في ذلك.
هذه هي جملة الأدلّة التي كان يعتمدها الفقهاء، أو اعتمدها الشافعي رضي الله عنه ومن سار على طريقة الفقهاء.
الأدلة العقلية
لما دخل المتكلمون إلى علم أصول الفقه استصحبوا معهم الأدلّة العقليّة المعتمدة في علم الكلام، الأدلّة هذه منها ما هو مشهور، الذي درس علم الكلام قد يتنبه لها عندما يدرس كتب أصول الفقه الجدليّة أو التي فيها الأدلّة أو مناقشة الأدلّة ويعرف أسماءها، ولكن طلبة الشّريعة الذين لم يدرسوا علم الكلام قد لا يتنبهون إلى تسمية أو نوع تلك الأدلة، منها:
1. إلحاق الغائب بالشاهد.
2. إنتاج المقدمات للنتائج.
3. دليل التلازم.
4. دليل السبر والتقسيم.
5. اعتبار نفي الدليل دليلاً.
6. الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه، إلى غير ذلك من الأدلة التي ذكرها المتقدمون.
وربما اختلفوا فيها، لأنّ الدليل عند المتكلمين يشترط فيه القطع، وقد رأى الجويني أنَّ هذه الأدلة لا تصل إلى القطع، فتكلم فيها.
من الأدلة العقلية أيضاً التي اعتمدها بعض الأصوليين: القياس الأرسطي اعتمده أبو الحسين البصري وتبعه الفخر الرازي في كتابه (المحصول) وتبعه بعد ذلك الآمدي فأدخله في الأدلة العقلية، الرازي وظفه، ثمَّ بعد ذلك أصبح جزءاً من علم أصول الفقه عند ابن الحاجب.
الصواب هو الاعتماد على الأدلة الشرعية، أما الأدلة العقلية فإن ذكرت فاستئناساً، وإن ذكرت كما قال الشاطبي رحمه الله: (لا بدّ أن تكون مركبة مع أدلة شرعية) فهي لا تفيدُ بذاتها، لا يمكن أن يكون الدليل عقليا لأن العقل لا يحكم، العقل لا يحكم قبل الشرع فكيف يحكم بعد الشّرع، لا يحكم في قضايا فرعية، فكيف يحكم في قضايا أصولية، فإذا حكمناه نحكمه استئناساً وتأييداً، أو كما قال الشاطبي لا بدّ من تركيبه مع أدلة شرعية تكون هي المقدمات المؤسسة لهذا الدليل.
بعد الحديث عن أنواع هذه الأدلّة وتصنّيفها، نرجع إلى ضوابط الاستدلال وهي الأهم:
أولاً: تعظيم الدليل النقلي، أي عندنا أدلّة شرعية وأدلّة عقلية، علم أصول الفقه، هل هو علمٌ شرعي أم علمٌ عقلي؟
الصواب هو علمٌ شرعي مبنيٌ على استقراء القرآن والسنة النبوية وآثار السلف الصالح، والذي لا بدّ أن ينطلق منه الإنسان في دراسته في علم أصول الفقه، مع العلم أننا نقوم بدراسة تنتهج النهج الموضوعي، بمعنى نصور المسائل ونذكر المذاهب ثمَّ الأدلّة، أدلّة الفريق الأول أدلة الفريق الثاني، مناقشة الأدلة، أدلة الفريق الأول وأدلة الفريق الثاني ثمّ لنخلص منها.
لكن الذي ينبغي أن يكون مغروسا في قلوبنا هو تعظيم الدليل الشّرعي، لأن الذي نراه في بعض كتب أصول الفقه المقارن، أو الكتب التي تعتمد المنهج الجدلي، هناك أجوبة جاهزة، مجرد يذكر الدليل الحديث مثلاً، لا نسلم بأنه صحيح، سلمنا بأنه صحيح لكنه خبر واحد وخبر الواحد ليس بحجة في الأصول، سلمنا أنه حجة لكنه معارض بدليل عقلي، طبعاً لما نجد شيئاً يتكرر بهذا الشكل سيصبح عقيدة، وهذه الاعتراضات ادرس في علم الجدل الذي ألف فيه الأصوليون وغيرهم، ويسمى هو علم أصول فقه خاص، بمعنى إذا استدل عليك الخصم بالكتاب كيف ترد عليه، وإذا استدل بالحديث كيف ترد عليه وهكذا..
وقد جسدوا ذلك في علم أصول الفقه، لكن عندما نقرأ بعض الأشياء قد تنزل مهابة حديث النّبوي من النفوس، دائماً أول جواب لحديث لا نسلم صحته، وسنرى هذا أوصل بعض الأصوليين إلى التشكيك في أحاديث الصحيحين، لا نسلم أنه صحيح، كيف لا تسلم أنه صحيح؟ حديث موجود في الصحيحين كيف لا تسلم أنه صحيح، هل عندك برهان أو حجة، ثمَّ تقول هو معارض بدليل عقلي، هل يصلح الدليل العقلي لمعارضة حديث النّبي ؟
لدي نماذج حديث: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) حديث واضح في مسألة التّصويب والتّخطئة، لكن إذا رجعنا إلى المصوبة يقولون هذا هو الجواب: لا نسلم صحته، إذا كان صحيحاً فهو معارض بأدلة عقلية.
حديث قول النّبي : (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِو بَكْرٍ ، وَعُمَرَ) في مسألة حجية قول الصحابي، سنجد هذا هو الجواب لا نسلم بصحته، إذا سلمنا صحته فهو خبر واحد لا يحتج به في الأصول، سلمنا حجيته لكنه معارض بما هو أقوى منه، هذه المراحل أو هذه الردود تجدها في المستصفى للغزالي رحمه الله وغيره ممن انتهج طريقة الباقلاني.
للفائدة: آراء الغزالي رحمه الله تعالى في المستصفى ليست آراؤه في المنخول، آراؤه في المنخول كانت متأثرة جداً بالجويني رحمه الله تعالى وفي المستصفى كان تأثره أكثر بالباقلاني، لذلك ذكرته أنه ذهب إلى الوقف في كثير من القضايا.
ثانياً: من الضوابط تكثير الأدلة وتنويعها واعتماد الاستقراء، هذه قضايا أصولية نريد أن نثبتها نريد أن نقنع أنفسنا أولاً، ونقنع قارئ بحوثنا إن صح التعبير _وبتعبير أصحاب المذاهب_ نريد أن نقنع خُصومَنا، فلا نكتفي بدليل أو دليلين، بل لا بدّ من تنويع هذه الأدلة وتكثيرها واعتماد الاستقراء عسى أن نصل إلى القطع الذي نرجوه أو نقترب منه على الأقل.
ننبه هنا إلى شيء مهم جداً، إذا قلنا المسائل الأصولية نطلب فيها القطع، وكثير منها هي مسائل قطعية، هل هذا يعني أنَّ الأصوليين عندما ذكروا بعض الأدلة أنهم لم يستعملوا الاستقراء؟
كثير من الناس يظن أن أدلة المسائل هي تلك المذكورة في كتبٍ وضعت للمبتدئين وهذا خطأ جسيم، تصور أنَّ الإمام الزركشي رحمه الله يقول: ألف الشافعي كتاباً_ لم يصل إلينا_ جمع فيه ألف دليل على حجية خبر الواحد، فهل عندما نضع كتاب للمبتدئين نذكر له ألف دليل؟
فالمسائل الأصولية بُنيت على استقراءات، ولكن الذين ألفوا ينتخبون مما استقرؤوا، فإذا وجدنا العالم ذكر ثلاثة أحاديث، آيتين وحديثين، هذا لا يعني أن الأدلة التي تدلّ على تلك القضية الأصولية هي فقط تلك المذكورة.
ممن نص على هذا الأمر القرافي رحمه الله تعالى قال: ذكر مثالاً حجية الإجماع لأن الذين ذكروا الأدلّة اكتفوا ببعض الأدلة ولم يذكروا جلّها أو كلّها ولا يمكن أن يكون ذلك، لكن نحن في بحوثنا وفي دراساتنا الجامعية نحن لا نؤلف للطلبة بل نؤلف لإثبات قواعدَ الاستدلال وللربط بين الأصول والفروع، فلا بدّ أن نُعمل الاستقراء وأن نبرز هذا الاستقراء، لا نضع في الدراسات الجامعية وأقول هذا توصلت إليه بالاستقراء وآتي أمام لجنة المناقشة أقول الاستقراء احتفظت به لنفسي، لا بدّ أن أبرزه، وقد تكون دراستنا في أربعمئة صفحة من أجل إثبات قاعدة واحدة، أو تصحيحها أو ردّها فلا بدّ من اعتماد الاستقراء.
هذا الاستقراء قد يكون في النصوص مثلاً قضية تعليل الأحكام فيها اختلاف بين الأصوليين، تعليل الأحكام إذا استقرأنا الكتاب والسنة نصل إلى نتيجة قطعية، ابن القيم رحمه الله تعالى سبق إلى هذا وكذلك الشاطبي رحمه الله تعالى.
واستقراء آثار الصحابة، وقد نصّ كثير من الأصوليين على أن حجية القياس قطيعة باستقراء آراء أصحاب النّبي .
واستقراء لغة العرب، نستقرأ إذا كنا متمكنين من ذلك، أو نعتمد على استقراءات المتخصصين، سنذهب إلى كتب الأصول وسنجد اختلافاً في إثبات صيغ العموم، أو اختلافاً في بعض الصيغ، المتكلمون الأشاعرة ينفون الصيغ، لكن نحتج عليهم باستقراء أهل اللغة، ويختلف الأصوليون في بعض الصيغ، هل هي مفيدة للعموم أم ليست مفيدة؟ المرجع والحكم دائما في هذه الأمور هو اللغة العربية.
تكثير الأدلة وتنويعها واتباع منهج الاستقراء، التنويع حتى في القضايا الجزئية، لا يليق أن نثبت قاعدة بحديث عندما يأتي الخصم، يقول هذا الحديث ضعيف تسقط المسألة، لا، ننوع على الأقل إذا كان بين هذه الأحاديث حديث واحد مختلف فيه تبقى الأدلة الأخرى قائمة، يسقط الدليل ولا تسقط المسألة الأصولية.
الضابط الثالث: التثبت من الرواية، ومعنى التثبت هنا في مراحل:
الأحاديث الموجودة في كتب الأصول، عند ننقلها في بحوثنا لا بدّ أن نتثبت منها بالرجوع إلى المصادر الأصلية، إذ بعض الأحاديث لا وجود لها في كتب الحديث، وبعض الأحاديث موجودة ولكنها منقولة بغير ألفاظها، وبعض الأحاديث موجودة ومنقولة بألفاظها ولكنها لا تصح.
أولاً: التثبت من وجود الحديث.
ثانياً: التثبت من ألفاظه وعباراته.
ثالثاً: من ثبوته.
رابعاً: التثبت أيضاً من الأحكام التي أطلقها كثير من الأصوليين في مقام المناقشة والجدل، لا نسلم للأصوليين ما هو مذكورٌ في كتبهم.
قبل أن نمثل لهذا الضابط نقول أن الأصوليين ليسوا برتبة واحدة في العلم بحديث النبي وفي الرجوع إلى مصادره، وقليلٌ منهم حسب علمي المتواضع وقراءتي من كان يرجع إلى المصادر وينقل الحديث منها، وقيل من كان يتكلم في الصّحة والضعف، فالشافعي رحمه الله فعل ذلك، والجصاص كان يروي الحديث بإسناده وهذا نوع من التثبت، وابن حزم مسند وناقد أيضاً، وابن السمعاني كان يرجع إلى المحدثين ويتكلم في الصحة وفي الضعف ويردّ على من ردّ الحديث وإلى غير ذلك.
من الأصوليين المتثبتين ابن السبكي رحمه الله تعالى، وابن مفلح، والطوفي، والزركشي، وأبو شامة، هؤلاء كان لهم تميز في هذا الجانب، فنعتمد عليهم أكثر من غيرهم.
والزركشي رحمه الله تعالى له كتاب خاص ألفه في تخريج الأحاديث التي اعتمد عليها الأصوليين، اسمه الكتاب (المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر) فهو أصوليٌ ومحدث.
أولا وجود الأحاديث
يوجد أحاديث كثيرة للأسف ليست موجودة، مثلا يستدل الأصوليون بحديث: (حكمي على الواحد حكمٌ على الجماعة) هذا ليس بحديث، وحديث (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) مشهور عند الأصوليين، الحديث الثاني أحصيت المسائل التي استدل فيها به فوجدت ثلاثة عشر مسألة أصولية وهو ليس بحديث، كيف نبني أصول الفقه على أحاديث متوهمة؟
لا نحسن الظن ونُعمل ما هو معروف في المسائل المنهجية أن الحديث النّبوي لا بد أن ينقل من مصادره التي روته بالإسناد، وإذا التزمنا هذا سلمنا من قضية الحديث الموجود أو غير الموجود.
ثانيا : ألفاظ الحديث
كذلك ألفاظ الحديث، الحديث قد يكون موجوداً لكن يتصرف فيه زيادة ونقصا وتغييرا_وهذا الأمر ليس خاصاً بكتب أصول الفقه، هذا الأمر موجود في كتب المتأخرين، وفي كتب التفسير، وفي كتب الفقه، عندما ضعف علم الحديث.
من أشهر الأحاديث التي ذكرت في كتب أصول الفقه، حديث بئر بُضاعة، وقد ذكره الأصوليون بهذا اللفظ (خلق الله الماءُ طهوراً) يقول ابن حجر هذه العبارة غير موجودة في كتب السنة.
ومنهم من ركب بين حديث أبي سعيد الخدري وبين حديث أبي أمامة الآخر الضعيف: (ألا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه) هما حديثان ليس حديثاً واحداً، فعندما ننقل حديث لا بدّ أن نرجع إلى المصادر لتمييز الألفاظ الصحيحة.
ثالثا : التثبت من الصحة
قضية الحكم بالصحة والضعف أيضاً هذا أمر لا بد منه ويرجع فيه إلى المحدثين، ولكن أنبه إلى شيء آخر، عندما يقول أصولي حديث متفق على صحته لا يغتر به، لأنّا وجدنا المتكلمين يقولون هذا حديث متفقٌ على صحته، وقد اتفق المحدثون على ضعفه. حديث معاذ رضي الله عنه في الاجتهاد، كل المحدثين تكلموا في الإسناد، ولكن الجويني يقول متفق على صحته، ويوجد أحاديث متفق عليها رواها البخاري ومسلم، مثل حديث: َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا خَيَّرَنِىَ اللَّهُ فَقَالَ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ).
قال الغزالي في المنخول: هذا كذب، ضعفه الباقلاني والجويني، وهذا غير مقبول منهم ن فالحديث صحيح، ومفهوم المخالفة حجة، لكن لا يستدعي الأمر تضعيف الحديث، النبي فهم من الآية التّخيير ثم جاء النهيُ بعد ذلك.
من الأحاديث التي ضعفها الرازي _ والرازي ليس محدثاً_ ( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِىَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ). حديث متفق عليه. وضعف الشيرازي حديث: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ).
فإياكم ثمّ إياكم أن تعتمدوا على الأصوليين، وهذه قاعدة عامة نعتمد في الحديث على المحدثين وفي الفقه على الفقهاء، وفي اللغة على اللغويين.
الضابط الرابع: اجتناب كثرة الجدل والاعتراضات
من الأشياء التي طغت على كتب المتكلمين الجدل، فتجازوا قدر الحاجة، نحن مطلوب منا مناقشة الأدلة، وذكر الأدلة، وبكل موضوعية ولكن ذلك لا بدّ أن يضبط لأن الخروج عن المقصود بالمناقشة قد يأتي بنتائج عكسية، نقول كلاماً عاماً، هناك فرق بين كتاب يوضع بحثا عن الحقيقة، بين كتاب يوضع لتقريب العلم، ففي البحث عن الحقيقة قد يكون مقبولاً استقصاء الأدلة والرد عليها.
ومن جهة أخرى نفرق بين المسائل القطعية والمسائل الخلافية، المسائل المجمع عليها بين أهل السنة والجماعة لا ينبغي أن نثير فيها الخلاف ونعيد البحث من جديد، فمثل هذه المسائل انتهى فيها البحث الأصولي والواجب الآن التفريع عليها، ولا فائدة من إعادة النقاش فيما هو قطعي والاستمرار في هذا سيجعلنا كالعجلة التي تدور في مكان واحد، أو كالذي يدور في حلقةٍ مفرغة، لذلك وضعت بعض الضوابط في هذا الاتجاه:
1. لا جدال في القطعيات، حجية السنة، هل أبحث الآن عن حجية السنة؟ لا، يمكن أن أنجز بحثاً في دفع الشبهات ويكون ذلك في مبحثٍ خاص، الشافعي رحمه الله أثبت حجية السنة وأثبت حجية خبر الواحد بطريقةٍ واضحة، ولكن لما كانت هناك شبهات يثيرها المعتزلة في وقتها أفرد لهم كتاباً سماه (جِماعُ العلم) وردّ على شبهاتهم شبهةً شبهة، ولم يدمج كتاب جِماع العلم مع كتاب الرسالة، فالكتب التي نضعها في الردّ على الشبهات يقرأها المتخصصون، أما الكتب التي نضعها للطلبة لا نشغلهم بتطويل المسائل القطعية، المسائل القطعية نقدمها بشكلٍ يجعلها قطعية في نفوسهم.
2. لا جدل في الفرضيات، هذا أمر نبه إليه الشاطبي رحمه الله ، المسائل التي ذكر فيها خلاف وذكرت فيها أدلة ولكن لا ينبني عليها عمل، كمسألة الواجب المخير، هل يقول لنا المولى عزّ وجلّ: أوجبت عليكم هذا أو هذا؟ هل هذا الأمر موجود أم غير موجود؟ نكلف أنفسنا ونبحث، مثلاً: الكفارة هل الكفارة فيها تخيير، الخلاف مع المعتزلة التي بعد جهدٍ جهيد نجد فيها تطبيقا واحدا.
3. الاقتصار على الشبهات والاعتراضات الواقعة فعلاً، وقد وجدنا في مسألة حجية الإجماع شيئا غريبا، المخالف يكاد أن يكون مجهولاً (النَظام) ثمّ نأتي إلى استدلال الشافعي بقوله تعالى: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)) فيذكر الأصوليون سبعة عشر اعتراضاً عليه. ولما وصل الجويني رحمه الله وكان عالماً ناقداً ممحصاً استغرب هذا الشيء، أي هو استبعد أن يكون النَظام أتى بكل هذه الاعتراضات، قال: ولكن أظن أن أصحابنا أتوا بكل هذه الاعتراضات من أجل أن تنتظم لهم عليها أجوبة، أي مجرد تدريب وتمرين.
لكن النتيجة أن تاثر بتلك الشبهات بعض المتأخرين كالشوكاني وقبله الصنعاني فشككوا في حجية الإجماع، ويوجد كثير من المعاصرين شككوا في حجية الإجماع، فلماذا نأتي بأشياء غير واقعة.
4. لا بدّ أن تكون مناقشتنا فيها الأمانة العلمية، ما ردّ به الفريق الأول على الثاني، والفريق الأول على الثاني، والثاني على الأول، والأمر الآخر الموضوعية، بعض كتب الخلاف التي ألفها بعض الفقهاء قديماً وبعض الأصوليين لم نجد فيها التزاما بهذه القاعدة، حيث أننا نجده في مسألة يقول لا نسلم حجية الحديث لأنه مرسل، والمرسل عندنا ليس بحجة، بعد صفحات نجد حجتنا الحديث المرسل، والمرسل عندنا حجة، هذا من آثار التعصب، أن نجعل الدليل تابعاً لمذهبنا، مرة يكون مقبولا ومرة مردودا، الآن لا بد أن نتصف في بحوثنا في مناقشة الأدلة بالموضوعية، بالإضافة إلى الأمانة، في بعض الأحيان ننقل أشياء على لسان غيرنا، هم قالوا وهذه أمانة، تنقل الدليل كما قاله الشافعية، وكما قاله الحنفية، وكما قاله المتكلمون، ولكن عندما تناقش أنت لا بدّ أن يكون عندك خط واضح ورأيٌ لا تناقض فيه.
5. الإكثار من الشبهات والاعتراضات، لا بدّ أن تكون على قدم المساواة بمعنى كل دليل تذكره لا بدّ له من جواب، لا تذكر دليلاً وتناقشه، ودليلاً ولا تناقشه، ولا تذكر شبهة ولا تردها، من الأشياء التي وجدنا وهذه تعتبر من المعضلات، أن تذكر الشبهات مفصلة والردّ عليها يكون مجملاً.
مثال: عدالة الصحابة رضي الله عنهم على الرغم أنها متعلقة بأصول الدين لكنها مطروقة في كتب أصول الفقه، طرقها الرّازي في (المحصول) بطريقة معيبة جداً، استقصى شبهات الشيعة وغيرها في الطعن بأصحاب الرسول ثمّ لما أتى للردّ اكتفى وقال: وعدالتهم معلومةٌ في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه في ثلاث أسطر المحقق طه جابر علواني في ذلك الموضع قال هذا منهج غير سليم.
ما دام ذكرت الشبهات بالتفصيل فلا بدّ أن تردّ عليها بالتفصيل، ليس كل ما هو واضحٌ في ذهنك هو واضحٌ عند القارئ قد يقول الكاتب أشياء معلومة موجودة في سطرين يعتبرها من المقررات ومن المسلمات وهو يذكر الشبهات وجوابها واضح، لا، لا تظن أن الناس جميعاً يرون الشمس كما تراها أنت، لأنك أن موجود في زاوية ترى فيها الشمس، وغيرك موجود في زاوية أخرى لا يرى فيها الشمس، الشمس هل تحتاج إلى دليل؟ لا، لكن لا بدّ أن تأخذ لها صورة وتمكن غيرك ممن يقرأ بحثك حتى يرى ما تراه ويفهم ما فهمت.
نختم هذه المحاضرة بأمرين اثنين:
1.انتقد في باب الاستدلال الحنفية والفقهاء عموماً، لأنهم يبنون أصول الفقه على الفقه، على الفروع، واعتبروه عيباً ونحن نعتبره عيباً لأنه من ألوان التقليد والتّعصب المذهبي، والذين انتقدوه هم المتكلمين، ولكن نطرح سؤالاً وهل سلِم المتكلمون من بناء أصول الفقه على مسائل علم الكلام؟
هذا أيضاً انتقاد يوجهُ إليهم، ما الذي جعل المتكلمين الأشاعرة مثلاً يخالفون في بعض القضايا اللغوية؟ صيغ الأمر، صيغ النهي، يقولون الأمر ليس له صيغة أصلاً، وأن افعل ليس أمراً، اللغوي المحايد، واللغوي الذي لا يعرف علم الكلام سيستغرب هذا الأمر، لكن الأشاعرة بنوا على ذلك بأن الصّيغة من عوارض الألفاظ، والكلام كلامٌ نفسي، إذاً بنوا أصول الفقه على الكلام، ولما تنفى الصيغة، ثمّ نأتي إلى صيغة افعل هل تدلّ على الوجوب أم على الندب؟ النتيجة الوقف.
مثلاً صيغ العموم بناها المتكلمون أو الأشاعرة على هذه القضية وقضية أخرى، صرح بها أبو بكر ابن العربي في كتابه (النكت المحصول) يقول: والذي مال بأصحابنا إلى نفي العموم إلحاح الوعيديّة بكل عموم في كتب الله تعالى وسنة النّبي .
يعني قضية تخليد صاحب الكبيرة التي ألح عليها الوعيدية والمعتزلة كانوا يحتجون بالعمومات ووضعوا قاعدة عندهم أيضاً بأن العموم قطعي لا يقبل التّخصيص، غكان رد فعل الأشاعرة إنكار صيغ العموم، ثمّ بعد ذلك لا يحتج بالعموم إلا أن يأتي دليل يؤكده.
لكن ابن العربي قال: نعم نثبت العموم نرد عليهم بأنّ العام حجة ظنية قابلة للتّخصيص، والأدلة التي استدل بها المعتزلة كلها خاصة بالكفار، أو جاء ما يخصصها، ومن أعظم ما يخصصها حديث الشفاعة.
وهناك مسائل كثيرة جداً اختلفوا فيها ، اختلفوا في تعريف العلّة، اختلفوا في تعريف النّسخ، لماذا اختلفوا في تعريف النسخ، بناءً على العقيدة، لماذا اختلفوا في تعريف العلّة؟ هل هي مؤثرة أم غير مؤثرة يثبت الحكم بها أو لا يثبت، هل هي باعث أم هي مجرد علامة؟
لماذا هذا الخلاف في علم أصول الفقه، الخلاف مبنيٌ على علم الكلام، إذاً من أعظم الأدلّة التي لم ينص عليها المتكلمون هي بناء أصول الفقه على أصول الدين، كما أن الفقهاء المقلدون بنوا أصول الفقه على فروع الفقه والواجب في مثل هذه القضايا كما ذكرنا بناء أصول الفقه على الأدلّة المعتبرة، لا هذا ولا ذاك.
آخر نقطة، هل يشرع الاجتهاد؟
لا يوجد أحد امتلك في يوم من الأيام حقاً أن يقول للناس توقفوا عن الاجتهاد، ولكن الاجتهاد لمن مَلك أهليته، فإذا قلّ أهله قلّ، وإذا وجد أهله انتشر، ولا يمكن لأحد أن يمنع أحد أن يطلب العلم وأن يترقى في مدارجه وأن يجتهد، هل يمكن لنا أن نبحث في علم أصول الفقه ونرجح بين الأقوال؟
يمكن ذلك لمن تأهل له وملك آلته وسار على منهجية قوية في دراسته كما قلت: الاجتهاد مشروع، والتّقليد ليس ممنوعاً ولكن لا بدّ أن ننضبط باتفاق السلف وبما أجمع عليه الفقهاء وبما كان عليه أئمتنا مالك والشافعي وأحمد وما اتفقوا عليه حجة لازمة، وما اختلفوا فيه باب الاجتهاد فيه مفتوح.
(أحد المتابعين سألني في حصة مضت عن اجماعات الأصوليين: فنقول نعم نحن نتقيد بالإجماع ولكن كثير من إجماعات الأصوليين أهمل فيها آراء السلف، بل أهمل فيها آراء مالك والشافعي، فلا نغتر بما ينقلون من اجماعات، بل إنهم ينقلون اجماعات ضدّ إجماع، مسألة من أغرب ما وجدت: الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه (إجاب السائل) يقول: مسألة تقليد الميت، نقل الإجماع على جواز تقليد الميت، ونقل الإجماع على منع تقليده، طبعاً الفقهاء كالمجمعين على الجواز، لا يوجد من قال لا نقلد مالكاً بعد موته؟ وهل يموت العلم؟ الأقوال لا تموت بموت قائلها، فالفقهاء كانوا مجمعين، والمتكلمون جمهورهم ومنهم من حكى الإجماع على أنه لا يجوز تقليد الميت، لا أدري ما بناء ذلك، لعله يكون بناء على مسألة عدم بقاء الأعراض، والعرض لا يبقى زمانين، والعلم عرض فهو يزول بزوال صحابه، ربما يكون هذا، الشاهد عندنا إجماع ضدّ إجماع، فلا نغتر، ولا بدّ ان نتثبت بما ينقل في كتب الأصول.
منهج البحث في أصول الفقه ...الحلقة الثالثة ...منهج تحرير المذاهب الأصوليّة غير منشورة
منهج البحث في أصول الفقه ...الحلقة الثالثة ...منهج تحرير المذاهب الأصوليّة
محاضرة ألقيت عبر الزوم في أكاديمية مفكرون بتاريخ 21 أكتوبر 2022
هناك مسائل أصولية متفق عليها، ولا جدال فيها فهذه تقريرها من أسهل ما يكون ننقل فيها النّصوص الشّرعية ونصوص العلماء، ولكن هناك مسائل يُنقل فيها الخلاف، قد يكونُ الخلاف قوياً قد يكون ضعيفاً، قد يكون متوهماً، المهم أن كثير من المسائل الأصولية التي تحتاج إلى بحثٍ في عصرنا وإلى دراسةٍ هي هذه المسائل التي وقع فيها الاختلاف، وإن من ضروريات البحث الأصولي في زماننا العناية بالخلاف بين الأصوليين.
أوّل من ألف في أصول الفقه الإمام الشّافعي وقد اعتنى بذكر الخلاف، رغم أنه أول من ألف إلا أنه ناقش قضايا خلافية في (الرّسالة)، وناقش في كتابه (جِماع العلم) جماعةً من المتكلمين في بعض الآراء التي تبنوها في زمانه تجاه الإجماع وخبر الواحد والقياس، ومن طريقة الإمام الشّافعي في الرّسالة في المسائل أن يقول: فإن قيل، وإن قلتَ، وبعض الأحيان يحكي حوارات أو أجزاء من حوارات جرت بينه وبين مخالفه أو بينه وبين محاوره، وقد علمنا شيئاً مهم جداً في آخر الرسالة عندما قال عبارة جميلةً جداً ابتدأها بقوله:" ولا يمتنع أحدنا من أن يسمع رأي مخالفه"، لأن بسماعه لهذا المخالف قد يضيف لعلمه شيئاً، فقد يزداد يقيناً لما هو عليه، لأنّ الاطلاع على آراء المخالفين إذا اطلعت عليها ورأيت ضعفها قد تتأكد من صحة مذهبك، وقد تجد في مذهب المخالف جانباً من الصواب فتهذب مذهبك، وقد يتضح لك الحقّ، والواجب على كل منصفٍ وعلى كل باحثٍ موضوعي أن يرجع إلى الحقّ حيث وجده، والبحث الموضوعي في عصرنا هذا مبنيٌ على المقارنة والنّظر في أدلّة مختلف المذاهب.
إذن ذكر المذاهب وتحريرها والنّظر في أدلّة المخالفين أو المختلفين أمرٌ ضروريٌ في البحث الأصولي.
لكن السّؤال الذي نطرح ما هي ضوابط ذكر المذاهب؟
هناك الضوابط يمكن أن نستشفها من صنيع الأصوليين ابتداءً من الشّافعي، والذين ساروا من بعده على منواله، وكذلك المتكلمون الذين بنوا منهجهم على المقارنة وعلى الخلاف، والمنتسبون إلى المذاهب في كتبهم المختصرة يقتصرون على رأي كالشّيرازي في (اللمع) لكنه ألف (التّبصرة) في الخلاف، والباجي في الإشارة اقتصر على المذهب المالكي، ولكن في (إحكام الفصول) اعتمد طريقة المقارنة، والجصاص الحنفي اعتمد طريقة المقارنة، ومن خلال قراءة كتبهم نحاول أن نستخرج ضوابط ذكر هذه المذاهب وهذه الآراء.
1. أول ضابط وهو ضرورة استيعاب للأقوال المعتبرة، لأنك بإهمالك لقولٍ من الأقوال تكون قد ضيعت الحقّ، وهذا نقصٌ وهذا عيبٌ موجود وخاصةً عند المتكلمين المتأخرين، حيث أهملوا بعض الآراء التي تبناها بعض الفقهاء المتقدمين، فالاستيعاب ضروري جداً، ولهذا الاستيعاب تقيدات سنذكرها فيما يأتي من ضوابط، فاستيعاب الأقوال إلى درجة ذكر مذاهب اليهود أو مذاهب الفرق أو الأديان الأخرى، هذا خروج عن مقصود المذهب الأصولي، لكن المقصود استيعاب الأقوال المعتبرة، وخاصة أقوال الفقهاء وأئمة المذاهب والأصوليين المحققين.
وإذا كنا نريد أن نجدد الأصول ونحيي الأصول فلا بد أن نؤكد على استيعاب آراء الأئمة المجتهدين ولو بالتّخريج، بخلاف ما درج عليه بعض المتأخرين لا تجد في كتبهم ذكرا لمذهب مالك ولا مذهب الشافعي، وتجد مذهب الشيعة والخوارج، فهذا من إبعاد النجعة وقلب المنهج.
2. هل نسمي الأصوليين أصحاب هذه المذاهب أو لا نسمي؟ الأصوليون في طرائقهم مختلفون، الشافعي في عصره سلك مسلكاً يكاد ينفرد به، وهو عدم التسمية للمخالف، سواء أكان من الفقهاء أو من المتكلمين، أي أصحاب الآراء المعتبرة أو أصحاب الآراء الشّاذة مرفوضة، وهذا من أدب الشافعي مع العلماء ومن حكمة الشّافعي مع أصحاب الآراء الشّاذة وهو عدم رفع ذكرهم.
الأصوليون بعده منهم من كان متقصداً في ذكر الآراء في ذكر أسماء الرجال مثل الباقلاني، والرازي، ومنهم من كان يكثر من ذكر أصحاب الاختيارات كالآمدي، وأكثر منه الزركشي، والذي ينبغي أن نسلكه هو التوسط، فنحرص على آراء الأئمة الأربعة، إن كانت موجودة منصوصة أو مخرجةً. وأما أتباعهم فإن كان ولا بدّ من ذكرهم فنقتصر على أقدمهم أو محققيهم، أما أمثال أصحاب مختصرات الذي أعادوا ذكر ما هو موجود عند غيرهم فلا فائدة ذكر آرائهم، وكذلك الشراح المتابعين لصاحب المتن . ونجعل المذكورين موزعين على المذاهب، موزعة على المدارس الكلامية، دون توسع كبير ولا فائدة من ذكر رأي واحد فنعدد لأنَّ في بعض الدّراسات نجد هذا يذكر هذا اختيار فلان وفلان وفلان ما فائدة تعداد أربعين علماً كلهم على رأيٍ واحد؟
في بعض الأحيان يكفي أن تقول مذهب الجماهير، والهامش يعتبر عن هؤلاء الجماهير من هم؟ وأين وردت آرائهم، ذكر المصادر في الهامش يبين من هؤلاء أما تعداد الأسماء إذا تجاوزت العشرة أو الخمسة عشر فيكون نوعاً من الافراط في حكاية المذاهب من غير فائدة، لأنّ الأوّل أدلّته هي تقريباً نفس أدلّة الثاني ونفس أدلّة الثالث فعندما نأتي إلى المناقشة سنناقشُ الأدلّة ذاتها من غير زيادة ولا نقصان، إذاً نركز على الأئمة المجتهدين ثمّ الأقدم فالأقدم ونوزع الأشخاص حسب انتماءاتهم.
3. تجنب توليد المذاهب: الموجود في كتب الأصول في بعض الأحيان يستغرب منه الباحث، عندما تذهب إلى أقدم كتاب في الخلاف في الأصول (التّبصرة) للشّيرازي تجدُ رأيين أو ثلاثة، عندما تذهب إلى (إرشاد الفحول) للشوكاني أو (البحر المحيط) تجد خمس عشرة مذهباً ما الذي حدث؟ لا شكّ أن هناك مذاهب جديدة محدثة لم تكن موجودة، بل هناك ما يسمى بتوليد المذاهب الموجود عند الرازي كثيرا حيث يقول: يُحتمل أن يكون هذا رأياً، يذكره على أنه احتمال فيأتي الذي بعده فيجعله رأياً، ولا ينسبه إلى أحد، وربما ينسبه إلى قوم، ثم يأتي الزركشي فيثبته ويجعله قولاً، بل الزركشي نفسه في بعض الأحيان يأتي إلى نصٍ واحد لابن عبد البر، أو نص واحد للخطيب ويخرج منه ثلاث احتمالات فيجعلها ثلاثة مذاهب، والمذاهب المولدة، والتي ربما لا قائل بها، تشوش البحث الأصولي وقد جعلت بعض المتأخرين يشكك في جدوى علم أصول الفقه. كالشيخ الطاهر بن عاشور والذي رأى أن أصول الفقه الذي كان يُبتغى به تحصيل القطع أصبح بعيداً عن القطع، وبعيدا أن يكون هو الميزان؟
المقصود أننا عندما ندرس مسألة في الأصول نطرحها على أساس المذاهب الفقهية، ولا نحدث فيها أقوالا جديدة ، هذا مذهب المحققين والسلف في قضية قول إحداث قولٍ جديد في الفقه، فكذلك لا يجوز إحداث قولٍ جديد في أصول الفقه، لكن بعض الآراء الجديدة لا ينبغي أهمالها لمكانة قائلها ولكثرة من اتبعه كالباقلاني أو الجويني ، ومع ذلك فالميزان الذي توزن به الأقوال لا بد أن يكون واحدا . وإذا قيل لا تقبل الآراء الجديدة التي قيلت قديما فكيف بما يحدث في عصرنا.
4. كذلك نجتنب الخلاف اللفظي، وهذا قد نتوصل إليه في بداية البحث وقد نتوصل إليه أثناء البحث أو في نهاية البحث، فعند عرضنا لهذه المسألة لا نتعب معنا غيرنا، بمعنى نحن تعبنا ومررنا بمراحل وكنا نظن أن المسألة فيها خلاف ودرسناها وبحثناها وفي النهاية وصلنا إلى نتيجة بأنَّ الخلاف لفظي. فإذا كنا نحن قد فُتنا وشُغلنا وضيعنا أعماراً فلا نضيع هذه الأعمار على غيرنا ونقدم النتيجة للباحثين ، كذلك إذا أردنا أن نقدم بحثاً لا نبحث في الخلاف اللفظي، الخلاف اللفظي نتجاوزه. وهناك دراسات معاصرة جادة اجتهد أصحابها في تحرير مسائل الخلاف اللفظي نستفيد منها.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه القضية ووصف الاشتغال بهذه المسائل بأنه تضيّعٌ للزمان وتكثر والتّشبع بما لم يعطى، إذن علينا أن نختصر الزمان وأن نسعى لأن يتقدم البحث العلمي إلى ما هو منتج، إلى ما هو مثمر، إلى ما يحيي الاجتهاد، إلى ما يرجع علم أصول الفقه إلى سابق عهده، ولا نبقى في هذه الخلافات اللفظية والأمور التي لا تنتج شيئاً.
5-بالنسبة للمذاهب المحدثة التي لا عبرة بها تتجاوز، وخاصة التي لا تعرف لها أدلة وجيهة ولا نحاول أن نجد لها أدلّة، وهذه الظاهرة كانت موجودة خاصة عند المتكلمين، هناك عبارة للجويني رحمه الله في مناقشة أدلّة حجية الإجماع، استغرب فيها من كثرة هذه المناقشات وقال الظاهر أنّها لم ترد على لسان أحد، وإنما وضعها أصحابنا لينتظم عليها أجوبه، يعني هي مجرد رياضة ذهنية، نضع شبهات لنرد عليها، نأتي بمذاهب لا نعرف حججها، ثمّ نلتمس لها حججاً لنرد عليها، هذا نوع من التّرف الفكري، نحن نريد أن نصل إلى الحقائق، علم أصول الفقه ندرسه لننتقل إلى الفقه بأبوابه القديمة وأبوابه الجديدة، كالاقتصاد إسلامي، والسياسة الشرعية والقانون الدستوري، يعني هناك بعض العلوم التي نحن متخلفون فيها، علم الاجتماع الإسلامي، علم نفس الإسلامي، فعلم أصول الفقه هو منهج معرفة نريد أن نحقق مسائله، ننتقل إلى التّوظيف مباشرةً، لا نبقى غارقين في هذه المذاهب ننصّب الأدلّةَ الافتراضية لنناقش مذاهب لا ندري هل هي موجودة، أقوال تنسب للكعبي وتنسب إلى النظام، وإلى ابن الجبائي، ونحن لا ندري هل قالوها فعلاً؟
والخلاف الحقيقي المفيد هو ما كان بين مالك والشافعي، وهو الجدير أن يدرس وأن يحقق، أما الخلافات التي تحكى عن قومٌ، نحو مسألة تخصيص القرآن بالقرآن وهو أمر متفق عليه، لكن نقل الحاجب الخلاف عن قوم، من هم هؤلاء القوم المخالفون في تخصيص القرآن بالقرآن؟ فمثل هذا القول غير موجود نعتزله ونتركه، وكذلك أقوال المعتزلة في عدد التّواتر اثنا عشر، أربعين، سبعين ....وهذه الأقوال لا قيمة لها ولا ينظر فيها.
6-البحث في من يعتد بقوله وفي من لا يعتد بقوله في البحث الأصولي جديرٌ بالنّظر، لأنّ هناك من توسع حتى ذكر مذاهب فرق اليهود والسمنية والبراهمة، في حين نجد من يقصي الظّاهرية ويقول لا عبرة بأقوالهم .
والذين تعتبر أقوالهم في الأصول هم الذين تعتبر أقوالهم في الفقه، وهم الذين يوافقون أهل السنة والجماعة في مصادر التلقي، والأساس في ذلك وهو الموقف من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو ضابط التفريق بين من يعتد به ومن لا يعتد ، كما ضابط اعتبار بعض بعض المرجئة والقدرية والشيعة من أهل السنة ، فيقال تشيع سنى ومرجئة الفقهاء وغير ذلك من العبارات الدالة على قبول أقوالهم ورواياتهم .
فإن قلت كيف يكون الموقف من أصحاب النّبي هو الضابط؟ قيل إن هذا الموقف سيؤثر مباشرة على مصادر التّلقي، فالذين فسقوا أو كفروا أصحاب النّبي هل سيعتدون بالسّنة، والسّنة إنما نقلها أصحاب النّبي ؟ فمن قدح في أصحاب النّبي قد قدح في السّنة جملة، والإجماع الذي لا شكُّ في حجيته، هو إجماع السّلف، وإجماع الصّحابة رضي الله عنهم على وجه الخصوص، والذين تكلموا فيهم تكفيرا أو تفسيقا فهل سيعتدون بإجماعهم، إذاً أهل السّنة الذين يعتبر باقوالهم هم أهل السنة والإجماع المعدلون لأصحاب النّبي .
الظّاهرية يقولون بعدالة الصّحابة ويقولون بالإجماع فلا بدّ من اعتبار قولهم، وكل من قال بحجية سنة النّبي وقال بحجية الإجماع هو من أهل السّنة والجماعة، وأما الشّيعة والخوارج فلا تذكر أقوالهم إلا للعبرة ولا يمكن أن يكون قولهم راجحاً لا في مسألةٍ فقهية ولا في مسألةٍ أصوليّة.
6- التّوثق من المصدر، الأصولي الذين له مؤلف كتاب لا ينبغي أن ننقل عنه بالواسطة، كتاب الباقلاني (تقريب الإرشاد) طبعت منه أجزاء نرجع إليها، المفقود نرجع إلى تلخيص الإمام الجويني، بالنسبة للشّافعي عندنا الرّسالة، ونبحث في الأم لأنه نصّ على كثير من القواعد الأصولية فيه، والمؤلفات التي ضاعت، عند المالكية ننقل آراء أصحابها من عند الباجي الذي ينقل عن كتبهم وهو أقرب إليهم، وكتب الشّافعية الضائعة نجد نقولا منها عند الزركشي وهو في بعض الأحيان ينقل النّصوص بحروفها، وهنا يعتبر كأنّه نقل لك الكتاب.
إذاً لابد من التّوثق من المصادر فإن عدمت فالأوثق، أو الأقرب زماناً، أو الأعرف بالمذهب، لا ننقل مذهب الشافعي من كتب الحنفية، وهذا أمر أظن أنه معروف ومفروغ منه فلا نطيل فيه.
من الأشياء التي تدفعنا إلى التّوثق، في بعض الأحيان أن تنقل كلمات عن بعض الأئمة كلمات لا تشبه كلامهم وعندي نقلها الباقلاني أو الجويني عن الشافعي، لا تشبه كلامه، ومصطلحات وجدت بعد عصره، كلمة تواتر وجدت في كلامه على غير مرادنا الآن، التّواتر عنده المشهور والتّتابع، مصطلح قراءة شاذة، وغيره، فلا يمكن أن نقبل بهذا الكلام ما لم نجده في كتب الشّافعي، أو معناه في كتب الإمام الشافعي.
الذي نأسف له ونحن نؤكد على قضية التّوثق من المصدر والرجوع إلى المصادر أن أوّل من ألف في أصول الفقه وهو الإمام الشافعي رحمه الله نجد من ينتسب إلى مذهبه مثل الغزالي وابن برهان لا يرجعون إلى الرسالة، لا يوثقون منها، ويستغربون آراء موجودةً فيها، ويقولون يعزى إليه فيما صرح به فيها، ردّه على من أثبت المعرب في القرآن الكريم، شهير ثم نجد ابن برهان يقول: يُعزى إلى الشافعي إنكار المعرب، فنحن الآن لا بدَّ أن نرجع إلى الرسالة بل لا بدّ أن يكون من أوّل المصادر التي نرجع إليها.
وكذلك كلُّ عالمٍ له كتاب نرجع إليه، فإن لم يكن له كتاب فأقرب الناس إليه زماناً وأقرب الناس إليه مذهباً هم من نعتمد عليهم، ونتنبه أيضاً إلى تجنب التّعميم، إذ هناك أشياء نصَّ عليها الإمام فنقلت عنه واتبعه جميع من بعده، وهناك مسائل لم ينص عليها الإمام فاختلف الحنفية والمالكية فيها، فهنا إذا وجدنا رأياً للكرخي ننقله عن الكرخي ما لم يقل هذا مذهب أصحابنا، وإذا وجدنا رأياً لعيسى بن أبان ننسبه إلى عيسى بن أبان ما لم يقل هذا مذهب الحنفية قبله.
وقد وجدت نصّاً دقيقاً للكرخي رحمه الله نقله عنه الجصاص، في قضية العمل بالعام بعد تخصيصه يقول : هذا رأيي ولا أستطيع أن أنسبه إلى أصحابي"، لكن الذي حدث للمتـأخرين في المذهب الحنفي أنهم جعلوا آراء الكرخي آراء للحنفية، وآراء عيسى بن أبان آراء لأبي حنيفة، الأمر الذي جعل ولي الله دهلوي في كتابه: (حجة الله البالغة) يدعوا في ذلك الزمان يقول: لا بدّ من إعادة النّظر في تلك الأصول المنسوبة لأبي حنيفة كقطعية العموم والزيادة على النصّ نسخ واشتراط فقه الراوي إذا روى خبراً يخالف القياس، وقال هذه آراء عيسى بن أبان، وليست آراء أبي حنيفة.
فمن الخطأ أن تجعل رأي مالكي رأيا للمالكية، ورأي حنفي رأيا للحنفية، ورأي حنبلي رأيا للحنابلة، إذاً نجتنب التّعميم مالم نجد ذلك التّعميم منصوصاً عليه، ثمَّ نحن بالرجوع إلى المصادر، قد نصحح تعميماً وقع فيه غيرنا كما نبه على ذلك ولي الله الدهلوي رحمه الله.
الآن يطرح سؤال: إن التّجديد يقتضي الرجوع إلى مذاهب الفقهاء فكيف السبيل إلى الوصول إلى آراء الأئمة الأربعة؟
نعم. يجب الرجوع إلى أصولهم لأنّ الأصول التي لا شك في انتاجها هي تلك الأصول التي كانت موجودة في زمانهم، والآراء التي تبنوها هي التي أسّست للفقه الإسلامي الذي نحن عيّالٌ عليه، وإذا رسمنا مخططا للفقه الإسلامي نجده قد نما ثمّ نزل، والذي يمثل القمّة هو عصر الأئمة المجتهدين فنقول حينها كانت الأصول في الذّروة، كما أن الفقه كان في الذّروة.
لو أمكننا أن نصل إلى أصول إسحاق بن راهوية، وأصول الثّوري، وأصول ابن المبارك، وأصول ابن أبي ليلى وابن شبرمة، لاجتهدنا في ذلك، لكن قد يتعذر علينا الوصول إلى ذلك، فنجتهد على الأقل في الوصول إلى أصول الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، إذ الفقهاء هم الأصوليون بحقّ، فينبغي العناية بآرائهم ولو بالتّخريج مع ضوابط سنذكرها، والذي نأسف له أنَّ المتكلمين أصلوا لعدم ذكر المذاهب بل نجد في كلامهم أشياء لا نرتضيها، فالشافعي مثلاً: لا يكاد يُذكر عند الباقلاني ويذكره في بعض المواضع بصيغٍ لا نستسيغها، كقول الباقلاني : إن الشافعي لا بدّ أن يقول بتصويب المجتهدين ولو علمت أنّه خالف هذا الرّأي لما عددته من أهل الأصول.
هذا أمر غريب وعجيب جداً والشافعي قد نص على مذهب التخطئة، وموقف الجويني من الفقهاء لا يخفى، عندما نقل قولاً لأبي الطيب الطبري صرح بشيءٍ قد يكون صادماً لنا عندما نقرأه أول مرة، يقول: لولا أنه كان يغشى مجالس الباقلاني لما ذكرت قوله، ومعنى كلامه أنه لا يفهم الأصول إلا من كان متكلما، كأنه لا حظ للفقهاء فيه مع أنهم هم أهله، وله عبارة أخرى أقسى استعملها في حقّ الصيرفي وهؤلاء شافعية أي على مذهبه، إذاً نحن مدعوون إلى الاعتناء بآراء الأئمة وكذلك لا نهمل آراء الفقهاء التي غابت في كتب المتكلمين التي أصبحت مسيطرة على الدرس الأصولي في الأصول المتأخرة.
والعناية بمذاهب الفقهاء موجودة في كتب الأصول المطبوعة، إذا أردت مذهب أبي حنيفة فعندك الجصاص والسرخسي والسمرقندي، وإذا أردت مذهب مالك فعندك ابن القصار والباجي، وإذا أردت مذهب الشافعي فعندك ابن السّمعاني وابن السُبكي والزركشي، وكذلك المذهب الحنبلي فدونك أبو يعلى وتلاميذه والمرداوي من المتأخرين فقد اعتنوا بتحرير مذهب الإمام أحمد.
على أن العناية بالتحرير والنقل لا تعني الإصابة، ولكن هذه هي المظان التي نرجع إليها، فقد اعتنت بذكر مذاهب الأئمة المتبعين.
ومما ينبغي أن نشير إليه هنا مشروعية التّخريج، تخريج الفروع من الأصول، فهو مشروع ولا شكَّ، ولا طريق لنا للوصول إلى آراء الأئمة في أكثر الأحيان إلا بالتّخريج، إذ يمكن أن نـأتي بنصوص مسندة عن الإمام أبي حنيفة نصوص موجودة في كتب الشّيباني رحمه الله، ولكنها لا تبنى أصول فقه متكامل، فنحتاج إلى أن نخرج، وقد خرج الحنفية والحمد لله، الآن نأخذ هذه التّخريجات ونحاول أن نزنها بضوابط معينة.
بالنسبة للإمام مالك يمكن أن نأخذ من الموطأ ومن العُتبيّة أو المدونة نصوصاً للإمام مالك، لكن أكثر الأصول مخرجة من فروع، والشافعي الذي له الرسالة وتكلم في الأم في قضايا أصولية كثيرة صراحة، ومع ذلك توجد جزئيات بل هناك مسائل كبيرة مثل شرع من قبلنا لا كلام له فيها، فنحتاج أن نُعمل التّخريج.
الذي يمنع التّخريج يقول:
هذا تأصيل مذهبي، بمعنى ستجعلون أصول الفقه تابعاً للمذهب، نقول: لا، الغاية من التّخريج هو توثيق المذهب وليس معرفة الرّاجح، سنوثق مذهب الشافعي بالتّخريج ونوثق مذهب أحمد بالتّخريج، ونوثق مذهب أبي حنيفة، ثمَّ ندرس بطريقة جدلية أو مقارنة ونخلص إلى النتيجة، إذاً لا يلزم من اعتبار التّخريج أن نكون متعصبين أو أن نبني أصول الفقه على الفروع.
يقول المعترض: ولكن احتمال الخطأ وارد ، فقول نحن مكلفون بغلبة الظّن، ويخطئ من يخرج أصلاً من فرعٍ دون استقراء، وهذا من مثارات الغلط، إذاً لا ينبغي للباحث أن يخرج مسألةً أصولية من مسألةٍ واحد وخاصة إذا كان عندنا مسائل كثيرة يمكن أن نخرج منها.
من الأشياء التي ينبغي أن يضعها الطالب أو الباحث في علم أصول الفقه نصب عينيه، ماهي المثارات التي توجبُ الغلط في توثيق المذاهب:
عدم تبين من وجود النصّ، وجدت من يقول قال: الشافعي، ارجع إلى الرسالة ابحث عن قول الشافعي انظر هل هو موجود أم غير موجود؟ لا بدّ م التثبت من وجود هذا النصّ.
عدم التّثبت من لفظه، الرواية بالمعنى قد تخل بما يستفاد من النصّ، ويقال الاقتباس الحرفي في البحث العلمي معيب، إلا إذا كان نصّ قرآن أو نصّ حديث لا بدّ أن ينقل كما هو، لكن حتى أقوال العلماء التي نختلف في فهمها لا بدّ أن ننقلها بحروفها لنؤكد على صواب فهمنا وخطأ غيرنا، عندما أقول هذا نصّ الشافعي ويستفاد منه قاعدة أصولية، القارئ يستطيع أن يحاكمني إلى النصّ أما إذا رويت كلامه بالمعنى فقد أدخلت فهمي، وهذا وقع فيه كثير من الأصوليين، ولذلك قلت: الرجوع إلى المصادر وإلى الأقدم يجعلنا نكتشف خللاً كثيراً في النّقول التي ينقلها المتأخرون عن المتقدمين، التي ينقلها أصحاب المذاهب عن أئمتهم.
الخطأ في فهم النصّ، وهذا من سببه:
1. تحكيم المصطلحات، تحكيم مصطلحات متأخرة على نصوص المتقدمين قبل أن ينشأ الاصطلاح، وقد عاب البيهقي أبا محمد الجويني فيما نقله عن الشافعي من هذه الجهة، ونبه عليه أيضاً أبو شامة ، إذ كثير من الأصوليين ينقلون أشياء لم يقلها الشافعي بتلك العبارات.
ومن امثلة الخطأ في الفهم في كلام الشافعي رحمه الله أن كلمة التواتر قد وردت في جماع العلم، فإذا فهمناها على معنى التواتر الاصطلاحي فسنضع كلامه خارج السيّاق، لأنَّ الشافعي قال: ما رواه أربعة متواتر، التواتر في اللغة التّتابع، وهذا التّواتر هو المشهور، ما وراه اثنان أو ثلاثة عزيز، وما رواه أربعة فصاعداً مشهور إذاً تعبير بالتّواتر في عصر الإمام الشافعي كان عن المشهور.
فيقول قائل: والمتواتر عندنا ماذا سماه الشّافعي؟ فنقول قد سماه السّنة المجتمع عليها، وسماه خبرَ العامة، لا بدّ أن ننتبه، أيضا أن العلم في كلام الشّافعي واليقين في كلامه ليس هو القطع كما اصطلاح المتأخرين، فلا ننسب للشافعي أشياء لم يقلها، والشافعي كان يعبر عن القطع؟ بالحقّ في الظاهر والباطن، وكان يسمي الظّن الحق في الظّاهر دون الباطن.
كذلك الإمام أحمد وخاصة المصطلحات الكلامية التي سرت في كتب الأصول لا بدّ أن نتنبه أن هذه المصطلحات مستحيل أن تجري على ألسنة هؤلاء المتقدمين.
2. التّخريج القاصر: ومثال ذلك مالكي من البصرة يقول: مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد، الدليل مسألة ولوغ الكلب، وقد خطأه المالكية الآخرون وذكروا له نصوصا فضلاً عن فروع أخرى فضلاً عن قواعد أخرى تبين أن إمام مدرسة أهل الحديث محال أن يقدم القياس على خبر الواحد.
في مسألة القراءة الشّاذة أو قراءة الآحاد التي صح سندها نسب كثير من الشافعية إلى الشافعي إلى أنه لا يقول بحجيتها لأنّه لم يشترط التتابع في كفارة اليمين، لم يعتمد على قراءة: ((ثلاثة أيام متتابعة)) لكن هل ثبتت عنده؟ هل بلغته؟ وهل بلغته بسندٍ صحيح حتى نقول إنه ردها؟ ليس عند من قال هذا القول حجة بأنها بلغته بإسنادٍ صحيح، وفي المقابل نجده في تفسير القرء، احتج بقراءة (فطلقوهن لقبل عدتهن)، واعتمد على قراءة (( وعلى الذين يُطوَقونَه)) واعتمد قراءة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) فقال الصلاة الوسطى ليست العصر، إذاً الشافعي اعتمد على القراء الشّاذة، ومن ذكر غير ذلك كان تخريجه قاصرا غير مستوعب.
3. التّقليد، يغتر البعض ويقول أكثرُ المالكية نقلوا كذا، وأكثر الحنابلة نقلوا كذا، وفي البحث الأصولي وغيره من العلوم، عنما يكون عندك مجموعة من المصادر يرجى أن ترتبها ترتيباً زمنياً، فتبدأ بقراءة الأقدم فالأقدم لتعرف من ابتدأ الرأي ومن مهذبه ومن هو المقلد التابع.
بعض الأحيان يقع الخطأ من إمامٍ في القرن الرابع فيتتابع عليه الناس، ولننظر إلى مسائل الأصول التي تنسب إلى الإمام أحمد، القاضي أبو يعلى بنظري تساهل كثيراً في التّخريج، في كل المسائل يخرج فيها للإمام أحمد رأيين، وتخريجه على فرعٍ واحد، يأتي بعد أبو الخطاب يتبعه، وابن عقيل يتبعه، ابن قدامة يتبعه، المرداوي وابن النجار يتبعونه، إذاً الخطأ يقع من واحد ويتتابع عليه الناس، فلا بد من أن نتنبه أن من أسبابِ الغلط تخريج القاصر ثمَّ التقليد المتأخر للمتقدم.
والتخريج في بعض الأحيان يكون تخريج أصول من فروع، وفي بعض الأحيان يكون من قبيل تخريج الأصول على الأصول، ولكن هذا لا بدّ أن يكونَ مبنياً على أسّس، مثلا: مسألة مفهوم الموافقة دلالته لفظية أم قياسية؟ هذا الخلاف ذكره الإمام الشافعي، ما رأيكم فيمن ينكر القياس؟ من ينكر القياس سينكر مفهوم الموافقة ولا تتعجبوا من مذهب ابن حزم، أنكر مفهوم الموافقة لأنه اعتبر كما اعتبرها الشافعي دلالة قياسية، لو اعتبرها دلالة لفظية لقال بحجيتها، وهذا أصل بني على أصل، وهذا النوع من التخريج جائز أيضا.
لكن من يقول إنّ الشافعي نصّ على أنّ السّنة لا تنسخ القرآن، لأنها ليست مثله فيخرج على ذلك منع العكس أن ينسخ القرآن السنة، فنقول له هذا لا يصح لأنه من قياس الشّيء على ضدّه، إذا علمنا أنّ القرآن أقوى من حيث الثّبوت أو غيرها من التّعليلات التي ذكرت فلا يوجد ما يدعونا إلى أن نقيس هذا على هذا.
4. التصحيف والتحريف، وهذا توجد له أمثلة وإن كانت نادرة، الرازي قال: قال الفقهاء، فكتب أحد المختصرين قال القفال، فوقف معه القرافي وقال: بحثت في كل كتب الأصول فلم أجد كلمة القفال وإنما هي كلمة الفقهاء، تصحفت عند بعض من اختصر كتاب الرازي.
ربما من الأشياء التي نزيدها عندما نتحدث عن تحرير المذاهب، تحدثنا فيما سبق إلى أنه توجد مسائل لغوية، مسائل حديثية في كتب الأصول، المسائل اللغوية هناك أشياء إضافية يمكن أن يستغى عنها، وهناك مسائل يحتاج إليها، عندما نأتي إلى الأمر ونتحدث عن صيغه، نحتاج إلى اللغة لمعرفة صيغ الأمر وصيغ العموم، لكن كما ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله هذه المسائل ينبغي أن تؤخذ مسلمة لنبني عليها، لأنّ قضية الأصولي: الأمر ماذا يفيد الوجوب أم الندب؟
أما الصيغ فهو موضوع لغوي، وأهل اللغة أدرى به، الذي حدث في كثير من كتب الأصول وخاصة التي على منهج المتكلمين المناقشة في هذه المسائل، وإعادة البحث في هذه المسائل، وإذا سلمنا إعادة البحث فيها، فالمعتبر في مسائل اللغة اللغويون، لا يمكن أن ننصب الخلاف بين فقيه وبين لغوي في مسألةٍ لغوية، كما لا يجوز لنا أن ننصب الخلاف بين فقيه ولغوي في مسألة فقهية، فكلٌ يُعتبر كلامه في مجاله وتخصصهِ. وإذا وجدنا من نصب الخلاف بهذه الطريقة ملنا إلى رأي أهل اللغة على حساب أهل الفقه، وما اتفق عليه أهل اللغة هو حجةٌ علينا ولا شك.
من الأشياء الموجودة في كتب الأصول وهي من الأمور الإضافية ووقع فيها أخطاء، مسألة أقل ما يتركب منه الكلام اسمان (مبتدأ وخبر) واسم وفعل، لكن أن يتركب الكلام من حرف وفعل، أو حرف واسم، هذا غير موجود في العربية، ولا يخفى عليكم وجود هذا الخطأ في الورقات للجويني، وهناك من تأوله وهذا الاعتذار خطأ لأنّ الحرف عند أهل اللغة لا يشمل الضّمائر ولا يشمل الأدوات، فلا بدّ عندما نأخذ المسائل اللغوية من أهلها وأصحابها، ولا نغلب لغة المناطقة على لغة اللغويين، إذ لغة اليونان هي التي تعتبر الضمائر والأدوات حروفا وهي عندنا أسماء نسميها.
في مسائل الحديث يقال الأمر ذاته، قد يكون للأصوليين بعض العذر في الخوض في مسائل الحديث لأننا إذا قارنا بين وتيرة التأليف في علم أصول الفقه والتأليف في علوم الحديث نجد أن النّشاط في أصول الفقه كان متقدماً على النّشاط في علوم الحديث، حتى أصبحت القضية معكوسة، حتى أصبح علماء الحديث يأخذون عن علماء الأصول، لكن الواجب علمياً، أن تنقل الآراء الحديثية عن أهلها وهم أدرى بها، هم الذين يتصورونها، وهم أهل للتّرجيح فيها، فلا ننصّب الخلاف بين فقيه ومحدث، وبين أصولي ومحدث.
وإننا عبارات للجويني يقول فيها: علماء الحديث ليس لهم نظر في حقائق الأصول ولكن تركناهم يضعون الألقاب والأسماء، والجواب أن المحدثين هم الأعلم بفنهم، لذلك نجد بعض الآراء وبعض الاختيارات لا تطبيق لها، مثلا تعارض الجرح والتعديل قال الأصوليون ننظر إلى العدد فإذا كان متساوي أو الذين جرحوا أكثر نأخذ بالجرح وإلا بالتعديل، وعلماء الحديث عندهم قواعد أخرى، كاشتراط تفسير الجرح المعارض للتعديل، وكون بلدي الرجل أعلم به، واعتبار التشدد والتساهل، وليس عندهم اعتبار القلة والكثرة لأن هذه أقوال وليس رواية.
هناك بعض المصطلحات التي نتعجب منها، نذهب إلى كتب الأصول فنجد من أنواع التّدليس: تدليس المتن، ولا يوجد في علوم الحديث شيء اسمه تدليس المتن، وما عبر عنه بتدليس المتن هو عندهم داخل في الكذب وتعمد القلب في المتن ...والخلاصة أن المرجع في حكاية المذاهب في المسائل الحديثية للمحدثين والمعتبر هو قول المحدثين، هذه جملة من الضوابط في تحرير المذاهب التي نذكرها في علم أصول الفقه.
منهج البحث في علم اصول الفقه ....الحلقة الثانية ....منهج تصوير المسائل الأصوليّة غير منشورة
منهج البحث في علم اصول الفقه ....الحلقة الثانية ....منهج تصوير المسائل الأصوليّة
محاضرة القيت بتنقية الزوم في أكاديمية مفكرون بتاريخ 14 أكتوبر 2022
بسمِ الله الرحمن الرحيم:
إن تصوّر أي موضوع قبل الشّروع في البحث فيه أمر ضروري، ومما هو معلوم أن الحكم على الشّيء فرعٌ عن تصوّره، وفي علم الأصول مسألة مهمة طرقها بعض الأصوليين القدامى وبعض المتأخرين تخدم هذه القضية المنهجية، حيث تحدثوا عن أيهما يقدم تعلمه: علم أصول الفقه؟ أم الفقه؟ فاختلفوا في ذلك ، إذ منهم من يقول لا بدّ من تقديم الأصول وجوباً، أو استحباباً، لأنَّ الفقه إنما يستنبطُ عن طريق أصول الفقه؛ ففي تكوين العالم والمجتهد لا بدّ أن نقدم علم أصول الفقه، ولا يمكن أن تدرسَ الفقه وتكون مجتهداً فيه من غير أصول الفقه.
ومنهم من كانت له وجهة نظر أخرى وهي تقديم علم الفقه على علم الأصول، لأنَّ فهم القضايا الأصولية والتّرجيح فيها يبنى على فهم المسائل الفقهية، وممن جنح إلى هذا المذهب الإمام أبو يعلى الحنبلي والزركشي، وقالوا لا يمكن أن نخوض في المسائل الأصولية وندرسها لمن لم يدرس الفقه أصلاً ، وذلك أننا عندما نريد أن نشرح قاعدة الأمر يفيد الوجوب نمثل لها بأمثلة من باب البيوع مثلا، فهنا قد نضطر أن نخرج من أصول الفقه إلى الفقه إذا لم يسبق للطلاب دراسة تلك الأمثلة، وإذا مثلنا بمسألة من باب الصّيام وكان الطلاب لا يعرفونها نضطر أن نشرح لهم هذه المسألة، لكن إذا كان عندهم تصوّر سابق للمسائل الفقهية فإننا عندما نأتي للتمثيل أو لتخريج فرعٍ على ذلك الأصل نستغنى عن ذلك.
بل إن بعض كتب الأصول وخاصة التي ألفها المتكلمون الذين لم يمارسوا الفقه المستنبط من الأدلة أو فقه الخلاف المبني الأدلة، نجد تصويرهم لبعض المسائل الأصولية غير صحيح، مثل من يتحدث عن الإجماع السكوتي ثمَّ يقول وسكت الباقون في المجلس، فعبارة المجلس هذه ما محلُها؟ هل يجوز أن نتصور أن فقهاء الصّحابة أو فقهاء التابعين الذي ندعي أنهم أجمعوا –إجماعا سكوتيا – طرح عليهم سؤال وهم في مجلس فأجل البعض وسكت الباقون؟
إن هذا الكلام مبني على تصور خاطئ وسيعطينا تصوّراً خاطئاً، إن العلماء لم يجتمعوا أبدا في مجلس حتى في عصر النّبي أو عهد أبي بكر حين كان يمكن أن نعدَّ المجتهدين واحداً واحداً، وكذلك الإجماع الصّريح نجد بعض الكتب المتكلمين عندما يتحدث عن قضية انقراض العصر -أو إمكان الاجماع -يجعلك تتخيل ناقل الإجماع شخصا من نفس العصر ينتقل من الهند إلى الأندلس، فهل هذا الأمر ممكن؟ إن مثل هذا التّصوير هو ما أدى بكثير من المتأخرين إلى إنكار الإجماع أو إنكار إمكان وقوعه، لكن الإجماع الذي تجده في كتب الفقه محتجا به صورته مختلفه عن ذلك، إذ أن تجد العالم ينقل إجماع من سبقه ، وذلك أن التابعين كانوا ملزمين بإجماع الصّحابة والذين جاؤوا بعد التابعين كانوا ملزمين باتباع من سبقهم، وهذا هو معنى حجية الإجماع. كما قال عمر رضي الله عنه لشريح: واقضي بما قضى الصّالحون قبلك ، فالإجماع يتعذر العلم به في نفس العصر، ففي عصرنا هذا لا يمكن أن نعرف إجماع المعاصرين، ولكن عندما ينقضي هذا العصر، ويأتي عصرٌ آخر سيقولون أجمع أهل القرن الرابع عشر، والقرن الخامس عشر.
ونجد الأمر نفسه في قضايا آخرى نحو شرع من قَبلنا ، فعندما تقرأ أدلة النفاة تتساءل : هل يوجد عالم احتج بالتوراة والأنجيل، حتى نختلف في شرع من قبلنا؟ فبعض الأدلّة توهمك أن التوراة والإنجيل تدخل في محل النّزاع بل هي محل النزاع، وهذا الإنكار والنفي مبني على عدم تصوّر الصحيح، لأنَّ شرع من قَبلنا موجود في كتبِ الفقه عند علمائنا بمختلف المذاهب والمقصود هو المحكي في كتاب الله وفي سنة النّبي ، دون ما هو محكي في التوراة والإنجيل ولا يوجد عالم احتج بهذه الصورة الأخيرة.
إذاً قضية التصوّر قضية مهمة جداً، ولتصوير المسائل كما لا يخفى عليكم عدة طرق ، فعندنا الحدود والتّعريفات والأمثلة، وطرق أخرى غيره سنذكرها إن شاء الله إن سمح الوقت في هذه العُجالة.
أولاً: التّعريف والحدود:
وهنا لا بدَّ أن نتفق أنَّ المقصود بالتّعاريف الذي نسطرها بحوثنا هو تمييز الأمور المشتبه، وليس هو معرفة كنهُ الشّيء وماهيته كما يفرضه المناطقة في ظلِّ ما يسمونه حداً، ولما كان المقصود التّمييز فنحن نحرص أن تكون هذه التعاريف جامعة مانعة فقط ، أما معرفة الماهية فإنها لا تكون إلا بالجنس والفصل أو الجنس والخاصة كما يقوله المناطقة، ولذلك نجد من التزم الحد المنطقي كثيراً ما يُصرح –نحو الجويني والرّازي- بأن الحدّ عسير، والعسر إنما جاء من التزام قوانين الحدّ المنطقي لا من طبيعة هذه المسائل.
ولما كان المقصود أن نميّز الأمور المشتبهة، تجدنا نعرف القرآن، مع أن القرآن معلوم، لكننا نعرفه لنميزه عن السّنة، وعن الحديث القدسي، وخاصة أننا نزعم أنَّ السّنة وحي أو أكثرها وحب إذا أثبتنا اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا حصل التّمييز انتهت المهمة ولا نبحث عند ذلك الحدّ المنطقي الذي يعسر الوفاء بشروطه سواء في العلوم الإسلامية أو في غيرها.
وهذا يسوقنا أيضاً إلى فائدة ذكر المحترزات، وهو التأكد من كون التّعريف جامعاً لجميع الصّور التي تدخل في الشّيء المراد تعريفه، ومانعا يخرج غيرها من الصور المشابهة لذلك عندما نحترز؛ نحترز عما هو قريب، ولا نحترز عما هو بعيد جداً لا يخطر على بال الطالب، مثل عندما نعرف الفقه فنقول: هو العلم بالأحكام الشّرعية المكتسب من أدلّتها التّفصيلية، فقولنا المكتسب احتراز عما يقابله وهو الضروري، أي المعلوم من الدّين بالضرورة فالعالم به لا نسميه فقهياً ، والفقه الذي يتعلمه المرء فيصبح فقيهاً هو المكتسب، فهذا شيء قريب، لكن أن يقول الشارح قولنا المكتسب نحترز به عن علم الله تعالى وعن علم الأنبياء، فهذه أشياء بعيدة لم تخطر ببال الطالب ولا القارئ حتى يجب أن نحترز عنها.
والخلاصة أن المقصود بالتّعريف هو تمييز الأشياء عمّا يشبه بها، فنرسم الحدود بينها.
هل يلزم التّعريف في كل بحث؟
البحوث الأكاديمية جعلتنا نلتزم بذلك، لكن هناك نوع من المغالاة، فمثلاً عندما نقسم السّنة إلى أقوال وأفعال وتقريرات، فالحاجة تدعو إلى تعريف التقريرات، لأنَّه ليس كل ما سكت عنه النّبي يعتبر تقريراً وينسب إليه، لكن أن نعرف الأقوال فهذا تكلف لا حاجة إليه.
ومن الأشياء التي رأيتها عند بعضهم في بحوث أكاديمية، أنهم يُعرفون الصّلاة ويُعرفون الزكاة، وهذه الأشياء قد فرغَ منها، ولا حاجة لنا إلى تكرارها، ومن أغرب ما رأيت أن أحدهم بحث في موضوع اقتصادي فمر على حديث: الناس الشركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار، فاجتهد أن يعرفها لغةً واصطلاحاً، تعريف الماء لغة واصطلاحا وتعريف النار لغة واصطلاحاً، وهذا غلو وخروج من مقصود التعاريف، لأنَّ المقصود من هذا التّعريف هو التصوّر، فإذا كان التصوّر حاصلاً عند الجميع، فما فائدة تسويد الأوراق في أشياء لا تفيد.
وهل نحن ملزمون بالتّعريفات اللّغوية أكاديميا؟ وهل هي من الضّروري أن تقدم على التعاريف الاصطلاحية؟
الذي وجدناه عند علماء الأصول كالقاضي أبي يعلى والباقلاني من المتقدمين ذكر المعاني اللّغوية للمصطلح من أجل بيان العلاقة، لا ذكرها ذكرا مجردا مستقلا كما يصنع الكثير منا، وبعض الأصوليين القدامى كان يذكر التعريف الاصطلاحي ثمَّ بعده اللّغوي حتى يتسنى له بيان العلاقة بين المعنيين الاصطلاحي واللّغوي، لكن بعضنا في هذا الزمان يغلو حتى يجعل البحث اللّغوي أصلاً، ويكتب فيه الصّفحات الطويلة.
من نماذج مثلاً أن نقول: العام هو ما اشتمل على معنيين اثنين فصاعداً، لماذا؟ لأنَّ معنى العموم في اللّغة هو الشّمول، فنذكر المعنى الاصطلاحي ثمَّ المعنى اللّغوي مع الدلالة على الرّابط.
بعض الباحثين في عصرنا يأخذون المسائل المنهجية على أنها تعبديّة، لا بدّ عندهم أن يضع تعريفاً، ولا بدّ أن يضع التّعريف اللّغوي، والواقع أن هذه أشياء معلّلة.
قضية نقد التّعريف:
يقال لنا لا تذكروا لنا المعنى المختار إلا بعد نقد التّعاريف السابقة، وهذا مقبول في بحوث أكاديمية لأنَّ المفروض أنّها موجهة لفئة درست وتعرف هذه التّعاريف مسبقا ولم تستفدها من هذه الاطروحة، لكن هناك إشكال في ميدان التّعليم، لَما نأتي في درس ونضع التّعريف الأوّل وننقده، ثمَّ التّعريف الثاني وننقده، ثمَّ في الأخير نقول للطلبة هذا التّعريف المختار، أنا أرى أنَّ هذا منهج خطأ، لأنَّ النّقد لا بدّ أن يكون بناء على معيار، والطّالب لا يستطيع أن يفهمني لأنَّه فاقدٌ للمعيار والمعيار هو التصور السابق المعبر عنه بالتعريف المختار، والذي نراه جراء غياب هذا المعنى في بحوث كثير من الطلبة وقوعهم في التّناقضات، حيث ينقدون تّعريفا بشيء، وينقد تعريفا آخر بضده، فغياب معيار ثابت يجعله ينقل النقود غيره من مصادر متعددة دون تمييز، فيقع في التّناقض.
قلت إن هذه الأشياء المنهجية ليست توقيفية ، والمقامات مختلفة فتأليف البحوث الأكاديمية مختلف عن التأليف للمبتدئين ، ومقام التّدريس مختلف عن مقام التأليف ويمكن أنّ نخالف هذه الأشياء المصطلح عليها لمصالح تعليمية.
الأمثلة الفقهية والتفريع الفقهي
من الأشياء التي توصلنا إلى لتصوّر الأمثلة الفقهية، ويلحق بها التّفريع الفقهي، والمثال ضروري جدا لتحصيل التّصور ولإزالة الغموض الذي يكتنف بعض القضايا.
إذ في كثير من الأحيان تكون التّعاريف غامضة، فيقولون بالمثال يتضح المقال، لكن ننتبه إذا رأينا مصلحة في تقديم المثال على التعريف فلنقدم المثال ولا نبالي، فعدما تعريف القرآن لا نحتاج إلى تمثيل لأنَّ القرآن معروف لدى كل الناس، لكن هناك أشياء جديدة لا يعرفها القارئ والمتعلم، فإذا رأينا مصلحةً في تقديم الأمثلة نقدم الأمثلة، لأنّها تسهل لنا شرح التّعريف، وقد وجدنا كثير من العلماء يذكر الأمثلة بعد أن يذكر التّعريف يشعر أنَّ بعض الغموض قد بقي، فكان من أهداف المثال عندهم إزالة الغموض الموجود في ألفاظ والعبارات والحدود المجردة.
مثال ذلك: قياس الشّبه عند الغزالي بعد أن عرفه قال الآن علينا تفهيمه بالأمثلة، كذلك نجد ابن حزم يصرح بهذا في بعض المواضع، يقول إن هذه القضية أو هذا الاعتراض من أغمضِ الاعتراضات وأصعبها ويقول نحن نمثل ذلكَ ليعيننا على فهم هذا الموضع الدّقيق.
وهذا التعريف لا بدّ أن نضبطه بضوابط:
1. منها أن نلتزم بالمثال الواقعي، المأخوذ من الفقه، ونتجنب الأمثلة الافتراضية الموجودة بكثرة في كتب المتكلمين، ففي كتب الفقهاء نجد أمثلةً واقعية من كتاب الله ومن سنة رسول الله ، عند الحنفية من فتاوى محمد بن الحسن وفتاوى أبي يوسف وهي أمثلة حيّة تجعلك تفهم وتشعر بفائدة القاعدة، بينما تجد في كتب بعض المتكلمين أمثلة افتراضية، فتجد في التّخصيص قولهم كما لو قال تعالى: اقتلوا المشركين، فقال النّبي : إلا زيداً، هل الشريعة خالية من أمثلة للتّخصيص حتى نلجأ إلى مثل هذا المثال؟
وفي مسألة الأمر المعلق بشرطٍ مثل الآمدي (كما لو قال تعالى: إذا زالت الشمس فصلوا) هكذا قال، والمثال الصحيح قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا)، فترك الموجود في القرآن وجاء بعبارة تشمئز منها النّفوس وهي ( كما لو قال الله تعالى)، وفي بعض الأحيان نجد نحو عبارة (قوله صوموا إلى الأبد)، هذه أمثلة أن تترك، ونرجع إلى كتب الخلاف، وأحكام القرآن، ونأخذ منها أمثلة واقعية.
2- وكذلك نحرص على تجديد المثال، في بحوثنا المعاصرة نجدد المثال، لا نبقى دائماً معَ أكرم بني زيد الطوال، ومع أمر السيد عبده، ومع النّبيذ والخمر. فلا يليق الآن أن نأتي إلى القياس ونقول يُقاس النّبيذ على الخمر، ونحن قد علمنا أن التّحريم بالنص والعموم وأنّ الخمر الذي حُرِم في المدينة هو خمر أغلبه صنع من التمر، وفي واقعنا أمثلة جديدة نحو الأوراق النّقدية التي قاسها جمهور العلماء على الذّهب والفضة.
والأمر نفسه يقال في التّفريع الفقهي، وإذا أردنا أن نفرق بين التمثيل والتفريع نقول التّمثيل يكون لمسائل نظرية، كالخبر المتواتر والآحاد، والتفريع يكون على القواعد فإذا اختلفنا في حجية شرع من قَبلنا، وإذا اختلفنا في بعض صور الاستصحاب، أو بعض صور عمل أهل المدينة، فالمثال الذي سنذكره يسمى تفريعا فالخلاف في المسألة الأصوليّة ينتج خلافاً في مسائل فقهية، ذكر التفريع مما يعيننا على التصوّر، ومما ينصح به في الدّراسات المعاصرة الآن لا تبقى دراساتنا نظرية. بل لابد من قرن المسائل الأصولية بأثرها في الفقه الإسلامي، أو أثرها في النّوازل المعاصرة.
3-هل نناقش المثال؟ هذه مسألة مهمة. فإذا كان المثال خطأ فنقول هذا مثال خطأ ولا نطيل في المناقشة، والتطويل في ذلك يخرجنا من البحث الأصولي إلى البحث الفقهي، لذلك قيلَ ليس من شأنِ الفضلاء المناقشة في المثال، فالمثال غير الصالح نستبدله، إذا كان المثال مشهور ننقده بإيجاز.
وهذا الضابط قد أخل به قديماً كثير من الحنفية، وأخل به الجويني في البرهان في باب التأويلات حيث ناقش الحنفية في مسائل فقهية، فهو مع انتهاجه طريقة المتكلمين ألا أنه لم يتخل شافعيته ، وقد نقده ابن السّمعاني وقال هذه المسائل موضوعها الفقه أو علم الخلاف ثم حاول أن يجعلها مختصرةً في بيان التّأويل الصّحيح والتّأويل الضّعيف.
تحرير محل النزاع
من الأشياء المهمة في تصوير المسائل تحرير محل النّزاع في المسائل الخلافية، فقد يكون هناك قولٌ عام وقولٌ خاص، فمن الخطأ أن نفرض الخلاف بينهما خارج تلك النقطة الخاصة، وقد يكونُ هناك رأيان لم يتواردا على محلٍ واحد، فتحرير محل النّزاع أمر مهمٌ جداً من شأنه أن يجعلنا لا نضيع أوقات في خلافات لفظية، ويجعلنا أيضاً نسقط بعض الأدلّة بمجرد الاطلاع عليها لكونها خارجة عن محل النزاع.
ونرجع في تحديد محل النزاع إلى علماء عرفوا بالعناية به، كالغزالي في المستصفى، والآمدي في الإحكام، والقرافي في شرح التنقيح، أكثر منهم اجتهاداً في هذا الباب بإبراز الفروق وهو الزركشي رحمه الله في البحر المحيط فهو يحرر محل النّزاع ويعقد فصولاً أو مباحث للفرق بين كذا وكذا والمسائل المتشابة، وممن اهتم بتحرير محل النزاع لكن بدرجة أقل القاضي أبو يعلى والباجي والجويني.
هل تحرير محل النزاع يكون منقولاً فقط؟ وهل كل ما نقله هؤلاء العلماء قد أصابوا فيه؟
لا، لا بدّ للباحث أن يكونَ له عقله المتحرر فيستفيد من كتب هؤلاء العلماء الذين أرشدنا إليهم ، ولكن إذا لم يجد عندهم، فلا بدّ أن يجتهد هو بنفسه في تحرير محل النزاع، وذلك ليس أمراً مستحيلاً أو صعباً، ويعيننا على تحرير محل النّزاع أمور:
تدقيق النّظر في عبارات المذاهب، والتدقيق في أدلّتها، فإذا لم أفهم المذهب جيداً، انظر في أدلته، والأدلة تدلُّ على المعنى الذي يريده صاحبه.
يعيينا أيضاً على تحرير محل النّزاع تقسيم المسائل إلى الصّور الموجودة والممكنة والمحتملة، مثلاُ عمل أهل المدينة فالإمام الغزالي رغم ما قلنا عنه لم يحرر محل النّزاع فيه بينما ابن تيمية رحمه الله قسم عمل أهل المدينة إلى ثلاثة مراتب، قال:
• منه ما هو سنة متواترة وهذا لا خلاف فيه.
• منه ما هو إجماعٌ قديم، إجماع الصّحابة قبل مقتل عثمان وهذا يدخل في الإجماع السكوتي، أغلب الصحابة كانوا في المدينة في ذلك الوقت لم يخرجوا منها.
• إجماع المتأخرين في مسائل اجتهادية، بمعنى إجماع الفقهاء السبعة وغيرهم والعمل الذي وجده الإمام مالك، وهذا لا يحتج به إلا بعض المغاربة، أما المحققون من الأصوليين وخاصةً العراقيون منهم لا يحتجون به وكذلك الأندلسيون.
تخصيص محل النّزاع في هذه الصّورة الأخيرة سيلغي خلافاً في قضايا كثيرة، عندما نقول هل يوجد من يخالف في السنة المتواترة؟ لا يوجد، لا أبو حنفية ولا الشافعي، كذلك الإجماع السكوتي وهذا يقول خالف فيه أبو حنيفة حسب تحرير شيخ الإسلام ابن تيمية، إذاً تقسيم المسألة يعيننا على أن نقف على محل النّزاع.
مما يساعدنا في تحرير محل النزاع تقسيم المباحث الأصولية وهذا مبحث خاص لم أرد أن أثيره حتى لا أطيل عليكم ولكن نشير إليه إشارة عارضة فنقول : تقسيم المسائل إلى صورها الموجودة وليس المحتملة مما يعين على التصور وعلى تحرير محل النزاع، لأنّ بعض الأصوليين غلو في التقسيمات وخاصةً المتكلمون منهم، لذلك عندما جئنا إلى كتاب أفعال الرسول لأبي شامة وجدناه يذكر في تعارض الأقوال من الأفعال ستين صورة، أكثرها افتراضي وجاء بعد ذلك الشّوكاني قال: الذي يمكن أن نجد له أمثلةً في السّنة أربعةَ عشر، إذاً نقسم المسائل إلى الصور الموجودة فعلاً، وليس ما يقدره العقل، بل إذا تتبعنا الأشياء التي يقدرها العقل سوف نضيع محل النّزاع ، والجري وراء المسائل الفرضية التي يقدرها العقل، ليس من شأنٍ الباحث في علمٍ عملي، علم أصول الفقه علمٌ نظري لكن المقصود منه العمل وليس مجرد بحوث نظرية عقلية جامدة ومجردة.
طرحت سؤالاً من قبل عن إصابة العلماء في تحريراتهم لمحل النزاع؟
والجواب أنهم قد يخطئون وقد يختلفون في تحرير محل النّزاع، من أسباب الخطأ في تحرير محل النّزاع:
عدم استيعاب المذاهب، آتي إلى مذهبين وأقارن بينهما وأقول اختلفوا في هذه الصّورة واتفقوا على الصورة الثانية لكن لو أواصل البحث أجد مذهباً ثالثاً خالف في الصورة الثانية، إذاً عدم استيعاب المذاهب قد يؤثر على تحرير محل النّزاع.
عدم التنبه لاختلاف الاصطلاح، وهذه نقطة سنتعرض لها بعد قليل، واختلاف الاصطلاح قد يوهمنا أنَّ ثمّة اختلافاً ولا اختلاف في ذلك الموضع، وقد يوهمنا أن المسألةَ لا نزاع فيها والنّزاع موجود، قضية اختلاف الاصطلاح هذه من الأشياء التي ينبغي للباحث في علم أصول الفقه أن يضعها في حسبانه عند جمع الأقوال وعند تصوير المسائل، وهي قضية مهمة جداً.
كثير من الأصوليين يحررون محل النّزاع بما نسميه الحكم بالظّن، وهذا تابع إلى عدم الرجوع إلى المصادر لنقل المذاهب، يعني يقول هذه المسألة لا يتصور فيها خلاف، أو يبعد أن يختلفوا في هذه الجزئية، ومنهم من يكون دقيقا فيقول لا أتصور، ويبعد، ومنهم من يتساهل في العبارة ويقول: لا خلاف في هذه القضية، وهنا يقع الخلل، ونحن لا بدّ لنا من التثبت، فالاعتماد على العلماء لا يعني أن نلغي عقولنا، أو شخصيتنا عند البحث.
اختلاف الاصطلاح
والمسألة الأخيرة في قضية تصور المسائل هي قضية اختلاف الاصطلاح، فهذا العلم ألف فيه الشافعي، ثمَّ ألف فيه أئمة من المذاهب الأربعة، وهؤلاء منهم من كان في العراق ومنهم من كان في مصر ومنهم من كان في الحجاز، لا شكَّ أن لغة العلم منشؤها لغوي ثمَّ تتطور ويكون بينها مصطلحات متفقٌ عليها ومصطلحات مختلفٌ فيها، ونحنُ إذا تعاملنا مع هذه الكتب التي أُلفت في أمكنة مختلفة وفي أزمنةٍ مختلفة، وأصحابها من مذاهب فقهية مختلفة ومناهج أصولية مختلفة، فلا بدّ أن ننتبه إلى وجود اختلافات في الاصطلاح، لكن ما المقصود بالاصطلاح؟
ما معنى الاصطلاح الذي نختلف فيه؟
1-لا نتحدث عن التعريف الحدود أو العبارات التي تنقل، لكن نتكلم عن الألقاب، أسماء المعاني قد يكون شيٌ واحد يسمى بألقاب مختلفة، مسميات مختلفة، عناوين مختلفة، مثلاً: ما نسميه في عصرنا المصلحة المرسلة، ستجده في كتب الشافعية باسم الاستدلال، أو الاستدلال المرسل، أو الاستصلاح عند المالكية، أو القياس المرسل، هل القياس المرسل والاستدلال والمصلحة أشياء مختلفة؟ هي تسميات لشيء واحد، الباحث قد يضل عن المسألة وهو ينظرُ في الفهرس بسبب عدم تنبهه باختلاف الاصطلاح، إذاً شيءٌ واحد لديه عدة أسماء.
2-النوع الآخر لاختلاف الاصطلاح: لقبٌ واحد يسمى به أشياء مختلفة، أقرب مثال: قياس الشبه، تجد بعض العلماء يقول قياس الشبه باطل ولا يعتبر وبعضهم يقول: قياس الشبه هو أغلبُ اقيسة الفقهاء، فهل بين الرأيين اختلاف؟
لا، قياس الشبه يطلق على الشبه المحض الذي يصفه الآخرون بالطرد، الوصف الطردي لا آثار له، الشبه في الصورة كالشبه بين الحمار والحصان لا يؤثر في الأحكام، فهذا يسميه بعضهم قياس شبه ثم يرده.
بينما يقصد العالم الآخر بالشبه: الرابط بين الأصل والفرع الذي ليس علّة، ولكن وصف يستلزم العلّة، وهذا يسميه بعضهم قياس الدلالة حتى لا يختلط بالمعنى الأول، إذاً نحن أمام تسميةٌ واحدة أطلقت على شيئين متضادين، هذا أطلقه على الطرد الذي لا يفيد، وهذا أطلقه على قياس الدلالة، ولا بدّ أن نتنبه لمثل هذه الأشياء التي تختلفُ من كتاب إلى كتابٍ آخر.
أسباب اختلاف الاصطلاح:
1. اصطلاح الحنفية مقابل الجمهور، إذا درسنا موضوع دلالات الألفاظ، الجمهور يقسمون المنطوق والمفهوم، منطوق صريح وغير صريح كما قسمه ابن الحاجب، ومفهوم موافقة ومخالفة ومفهوم المخالفة إلى عدّة صور، وهناك من أدخل في المنطوق الصريح دلالات الاقتضاء والإيماء، هذه هي المصطلحات الرائجة، نذهب إلى كتب فالأحناف نجد تقسيماً آخر، التّقسيمات الرُباعية التي ذكرها الإمام الدّبوسي، وما زالت معتمدة إلى عصرنا هذا.
فالنصّ عندنا لا يحتمل التّأويل، وعند الحنفية هذا النصّ الذي لا يحتمل التّأويل لا يسمونه نصاً، ويقسمونه إلى محكم ومفسر، والذي نسميه نحن الظّاهر في اصطلاح الجمهور وهو الذي يحتمل التّأويل يقسمه الحنفية إلى قسمين نصّ وظاهر، الذي لا ينتبه إلى اختلاف الاصطلاحات بين مذهب الحنفية، وبين ما اعتمده بقية الفقهاء لا شكّ أنّ بحثه سيكون ناقصاً وفيه أخطاء كبيرة.
2. اختلاف الفقهاء جميعاً مع المتكلمين، مثال: الأصل المقيس عليه عند الفقهاء هو الخمر، أما عندَ المتكلمين هو النصّ الذي جاء به تحريم الخمر، الدليل عند الفقهاء سواء أكان ظنياً أم قطعياً ، وعند المتكلمين هو القطعي فقط، أما الظني فيسمى أمارةً.
3. واختلاف المتقدمين والمتأخرين، فالنسخ مثلا في كلام السلف يعمُ معاني أخرى غير إزالة الحكم بعد ثبوته يعم التّخصيص، ويعمُ التّقييد، ويعم التّفسير. ولفظ الكراهة قد يراد به التحريم عند المتقدمين وهذا يذكر في أصول الفقه ولكن يخص به الحنفية، ولكنه موجود حتى في كلام الشافعي، ومالك.
طرح بعض الباحثين المعاصرين دعوةً إلى توحيد الاصطلاحات، فهل هذا ممكن؟
أنا في اعتقادي أنَّه غير ممكن، لا يمكن أن نجمع كل الباحثين وكل العلماء المعاصرين ونقول لهم استعملوا هذا الاصطلاح ولا تستعملوا هذا الاصطلاح، فهذه الاصطلاحات هي لغات وتوحيد اللغات محال، ثم هل عندما نوحد الاصطلاح سنلغي كتب التّراث؟ لا... بل على طلبتنا أن يرتبطوا بكتب القدماء وجميعاً، إذاً كان هناك اختلاف في الاصطلاح يؤدي إلى الاضطراب الواجب علينا نعلم اصطلاحاً معينا يكون هو المعلم عندهم، وننبه إلى وجود اصطلاحات أخرى حتى يتمكنوا من الاستفادة من جميع كتب المتقدمين من مختلف المذاهب.
هناك ظاهرة التّخطئة في الاصطلاح عند بعض الباحثين ووجدت عند بعض المتقدمين ، وهذا خطأ، فالاصطلاحات لغات وشأننا فيها أن نختار لا أن نرجح، لأنَّ ترجيحك لن يُلغيَ غيرك، ولذلك قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، إذا بيّنَ المعنى، إلا في حالاتٍ يجب علينا أن نرجح وذلك حين يحمل الاصطلاح أحكاما وهذه الأحكام فيها أخطاء، مثلاً يقول بعضهم: المسائل تنقسم إلى أصول وفروع ويقصد بالفروع الفقه ويقول في ضابط إنه القطعية والظنية ، فهل مسائل الفقه كلها ظنيّة؟ إن في الموجود في كتب الفقه أمور معلومة من الدّين بالضّرورة، فهذا التّقسيم أوهم غلطاً، وأصول الدين هي مسائل العقيدة، فهل مسائل العقيدة كلها اتفاقية وقطعية ؟ وفيها التكفير أو إلى غير ذلك؟ ... في مسائل العقيدة مسائل جُزئية جداً، نحو هل رأى النّبي ربه في ليلة الإسراء والمعراج؟ فهذه مسألة اختلف فيها أصحاب النّبي ولا ينبي عليها لا تأثيم ولا تكفير.
ومثل هذه التخطئة ليست تخطئة في الاصطلاح ولكن تخطئة للأحكام التي تنطوي تحته، نخطئ من استعمل اصطلاحاً غريباً وفيه إيهام، الذي حضرني مثالٌ واحد يقول: هذا حديثٌ حسن، قلت له: هذا موضوع، قال: قصدت حسن لفظه، لا يجوز لك يا أخي، لأنَّ مثل هذا التّعبير فيه إيهام لمن لا يعرف.
إذاً نخطئ في حالتين:
إذا كان الاصطلاح موهما .
أو إذا كان فيه أحكام شرعية، لأنَّ التخطئة في الأحكام الشرعية جائزة، أما في اللغة والتّعبير، فهذا غير جائز.
ترتيب الموضوعات الأصولية
الشيء المتمم لحسن التّصوير وهو ترتيبُ الموضوعات الأصولية، وقد اعتنى عُلماؤنا منذ القديم بحسن العرض والترتيب للمسائل الأصولية، لأنّها تعيننا في الفهم، ومن المسائل المتعلقة بالتّرتيب:
1. التّصور الكلّي للكتاب، فنجد الإمام الشافعي في مقدمته في الرّسالة قدم مقدمةً كأنها مقدمة معاصرة فيها إشكالية وفيها تمهيد، وفي الأخير ختمها بالخطّة التي سيسير عليها، أعطانا التّصور وبرهن على هذه الخطة، أي كيف أصبح البحث في الكتاب والسّنة والإجماع والقياس
والغزالي في مقدمة المستصفى لما جعل أصول الفقه أربعة أقطاب أحكام وأدلة ودلالات واجتهاد كذلك أعطانا التّصور الكلي، فهذا الشيء مهم جداً للباحث ليكون متحكماً في جزئيات بحثه.
2. كذلك العناية بالتّسلسل المنطقي للبحوث، هذا نجده جلياً في الرّسالة للشافعي والعلماء بعد الشافعي وجدناهم ينتقدون من يخالف الترتيب المنطقي، ينتقدون من يحيل إلى شيء سيأتي، فقرروا أن الإحالة تكون إلى شيءٍ سبق لا إلى شيءٍ سيأتي، الآمدي مثلاً تكلم في مباحث العموم عن عموم المقتضى، وهو لم يُعرف دلالة الاقتضاء بعد، ولا يزالُ العلماء ينقدون الغزالي رغم اجتهاده في التّرتيب، على الإخلال بهذا التّرتيب المنطقي للبحوث، ونحن في بحوثنا الآن نتوقع الانتقاد وقبل أن نتوقع الانتقاد نحاول أن نقنع أنفسنا بمنطقية هذا التّرتيب الذي سنسلكه.
3. من الأشياء التي تعيننا على هذا التّسلسل المنطقي وتجنبنا الإحالة للمعدوم أن نضع مقدمات بين يدي كل فصل، بين يدي كل مبحث، هناك من درس الرّسالة للشّافعي وقال إن فيها تكراراً للمسائل، وعندما ندقّق في تلك المسائل المشار إليها نجد أنَّ الشافعي رحمه الله لم يكن يكرر المسائل ولكن كان يجعل تمهيدات جامعة قبل أن يعود إلى المسائل بالتفصيل ، فيذكر في لسان العرب خمس مسائل يشرحها إجمالاً، ثمّ يفصلها واحدةً واحدةً، فمن ينتبه إلى أن هذه المسألة سبق ذكرها يقول: قد كرر، وهو في الحقيقة لم يكن يكرر، وهذا أمرٌ مطردٌ في الرسالةِ كلها.
عندما درست الرسالة للشافعي قلت إن خطّة الرسالة كانت مفصلة في ذهن الإمام الشافعي، وكما نقول بعبارة معاصرة كانت مشجرة، وكُلها آخذٌ بعضها ببعض، وكل عنصر يتفرع عن عنصرٍ آخر، وما دام الإمام الذي وضع هذا العلم سلك هذا المنهج فالذين جاؤوا من بعده حرصوا عليه.
ونحن في بحوثنا علينا تحسين التّصور لأنفسنا أولاً ولمن يقرأُ بحوثنا ولمن يناقشها ولمن يفيدُ منها ثانيا، لا بدّ أن نحرص على هذه القضية المنهجية.
وهنا افتح قوسا مهما : لماذا نمثل بالشافعي على وجه الخصوص؟ الجواب لنعلم أنّ القضايا المنهجية التي ربما نأخذها من عندِ غيرنا من الغربيين هي في الحقيقة موجودة عندنا، ومن علماء الأصول وعلماء الحديث، وتراثنا غني جداً بالقضايا المنهجية ونحن في غنى عمّا يأتينا من الغرب، قد ينبهوننا إلى أشياء فنظن أنها من مبتكراتهم لكن بالرجوع إلى تراثنا نجد تلك الأشياء منه أخذت .
منهج البحث في علم أصول الفقه الحلقة الأولى غير منشورة
منهج البحث في علم أصول الفقه الحلقة الأولى :
محاضرة القيت عبر الزوم في اكاديمية مفكرون بتاريخ 07 أكتوبر 2022
.....كما سمعتم هذا الموضوع هو موضوع أطروحتي في الدكتوراه، وهي الآن بحمد الله تعالى مطبوعة في مجلدين عن دار البصائر العراقية في تركيا،، سأحاول أن ألخصَّ منها أهم الأفكار التي أريد أن تصل إلى الباحث كي ينتفع بها بإذن الله.
أولاً: أطرح سؤالاً: لماذا البحث في منهج البحث في علم أصول الفقه؟
1-لتّوضيح الطّريق الصّحيح للتّجديد الأصولي، إذ الدّعوات إلى التّجديد كثيرة جداً، ولكن كيف ننزل هذا التّجديد إلى الواقع سواء في التدريس أو التأليف؟
إن الطريق الصّحيح لذلك هو معالجة القضايا المنهجيّة، لأننا إذا رأينا أشياء غير لائقة، وأشياء ينبغي أن تحذف وأشياء ينبغي أن يصحّح مسارها، فإن هذا الحذف وهذه الزّيادة وهذا التّنقيح يعالج في ظلِّ مسار يسمى المنهج، وفي ظل إعادة النّظر وتقويم منهج البحث في علم أصول الفقه، إذن نتطرق إلى هذا الموضوع لهذه الغاية.
2-للتّعرف على تفاصيل مناهج المؤلفين القدامى، وهذا ينفعنا في حسن التّعامل مع هذه المؤلفات، ثمَّ حسن الاستفادة منها، لأنَّ معرفة الاصطلاحات واللغة استعمال المؤلفون، ومعرفة منهج التّأليف، وطريقة التّرتيب، والخلفية التي كان يؤلف بها المؤلف، تمكننا من الإفادة من هذه الكتب، وإن الغفلة عن مناهج المؤلفين كثيراً ما تمنع من الإفادة الكاملة وربما توقع في سوء الفهم.
3-الوقوف على ضوابط منهجيّة في البحث الأصولي، وهذا من شأنه أن يسدّد كتاباتنا وبحوثنا، ويقلّل من الهفوات المنهجية التي تكلف الباحث في عصرنا هذا إنفاقاً للأوقات وتسويداً للأوراق من غير طائل، ومن غير فائدة، إذن الحديث عن منهجية البحث في أصول الفقه مهم جداً.
ثانيا: ما هي الأشياء التي ينبغي أن أتطرق لها في منهج البحث؟
الأمور التي نتطرق لها في منهج البحث متعلقة بالخطّة العامة للمنهج الأصولي، وهي تحوي أربعة عناصر:
1-الموضوع : إن البحث يبدأ من عنوان المسألة المبحوثة وموضوعها وأول شيء في المنهجية النظر في اختيار الموضوع وتحديد عنوان البحث.
2- تصوير المسائل: بمعنى توضيحها بالمثال والتّعريف والتّقسيم ونحو ذلك.
3- تحرير المذاهب في المسألة، سواء مذاهب الأصوليين أو مذاهب الفقهاء، وهناك قضايا مهمة تتعلق بهذا التحرير وضوابط لا بدّ أن نقف عليها.
4-الاستدلال ومعه التّرجيح، وذلك يتضمن قواعد الاستدلال، ومنهج الاستدلال، ومنهج المناقشة، والاختيار والتّرجيح، وهذا الأخير لازمٌ في كل بحثٍ ينجز، وهو التّوصل إلى النّتيجة وتسجيل الإضافة العلمية التي قصدت من إنجاز البحث.
هذه العناصر الأربعة نحاول أن نقسمها بإذن الله تعالى على هذه المحاضرات الأربعة المبرمجة، مع إضافة شيء مهم جداً لمحاضرة اليوم إن شاء الله وهو الحديث عن مناهج الأصوليين، لأنَّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن الواحد منا عندما نتحدث عن منهج البحث في علم أصول الفقه، التساؤل عن هذا المنهج هل هناك منهج واحد؟
قد درسنا جميعاً في مبادئ العلم أنّه توجد عدة مناهج، منهج المتكلمين، منهج الفقهاء، الطريقة الجامعة، وربما يذكر غيرها، وطرق هذا الموضوع، سيمهد لقضايا تّفصيلية سنطرحها بحول الله تعالى، لأنَّ كتب الأصول مختلفةٌ في توجهات أصحابها، خلفية أصحابها، مضامينها، طريقة العرض، والقضايا المنهجيّة ليست جديدة بل قديمة، وقد اختلف فيها المؤلفون قديما، والتّرجيح فيها لا بدّ أن يسبقه التصور، وتصحيح التّصور يسبقه بيان هذه المناهج.
إنه بمجرد ذكر منهج البحث في علم أصول الفقه، يتبادر إلى ذهننا التّقسيم الذي كان أشهر من صرّح به ابن خلدون رحمه الله –وقد سُبق إلى ذلك ، حيث قسم الأصوليّين بعد الشّافعي إلى فقهاء وخصّ الفقهاء بالحنفية، ومنهج متكلمين ثمَّ استدرك في الأخير وقال: (من الحنفية من أراد الجمع بين طريقة الفقهاء وبين المتكلمين، فجمع بين كتابي البزدوي الحنفي والإحكام للآمدي المتكلم) هذا التّقسيم فيه نظر، يتضح ذلك بالنّظر في مؤلفات الأصوليين عبر المراحل التاريخية للعلم ورصد التّحولات المنهجية التي حدثت، كيف بدأ العلم؟ كيف نمى؟ كيف تطوّر؟ ثمَّ كيف انحدر؟
فنقول إن كلام ابن خلدون رحمه الله صحيح لكن في عصره، حيث كان هذا هو الواقع أصوليون حنفية ثبتوا على الأصول القديمة، وعلى الانتصار للمذهب والارتباط بين الأصول والفروع، في مقابل الأكثريّة من المالكية والشّافعية والحنابلة اختاروا اتجاه المتكلمين حيث أصبحت كتبهم خالية من الانتصار للمذهب، وليس فيها صبغة مذهبيّة، خالية من الفروع الفقهية، صارت كتبهم متصفة بالتجريد تحوي مسائل نظرية بعيدة عن الفقه وتناقش بحياديّة بعيداً عن الانتماء المذهبي.
قلت: لكي نتأكد من صحّة هذا التّقسيم ( تقسيم ابن خلدون رحمه الله) ننظم مراحل التي مر بها علم أصول الفقه إلى أربعة مراحل:
1. مرحلة التّأسيس: وتنتهي بالإمام الشّافعي رحمه الله.
2. مرحلة الاكتمال: وتنتهي مع نهاية القرن الرّابع.
3. مرحلة التّوسع: مع التوسع في المحتوى مع نوع من الانحدار المنهجي وتنتهي في منتصف القرن السّابع.
4. مرحلة الانحطاط: وتمتد إلى عصر النّهضة الحديثة حيث ظهرت دعوات التّجديد وتم الشّروع في التّجديد في علم أصول الفقه مع المؤلفات الأولى مع الخضري وغيره من الأعلام.
مرحلة التّأسيس قلت تنتهي بالشّافعي ولا تبدأ بالشّافعي، لأنّ الشّافعي لم يخترع علماً كما يظن كثير من الناس، فهو واضع العلم مجازا، لأنه واضع الكتب وليس واضع العلم، ولا بدّ أن نفرق بين العلم والمؤلفات فيه، العلم قديم موجود من عصر أصحاب النّبي فإن الصّحابة قد استفادوه من توجيهات النّبي القولية والفعلية ومن معايشة تنزيل نصوص القرآن، ولا يوجد اجتهاد من غير أصول الفقه، وقد أفتى الصّحابة لما كانوا أصوليّين، أفتى التّابعون لما كانوا أصوليّين.
فعلم أصول الفقه كان موجوداً وكانت مسائله تدرس وتطرح في حلق العلم، وعدم وجود التأليف لا يعني عدم وجود العلم، كالحديث النّبوي، الذي كان في الصّدور وكان يحفظ ويملى، كذلك علم الأصول كان موجوداً في حِلق العلم، بعض الحداثيّين يطعن في العلم ويقول الشّافعي وضع الأصول التي تحكم عقولنا اليوم ، والشّافعي لم يضع أصولا من عنده، وإنما أخرجها إلى الوجود، ودونها لكي يبقى.
من الدّلائل التي تدلّ على أن مسائل الأصول كانت مطروحة قبل الشافعي رحمه الله أنه ذكر خلافاً في مسائل أصوليّة دقيقة جداً، عندما تكلم عن السّنة المستقلة في التّشريع أو الزائدة عما ما في القرآن ذكر ثلاث أقوال:
1.قيل هي وحي؟ 2. وقيل هي اجتهاد؟ 3.وقيل هي إلهام؟ والمختلفون لا شك أنهم شيوخه الذين درس عندهم.
عندما تعرض لمفهوم الموافقة ذكر الخلاف، هل دلالته لفظيّة؟ أم قياسيّة؟ ثمَّ رجّح أن دلالته قياسيّة.
وردّ ردّاً عنيفاً عمّن يثبت المعرب في القرآن الكريم، إذاً هذه المسائل الثلاثة كانت مطروحة قبله.
مرحلة التّأسيس تنتهي بتأليف الشّافعي للرّسالة لأنَّ بعده تأتي مرحلة الاكتمال، لأنَّ الرّسالة مرجعاً لجميع العلماء، ولكن كل مذهبٍ كانت له آراء تخالف بعض ما فيها، فالمالكية لديهم وجهة نظر في بعض القضايا، الحنفية عندهم وجهة نظر مخالف في بعض القضايا، ولما نشأ المذهب الحنبلي فيما بعد قالوا: لا بدّ أن نبرز ما يميزنا في باب أصول الفقه، فظهرت المؤلفات الأولى لإبراز الأئمة المجتهدين، فأخذ الحنفية هيكل الرسالة وخطّتها، ومسائلها ثمَّ بحثوا عن آراء أئمتهم فيها .
هنا لجأوا إلى تخريج الأصول من الفروع ضرورةً، لأنَّ أبا حنيفة وأبا يوسف لم يؤلفوا في أصول الفقه، فاستنبطوا آراءهم في مسائل الأمر والعموم والإجماع والقياس من الاجتهادات التّطبيقية في الفقه، ثمَّ بعد ذلك المتعصب سيقول هذا هو الصّحيح، والمنصف منهم سيعرضها على الأدلّة.
وكذلك المالكية سلكوا الطّريق نفسه ، ومن الكتب التي وصلتنا من ذلك العصر، مقدمة في الأصول لابن القصار وهي مقدمة لكتابه الكبير في علم الخلاف (عيون الأدلّة) هذه المقدمة الأصوليّة وثَّق فيها أصول الإمام مالك، من الفروع، إذ نجده يقول : وعليه تدلّ المسألة الفقه الفلانية أو عليه تدلّ مسائلُه، وهذا يبين أن تخريج الأصول من الفروع ليس خاصّاً بالحنفية وقد انهجه المالكية وكذلك الحنابلة ومن مؤلفاتهم في هذا العصر كتاب لم يصل إلينا ألفه أبو الحسن التّميمي المتوفي سنة 370، وقد نقل منه القاضي أبو يعلى في عدة مواضع من العدّة، وقد ذكر في موضع أن أبا الحسن خرج رأيا للإمام أحمد أنّه لا يرى مفهوم المخالفة حجة، بمعنى أنه خرّجه من الفروع.
وقد سميت هذه المرحلة مرحلة الاكتمال، لأنَّ المؤلفات التي ألفت فيها الغالب، حسب ما وصلنا منها اكملت بناء أصول بقية الأئمة ، وأكملت بناء أصول الشافعي أيضا ، وذلك حسب ما وصلنا ومنها أو من الكتب الضائعة التي نقلت لنا نصوص منها بالواسطة ، نحو موسوعة البحر المحيط للزركشي الذي مكننا من الوقوف على نصوص كثيرة من مؤلفات ضائعة تبين أنَّ الشافعية أيضا استعملوا تخريج الأصول من الفروع، لأنَّ الشّافعي لم ينصّ على كل القضايا الأصوليّة الجزئيّة في كتابه الرّسالة، نحو شرع من قبلنا والقراءة الشّاذة وغير ذلك من المسائل، التي تمكن الشافعية من معرفة رأي الشافعي منها من خلال استدلالاته في كتاب الأم.
وفي الأخير يتضح لنا أن هذه المرحلة لا يصدق عليها تقسيم ابن خلدون، وخاصّةً حصره لمنهج الفقهاء في الحنفية.
وفي هذا العصر ألف كثير من المتكلمين في أصول الفقه، لكن مؤلفاتهم كانت معدودة ، نحو أبو عبد الله البصري المعتزلي الذي له مؤلف في الأصول، وألف الأشعري في القياس، وفي العموم والخصوص، وألف الماتريدي (مآخذ الشّرائع) كتاب مشهور ونقل منه علاء الدّين السّمرقندي في مواضع كثيرة جداً في كتابه (ميزان الأصول).
وهنا نطرح سؤالا لماذا ألف الفقهاء والمتكلمون في أصول الفقه بعد الشّافعي؟
فأما الفقهاء فألفوا لإبراز أصول أئمتهم، ومع شيوع التّقليد وضعوا الأصول لنّصرة المذهب، والمجتهد المطلق منهم قد يكون موضوعيا في دراسة المسائل فيجتهد فيها على مقتضى نظره وخاصةً أن بعض المسائل الأصوليّة يخرّج فيها للإمام رأيان، وهذا موجود عند المالكية والشافعية والحنابلة، حيث يضطر الأصوليّ للترجيح بين الرّأيين المخرجين، وفتح الباب لتخريج الأصول من الفروع يفتح الباب للاختلاف في الأصول المخرجة وهذا يدفعهم للنظر والاجتهاد.
وأما المتكلمون فألفوا لغرض آخر يغفل عنه كثير من الناس، وهو نصرة المدارس الكلامية التي ينتسبون إليها، لذلك لا نجدهم ينصرون المذهب الفقهية التي ينتسبون إليها، ولا يهتمون حتى بتوثيق المذهب.
مثلا لماذا ألف الأشعري في العموم؟ ألف لأنَّ المعتزلة أكثروا الاستدلال في العمومات في مسألة حكم أصحاب الكبائر، فألف ليثبت أنّ العموم لا صيغة له، وأنه لا يحتج به إلا إذا جاء ما يؤيده، وكان ذلك ردّة فعل ضدّ المعتزلة.
ولماذا يقرر المعتزلة قطعية العموم في أصول الفقه؟ مع أنَّ العموم عند الفقهاء دلالته ظنيّة الجواب لأنهم يرفضون تقديم الخصوص إذا تعارض مع العموم، ويقدمون العمومات التي تضمنت الوعيد رغم ورود بعضها في سياقات متعلقة بالكفار فيدخلون فيها أصحاب الكبائر، فالمعتزلة يقولون بقطعية العموم نصرة لعقيدتهم والأشعري يعطل العموم نصرة لعقيدته، إذاً المتكلمون ألفوا في الأصول من أجل نصرة الآراء الكلامية.
عصر التوسع
إن المؤلفات الأصولية الكلامية إلى نهاية القرن الرابع كانت قليلة جداً، لكن بعد ظهور القاضي عبد الجبار والقاضي الباقلاني توسعت المؤلفات في أصول الفقه على المنهج الكلامي، وكتاب التقريب والإرشاد للباقلاني رحمه الله الذي طبعت منه أجزاء قد نص في المقدمات أنه لا ينبغي نصرة أصول الفقه على مذهب فقيه من الفقهاء، وأنَّ أصول الفقه قطعية والفقه ظني، لذلك سنجد أكثر الناس تأثر بالباقلاني المالكي الغزالي وهو شافعي، وسيؤسّسان مدرسة الواقفة، وسنجد بعدهما ابن الحاجب المالكي يختصر كتاب الآمدي الشّافعي، والذي جمعهم هي مدرسة الأشعرية، وإن خالفت بينهم المذاهب الفقهية، لو كانوا في العصر الأوّل لما كان هذا التّوافق وهذا الاهتمام بالكتب وهذه النُصرة.
وفي هذا العصر وجد علاء الدّين السّمر قندي صاحب (ميزان الأصول) ، الذي لما طبع كتابه في عصرنا، واطلع عليه الباحثون صححوا بعض التصورات ، مثله مثل لمقدمة ابن القصار التي وجدناه فيها يخرج أصول مالك من الفروع فقلنا هذه الطريقة لست خاصة بالحنفية إذن، إذ لما طُبع (ميزان الأصول) للسّمرقندي وجدناه في المقدمة يقسم الحنفية إلى من سلك طريقة المتكلمين ومن سلك طريقة الفقهاء، وصرح بسلوك طرق المتكلمين، إذاً حتى الحنفية كان فيهم متكلمون.
وفي هذا العصر عصر التوسع ظهرت سمات جديدة مختلفة للمؤلفات الأصولية ونخص بالذكر سمات ما ألف على طريقة المتكلمين.
1.الاستقلالية التي تؤدي إلى عدم الاعتناء بتوثيق المذهب،
فإذا قرأنا كتاب الباقلاني لم نشعر بانتسابه إلى أي مذهبٍ، ونجده يقول مذهب الصّحابي ليس بحجة، والإجماع السّكوتي ليس بحجة، والمصلحة المرسلة ليست بحجة، وعمل أهل المدينة ليس بحجة، وهذه الأشياء قد تميّز بها المالكية هو يقرّر أنّها لا ترقى أن تكون أصولاً، وهو أصلاً لا يذكر الإمام مالك في كتابه ولا يعتني بتوثيق آرائه. وهذه هي الاستقلالية.
2-التّجريد والانفصال عن الفروع
وقد صاحب الاستقلالية التّجريد والانفصال عن الفروع، قد نصَّ كثير منهم، كالجويني أن واجب الأصولي أن يصحّح الفرع على الأصل، لا الأصل على الفرع، بمعنى أن تكون موضوعياً في دراسة أصول الفقه لتجعلها ميزاناً وحكماً على الفروع، طبعاً هذا كلام صحيح، لكن استقلالية المتكلمين كان مفرطاً فيها لحدّ الخروج عن المذاهب الأربعة جميعها.
3-إدخال المسائل الكلامية في علم أصول الفقه
ولما ألف المتكلمون بغرض الانتصار للآراء الكلامية سحبوا معهم مقدمات كلامية، ومسائل كلامية، وبنوا ترجيحات في أصول الفقه بناء على آرائهم الكلامية ، وهذا شيء يقر به أبو الحسين البصري في المعتمد، والغزالي في المستصفى، إذاً ظهرت سمة أخرى وهي إدخال المسائل الكلامية في علم أصول الفقه، وبناء التّرجيحات على المسائل الكلامية، ومثال هذا البناء أن فقهاء المذاهب الأربعة جمهورهم يقول إن الأمر يفيد الوجوب، لكن الأشاعرة الذين تبعوا الباقلاني يقولون بالوقف، لماذا الوقف؟ وقد ينوا هذا الترجيح على مسألة كلامية، وهي أنّ الأمر لا صيغة له، لأن الأمر من الكلام ، والكلام معنى قائم بالنفس والصيغة من عوارض الألفاظ.
وهناك كتب ألفت هي هذه المرحلة حافظت على خصائص طريقة الفقهاء، ونعرف ذلك من خلال المسائل المطروحة فيها ومن مقدماتها، فعندما نجد الشّيرازي في اللمع يقول التمس مني بعض أصحابنا أن أُؤلف كتاباً في المذهب، نعرف أنه ألف في أصول مذهب الشافعي، والأمر نفسه في الإشارة للباجي فالكتاب كله في توثيق مذهب مالك والمالكية، وهو متأثر بشيخه الشّيرازي ولكن صبغ كتابه بصبغة مالكية، وأيضا في كتابه (إحكام الفصول) نص على تحقيق المذهب.
وكذلك القاضي أبو يعلى في كتابه العدّة دائما يقول على مذهب أصحابنا، على أصول أصحابنا، أي لم يتنصل من المذهب وتوثيق المذهب وكتابه مليء بتخريج الأصول من الفروع.
في هذا العصر يمكن أن نقول كان هناك نوع تكافؤ بين مدرسة الفقهاء ومدرسة المتكلمين.
عصر الانحطاط
أما العصر الأخير الذي نسميه عصر الانحطاط فقد حدّه محمد الخضري بك بسقوط بغداد منتصف القرن السابع، ويعبر المفكر الجزائري مالك بن نبي عن عصور الانحطاط بعصر ما بعد الموحدين، وتاريخ سقوط المتوحدين قريب من تاريخ سقوط بغداد وهذا التقدير هو أمرٌ تقريبي، لأنّ التّحولات في العلوم لا تأتي فجأة، ولكن تأتي بمؤثرات، وهناك من يصمد وهناك من يستسلم بسرعة وهكذا، ولكن لا مناص من وضع حدٍّ تقريبي.
وأما تحديد نهاية عصر الاكتمال بنهاية القرن الرابع فقد أخذتها من كلام الطاهر بن عاشور عندما يقول: علم أصول الفقه بعد القرن الرابع وقف، لأن الذينَ جاؤوا من بعده إنما نصروا ما كان قبله، ولم يأتوا بجديد كما يقول رحمه الله تعالى.
في عصر الانحطاط ظهرت خاصيّة أخرى متعلقة بالشكل، حيث غابت المؤلفات المبتكرة ، وكانت المؤلفات فيه تابعة للعصر السابق، أي شروح للمستصفى، شرح مختصر المستصفى، شروح للمحصول، شروح للمنهاج الذي هو مختصر من المحصول، شروح للتّنقيح الذي هو مختصر من المحصول، شروح مختصر ابن الحاجب الذي هو مختصر من الإحكام، فظهرت ظاهرت الاختصار وتلتها ظاهرة الشّروح أو تزامنت معها، وهذا نوع من الجمود ودنوا الهمة.
ويلاحظ في هذا العصر سيطرة كتب المتكلمين على الدّرس الأصولي، حيث عكف الناس على مختصر ابن الحاجب المأخوذ من الإحكام للآمدي وعلى منهاج البيضاوي المأخوذ من المحصول، وأصبحت هذه كتب كتبا مدرسية تدرس شرقاً وغرباً عند المالكية والشّافعية والحنابلة بالنسبة لمختصر ابن الحاجب، والمنهاج عند الشافعية، فأدى ذلك إلى تغلب المنهج الكلامي.
وإذا بحثت في هذا العصر عن كتب توثق المذهب المالكي والشافعي وتنصره ستجد ذلك عزيزاً. ستجد مفتاح الوصول للتلمساني المالكي والبحر المحيط للزركشي الشافعي والتحبير للمرداوي الحنبلي، وأما الصّبغة العامة للمؤلفات فكانت صبغة كلامية.
وإذا امتحنا تقسيم ابن خلدون بعصر الانحطاط نجده صحيحاً لأنَّ الحنفية عكفوا على مختصر البزدوي والنّسفي وهذه كتب قديمة في المذهب الحنفي، فالواقع في عصره يؤكد الثنائية الحنفية في مقابل المتكلمين، لكن تعميمها لكل العصور خطأ فادح لأنك عندما تحصر المالكي في عصرنا مثلا بين المنهجين ، فإنه سيتصور أنه ملزم بالمنهج الكلامي لأنه ليس حنفيا وهذا خطأ، لأنه ثمة طريقة خاصة بالمالكية وهي مختلفة تماما عن طريقة المتكلمين يمكنه أن يسلكها.
ومن الأخطاء التي ظهرت جراء هذا التعميم أن بعضهم صار يصنّف الشافعي في المتكلمين، وموقف الشّافعي من علم الكلام معروف ورسالة مليئة بالفروع الفقهية ولا تجد فيها لا مسائل الكلام ولا مناهج أهله فكيف يصنّف مع المتكلمين؟
مما يدفعنا إلى تصحيح النّظر نفي تعميم تقسيم ابن خلدون ما نقرأه في مقدمة قواطع الأدلّة لابن السّمعاني الشّافعي، من هجوم عنيف على المتكلمين، فهل يصح بعد ذلك تصنيف كتاب ابن السمعاني فيما صنف على طريقة المتكلمين؟ ثم إننا نجده في ثنايا الكتاب يلوم الجويني على مخالفة المذهب متابعة للمتكلمين، ويقول: من جبن أن ينصر المذهب فيسعه السكوت ولا ينصر على طريقة المتكلمين، ونجده في آخر الكتاب يرجح المذهب الشافعي ويقول بوجوب تقليده؟ فأين هو من مبادئ المتكلمين وخصائص مدرستهم.
من خلال هذا العرض التاريخي تتجلى لنا خصائص مدرسة الفقهاء وخصائص مدرسة المتكلمين، وهذه خصائص منهجية نستطيع أن نلخصها فنقول:
1-الغرض من التّأليف مهم، فإذا كان غرض الفقيه نصرة المذهب، وتأصيله، فحتما سيكون مضمون كتابه مختلفاً عن مضمون كتاب المتكلم الذي غرضه نصرة المذهب الكلامي معتزليا او أشعريا أو ماتريديا.
2- ويتبع هذا الغرض عند الفقهاء اعتماد طريقة بناء الأصول على الفروع التي كثيرا من تساق مساق العيب وليس ذلك بمسلم بإطلاق، لأن الأمر لو وقف حد توثيق المذهب فلا لوم عليهم ولا نقصَ في طريقتهم، بل هذا طريقٌ علمي شرطه الاستقراء والتّتبع فلا نكتفي بفرعٍ أو فرعين، بل نبذل الجهد في تتبع أكثر عدد ممكن من الفروع، حتى يحصل عندنا الظّن أنَّ أصل الإمام كذا وكذا، أما جعل الفرع دليلاً على صحة الأصل فهذا فيه نظر، لأن أقوال الأئمة ليست أدلّة.
ثم إن ما ينكره المتكلمون على الفقهاء قد وقعوا في مثله، لأنهم بنوا كثير من التّرجيحات الأصولية على خلفيتهم العقدية، بمعنى أن الفقيه يرجح بناء على خلفيته الفقهية والمتكلم يرجح بناء على خلفيته العقدية، وكلاهما واقع في المحذور نفسه وهو التقليد ، وإلا فما الذي يجعلو الأشعري يكابر ويقول افعل ليست صيغة أمر ويصرح بتخطئة سيبويه والخليل ويقول تلك آراؤهم وليسوا كل العرب، وإلى غير ذلك إلى ما هو معروف، وهذا يردنا إلى غرض التأليف.
3- وأما من حيث المضمون والموضوعات المطروحة، فالفقيه لن يطرح مواضع كلامية، بل سيطرح ما يفيده في كلامه في الفقه أو علم الخلاف الذي يشبه علم الفقه المقارن في عصرنا، ويختلف عنه في الموضوعية المفروضة في عصرنا ن ولم يلتزم بها أهل علم الخلاف فلا ينقدنا أدلة مذهبهم والغالب عليهم هو نصرة المذهب، فالمقدمة لابن القصار مثلا، والفصول للجصاص الذي هو مقدمة لكتاب أحكام القرآن تفصيل لأصول المذهب التي سيستعملها في نصرة المذهب.
فلن نجد عندهم مسائل كلامية أو فرضية بخلاف كتب المتكلمين فقد قال الغزالي لما كان غالب علمهم وغالب اهتمامهم علم الكلام أدخلوا مسائل كلامية بحتة ومحضة في علم الأصول.
3-مما يتبع ما سبق طبيعة الاستدلالات، ففي كتب الفقهاء نجد الاستدلال بالكتاب والسنة، والآثار واللغة العربية، وأما بالنسبة للمتكلمين فنجد إضافة إلى ذلك ما يسمى الأدلة العقلية المستعملة في علم الكلام نحو السّبر والتّقسيم، ودلالة اللزوم، وإنتاج المقدمات للنتائج، والاستدلال بالشّاهد على الغائب.
4- وتبع ذلك التّرجيحات، فقد تأسّس علم أصول الفقه في وقت بناء المذاهب، لذلك التّرجيحات في غالبها كانت في نصرة المذهب، ولكن بالنسبة للمتكلمين فالأمر كان على العكس من ذلك، فترجيحاتهم كانت متميزة بالاستقلالية. فالواقفة الذين تبعوا الباقلاني كان عندهم نوع من التّعصب لمذهب الأشعري، وأما الجويني رحمه الله فقد كانت له آراء خالف فيها الأشعرية، ي دقائق الكلام أو قضايا أصول الفقه، وكأن الجويني أسّس مدرسةً آخرى في علم أصول الفقه متفرعةً عن المدرسة الأشعرية، مستقلة عن الكل نتج عنها كثرة المذاهب واحداث الأقوال الجديدة في أصول الفقه، لذلك صرنا ننظر في التّبصرة للشيرازي مثلاً فنجد في المسألة قولين، فإذا نزلنا إلى البحر المحيط وجدنا عشرة أقوال وربما أكثر ، وهذا نتيجة للاستقلالية المفرط فيها.
5- ومما يتبع ما سبق المصطلحات، فالفقيه ستكون لغته لغة الفقهاء، والمتكلم سيستعمل مصطلحات كلامية، وسيستعمل مصطلحات منطقية وقد كانت البوادر الأولى لذلك مع الجويني ثمَّ الغزالي ثم ترسيم ذلك مع الرّازي والآمدي، وأصبح علم المنطق ليس من مقدمات الأصول كما كان مع الغزالي، في المستصفى، بل أصبح مع الرّازي أهم دليل المستعمل، ومع الآمدي أصبح القياس الأرسطي دليلاً من الأدلة الشرعية، ومع ابن الحاجب، صارت المقدمة المنطقية جزء من علم الأصول.
بعد هذا العرض أظن أنه قد تبين أن عدم تمييز المناهج الأصولية بخصائصها له أثر كبير في البحوث المعاصرة.
موضوع علم أصول الفقه؟
المقصود بالنظر في هذه القضية تعيين الموضوع الأساسي للعلم وتمييز الأمور التّبعية، ثمَّ بعد ذلك تعيين الأمور التي ليست من أصول الفقه، لأنّ ما يكون بين دفتي أي كتاب فيه ما هو أساسي وفيه مقدمات وأمور توابع، ولا بدّ أن نميّز ما هو أساسي وما هو إضافي من أجل حسن الاستفادة، وهناك الدّخيل أيضا الذي لم يكن موجوداً في عصر ثمَّ أُدخل في عصر آخر.
إن البحث في موضوع العلم مهم جداً، لأننا في عصرنا نَدرس ونُدرس الكتب بكل ما حوت، الصلب والمُلح والتوابع والدخيل ، ولا يمكننا واقعيا أن نميّز بين الغثِّ والثّمين، وبين المفيدِ وغير المفيد، حتى نقرأ ما لا يفيد، إلا إذا وجدنا شيخاً ومرشداً يقول مثلا هذه المسألة الخلاف فيها لفظي، وهذه غير منتجة، وهذه لا ينبني عليها فرع، ولكن علم اليقين لا يحصل إلا بالممارسة.
من فائدة الخوض في موضوع العلم أن نحدد المسائل الجديرة بالبحث في عصرنا؟ وما هي الأشياء التي تُؤخر؟
إذا البحث في علم أصول الفقه لابد أن يتركز في موضوعاته الأساسية لا في المُلح ولا في الإضافات لا في المقدمات والتتمات، لا نبحث في الدخيل، ولا نشك في وجود الدخيل فإن الغزالي قد قال في مقدمة المستصفى: إذا ألف في أصول الفقه نحوي فسوف يستصحب معه مسائل النّحو، وإذا ألف فقيهٌ سيستصحبُ معه مسائل الفقه، وإذا ألف متكلم سيستصحب معه علم الكلام، وكل ذلك ليس من العلم في شيء.
ولما هو كان متأثراً بالفلسفة أدخل المنطق فانتقده ابن رشد الفيلسوف، وقال: ينبغي لكل علم أن يدرس في مكانه، فالمنطق درس في كتبه ومسائل النحو ومعاني الحروف تدرس في كتب النحو والعربية ، والقواعد الفقهية التي أقحمها الحنفية لها بابُها في كتب الفقه، كالعوارض الأهلية مثلاً، فتكليف المجنون والسّكران والصّبي هذه مسائل فقهية تدرّس في كتب الفقه لأنها أحكام فقهية لا ينبني عليها استنباط وليست من أصول الفقه.
موضوع العلم:
قد اختلف الأصوليون في تحديد موضوع علم أصول الفقه، وهذا الاختلاف قد نجده في تعريفاتهم للعلم، وهناك من طرقَ هذه المسألة صراحة.
باختصار نقول: هناك من عرف علم أصول الفقه بأنه: أدلّة الفقه، ويقصد الأدلّة الإجمالية ويدخل فيها الأدلة والدّلالات.
وهناك من أدخل الأحكام الشّرعية وهم جمهور الحنفية، أدخلوا مبحث الأحكام الشّرعية وخاصة مسائل المحكوم عليه، والمحكوم به، وهي مسائل التّكليف والأهلية، والتّفصيل فيها، وعندما نتأمل هذه القضايا نجد أكثرها مسائل فقهية.
وقد نتج عن هذا أخطاء كمن عنون أطروحته بالرّخصة الشّرعية وآثرها في الأحكام الفقهية، لأن الرّخصة في حد ذاتها حكم، والرّخصة نتيجة وثمرة، والذي يكون له أثر هو الدليل أو القاعدة الاستدلالية، فيصح أن تقول الأمر وأثره في الفقه، فالأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الاستحباب، ويدلّ على الفور، ويدلّ على التّكرار، فلا شك أن له أثرا ، وكذلك خبر الواحد له أثره، والقياس له أثر، لكن الحكم شرعي هو في نفسه أثر ولا يمكن أن يفيد . يمكن أن يصحح هذا العنوان فيقال الرّخصة الشّرعية وتطبيقاتُها في مذهب كذا. إذن هذا رأي ثان تبنى إدخال الأحكام الشّرعية.
وهناك رأي ثالث لبعض المتكلمين حيث دافع وبقوّة على إدخال أحكام الاجتهاد، فلما كان العلم يعرف بأنه معرفة الدليل الشّرعي وطريقة الاستفادة منه، أضيفت كلمة وحال المستفيد، وأحكام الاجتهاد، موجودة بين دفتي الكتاب، لكن هل الخلاف هي أساسية أم تابعة وتتمات؟
الصّواب في كل هذا من غير إطالة أن جوهر علم أصول الفقه هو الأدلّة الشّرعية، والدّلالات جزء منها، والأحكام الشّرعية بعضهم أدخلها في باب الأمر والنّهي، فكل ما يتعلق بالحكم الشّرعي التّكليفي على وجه الخصوص موجود في كتاب الأمر، ترجع إلى كتب الشّافعية قبل الغزالي وحتى بعده كمحصول الرازي تجد مسائل الأحكام الشرعية، ضمن أبواب الأمر.
إذا لدينا ثلاث آراء في موضوع أصول الفقه:
1. الدليل + الدلالات.
2. الأدلة + الأحكام.
3. الأدلة + الاجتهاد.
بعد أن بنى الغزالي رحمه الله تعالى كتابه المستصفى على الأقطاب الأربعة: أحكام، أدلة، دلالات، اجتهاد.
كثير من المتأخرين قال إن موضوع أصول الفقه هذه المسائل الأربعة.
هؤلاء الأصوليون مع اختلافهم متفقون على وجود موضوع أساسي وموضوع تكميلي أو الأصيل والدّخيل، لأنَّ هذه الأشياء إمّا أمور فقهية وإمّا أمور فعلاً هي أصولية، لكن هناك أشياء لا يمكن أن تدخل في معنى أصول الفقه ولا في معنى الفقه، فالمسائل التي ليست منتجةً في الفقه، لا يمكن أن نعتبرها أصيلة فنعيد دراستها في عصرنا هذا، الآن يأتي إنسان يقول أريد أن ادرس في علم أصول الفقه أضع أطروحة في التّحسين والتّقبيح، فنقول له أن تدرسها في علم الكلام فأمر مقبول، لأنها مسألة كلامية، لكن في تخصّص أصول الفقه لا يمكن أن تدرس هذه المسألة لأنها دخيلة، لا تندرج في موضوعه، وليس كل ما وجد بين دفتي كتاب أصولي وخاصّة كتب المتأخرين فهو من أصول الفقه، هناك مسائل كلامية كثيرة وليس فقط التّحسين والتّقبيح، نحو مسألة شكر المنعم، ومسألة خطاب المعدوم التي حيرت المتكلمين وهي مبنية على القول بأن الكلام ليس إلا النفسي القديم.
توجد في أصول الفقه بعض المسائل الفرضية فلم ينفرد الفقهاء بالفقه الافتراضي فقد شاركهم المتكلمون في الأصول نحو مسألة إجماع العوام عند خلو العصر من مجتهد، ومسألة الإجماع في زمان النّبي ن ومسألة النهي عن شيءٍ لا بعينه، مسألة حكم اللفظ قبل أن يستعمل في الحقيقة والمجاز، وهل في الكلام لفظ غير الحقيقة والمجاز؟ في أشياء كثيرة حتى عندما تريد أن تتصورها يصعب عليك ذلك. فمثل هذه المسائل الفرضية تجتنب ولا يبحث فيها.
وكذلك المسائل اللغوية، نحو مبدأ اللغات، وتقسيم الكلام، ومعاني الحروف، وهذه الأخيرة ممكن أن يكون لها أثر في الفقه، لكن ليس كل ما أفاد في الفقه هو من أصول الفقه، وإلا فليكن علم الحساب من الفقه كما قال الشاطبي، أما مسائل الأمر والنهي والعموم والخصوص ونحوها فهي مسائل لغوية أصيلة في العلم ولا مكان لدراستها إلا علم أصول الفقه وأما المسائل الأخرى فتدرس في فنها.
وكذلك المسائل الحديثية البحتة، نحو مسائل الرّواية : السماع والإجازة والوجادة، هذه مسائل تترك للمحدثين، ومثلها مسائل الجرح والتّعديل والجرح يقدم على التعديل، واشتراط أن يكون الجرح مفسرا، فهذه مسائل حديثية ليست من شأن الأصوليين، ولا يُبنى عليها استدلال، وإنما تفيد في ثبوت الحديث، المحدثون هم من يبحث في الصّحة والضّعف، وإنما تبدأ مهمة الفقيه بعد ثبوت الصّحة وهي متعلقة بالاستدلال ، والاستدلال ليست له تعلق بالجرح والتّعديل، نعم هناك مسائل مشتركة، كثبوت المرسل وحجية المرسل، فتبقى مشتركة بين العلمين، لكن المسائل الأخرى لا ندرسها في علم أصول الفقه، ندرسها في علم الحديث وهي مهمةٌ في علم الحديث.
وهناك بعض المسائل متعلقة بالجدل، نحو قوادح القياس مذكورة في كتب الأصول، وعلم الجدل هو علم آخر غير أصول الفقه قد يعرف بأنه علم أصول خاص، وكتب الجدل غير كتب الأصول، نحو (المعونة في الجدل) للشيرازي، (المنهاج في ترتيب الحجاج) للباجي فهذه كتب الجدل، وقوادح القياس منها استعيرت.
وقد أدخل أبو يعلى قوادح الاستدلال بالسّنة أيضا، وأدخل ابن عقيل آداب الجدل، هذه الأشياء ليست من أصول الفقه، ولا تدخل في موضوعه بأي حال من الأحوال، هذا فضلاً عن المسائل المنطقية جلُّ المسائل تجدها في المقدمات المختصرة، نحو مختصر ابن الحاجب فهذه الموضوعات كذلك لا ينبغي أن تكون موضوعات بحث، وعناوين مسائل في أصول الفقه، فإذا أردنا أن نكون موفقين في بحوثنا وفي منهج بحثنا وفي اختياراتنا، فعلينا أن نختار ما هو أصيل ومنتج في الفقه، ومفيد في الاستدلال وفي الاستنباط.
مرض الحقد وأثره على التمييز غير منشورة
بعد الجدل لابد من عمل غير منشورة
بعد الجدل لابد من عمل.
إنه بمجرد أن تنامت إلى بعضنا أخبار استغلال حدث كأس العالم للدعوة إلى الله تعالى من طرف دعاة أذكياء عاملين ، حتى انطلقوا في حملة دعائية مجانية للدولة المنظمة وتأييد تنظيم مثل هذه البطولات، التي هي من حيث واقعها وأهدافها محادة لله ولرسوله ، بل هي حرب على الأديان كلها والبشرية جمعاء.
وقد كتبت من قبل منشورا مقتضبا أشرت فيه إلى المنطق المعكوس الذي يفكر به هؤلاء الناس ، فذكرت قصة ابن تيمية مع تلميذه الذي أراد أن ينهى التتار عن شرب الخمور؛ فنهاه عن ذلك لأن سكرهم يشغلهم عن القتل والنهب ، وإن فقه من خطط لاستغلال الحدث من المخلصين الأذكياء الأخفياء ؛ من جنس فقه ابن تيمية ولا شك، ولكن صنيع الذين صاروا يشرعنون الباطل ويدعون إليه يشبه صنيع من يقول كان ينبغي أن يكثر المسلمون من صنع الخمور وتوريدها للتتار ...ولعل سبب كتابة ذلك المنشور كان خفيا على كثيرين، وقد عدت لايضاحه .
وذكرت هذا الموضوع مجددا فعدت إليه بعد قراءتي لكلمة منقوله عن الأستاذ مالك بن بني رحمه الله، يصف فيها واقع أكثر المسلمين؛ الذين يفكرون لا ليعملوا بل ليقولوا كلاما مجردا ، فبمجرد قراءتي لهذا الكلام استحضرت هؤلاء الذين دخلوا في جبلة موضوع استغلال الحدث للدعوة ومن ثم الشرعنة للباطل وأدخلوا معهم غيرهم في جدل لعله لم يتوقف بعد، ولن يتوقف إلى أن تنتهي المنافسة، ذكرتهم تساءلت هل طرح بعضهم أمرا عمليا يمكن أن يستغله في محيطه المليء بمثل هذه المنافسات، أقول هل طرح بعضهم متسائلا لا منكرا ، لأني لم أر ولم أعلم، وعدم الرؤية ليس دليلا على عدم الوجود، وعدم العلم ليس علما بالعدم.
هل فكر الجزائريون مثلا في استغلال مباريات البطولة والكأس للدعوة إلى الأخلاق والفضيلة والنهي عن المنكرات الملازمة لها ، وهذه بعض تلك المنكرات .
-إن متابعة المباريات في الملاعب مدعاة لتأخير الصلاة عن وقتها ، كما أن كثيرا من المشجعين من تاركي الصلاة، فهل اقترحت برامج للدعوة إلى المحافظة على الصلاة وعدم التهاون بأمرها ، هل اقترحت أشياء لإلزام المسؤولين حتى تراعى أوقات الصلاة في برمجة المباريات.
-إن المباريات في الملاعب تقترن بهاتفات كثيرة فيها منكرات من سب وكلام فاحش وتعيير ، وشعارات جاهلية وعنصرية ، فهل تم اقتراح أمور تواجه به هذه المنكرات في ملاعبنا .
-كثيرا ما تنتهي المباريات بأحداث شغب يعقبها افساد للممتلكات واعتداء على الأجسادوالأرواح ، فهل تم اقتراح أمور عملية تبقي اللهو لهوا ، تسيطر عليه الروح الرياضية -كما يقال-.
ولا شك أن من يدخل الملاعب ويختلط برواد الملاعب هو أعلم بتفاصيل المفاسد الموجودة قديمها وحديثها ، ومن هم في ميدان الرياضة أو قريبين منه أدرى بالوسائل التي يمكن استغلالها أو توظيفها لصالح الدعوة.
طبعا أذكر مجددا أننا لسنا في حاجة إلى مزيد من نشر وسائل اللهو ولسنا بحاجة لشرعة الباطل...ولسنا بحاجة للجدل من أجل الجدل .
وإنه ليس من العقل أن يبقى المرء يناظر ويماري في أمور ليست في يده وهي بعيدة عنه في دولة أخرى ويترك التفكير فيما هو يده وفي بلده ..
وحتى لا نضل عن العمل بالجدل؛ علينا أن نفكر تفكيرا يجعلنا عاملين ولا تفكيرا يشبهنا بالمشجعين الذين يهتفون ثم لا يبقى لهتافهم أي أثر.
ولنتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وصححه «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» والذي معناه -كما قال الشراح- أن الضلال بعد الهدى سببه الجدال الباطل، فما ضل أناس عن الصراط إلا كانوا قد خاضوا في الجدل الباطل ، والجدل الباطل ألوان كثيرة ومنها الجدل في الحق بعدما يتبين ومنها الجدال الذي ليس له من دافع سواء مماراة والظهور على الخصوم ، ومنها الجدال فيما لا يعني المرء وفيما يشغله عن الواجبات وعن العمل.
وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
عداوة الحداثي لأهل الاصلاح والتجديد غير منشورة
عداوة الحداثي لأهل الاصلاح والتجديد
يقول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) (النساء:51)
في هذه الآية الكريمة تعجب من حال هؤلاء اليهود الذين فتح الله عليهم بالهداية بتوريث الكتاب فيهم، هذا الكتاب الذي كانت أول وصاياه إقامة التوحيد لله تعالى والابتعاد عن الشرك ومظاهره، كيف تردى بهم الحال لمّا تركوا العمل بما علموا من توحيد وشرائع؛ حتى صاروا يؤمنون بما يضاد ما أكرموا به مضادة تامة، وهو الجبت والطاغوت أي يؤمنون بمعبودات غير الله وشرائع غير شرائع الله...
ومن العجب أيضا أنه لما جاءهم أهل الشرك الذين يعبدون غير الله تعالى ودينهم كله بدع وضلالات وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان؛ يسألونهم عن أي الدينين أفضل دين المشركين أم دين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أجابوهم بلا حياء بخلاف ما هو بديهي عندهم، وقالوا لهم أنتم أهدى سبيلا ، يعني أن المشركين عباد الآلهة المتعددين أهدى من الذي يدعو إلى توحيد الله تعالى، ولكن لما تعرف أنهم قبل ذلك قد آمنوا بالسحر والسحرة واتخذوا الأحبار أربابا من دون الله ، ولما تذكر أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليهم وسلم حسدا من عند أنفسهم يتضح لك سرُّ هذا الجواب المليء بالكذب والنفاق ...
وأنا أتأمل هذه الآية الكريمة ذكرت هؤلاء الذين ينعتون أنفسهم بالحداثيين، هؤلاء الذين ولدوا مسلمين وقرأوا الكتاب وآمنوا بعقائده مدة من الزمن ثم تردى بهم الحال إلى أن صاروا يؤمنون بالنظريات الغربية والشرائع الوضعية التي تضاد الكتاب التي تكفل الله تعالى بحفظه لهذه الأمة، وصاروا ينظرون إلى الدين الذي ورثوه بعباداته وشرائعه مجرد أفكار بشرية أضفيت عليها القداسة، وأنه في مجمله خرافات غارقة في اللامعقول وطقوس تحمل دلائل التخلف الفكري والتقليد الأعمى، هكذا ينظر الحداثي التنويري للدين الموروث ويعتبره ظلمات بعضها فوق بعض، ويظل يصارع ويناظر من أجل إقناع الظلاميين والغارقين في الظلام حسب زعمه ليخرجهم إلى النور الذي هدته إلى النظريات الغربية وجعلته يفهم القرآن بعيدا عن الخرافة والتقاليد واللامعقول... ولكن سرعان ما نجد هذا الحداثي يقحم نفسه في صراع قديم محتدم بين محافظين تقليديين وإصلاحيين مجددين، بين تقليديين متمسكين بكل موروث حتى لو كان من جنس البدع والخرافات والضلالات التي تمجها الفطر وتنكرها العقول السليمة وبين إصلاحيين يدعون إلى تنقية الدين وتنزيهه من هذه الأفكار الدخيلة وهذه الأعمال التي ألصقت بالدين وليست منه ، وكانت سببا في تشويه صورته.
ولقد كان مقتضى القياس والذي ينسجم مع ما يسعى إليه الحداثي هو أن يقف في هذه المعركة في صف دعاة الاصلاح ويقول لهم لقد أصبتم في قولكم إن هذه الأشياء خرافات وتقاليد بالية وأنه من جنس اللامعقول، ولكن يلزمكم فقط أن توسعوا نظركم لتدركوا أن ما أنتم عليه لا يختلف عما تنهون عنه، ولكن الحداثي سيفاجئنا كما فاجأنا اليهود حين يؤيد أنصار التقليد والتقاليد وحماة الخرافات واللامعقول، يفاجئنا حين يقول لهم أنتم اهدى من الإصلاحيين سبيلا ، ويزيد على ذلك فيقول إن دعاة التجديد قد أتوا بدين جديد...وإننا لنعجب فيما أقحمه في هذا الصراع الذي لا يعنيه ولكن إذا ذكرنا أنه في الساحة الفكرية لم يجد من يشكل خطرا عليه إلا أصحاب العقول المتحررة نعلم أنه ما جعله يقف هذا الموقف المليء بالكذب والنفاق إلا حقده على الذين يعتقدهم أولى الناس بالحق، وإلا ليقينه بأن الإصلاحيين هم أصحاب مشروع النهوض المنافس لمشروعه، بخلاف هؤلاء التقليديين الجامدين الذين أخبره الغربيون أنهم لن يشكلوا خطرا على مشروعه، وأذنوا له أن يعقد معهم تحالفا استراتيجيا مؤقتا ومحدودا بهذه القضايا دون غيرها.
علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسنوسي (ت:895)أنموذجا غير منشورة
علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسنوسي (ت:895)أنموذجا
نشر في مجلة حوليات الجزائر، المجلد 36 العدد 3 ، الصادر في سبتمبر 2022 ، ص441-465
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أمَّا بعد: فإن علم المنطق من علوم حكماء اليونان القدماء قبل الإسلام؛ علمٌ وُضع ليكون مميّزا للبرهان الصحيح من غيره؛ فيكون كالآلة العاصمةِ من الزّلل في الاستدلال، وضُمّن ضوابطَ تحكُمُ مصطلحات العُلوم وتصوّراتها؛ لأنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره. ونظيرُهُ في العلوم الإسلامية علمُ أصول الفقه؛ الذي برزَ بعد أنْ نمَت العلومُ وتطوَّرت وتمايزتْ فكان فيها بمنزلةِ الميزانِ؛ له قواعده ومصطلحاته المناسبة لطبيعة المعرفة الإسلامية؛ التي لها خصائصُها ومميزاتُها.
ولكن سرعانَ ما ترجمَ الفلاسفة الإسلاميون كتبَ المنطق ووظّفوا قضاياه في بُحوثهم؛ فقاومهم المتكلمون وغيرهم أوّلَ الأمرِ؛ ثم سلَّمَ لهم بعضُ المعتزلةِ صحَّةَ قواعدِ المنطقِ، ورضوا بالاحتكام إليها باعتبارها وسيلةً إلى الأحكامِ وليست أحكامًا في نفسها، متغافلينَ عن أنَّ فسادَ المعيار يؤدِّي حتمًا إلى فسادِ الأحكام، هذا فضلًا عن وجودِ ما يُغني عنه في شريعتنا وهو علمُ أصولِ الفقهِ من علوم الشريعة، وعلمُ البلاغةِ من علوم اللسان .
ولا يزالُ تأثيرُ المنطقِ في العلوم الإسلامية يتزايدُ؛ حتى وصلَ في العصورٍ المتأخرة إلى مصنفات تفسير القرآن الكريم وشرح الحديث النبوي؛ وهنا تظهرُ إشكالية جديرة بالدراسة، حولَ إحلال المنطق محلِّ قواعد التفسير والاستدلال المقرّرة في علم أصول الفقه ومزاحمته لها؛ وكيف وصلَ تأثيره إلى هذه العلوم؟ وما هي أسبابه؟
ولما كان موضوع تأثير المنطقِ في مصنَّفات التَّفسيرِ والحديثِ لمْ يأخذ حظّه من البحْث تجليةً وتحليلاً، رأيتُ أنْ آخذ عيّنة من العينات؛ مختصَّة بعصر من العصور في بقعة من البقاع الإسلامية، لتكون محلَّ دراسةٍ وتحليلٍ في هذا السياق، فاخترتُ شرح صحيح البخاري لمحمد بن يوسف السَّنوسي (ت:895) إمام المعقول في القرن التاسع في تلمسان والمغرب الأوسط عموما، وقد عنْونتُ البحث ب:"علم المنطق وأثره في التراث التلمساني، شرح صحيح البخاري للسَّنوسي أنموذجا". وذلك بقصْد بيان مَدى تأثير القضايا المنطقية في شروحِ الحديثِ النَّبوي في تلمسان في تلك الحِقبةِ بالذات، وربما يُعمَّمُ الحكمُ إلى العصور التي تلتْهُ إذا نظرنا إلى أنّ تأثير مصنَّفات السَّنوسي قد امتد لقرون، وتجاوز حدودَ المغرب إلى المشرق، كما أنِّي سأحاولُ بيان أثرِ المنطق في مصادرِ السَّنوسي في الحديث وغيره من العلوم، وأبيِّن أيضا أنماط هذا التوظيف في كتابه؛ وللإجابة عن الإشكالية وتحقيق هذه الأهداف سأتّبع بإذن الله تعالى المنهج الوصفي، كمَا سأوضّف المنهج التحليلي حيث يستدعي الأمر إعماله، وقد قسّمت البحث إلى مطلب تمهيدي ومبحثين وخاتمة، فأمَّا المطلبُ التمهيدي فحَوى ترجمةً مُوجزةً للإمام السنوسي، وأما المبحث الأولُ؛ فجعلته لبيان توغّل علم المنطق في العلوم الاسلامية، وإسهام علماء تلمسان فيه عموما، وكذا أثرُ علمِ المنطقِ في مؤلفات السنوسي وأسبابه، وأمَّا المبحث الثاني؛ فجعلتُه لبيَان أثرِ المباحثِ المنطقيةِ في شرح صحيح البخاري للسنوسيّ، سواء مباحث التصوُّرَات أو التَّصْدِيقات، وأمَّا الخاتمة فضمَّنْتُها خلاصة النتائج المتوَّصَلِ إليها.
مطلب تمهيدي ترجمة موجزة للإمام السنوسي
نَتعرّض بإذن الله تعالى في هذا المطلب لترجمةٍ موجزةٍ لمحمد بن يوسف السنوسي، ونقتصر فيها على أهمّ ما يُضمَّنُ في سير العلماء عادةً، من النشأة العلمية والتلاميذ والمُؤَلَّفات وتاريخ الوفاة وثناء العلماء عليه.
الفرع الأول: نسب السنوسي ومولده ونشأته
هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر بن شعيب السَّنوسي الحسني التِّلمساني.
فهو السَّنوسيُّ نسبًا، إذْ أصله يرجع إلى قبيلة بني سَنوس البربرية؛ القاطنة بالغرب الجزائري والتابعة إداريا لولاية تلمسان حاليا. وهو تلمسانيٌّ نشأةً وإقامةً ووفاةً.
وهو الحَسَنيُّ شرفًا لا نسبًا إذ كانت أم أبيه شريفةً؛ من نسْل الحَسن بن علّي بن أبي طالب(1).
ولد السَّنوسيُّ ببني سنوس على أميال من جنوب تلمسان، واختلفَ المؤرِّخون في تحديدِ سنةِ ميلاده، وأقربُ ما قيل في ذلك هو سنة 830 هـ، أو سنة 832 هـ (2).
نشأ الإمام السَّنوسي بتلمسانَ حاضرة العلم والعلماء في ذلك الزمان، في أسرة دينٍ وعلمٍ، فقد كان أبوه معلِّما للصبيان في كُتَّاب، وعنه أخذ السَّنوسي مبادئ العلوم الشرعية، وكان السَّنوسي منذ صغره كثير التغفُّل عن أمور الدنيا، ومشارا إليه بالصلاح لكثرةِ حيائِه وصدقِه وعظيم شفقته ورحمته(3).
وقد كانت ظهرتْ عليه بوادر النَّجابَةِ منذُ نعومةِ أظفاره؛ فحظيَ ببركة دعاءِ كبار الصالحين له بالتَّوفيق والتَّسديد، منهم الإمام ابن مرزوق الحفيد، ومنهم الولي الصالح الحسن أبركان الذي كان يحضرُ مجالسَه في سنٍّ مبكرٍ(4).
الفرع الثاني : طلب السنوسي للعلم
حظيَ السَّنوسي بمحيط مليءٍ بالعلماء والصالحين، فَحصَّلَ العلومَ الشرعيةَ جميعَها دونَ حاجةٍ إلى رحلةٍ في الطلب؛ باعتبار أنَّ تلمسان كانت من حواضر العلم ومحطَّ العلماء والرحَّالةِ، فلمْ تكنْ له سوى رحلةٌ واحدةٌ؛ بعد أنْ تضلَّع في العلم وألَّفَ فيه؛ قصدَ فيها مدينة الجزائر رُفقةَ أخيه لأمِّه الشيخ التَّالوتي فلقيَ الإمام الثعالبيَّ(ت:876) وغيره، ثم عرج على وهران حيث لقيَ الشيخ إبراهيم التَّازي(ت:866) (5) ، ولعلَّ سببَ الرِّحلة إلى هذين الشيخين هو تحصيلُ علم الحديث بسندٍ عالٍ متصلٍ.
وقد رأيتُ أنْ أخالف معهود التراجم بتعداد الشيوخ إلى ذكر الفُنون التي درسها على هؤلاء الشيوخ؛ لأنَّ كثرة الفنونِ وتنوُّعها أدلُّ على مكانة العالِم ومتانةِ تكوينه من كثرةِ الشيوخ وتنوُّعِهم.
1-القراءات وكتب السنة
نالَ السَّنوسيُّ إجازة في القراءات السَّبْعِ من شيخه أبي الحجَّاج يوسف الشريف الحسني، وأجيز بالصحيحين وغيرهما من الشيخ الثعالبي وإبراهيم التَّازي وابن مرزوق الكفيف(ت:901)(6).
2-السلوك والتوحيد
وحصَّل رحمه الله طرائق السلوك والتصوّف من الحسن بن مخلوف أبركان(ت:857هـ) والثعالبي وإبراهيم التازي(7)، وحصّل علم التوحيد على الطريقة الأشعرية من الكنابشي البجائي(8)، كما أجازه التازي في كتاب الشفا للقاضي عياض. وأخذَ في رحلتِه إلى الجزائر عن أحمد بن عبد الله الزواوي (ت:884) منظومته الجزائرية في التوحيد والسلوك(9).
3-الفقه وأصوله
وأمّا الفقهُ -وهو عمدة العلوم جميعها -فقد درسَ فيه الرسالة لابن أبي زيد على أخيه التالوتي(ت:895هـ) والمدونة على الجلّاب(ت:875)، وكان في شيوخه أيضا شرَّاح لمختصر ابن الحاجب الفرعي منهم التالوتي(10). وأمَّا علم أصول الفقه فقد صرَّح بأنّه أخذه عن ابن العباس العبّادي(ت:871هـ)(11)، ومن شيوخه الذين برزوا في الأصول إبراهيم التازي وابن مرزوق الكفيف، ومن المقرّرات التي كان يدرسها هذا الأخير مختصر ابن الحاجب(12).
4-الفرائض والحساب والفلك
وأخذ السَّنوسيُّ علم الفلك عن ابن الحبَّاك(ت867)، ودرسَ الفرائض والحساب على القلْصادي (ت:891) ومحمد بن قاسم بن تونزت، وابن الحبَّاك أيضا (13).
5-المنطق والعربية
وأخذ السَّنوسيُّ علمَ المنطق عن ابن العبَّاس العبَّادي، والعربية عن نصر الزَّواوي، وابن العبَّاس أيضا(14).
ورغم أنَّ الدَّراسة على الشيوخ كانت الطَّريقة المثلى لأخْذ العلوم وفهم مقاصدها، إلَّا أنَّ التّحقيقَ فيها يحتاج إلى مطالعة الدَّواوين المطوَّلات ومزاولة نسخِها والتّلخيص لها، والشيخ السَّنوسيّ كان يخصِّص جزءا من وقت الضُّحى للمطالعة، كما أنَّه كان يمارس النَّسخ للمدوَّنات، وقد قال للملَّالي يومًا :"أنَّه كتب ثلاثين كتابًا من غير فترةٍ "(15).
الفرع الثالث : تلاميذ السنوسي
للسنوسي تلاميذ كُثُر متفاوتون في الشُّهرة؛ وسنقتصرُ على ذكر أشهرهم وأكبرهم سنَّا.
1-محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الملَّالي ( 898هـ) صاحب "المواهب القدُّوسية في المناقب السنوسية"، أدرك شيوخ السَّنوسي، ومن مصنَّفاته شرح العقيدة الصغرى وهو مطبوع(16).
2- أحمد بن أحمد بن محمد البرنسيّ الفاسي، الشَّهير بزرُّوق (ت:899هـ) الفقيه المحدِّث الصُّوفي المشهور، أخذَ عن الإمام السنوسي رغم أنّه قرينه، واشترك معه في الشيوخ، له مؤلّفات فقهية منها شرح الرسالة، وشرح الوغليسية، وشرح مختصر خليل وغيرها، وقد نقل عن السَّنوسيِّ في بعضها(17).
3- محمد بن أحمد المعروف بابن صعْد التلمساني (ت:901هـ) الفقيه العابد، أخذ أيضا عن محمد بن العبّاس والتنسّي، من مؤلَّفاته "النّجم الثّاقب فيما لأولياء الله من المناقب"، و"روضة النّسرين في مناقب الأربعة المتأخّرين"(18(.
4- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحوضي التلمساني(ت:910) الفقيه الأصولي العالم الشاعر المكثر المتكلِّم، عدَّه ابن عسْكر من تلاميذ السَّنوسيِّ، له نظم في العقيدة شرحه السَّنوسيُّ ووصفه فيه بصاحبنا(19).
5- أبو عبد الله محمد بن أبي مدين (ت: 915هـ) الذي قال: "تفقَّهتُ عليه دراية في مقدِّمة السنوسي وصغراه وكبراه، ومختصره المنطقي، ودولًا من شرح الكبرى، ومختصر الأبِّي على مسلم، وابن الحاجب الأصلي، وتلخيصِ المفتاح، ودولًا من البخاري روايةً"(20).
الفرع الرابع: مؤلفات السنوسي
لقد كان الشيخ السنوسي عالما متفنّنا مشاركا في أكثر الفنون، ويظهر ذلك في مؤلفاته المتنوِّعة، التي سنذكرها حسب الفنون.
أولا : علم الكلام، أشهر علم عرف به السنوسي هو علم الكلام حتى أنّه عُرف بالتوحيدي، وقد كثرت مؤلفاته في هذا الفن وتنوّعت، وقد أحصيتُ له تسعةَ عشرةَ مؤلَّفا، نذكر منها: عقيدة أهل التوحيد والتسديد المخرجة من ظلمات الجهل وربقةِ التقليد، المسماه بالعقيدة الكبرى، والعقيدة الوسطى، وأمِّ البراهين (وهي العقيدة الصغرى)، وصغرى الصغرى، والمقدمات في التوحيد وقد شرح جميعها، وله الحقائق في تعريفات مصطلحاتِ علماء الكلام، والمنهج السديد في شرح كفاية المريد، وكلُّ هذه المؤلفات المذكورة مطبوعةٌ .
ثانيا: التفسير وعلوم القرآن، ومن العلوم التي برزَ فيها تفسير القرآن الكريم وقد ختمه درسا، كما ألَّفَ فيه مؤَلَّفات عِدَّة؛ منها التفسير الذي كتبَ فيه كراريس لم يتعدَّ فيها فواتح البقرة، وكتب منه أيضا تفسير سورة (ص) وما بعدها، وله تفسير مختصر لسورة الفاتحة، كما ألّف في علم الرسم شرح ضبط الخرَّاز، وفي القراءات شرحًا للشاطبية(21).
ثالثا: الحديث، اعتنى السنوسيُّ بعلم الحديث دراية؛ فألّفَ فيه مؤلَّفاتٍ أشهرها "مكمّل إكمال الإكمال" وهو مختصر لشرح محمد بن خلفة الأبي التونسي(ت:827) على صحيح مسلم له فيه زيادات كثيرة وهو مطبوع، ومنها شرح صحيح البخاري، وصل فيه إلى باب: من استبرأ لدينه من كتاب الإيمان، وبحْثنا هذا متعلّق به.
رابعا : الفقه، ومن أخصّ العلوم التي برع فيها السنوسي علم الفقه؛ وقد ألّف فيه مؤلَّفات، كما كتب فتاوى نُقلت عنه، ومن مؤلّفاته "المقرَّب المستوفي في شرح مختصر الحُوفي (ت:588)" في الفرائض، ومنها "شرح المدوَّنة"(22)، وتعليق على المختصر الفرعي لابن الحاجب(23).
خامسا: التصوف والطب وغيره من العلوم، من العلوم التّي ضرب فيها بسهم أيضا علم التصوُّف والسُّلوك، وله فيه مؤلَّفات كثيرة منها: شرحُ أبيات الإمام الإلبيري (ت:537هـ (في التصوُّف، ذكره الملَّالي في كتابه بتمامه(24). وألّف في الطب عدَّةَ مؤلَّفات منها "رسالة في الطب" وهي مطبوعةٌ، وألّف في علم الفلك "عمدةُ ذوي الألباب ونزهةُ الحساب في شرح بغيةِ الطُّلاب في علم الإسطرلاب"(25).
الفرع الخامس : وفاة السنوسي وثناء العلماء عليه
لم يتوقفْ السَّنوسيُّ عن التَّأليف والتدريس حتى أقعدَهُ المرضُ في آخر أيَّامه، فانقطع عن الناس مدَّةَ عشرة أيامٍ، وتوفِّيَ يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الآخرة من عام خمسة وتسعين بعد ثمان مائة (895) الموافق لسنة(1490م)، وكان يقول رحمه الله عندَ موته: "نسأله سبحانه أنْ يجعلنا وأحبَّتنا عند الموت ناطقين بالشهادة عالمين بها"، وبعد أنْ أسلمَ روحه إلى باريها شمَّت ابنته رائحةَ المسكِ في البيت وفي جسده، وقد حضرَ جنازته جمع غفير، فلم تُر جنازةٌ أعظمَ من جنازته في عصره، لِمَا فيها من كثرة الخلْق وازدحامِ النَّاس على نعشه(26).
وقد حظي السَّنوسيُّ رحمه الله تعالى بالثَّناء العطر ممَّن ترجَمَ له وغيرهم، ولعلّي أكتفي بإبراز ثناء اثنين منهم، وهما ابن عسْكر وابن القاضي، فأمَّا ابن عسكر (ت:986) فقال: "كان ممَّن جدَّد لهذه الأمة أمر دينها على رأس تلك المائة ...وكان من أكابر الأولياء وأعلام العلماء ...وبالجملة فعلماءُ تلمسان يذكرون الشيخ السَّنوسيَّ ويعظِّمونه بالتحقيق والولاية والزهد في الدنيا "(27). وأمَّا ابن القاضي (ت:1025) فقال :" الامام المعقولي الفقيه المحدِّث الفرضيّ الحيْسوبي صاحبُ العقائد "(28). رحمه الله رحمة واسعة.
المبحث الأول : علم المنطق واهتمام المسلمين به وتوغله في علومهم
للوصول إلى بيان كيفية وصول تأثيرِ المنطقِ إلى العلومِ الإسلاميةِ والكشفِ عن أسبابِ ذلك؛ لابدّ أنْ نعقدَ مبحثا نبيّن فيه ماهيةَ المنطق، ومنافذ توغّله في العلوم الإسلامية ومراحل هذا التوغُّل، ثم ننتقلُ إلى الحديث عن وصول تأثيره إلى تلمسان قبل القرن التاسع وإسهام السَّنوسيِّ فيه على وجه الخصوصِ؛ وذلك باعتبار أنَّ الكتاب المختار للدراسة التطبيقية من مؤلَّفاته.
المطلب الأول : مفهوم علم المنطق وتوغله في العلوم الاسلامية
الفرع الأول : مفهوم المنطق وموقف العلماء المتقدمين منه
علمُ المنطق-كما يعرّفه ابن خلدون(ت:808)- بأنه:" قوانين يُعرف بها الصَّحيح من الفاسد في الحدودِ المعرِّفة للماهيّات والحُجج المفيدة للتَّصديقات"(29)، وهو علم عُرف به اليونان واشتهر بالنسبة إلى واضعه أرسطو، وهم يعتبرونه ضابطَ التعبيرِ وميزانَ الفكرِ (30)، والنُّطق يُطلق على ثلاث معانٍ: على اللفظ، وعلى إدراك الكليّات، وعلى النفس الناطقة؛ وقد سُمّي هذا الفن بالمنطق لأنه "يقوّي الأول، ويسلك بالثاني مسلك السَّداد، ويحصل بسببه كمالات الثالث"، وقد وصفه ابن سينا(ت:427) بخادم العلوم لتعلُّقه بغيره، ووصفه الفارابي(ت:339) برئيس العلوم لحكمه النَّافذ عليها (31).
وقد اعتنى فلاسفة الإسلام الأوائل بالمنطق باعتباره مدخلاً للفلسفة اليونانية؛ التي لخّصوا مباحثها أو شرحوها، وشاركهم في تلك العناية بعض المعتزلة في عصر متقدِّم كما أشار إليه ابن قتيبة (ت:275)، بينما كان غالب علماء الإسلام ينقدونه ويردُّونه على أصحابه، وكان مما قاله ابن قُتيبةَ -لسان حالِ اللغوين في زمانه- مبيِّنا عدم جدواه: "لو أنَّ مؤلِّف حدِّ المنطق بلغَ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلامِ في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْم"(32)، كما أنّ الباقلاني (ت:405) الذي يعتبر لسان حال المتكلمين والأصوليين قد نقد القياس الأرسطي في مؤلَّف أيضا (33)، ووجدنا بعده نقدا لاذعا من الباجي (ت:474) لمن حاول إقحامَ بعض مباحثه في علمِ أصولِ الفقهِ (34).
ولمَّا ألَّفَ الغزاليُّ المستصفَى وجعلَ من مباحثِ المنطقِ مقدمةً له؛ اشتدَّ النكير على هذا الصنيع؛ وكان ممَّن أنكر فعله ابن عقيل الحنبلي (ت:513) وابن القُشيريِّ (ت:514) والطرطوشي (ت:520) والمازري (ت:536) وابن الصَّلاح (ت:643) والنَّووي (ت:676) وابن تيمية (ت:728) (35). ووجه انتقادهم جميعًا إمَّا عدم جدواه وفائدته، أو اعتقاد تحريمه باعتباره ذريعةً للتَّفلسُفِ.
الفرع الثاني : توغل المنطق في العلوم الاسلامية
لم يكن للمنطقِ الأرسطي مجالٌ في العلوم الإسلامية في عصور نشأتها المتقدمة، لكنَّه بدأ في التَّوغُّل في وقت مبكِّرٍ؛ قبل أنْ يتحكَّم في منهجِ دراستها في عصور الانحطاط، حيث صارَ كأنَّه علمٌ شرعي وجزءٌ من العلوم الإسلامية؛ من لا يُتقن مسائله لا يستطيع أنْ يفهم كثيرا من الشروح والحواشي، وهذا بيان للعلوم الأولى التي كانت محلَّ هذا التَّوغُّل.
أولا :توغّل المنطق في علم النحو
لقد كانت علوم اللسان أوَّلَ العلوم التي تأثّر أهلها بعلم المنطقِ، ولنأخذْ علمَ النحوِ أنموذجًا للدِّلالة على ذلك، حيث إنّنا نجد المختصِّين في الدراسات المنهجية النحوية يعدُّون ابن السراج (ت:316) صاحب الأصول في النحو -وهو تلميذ الفارابي- رائد الاتجاه المنطقي في علمِ النحوِ، ثم تتلمذَ عليه الزجَّاجي (ت:340) والسيرافي (ت:368) والفارسي (ت:377) والرماني (ت:384) وتأثَّروا به، وأحدثوا اتجاها جديدا مخالفا لاتجاه المحافظين على منهجِ المتقدمين كالزجَّاج (ت:311) والنحَّاس (ت:338) وابن خالويه (ت:377) (36).
ومن تأمَّل الإيضاح للزجَّاجي وطريقةَ معالجةِ الحدود فيه؛ وجدَ أنَّ اعتبار قواعد المنطق قد صار من المسلَّمات في الدَّرس النَّحوي، ولما جاء القرن السابع وجدنا ابن يعيش (ت:643) في شرح المفصَّل يضطرُّ لشرح مباحث الحدِّ من أجل تفسير تعريف الزمخشري للكلمةِ، ولعلَّ مثلَ هذه الحاجة جعلت الشَّلوبين (ت:645) يضعُ مقدِّمَةً منطقيةً لشرحه على الجزولية (37)، ثم امتزجت الشروح في العصورِ المتأخرة بمصطلحات المنطق؛ ولم يسلم من ذلك حتى الكتب الموضوعةُ للمبتدئين.
ثانيا :توغّل المنطق في علم الأصول
لقد كانت مؤلَّفات الأصوليين من الفقهاء والمتكلّمين خاليةً من مسائل المنطق مستقلّةً عن منهج أهله، ولم يظهر التأثُّر بمنطق أرسطو إلا في القرن الخامس على يد أبي الحسين البصري (ت:436) في المعتمد (38)، ثم الجويني (ت:478) الذي التزم قواعده في كثير من بحوثه، ومهَّدَ الطريق للغزالي الذي أدخل مسائله بين دفتي كتاب المستصفى وجعلها مقدمة للعلم، واعتبره شرطا من شروط الاجتهاد وفرضَ كفايةٍ على المسلمين، فاقتدى به من جاء بعدَه في ذلك (39)، وهو إنْ كان صرَّحَ بأنَّ تلك المقدمة ليست من جملة علم الأصول، فإنَّه جعلها مقدمةً العلوم كلِّها أصول الفقهِ وغيره (40).
وأمّا ابن حزم (ت:456) فرغم تبحُّره في علم المنطق وتعظيمه له؛ فإنّه لا يوجد تأثير واضحٌ للمنطق على موضوعات كتابه الإحكام (41)، ولم يكن كلُّ الأصوليين متأثرًا بالمنطق فالذين كانوا يميلون إلى الفقه منهم قد ظلُّوا بعيدين عن هذا التأثير (42)، ولكن بعد أنْ صنَّفَ الرازيُّ (ت:606) المحصول والآمديُّ (ت:631) الإحكام صار علمُ المنطقِ مهيمنًا على الدراسة الأصولية في لغتها واصطلاحاتها واستدلالاتها ومناقشاتها، وقد علَّقَ القرافيُّ (ت:684) على جعل الرازيِّ من شروط المجتهد معرفة الحدِّ والبرهان بقوله:"لا يكملُ معرفة ذلك إلا باستيعاب علم المنطق؛ فإنَّه ليس فيه إلا ذلك، فيكونُ المنطقُ شرطًا في منصب الاجتهاد، فلا يمكن حينئذ أنْ يقال: الاشتغال به منهيٌّ عنه" (43)، وأكثرهم إفراطا الآمدي الذي أقحم القياس الأرسطي ضمن الأدلَّة الشرعية تحت مسمى الاستدلال (44) بعد أن أقحمه ضمن الأدلة العقلية في كتابه أبكار الأفكار.
ثالثا : توغّل المنطق في علم الكلام
ولقد ظلَّ علمُ المنطق أداةَ الفلاسفة دون المتكلِّمين المنتصرين لمذاهب أهل السنة في الجملة، ولعلَّ أوَّلَ من أقحم طريق المناطقة في علم الكلام من الأشاعرة هو الجويني، كما كان أوَّلَ من أقحمها في علم الأصول، وتكاد تتَّفق كلمة الباحثين المختصين في المذهب الأشعري على تأثُّره بالمنطق في استدلالاته ومصطلحاته (45)، حيث إنْ تردَّدْنا في كونه أوَّل المتكلمين إقحاما للمنطق؛ لعدم إحاطتنا بجميع كتابات المعتزلة وعدم وصول أكثرها إلينا، فلا نتردَّدُ في كونه أوَّلَ الأشاعرة.
وقد أبطلَ الجوينيُّ طُرُق الأشاعرة في الاستدلال وزعمَ أنّها لا تُورث اليقين (46)، وتبعه على ذلك الرازي والآمدي حيث ردَّا أكثر أدلّة المتكلِّمين ليفسحا المجال لمنطق أرسطو وآراء الفلاسفة (47)، ولمَّا جاءَ السَّنوسيُّ (ت:895) جزم في كتبه أنَّ اليقين في العقيدة لا يحصلُ إلا من جهة البرهان المنطقي (48)، وإذا نظرتَ في الكتبِ التي اعتُمدتْ في العصورِ المتأخّرة في علم الكلام؛ أيقنتَ أنَّ علمَ المنطق قد سيْطرَ على منهج البحث في هذا العلم.
المطلب الثاني : إسهام علماء تلمسان في فنِّ المنطق
الفرع الأول : المؤلَّفات التلمسانية قبل السَّنوسيّ وفي عصره
قد ألَّفَ العلماء المنتسبون للفقه مؤلَّفات في هذا العلم منذ القرن الخامس؛ بدايةً مع ابن حزم صاحب "التقريب لحدِّ المنطق"، ثم الغزالي صاحب "المعيار" و"محك النظر"، وألَّف غيرهما، وربما كان أشهر مؤلِّف هو الخونَجي (ت:646) صاحب "مختصر الجمل" الذي صار عمدةً في المشرق والمغرب (49).
وفي المغرب الإسلامي كانت العلوم العقلية مذمومةً منبوذةً عند فقهاء المالكية في العصور الأولى، فلم يتعاطاها إلا القليل من الناس -وربما كان ذلك سرًا-، وبقيَ الأمرُ كذلك إلى عصر الموحِّدين؛ حيث أحدث ابن تومرت ثورةً فكريةً على دولة المرابطين التي عُرفت بدولة الفقهاء، وأباح كلَّ ما كان ممنوعًا من العلوم؛ كعلم الكلام وعلم المنطق وعلم أصول الفقه؛ وأشاعَ فيهم كتب الغزالي التي كانت محظورةً.
ومنه فإنَّ بداية عناية المغاربة بالمنطق كانت في القرن السادس الهجري؛ ثم انتشرت الانتشار العام في القرن السابع(50).
وفيما يأتي رصْد لأهمِّ الكتب التي كانت محْور الدَّرس المنطقي في المغرب الأوْسط؛ مما أنْتجه علماء تلمسان أو علماء أقاموا بها .
فقد كان محور الدَّرس المنطقي قائمًا على عدّة كتب؛ لكن أهمُّها كان كتاب "الجمل للخونجي" الذي كان مسيطرًا على درس المنطق سيْطرة تامة؛ حيث شرحه تأليفًا عدد من العلماء، منهم : المقري الجد (759) والشريف التلمساني (ت:771) وسعيد العقباني (ت:811) وابن مرزوق الحفيد (ت:842) ومحمد بن العبّاس (871) والمغيلي (ت:899) والسَّنوسي(51).
ويتلوه كتاب "إيساغوجي" وكان ممن شرحه السّنوسي والقلصادي (ت:891) (52)، ثم مختصر ابن عرفة وكان ممن شرحه السنوسي، وبعده السُّلَّم المرونَق وممن درّسه أحمد بن عيسى الورنيدي(53) وألّف السَّنوسيُّ مختصره وبدأ شرحُه في عصره على يده ويد تلاميذه (54).
ومن علماء تلمسان الذين كان لهم مزيد عنايةٍ بالمنطق -إضافة للسَّنوسيِّ- محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي سبق أنَّه شرح الجُمل، وله مقدّمةٌ في المنطق ونظمٌ اسمه "منح الوهاب" وضع عليه ثلاثة شروح (55).
الفرع الثاني: إسهام السنوسي في علم المنطق
من أشهر علماء تلمسان عنايةً بعلم المنطق الإمام محمد بن يوسف السنوسي (ت:895)، فقد أسهم في تدريسه كما ذُكر في تراجم بعض تلاميذه (56)، ولعلَّ مما كان يدرِّسه مؤلَّفاته في علم المنطق وهي خمس مؤلَّفات كاملةٍ.
1-مختصر في علم المنطق وقد زَاد فيه زيادات على الجمل للخونجي، وقد صار هذا المختصر أهمَّ كتب التَّدريس في ذلك العهد وما تلاه (57).
2- شرْحُ المختصر في علم المنطق، وهو شرحٌ لكتابه السابق(58).
3-شرْحُ جمل الخونجي (ت:646) في المنطق، قال الملالي:" رأيتُ منه كراريس بخطِّه لا أدري هل كمَّله أم لا "(59).
4-شرْحُ مختصر ابن عرفة (ت:803) في المنطق، وقد وجد السَّنوسيُّ صعوبة في حَلِّ عباراته، وكان يستعين عليه بالخُلوة، ونقل الملَّالي عنه أنّه لم يُكْمله لكثرة الأشغال وضيْق الحال (60).
5- شرْحُ إيساغوجي في المنطق لأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري (ت:663) ومنه عدَّةُ مخطوطات في الجزائر وتونس ومصر (61).
المطلب الثالث : أثر المنطق في مؤلَّفات السنوسي وأسبابه
الفرع الأول : أثر المنطق في مؤلَّفات السنوسي
لقد كان لعناية السَّنوسيِّ بعلم المنطقِ أثرٌ واضحٌ في أكثر مصنَّفاته وجَميع الموضوعات التي طَرقَها، فأمَّا المؤلَّفات العقدية فالأمر أوضح من أنْ يدلَّل عليه، وقد سبقَ أنّ السَّنوسيَّ قد حَصرَ البُرهان المُفيد لليقين في باب الاعتقاد في البُرهان المنطقي، فلا حاجة للتَّمثيل لذلك، ولكنْ نُدلِّل على إعماله للمنطق في علوم الوحي وهي التفسير وشرح الحديث بإيراد نماذجَ من ذلك، فأمَّا التفسيرُ فتأمَّل قوله -وهو يقرِّرُ الفرقَ بيْن الرحمن والرحيم- : "ويحتمل أنْ يكون الإنعام بجلائل النِّعم المدلول عليها بوصف الرحمن يستلزم الإنعام بدقائقها، لكنْ دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام" (62). وانظر قوله في موضعٍ آخر:"وركَّب بعضهم من هذا ومن قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (البينة: 7) إلى (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (البينة: 8) قياسًا من مقدمتين ونتيجة، المقدِّمة الأولى: خيْر البرية من يخشى الله، والثانية: من يخشى الله تعالى هم العلماء بالله تعالى؛ فينتج: العلماء بالله هم خير البرية، وهو استنباطٌ حسنٌ صحيحٌ" (63).
وأمَّا الحديث فإليك قوله في شرح صحيح مسلم:"قوله كلُّ مسكر خمر، وكلُّ مسكر حرام، هذا الترتيب من الضرب الأول من الشكل الأول، ونتيجته كلُّ مسكر حرام، وفيه اندراج الصغرى تحت حكم الكبرى، وللمازري كلام في هذا المحل يدلُّ على ضعفه في علم المَنطق أو أنّه لا يَعرفه أصلا" (64). وذلك أنَّ المازري -وهو من منكري هذا العلم- وبعد أنْ شرح المقدمتين بإسهاب قال في شرحه:"وهذا القياس واضح لهذا الأصولي في موضع أو موضعين من الشريعة، فإنّه لا يستقيم في سائر أقيستها، ومعظم الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك...وإنّما نبّهنا على هذا لمَّا رأينا بعضَ المتأخرين صنَّفَ كتابًا أراد أنْ يردَّ أصول الفقه لأصول المنطق" (65).
الفرع الثاني : أسباب شدَّة تأثر السنوسي بالمنطق
إنّه قد ظهر لنا من خلال النظر في إسهام التلمسانيين في علم المنطق شدَّة عنايةِ السَّنوسيِّ بهذا العلمِ، وكذلك إذا نظرنا إلى مؤلَّفاته –ومنها شرح البخاري – نجدُ حرصًا كبيرًا على توظيف مصطلحات المنطقِ وتحكيمِ قواعدِهِ، الأمرُ الذي يدعو إلى التساؤُل عن سِرِّ هذه العناية الزائدة، وأسباب هذا التأثُّر الشّديد بالمنطق عند السَّنوسيِّ رحمه الله، ولعلَّ أهمَّها ما يأتي ذكره:
أولا : نبوغه في هذا العلم منذ نعومة أظفاره
إنّ السنوسي رحمه الله كان قد برع في علم المنطق منذ نعومة أظفاره في مرحلة الطلب؛ فقد أخذ هذا العلم عن أبي عبد الله محمد بن العباس العبادي التلمساني (ت:871هـ) المعروف بتمكّنه من هذا العلم، فكان ممّا قرأ عليه الجمل للخونجي؛ فأعجبَ الشيخُ بمدارسته حتى أنّه قال له يومًا من شدّةِ إعجابه بفهمه:"لا تقرأ عليَّ أنا الذي أقرأ عليك" (66).
ثانيا : شيوع تطبيق القواعد المنطقية في حلق العلم
ومن أهمِّ أسباب هذه العناية فيما يظهر : المنهج العام لتدريس العلوم الشرعية في ذلك الزمان وخصوصا في تلمسان، حيث افتتن الناس بهذا الفن افتتانا عظيما، وجعلوا العلوم الشرعية كلَّها ميدانا لتطبيق قواعده، ومن دلائل فشوِّ هذا في حلق العلم ما وردَ على لسان محمد بن قاسم الرصاع (ت:894)؛ في تعقيبه على أجوبة علماء تلمسان في تفسير آية قرآنية:" وأمَّا ما ذُكر عن الشيخ الفقيه المفتي أبي العباس المذكور؛ فهو كلام فيه استعمال العلم والتصرف فيه بالقواعد المنطقية وغيرها من الأصول، لكن عندي أنّ الاستدلال على دعوى أنّ أحداً من الكفار لا يدخل في الأقسام المذكورة لا يُحتاج إليه، لأنَّ ذلك ضروري من الدين ولا يَجهلُ مثله إلا العليل، والنهار لا يفتقر إلى دليل، إلا أنَّ الاستدلال بأوّل ضرب من الشكل الثاني فيه تأنيس للطلبة وتعليم لكيفية التصرُّف بالعلم، وذلك حسن. وقد كنت ذات يوم جالساً بمجلس الشيخ الإمام سيدي أبي عبد الله محمد بن عقاب رحمه الله، وكان يُقرئ التفسير عند قوله تعالى: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فقال بعضُ الحاضرين: يتركّب من هذا قياس حذفت فيه الصغرى، أصلها إنَّك رسول، والكبرى كل رسول لا يخاف، والنتيجةُ لا تخف. فقال الشيخ: هذا غير مُحتاج إليه، ولا يقصد من الآية، وإنما يُذكر ذلك للتمرين مع الطلبة" (67).
ثالثا: امتزاج المنطق بأهمِّ مصادر الدرس الأصولي في تلمسان
إنَّ علمَ أصول الفقه هو علمُ أصول التفكير الإسلامي الذي يضبطُ قواعدَ فهم الكتاب والسنَّة والتصرُّف فيها؛ وقد قيل إنّ نسبة هذا العلم إلى علوم الشريعة كنسبةِ المنطق إلى علوم اليونان، ولكنْ في العصور المتأخِّرة امتزج علمُ الأصول بعلمِ المنطق امتزاجًا كبيرًا. وإذا نظرنَا في الكتب المُسيطرة على الدَّرس الأصولي بتلمسان والتي حظِيَت بالعناية الكبرى من علمائها؛ وجدْنا في مقدِّمتها مختصر ابن الحاجب (ت:646) (68)، ويتلوه التنقيح للقرافي(ت:684)(69). وهما كتابان قد ظهر التأثُّر البالغ فيهما بالمنطق في مقدِّماتهما ومصطلحاتهما وبناء حدودهما وبراهينهما؛ ومنه فلا شكَّ أنَّ عقلية من يتربَّى عليهما تكون ميّالة إلى إعماله في التَّفهيم والإقناع والتَّدريس والتَّأليف.
رابعا : مصادر السنوسي في التفسير وشرح الحديث
من الأمور التي لا شكَّ أنّها صنعتْ توجُّهَ السَّنوسيِّ وميلَه إلى إعمال المنطقِ؛ منهجُ المصادر التي تعامل معها في مراحل تكوينه والمصادر التي رجع إليها عند تأليفه كتبَه؛ بمعنى أنّ السَّنوسيَّ لم يكنْ سوى واحدٍ من العلماء الذي أسهموا في دفْع هذا الاتجاه وهو متأثِّرٌ بطريقة بعضِ من سبقَه. ولعلَّنا لن نكون بحاجة للتمثيل لنماذج من مصادره الكلامية التي اشتهرت بذلك كمؤلَّفات الرازي (ت:606) وابن الدهَّاق (ت:611) والجرجاني (ت:618) والآمديّ (ت:631) وابن التلمساني (ت:644) والبيضاويّ (ت:685) والتفتازاني (ت:792).
ولكن نؤكِّد أنَّه في علوم الوحي -وهي التَّفسير والحديث- أيضًا كان معتمدًا على كتبٍ سلكتْ مسْلَكَ المناطقة في التحليل والمعالجة، ولعلَّ أبرزَ الكتبِ التي اعتمدَ عليها تفسيرُ الفخرِ الرازيّ؛ وذلك في تفسيره للقرآن الذي شرع فيه ولم يكمله، والرازي أحد أساطين الفلسفة والمنطق؛ الذين كان لهم أثر كبير في تحويل منهج البحث في العلوم الإسلامية عن منحاه الصحيح.
وفي خصوص علم الحديث درايةً نجدُ مرجعين مهمَّين اعتمدَ عليهما السَّنوسيُّ رحمه الله الأول "إكمال إكمال المعلم" لمحمد بن خِلفة الأبِّي التونسي (ت:827) تلميذ ابن عرفة الورغمي وخريج مدرسته، ونحن على يقين من رجوع السَّنوسيّ إلى كتابه قبل تصنيفه للبخاري؛ حيث أنّه لخَّصه وعلَّق عليه في كتاب سماه "مُكمِّل إكمال الإكمال"، ومن نماذج إعمال الأبّي للمنطق في شرحه ما ذكره في شرحه لحديث:" طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي أربعة "، حيث قال:"لا يغالط ويقال الحديث على قياس الشكل الأول فينتج إنّ طعام الواحد كافي أربعة، فإنَّه لا ينتج ذلك لعدم اتِّحاد الوسط " (70). فعلَّق عليه السَّنوسيُّ في مكمِّله وقال:" وهذه المغالطة شِبْهُ المغالطة بقولهم الوتد في الحائط، والحائط في الأرض، وينتج الوتد في الأرض، والجواب بعدم اتِّحاد الوسط، إذ موضوع الكبرى متعلِّق محمولِ الصغرى لا نفس محمولها ". ومن النماذج أيضا مناقشة الأبِّي لعدول ابن الحاجب عن تعريف النكاح إلى ذكر الأركان، وقد وُجّه صنيعه بأنَّ معنى الحدِّ هو ذكر الأجزاء التي يتكوَّن منها؛ فأورد الأبّي على هذا التوجيه بأن المطلوب في الحدِّ هو الأجزاء العقلية لا الأجزاء الحسية كالحيوانية والناطقية بالنسبة للإنسان، وقد وردَ ذلك في مختصر السَّنوسيِّ (71).
ومن المصادر التي أكثر السَّنوسيُّ من النقل منها في شرحه للبخاري كتاب "المتجر الربيح" لابن مرزوق الحفيد (ت:845)، وقد ظهرَ توظيفُ اصطلاحات المنطق وقواعد أهله عند ابن مرزوق جليًا، منها قوله في مناقشة زيادة الإيمان ونقصانه:" وأمَّا جعل تلك الأشياء له، يعني الإيمان كما اقتضاه جرّه؛ فتُمكن زيادته ونقصه بها لا في حقيقته، وهو مذهب أهل الحق، ومذهب البخاري واحتجاجه به، على أنه يقال للماهية ذاتيات وعوارض والمراد من غير زيادة " (72). ومنها تعليقه على قول بعضهم في أركان الإيمان:" إنْ قيل إنّ الأربعة مبنيةٌ على الشهادة؛ إذ لا تصحُّ إلا بها، فكيفَ ضُمَّ مبنيٌّ إلى مبنيٍّ عليه في مسمى واحد. قيل المجموع غيرٌ من حيث الانفراد عينٌ من حيث الجمع، كبيت من الشَّعر على خمسةِ أعمدةٍ أحدها وسط وغيره أركان، فإذا سقط الوسط سقط مسمى البيت، وما دام قائما وجد مسمَّاه، ولو سقط غيره من الأركان، فالبيت بالنظر إلى مجموعه واحد وإلى أفراده أشياء أيضا، فبالنظر إلى أُسِّهِ وأركانه، الأسُّ أصلٌ والأركانُ تبعٌ وتكملةٌ.
فأجاب ابن مرزوق:"وبناء هذا الكلام ضعيف الأساس مختلُّ التنظير، لا يسع فيه إلا المسامحة، ولأنَّه يشير إلى ما يقوله أهل المنطق من الفرق بين مجموع تصوُّرات وتصوُّر المجموع، كما في الفرق بين الحدِّ والمحدود" انتهى. وعلَّقَ السَّنوسيِّ : وقوله : إنْ هُدم الركن بقي البيت لا يخفى ضعفه، فإنَّ الماهيةَ تنعدمُ بانعدام ركن منها ولا توجد إلا بجميع الأركان" (73). وغير هذه مواضع سننقلها في المبحث الثاني بإذن الله تعالى.
المبحث الثاني : شرح صحيح البخاري للسنوسي وأثر المباحث المنطقية فيه
لقد اخترت للدِّراسة التطبيقية التي نوضّح فيها مقدارَ توغُّل علم المنطق في علم الحديث درايةً كتاب شرح صحيح البخاري للسَّنوسي، وذلك لصغر حجمه وإمكانية حصر المواضع التي وُجِدَ فيها توظيف مصطلحات المنطقِ وقواعدِهِ، ولعلَّ هذا المجال المختار يكون أدقَّ في إثمار النتائج من أخذِ عينات منتخبةٍ من كتاب كبيرٍ نحو مكمِّل إكمال الإكمال.
المطلب الأول : التعريف بشرح البخاري للسنوسي ومنهجه فيه
الفرع الأول : التعريف بشرح البخاري للسنوسي
لقد تعدَّدت الفنون التي شارك فيها السَّنوسي بالتأليف؛ ففضلا عن العقيدة التي بها اشتهر والمنطق الذي سبق الحديث عنه، فقد ألَّف في الفقه والفرائض والسلوك والفلك، وألّف في تفسير القرآن وشرح الحديث النبوي، ومن مؤلفاته في الحديث ما كان متعلقا بالصحيحين كشرح صحيح مسلم المسمى مكمِّل إكمال الإكمال الذي طبع قبل مدة طويلة في حاشية أصله إكمال الإكمال للأبي، وكشرحه على صحيح البخاري الذي وصل فيه إلى باب: من استبرأ لدينه(74) مما يعني أنّه شرحَ اثنين وخمسين حديثًا، وهو محقّق إلى باب حلاوة الإيمان والحديث السادس عشر، في دراسة جامعية في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر (75). وقد علمتُ أنّه صدرَ عن دار الوعي بالجزائر في ثلاث مجلَّدات لكن لم اطّلع عليه.
وهذا الشرح غيرُ كتاب مشكلات البخاريِّ؛ الذي أفرده فقط لتأويل أحاديث الصفات الواردة في كتاب التوحيد، وهو آخر كتاب في صحيح البخاري، وقد أورد الملَّالي (ت:898) كتاب المشكلات بكماله في المواهب القدُّوسية (76)، وهو مطبوع، وهو أيضا غيرُ مختصره لشرح الزركشي(ت:795) على البخاري، وقد أشارَ بعضهم إلى وجود نسخةٍ من هذا الأخير في المغرب الأقصى(77).
الفرع الثاني : منهج السَّنوسي في شرحه
نحاولُ بعد التَّعريفِ بكتاب السَّنوسيِّ أنْ نُبيّن منهجَه العام في هذا الشرح بالاستعانة بدراسة محقّقه، فنقول إنَّ السَّنوسيَّ بعد أنْ قدّم بمقدمة بيّن فيها فضل علم الحديث وفضل كتاب صحيح البخاري، وعرَّفَ بمؤلِّفه ومنهجِه فيه، وضمَّن ذلك المفاضلة بينه وبين صحيح مسلم، سار في شرحه على المنوال الآتي:
-ميَّزَ كلام المتن عن كلامه فجعل لكلام للبخاري وأحاديثه الرمز "ص"، وصدر كلامه في الشرح بالحرف "ش"، وقد اهتم في توثيق النص بمقابلة نسخ الصحيح وبيان الفروق بينها .
-ترجمَ للصحابي راوي الحديث أحيانا، كما تكلَّمَ عن بقية الرواة مبينا درجتهم حينا أخرى (78).
-اهتمَّ كثيرا بالناحية اللغوية؛ حيث كان يبدأ بالإعراب وكثيرا ما يُبيّن الجوانب البلاغية (79).
-حلَّلَ الحديث تحليلا لغويا؛ وربما أطال في شرح معانيه من هذه الناحية (80).
-اعتنَى بالاستنباط من الحديث واستخراج المسائل الفقهية؛ كما سلك المنهج الجدلي أحيانا باعتماد الفنقلة (81).
-وقد ظهرت عنايةُ السَّنوسيِّ بالمنطق وتطبيق قواعده ومصطلحاته في هذا الشرح بشكل بارز؛ حتى استعمل المحقِّق عبارة بالغ فيها حين قال:" إنَّه الصبغة العامة والشاملة لتقريرات الإمام" (82).
-غلبَ على شرحه كثرة النقول عن المصادر التي يذكرها أحيانًا صراحةً، ويبهمها أحيانًا فيقول قال بعضهم، ولعلَّ أهمَّ مصدر اعتمد عليه وتكرَّرَ النَّقلُ عنه كثيرا في هذه القطعة من الكتاب؛ هو "المتجر الربيح" لابن مرزوق الحفيد (83).
المطلب الثاني : أثر مباحث التصورات في شرح البخاري للسنوسي
مباحثُ علم المنطقِ منقسمةٌ إلى مباحثِ التصوّرات ومباحثِ التصديقات، والمقصودُ بمباحثِ التصوُّرات مباحثُ المعاني المفردة التي يتركَّبُ منها البرهانُ فيُمكنُ الحكمُ عليها، ومنه قيل الحكمُ على الشّيء فرعٌ عن تصوُّره، والحكم عند المناطقة لابدّ أن يتكوَّن من معنيين مفردين على الأقل، وقد تطرَّقوا في هذا القسم من العلم إلى الحدِّ وشروطه ومكوِّناته، والعلاقات بين الألفاظ، وكذا أنواعِ دلالة اللفظ ونحو ذلك من المسائل، وقد ظهر توظيف هذه المباحث جليّا في كتاب السَّنوسيِّ، ومن ذلك المواضع الآتية.
الفرع الأول : قواعد الحد
بعد أنْ بيَّنَ السَّنوسيُّ أنَّ قول البخاري في الإيمان "يزيد وينقص" يحتمل أنْ يكون نتيجة قوله: "هو قول وفعل" لأنَّ ما كان متكوّنا من أقوال وأفعال كثيرة، يزيد ضرورة بزيادتها وينقص بنُقصها. ثم أورد اعتراضا مفاده أنَّ "المركب لا تُدرك حقيقته إلا باجتماع جميعِ أركانِهِ التي تركَّبَ منها، فلا يُتصوَّر فيه زيادة ولا نقص، ولهذا يقول أهل المنطق لا يكون لشيء حدّان ذاتيان لأنَّه لا يُحدُّ إلا بجميع ذاتياته، فإذا حصلَت لم يُتصوَّر غيرها يُحدُّ به.
ثمَّ أجابَ عن الاعتراض بقوله: "هذا البحث إنّما يكون في الحدود بالذاتيات وهي الحقيقة، لا فيها وفي العرضيات، كإنسانيْن وفرسيْن، أحدهما أكثر جواهر أو صفات عرضية والآخر ينقصُ عنها، ولا سيما على القول بأنَّ الذي يشير إليه كلُّ أحدٍ بقوله أنا هو الهيكل المخصوص، وإن كان الحقُّ خلافه".
وبنى على هذا الجواب تقسيم الإيمان إلى معان ذاتية وأخرى عرضية، ثم حصرَ الزيادةَ والنقصَ في العرضيات فقال :"ومن هنا كان الحقُّ في الإيمان أنّه لابدَّ له من حقيقة بها يحكم على المتَّصفِ بها بأنَّه مؤمن، وما دونها لا يجبُ لمن اتَّصفَ به كونه مؤمنا، هذه لا تقبل النقص...وأمَّا زيادته فبالعرضيات من زيادة التَّصديق بحكم أو اتِّصاف بعبادة من فروع الدين، أو زيادة استحضار التَّصديق ودوام المراقبة، ونحو ذلك من الأمور المضافةِ للإيمان والدين" (84).
وهنا نرى أن مُسبِّب الإشكال قاعدةٌ اصطلاحية لأهل المنطق؛ مفادها أنَّ الحد لا يكون إلَّا بالذاتيات، ورُكِّب عليها أنَّ الذاتيات لا تقبل الزيادة والنقصان، وجوابُ الإشكالِ أيضًا كان جاريًا على قواعدهم حيث حُصرَت الزيادة فيما اعتبره السَّنوسيُّ عرضيًا ولا يدخل في حقيقة الإيمان، لكنْ هذا الجواب والتَّوجيه مخالفٌ كلَّ المخالفة لمراد البخاريِّ رحمه الله وعقيدته المشهورة في حقيقة الإيمان، إذ حقيقته الشرعيةُ عنده تتضمَّنُ الأعمالَ القلبية والأعمالَ الظاهرة؛ وهي التي تكون بها الزيادة والنقصان، نحو المحبَّة من أعمال القلوب ونحو الصَّلاة من أعمال الجوارح، وهذه المعاني لا يمكنُ اعتبارها عرضيةً بل هي ذاتيةٌ في الإيمان، وتمام كلام البخاريِّ يوضِّحُ ذلك بجلاء بما ذكر من أدلةٍ وآثارٍ (85).
الفرع الثاني : أقسام اللفظ الكلي
أورد البخاري في مقام تقرير كون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قولَ مجاهد : «شرع لكم من الدين ما أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا» (86) فاستُشكِل وجهُ الربط بيْنَ كون الدين واحدا وبين كونه يزيد وينقص، لأنَّ المشترك بين الشرائع هو التوحيد، فقال السَّنوسيُّ في رفع الإشكال: "الظاهر صحَّة استدلال البخاري بالآية الأولى، ولا ينافيه ما نقل عن مجاهد فيها، لاحتمال أنْ يكون فَهِم أنّ المراد بقوله "دينا واحدا" الواحد بالجنس لا الواحد بالنوع أو الواحد بالشخص. والمعنى أنّ الذي أوصى الله سبحانه به الأنبياء كلهم عليهم السلام شيء واحد؛ وهو إقامة الدِّين المرادف للإيمان والإسلام؛ المحتوي على عبادات كثيرة، ويقبل الزيادة والنقصان، واختلاف الشرائع في أنواع ذلك الدين وأشخاصه؛ لا يقدحُ في اتِّحادها بالجنس، بلْ ذلك يدلُّ على كثرة أفرادها وقبوله الزيادة والنقصان، ولهذا ساقَ البخاري الآية الأخرى وتفسير ابن عباس لها" (87).
وما أشار إليه السَّنوسي في آخر كلامه هو قول البخاري : "وقال ابن عباس: «شِرعةَ ومنهاجَا» سبيلًا وسنةً". ومعنى الاستدلال المركب كان السَّنوسي قد نقله قبل ذلك على لسان ابن مرزوق من أنَّ الآية الأولى التي تتحدَّثُ عن وحدة الدين كالجنس، والآية الثانية التي فيها اختصاص كلّ دين بشرعة كالفصول والأنواع، وقال: "فكلُّ شريعة فيها أصلُ الإيمان المشترك وفروعٌ تخصُّها" (88). وتعدُّدُ الفروع واختلافها موجبٌ للزيادة والنقصان.
والذي نلاحظه هنا من نتيجة توظيف هذه المصطلحات هو تطويل الطريق للوصول إلى معان قريبة جدا وواضحة، وهو أن الدين الواحد -وهو الإيمان- قد اشتمل على أعمال متعددة أوصى الله تعالى بالمحافظة عليها؛ فهو في الدلالة مثل قوله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5] وهذا ما اكتفى بالإشارة إليه ابنُ رجبٍ وابنُ حجرٍ في هذا الموضع (89).
ومثل هذا يلاحظ على قول السَّنوسيّ في شرح قول البخاري (باب أمور الإيمان) :" ...وروي "أمر الإيمان" إمَّا بتأويل الجنس الصادق على أنواعه والكلِّ الصادق على أبْعاضِهِ، والتقدير باب تعدُّدِ أمور الإيمان على حذفِ مُضافَيْن أي : وليس بشيء واحد خلافا لمن يرى ذلك" (90).
الفرع الثالث : دلالة اللفظ على المعنى
قال السَّنوسيُّ رحمه الله:" وقول مجاهد :" أوصيناك يا محمد" تفسير منه لشَرَع، لأنَّ في الشريعة توصية بالتضمن والالتزام" (91). يقصد أنها تفسيرٌ لكلمة (شَرَع) من قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) [الشورى: 13]، والأمرُ في هذا قريب محتمل، مع أنّ التوصية منصوصةٌ صراحة في قوله (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)، فالآية دالَّةٌ عليها بالمطابقة.
الفرع الرابع : اللفظ المركب أو الكل والجزء
قيل في تعريف الكلِّ:" فهو المجموع بجملته كأسماء الأعداد، والجزء: هو ما تركب الكلِّ منه كتركيب العشرة من اثنين في خمسة" (92). واللفظ المركب كما عرَّفه السَّنوسيُّ: "هو ما دلَّ جزؤه على جزء معناه" (93). وقد وظَّفَ السَّنوسيُّ هذا الاصطلاح حين أجاب عن اعتراض المعترض بأنَّ: "المَبنيَّ عليه غير المبنِي؛ فلا يلزم من كون القول والفعل بُني عليهما الإسلام أن يكون كذلك". حيث جعل البخاريُّ من أدلَّةِ تطابق الاسلام والإيمان أنَّ كلاهما يتضمَّنُ قولا وفعلا .
فقال السَّنوسيُّ في الجوابِ:" إنْ عَنيتَ بغير المبني غير جملته فمسلَّمٌ، وإن عنيتَ غير جملته وأبعاضِه فممنوعٌ، فالإسلام جملة والمبنيُّ عليه أبعاضه، وكلُّ بعضٍ بانفراده مغاير للمجموع كمادة للمركَّب التي هي مفرداته، فإنّها مغايرةٌ لمجموعه الذي هو صورته وهيئته الخاصة به... والدماغ والقلب والكبد والأنثيان أصول أعضاء الجسم وهي منه إلى غير ذلك من الأمثلة، هذا إنْ لم يكن المعنى بُنيَ الإسلام على كذا أنّ هذا هو الإسلام" (94).
والملاحظ هنا أيضا أنّ قواعد المنطق توجب إشكالات وتحتاج إلى إيضاحات، كان المتقدمون سالمين من تلك الإشكالات، وفي غُنيةٍ عن الإجابة عنها، ولذلك كانت شروحهم للحديث خاليةً من هذه المادة كلِّها.
المطلب الثالث : أثر مباحث التصديقات في شرح البخاري للسنوسي
المقصودُ بمباحث التصديقات المباحثُ المتضمِّنةُ للأحكام، وفيه بيان للقضايا وأنواعها والقياس بنوعيه القياس الاقتراني وأشكاله، والقياس الاستثنائيِّ وشروط كلِّ نوعٍ وشكلٍ، وقد برز إعمال الأقيسة المنطقية في عدَّةِ مواضع من شرح البخاريِّ للسَّنوسيِّ، نبيِّنُها فيما يأتي:
الفرع الأول : قياس من الشكل الأول
الشكل الأوَّلُ من أشكال القياس ما كان الحدّ الأوسط فيه محمولًا في الصغرى، موضوعًا في الكبرى، وشرط إنتاجه كلية كبراه وإيجاب صغراه (95)، وقد وجدنا السنوسي قد رتّب استدلالا على وفق أحد ضروب هذا الشكل؛ وهو يُبين وجه دلالة حديث على مراد البخاري؛ حيث ترجمَ لترادف الإيمان والإسلام، فقدّر السَّنوسيُّ في كلام البخاري مقدمةً معلومةً، وهي كلُّ ما كان قولًا وعملًا يزيد وينقص؛ فهو مرادف للإسلام وجعلها المقدمة الكبرى، وقدَّرَ مقدمةً أخرى تالية هي الصغرى، وهي الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ثم قال :"فينتج الإيمان مرادف للإسلام وهو دليل من الضرب الأوَّل من الشَّكل الأوَّل".
لكن اعتمادُ البخاريِّ على هذا القياسِ غيرُ واضحٍ، ولذلك لمَّا جاء السَّنوسيُّ لتوضيحِ القياسِ ذكرَ أنَّ دليلَ المقدِّمة الصّغرى بُيّنَ في غير هذه التّرجمة؛ وهي النّصوصُ التي تدلُّ على دخولِ الأعمالِ في الإيمان، وقال عن دليل الكبرى إنّه واضح "إذ الإسلام هو الأقوال والأفعال التي طلبها الشرع، ولا ريب أنّه يقبلُ الزيادة والنقصان، ولوضوح هذه الكبرى وقُرْبها استحضارا ودليلا حذَفها". ومن كلامه نستنتج أنَّه لا حجَّةَ على اعتماد البخاري على هذا القياس، وإنّما هو مجرّد افتراضٍ وتخمينٍ، ولذلك قال السَّنوسيُّ بعدها: "يحتمل أن يكون أخذ ترادفَ الإيمانِ والإسلامِ هنا مسلَّما لوضوحِه عنده شرعًا وعرفًا، فلزم أنَّ خصالَ كلِّ واحدٍ منهما خصالُ الآخر؛ فلهذا أدخلَ أحاديثَ الإسلام في كتابِ الإيمانِ" (96).
الفرع الثاني : قياس من الشكل الثاني
الشَّكْلُ الثاني من أشكالِ القياسِ هو ما كانَ الحدُّ الأوسط محمولًا في المقدمتين الكبرى والصغرى، وشرط إنتاجه كليةُ كبراه واختلاف كيف المقدمتين (97)، وقد تكلَّفَ السَّنوسيُّ إعماله حين أراد البرهنة على إطلاق الإيمان على التصديق، فقال رحمه الله :"فمن أدلَّةِ إطلاق الإيمان على تصديق القلب بدون الأعمال قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106)(أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) (المجادلة:22) ووجه الدّلالة من هذه الآيات، إضافة الإيمان فيها إلى القلب، والأعمال ليست في القلب، فدلَّ ذلك على أنّها خارجة عن مسماه، وإن شئت نظْمه على قواعد المنطق، فنظمُه من الشكل الثاني أنْ نقول: الإيمان كائن بالقلب، ولا شيء من الأعمال بكائن بالقلب؛ فينتج لا شيء من الإيمان عمل".
ولا يخفى التكلُّفُ واختلاف نتيجة القياس، وهي "أن الايمان لا شيء منه عمل" مع أصل المسألة التي تستفاد من الآيات وهي "جواز إطلاق الايمان على تصديق القلب دون عمل". ولعلّ سبب الخطأ هو المقدمة الكلية السالبة وهي الكبرى والتي جعل دليلها الاصطلاح (98) وهي "لا شيء من الأعمال بكائن بالقلب" إذ الأعمال منها أعمال الجوارح ومنها أعمال القلوب وهي كائنة في القلب، ونفيُ أعمال الجوارح لا يستلزم نفيَ أعمال القلوب، لكن شرط إنتاج الشّكل الثاني أنْ تكون كبراه كليةً، فكان يلزمه أن يجعلها على هذه الصفة لتكون منتجةً.
الفرع الثالث : قياس من الشكل الثالث
الشَّكل الثالثِ من أشكال القياس، هو ما كان الحدُّ الأوسطُ موضوعًا في المقدمتين الكبرى والصغرى، وشرطُ إنتاجه إيجاب صغراه وكلية إحداهما ولا يُنتجُ إلا جزئيةً (99)، وقد أورد السَّنوسيُّ تطبيقًا لهذا القياس على لسان ابن مرزوق حيث علَّقَ في موضع منتقدًا البخاري الذي أورد في باب زيادة الايمان ونقصانه قوله :"والحب في الله والبغض في الله من الإيمان" (100) فقال: "يقتضي هذا أنّ النتيجة جزئية، لأنّه من الشّكل الثالث ولا ينتج إلّا جزئية، وترتيب القياس الحبُّ أو البغضُ إيمان، والحبُّ أو البغضُ في الله يتفاوت، فبعض الإيمان يتفاوت، وإنّما كان محمول الصغرى بعض الإيمان، لأن "مِن" في "مِن الإيمان" للتبعيض، ومثله الحياء شعبة من الإيمان. وأمَّا الكبرى فدليلها حسِّي، والجزئية أعمُّ من الكلية، وصدقُ الأعم لا يلزم منه صدقُ الأخص، فلا يلزم صدقُ كلّ الإيمان يزيد وينقص؛ الذي هو مطلوب البخاري".
وجزئية النتيجة معلومة من المقدمة التي قدّر فيها التبعيض وجعل دليلها حسيا، فهذا القياس تطويل بلا معنى، والبخاري لم يكن مقيِّدا لفكره بهذه القيود، ومطلوبُ البخاري كليٌّ لا جزئيٌّ كما أشار إليه، وقد استدرك ابن مرزوق على نفسه فقال:"إلا أنْ يقال إنْ كان بعضه يزيد وينقص كان كلّه كذلك؛ إذ لا قائل بالفرق، لأنّ القائل قائلان: إما أنّه لا يقبلهما أو يقبلهما، ولا قائل بأن منه قابلا منه غيره، فإذا ثبت أن منه (قابلا) ثبت أنَّ جميعه كذلك؛ إذ لا مُفرّق..".
ثم عاد لنقد القياس وتصحيح دلالة (مِن) التي حملها على البعضية وأنّ الأولى حملها على النوع منه؛ فيكون "الحبُّ في الله من الإيمان" كقوله "الحياء شعبة من الإيمان" وحينئذ يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها، لأنّه "لا يلزم من قبول بعضِ الحقيقة زيدًا ونقصًا؛ قبول مجموعها لهما" بخلاف "البعض الجزئي كالنوع مقابل الكليِّ، وهو الذي حملنا عليه الحديث فيزيد ذلك الكليُّ بزيادة تلك الأنواع، وينقصُ بنقصها" (101)، والذي أوقعنا في هذا الإشكال هو تكلّف إقحام القياس الأرسطي في فهم كلام البخاري رحمه الله، ولو اتبعنا دلالات الألفاظ العربية لاستغنينا عن كلِّ هذا الجدل الطويل.
الفرع الرابع : قياس استثنائي
القياس الاستثنائي ما كانت فيه المقدمة الأولى -وهي الكبرى – شرطية، والتالية استثنائية، وشرط إنتاجه كون التالي لازم عين المقدم أو نقيضه (102).
وقد علّق السَّنوسيُّ على المسألة الأخيرة المنقولة عن ابن مرزوق بقوله :"فيتركَّب القياسُ على ما قال الشيخ من القياس (الاستثنائي) وهو أسهل هنا من الاقتراني، فيُقال (كلّما) كان الحُبُّ في الله أو البغضُ نوع من أنواع الإيمان؛ فالإيمان يزيد وينقص، لكن المقدَّمُ حقٌّ بنص الحديث؛ فالثاني مثله، وبيان الملازمة ما أشار إليه الشيخ"(103). ويلاحظ زيادة عبارة "كلما" في كلام البخاري، ولعل الصواب فيها (ما) لأنَّ المقصود تصيير المقدّمةِ شرطيةً لتكون منتجةً .
الفرع الخامس : القضايا وعكسها
وقد ورد في الكتاب إعمال مصطلحات منطقيَّةٍ متعلِّقَةٍ بعكس القضايا في فقه الحديث؛ ومن ذلك ما ورد نقلا عن ابن مرزوق في شرح حديث شعب الإيمان: "وكأنَّ في الحديث إشارةٌ إلى أنَّ الإيمان توحيد وترك ما يضرُّ؛ إمّا معنى كغير التوحيد... وإمّا حسًّا كإماطة الأذى من الطريق، ومقتضى عكسُ نقيضه الموافق أنَّ ما لا يضرُّ لا تجب إزالته"(104).
وهو استنتاجٌ معلومٌ من غير هذا الحديث، ودلالةُ الحديثِ على المعنى بمفهوم المخالفة الذي هو أحد مباحث الأصول، والوصف المشعر بالعلّية لا ينبغي أنْ يُختلف في حجِّيَةِ مفهومه.
ويَقترب من هذا المعنى مناقشةُ ابن مرزوق أقوال المختلفين في الحياء، هل هو محمود بإطلاق أو منه المذموم والمحمود؟ حيث جعل الخلاف لفظيا باعتبار أنَّ الفريق الأول نظر إلى المعنى في الشرع، والفريق الثاني نظر إلى المعنى في اللغة، ثم قال:" وعلى هذا فالحياء المحكوم عليه في القولين عام، والقضية كلّية لكن الأوّلَ حمله على اللغوي، والمجيبُ على الشرعي"، والمعنى مُتَّضحٌ من دون هذا التَّخريج المنطقيِّ، وقد أورده للرّد على تخريج منطقي آخر للخلاف؛ وهو قول من قال: إنَّ القضية في الحياء خير، إنْ كانت في الحياء للعموم فهي كلِّيةٌ، والعام مخصوص بما اعترض عليه، وإنْ لم تكن فهي مهملة في قوّة الجزئية، والجزئيتان لا تتناقضان"، قال ابن مرزوق: "وهو ضعيف لأنّ تأكيد الخبر بكلّه -على ما في بعض طرق مسلم- دليل على أنّه للعموم والقضية كلّية، وادعاء التَّخصيص مع التَّأكيد غير مستقيم. ومعنى الحديث كلُّ حياءٍ شرعيٍّ أي مأمور به شرعًا خيرٌ دائما فلَا يصدقُ في نقيضه؛ ليس بعضُ الحياءِ الشرعيِّ خير بإطلاق "(105)، ومَا نقلَه المُصنِّفُ لا شكَّ أنَّه يُعبِّر عن منهجه في الكتاب وإذا أقرَّه نُسبَ إليه مضمونُهُ.
خاتمة
نأتي في نهايةِ هذا البحثِ إلى تسجيلِ أهمِّ النتائج المتوصَّلِ إليها والتِّي خلاصتُهَا في النُّقَطِ الآتية:
1-لقد كانت بدايةُ الانفتاحِ على المنطق على يدِ النُّحاةِ المعتزلة ومن تأثَّر منهم بالفلاسفةِ؛ كابن السرَّاج والفارسيِّ والرمانيِّ، وأمَّا علمُ أصول الفقه وعلمُ أصول الدين؛ فمنْ أوائلِ منْ أقحم فيهما المنطقَ أبو الحسين البصريِّ من المعتزلة، وأبو المعالي الجوينيِّ من الأشاعرة.
2-لم يزلْ المنطقُ يتوغَّلُ في العلوم الإسلامية قرنًا بعد قرنٍ، حتى ولجَ جميعها، وفي المغرب الإسلاميِّ تأخَّرَت العنايةُ به إلى القرنِ السادس الهجري؛ ولمْ ينتشرْ الانتشارَ العامَّ إلا في القرن السابع، وكان إسهامُ التلمسانيين في حركةِ التَّأليفِ فيه واضحا، وإسهامُ السَّنوسيِّ كان أشدَّ وضوحًا.
3-ترجعُ شدَّةُ ولوع السَّنوسيِّ بالمنطقِ إلى عدَّةِ أسبابٍ هي: نبوغُهُ في هذا العلم منذ نعومة أظفاره، وشيوع تطبيق القواعد المنطقية في حلقِ العلمِ، وامتزاجُ المنطقِ بأهمِّ مصادر الدَّرس الأصولي في تلمسان، ويرجع أيضا إلى مصادر تكوين السَّنوسيِّ ومصادر تآليفه في العقيدة والتفسير وشرح الحديث.
4-لقد شملَ مجالُ الدِّراسةِ التطبيقية قطعةً من شرحِ صحيح البخاري، فيها شرحُ نحوِ ستةَ عشرةَ حديثًا، ومع تضييق مجال الدراسة؛ فإنَّ المادةَ المتعلِّقةَ بالمنطقِ كانتْ غزيرةً؛ غطَّتْ أهمَّ مسائله في جانب التصوُّرات وكذا في جانب التَّصديقات، وقد كان مجموعها نحوُ اثني عشرةَ اقتباسًا بعضها طويلٌ جدًا.
5-من المباحث التي تمَّ توظيفُها من قسم التصوُّرات قواعد الحدِّ؛ حيث وجدنا التَّأكيدَ على التفريق بين الذاتيات والعرضيات، وأنَّه لا يكون للشيء الواحد حدَّان ذاتيان، ومنها أقسامُ اللفظ الكليِّ ومراتبه؛ حيث وجدنا توظيفَ مصطلحات الأجناس والأنواع والفصول والأشخاص، ومنها دلالةُ اللفظ على المعنى حيث وجدنا الحديث عن دلالة التضمن والالتزام، كما وجدنا أيضا بناءً على الفرق بين الكلِّ والكلِّيِّ والجزءِ والجزئِيِّ.
6-وفي المباحث المتعلقة بالتصديقات وجدنا توظيفًا لقواعد القضايا في فهم النص الشرعي، كعكس القضايا وعدم تناقضها، كما وجدنا إعمالًا للقياس الأرسطي؛ فكان منها نموذجٌ للقياس الاستثنائيِّ، وثلاثةُ نماذجَ للقياس الاقترانيِّ موزّعةٌ على الشَّكل الأول والثاني والثالث.
7-لقد ظهرَ لنا من خلالِ هذا البحثِ كثافةُ استعمالِ قواعدِ المنطقِ، ممَّا يجعلُ فهم القارئ لمحتوى كتاب -شرح صحيح البخاري- متوقِّفا على تحصيله لهذا الفنِّ.
8-كما أنَّنا من خلال تحليلِ بعض تلك النماذج قد لمسنَا عُقمَ المنطقِ الأرسطي؛ الذي لم يكنْ له من دورٍ سوى تطويلِ طريقِ الوصولِ إلى نتائجَ معلومةٍ، وربَّما أوصلنا أحيانا إلى عكسِ مرادِ البخاريِّ أو ضدِّ مدلول النصوصِ، وذلك بسبب غلطٍ أوجبه تكلُّف تكييف المقدمات كمًّا وكيفًا لتصير من الضُّروب المنتجةِ.
9-وهذه الكثافةُ كانت في تقديري على حساب إعمال قواعدِ أصولِ الفقهِ، الأمر الذي يوصلنا إلى نتيجةٍ أعمَّ؛ وهي أنّ عقمَ التفكير الإسلامي في عصور الانحطاط لم يكن سببه علم أصول الفقه، ولكن كان من أسبابه مَنْطَقة علم الأصول نظريًا، وإحلالُ علمِ المنطقِ مكانه عمليًا؛ مما جعلَ تعاملَ العالم مع نصوصِ الكتاب والسُّنةِ سطحيًا يقفُ في أكثر الأحيان عند حدودِ المناقشاتِ اللفظيةِ العقيمةِ دون نفوذ إلى مقاصدها ومراميها العلمية والعملية، والله تعالى أعلم .
الهوامش
(1) الملالي، المواهب القدُّوسية تحقيق علال بوربيق، دار كردادة الجزائر،ط-2011 (ص:43).
(2) انظر : ابن مريم، البستان بذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق محمد بن أبي شنب، المطبعة الثعالبية، الجزائر، ط- 1908، (ص:244) مخلوف، شجرة النور الزكية، دار الكتاب العربي، بدون (ص:266)
(3) الملالي، المرجع السابق (ص:43، 45، 293)
(4) التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، تحقيق عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس، ليبيا، ط2- 2000 م (ص:571) الملالي، المرجع السابق (ص:65-66)
(5) الملالي، المرجع السابق (ص:77)
(6) الملالي، المرجع السابق (ص:53، 71) ابن صعد، النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب، تحقيق محمد الديباجي، دار صادر بيروت، الطبعة1-2011 (ص:52)
(7) الملالي، المرجع السابق (ص:66، 71) ابن صعد، المرجع السابق (ص:52).
(8) الملالي، المرجع السابق (ص:71) التنبكتي،المرجع السابق (ص:371)
(9) الوادي آشي، الثبت، تحقيق عبد الله العمراني، دار الغرب الاسلامي بيروت،الطبعة1- 1403هـ(ص:439)، الملالي، المرجع السابق (ص:333)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:127)
(10) الملالي، المرجع السابق (ص:54، 55-56)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:342).
(11) الملالي، نفسه(ص:55)
(12) ابن صعد، المرجع السابق (ص:52)، التنبكتي،المرجع السابق (ص:574).
(13) الملالي، المرجع السابق (ص:50-51، 52-53، 54)
(14) الملالي، نفسه(ص:48، 55)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:574).
(15) الملالي، المرجع السابق (ص:309)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:568).
(16) التنبكتي، المرجع السابق (ص:564)
(17) ابن القاضي المكناسي، جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط-المغرب، ط-1973م (ص:128-129)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:130-132)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:45-47)
(18) التنبكتي، المرجع السابق (ص:575)، مخلوف، المرجع السابق (ص:268)
(19) ابن عسكر، دوحة الناشر لمن كان بالمغرب من أهل القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار المغرب الرباط، ط2-1397، 1977 (ص:121) التنبكتي، المرجع السابق (ص:579)
(20) التنبكتي،المرجع السابق (ص:584-585)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:247، 259).
(21) الملالي، المرجع السابق (ص:368، 369) و(363).
(22) الملالي، المرجع السابق (ص:343-344) و(363).
(23) التنبكتي،المرجع السابق (ص:572)، مخلوف، المرجع السابق (ص:266)
(24) الملالي، المرجع السابق (ص:365).
(25) الملالي، نفسه (ص:362) التنبكتي، المرجع السابق (ص:571)
(26) الملالي، نفسه (ص"555-557، 115).
(27) ابن عسكر، المرجع السابق (ص:121، 122).
(28) ابن القاضي، درة الحجال في اسمال الرجال، تحقيق محمد الأحمدى أبو النور، دار التراث (القاهرة) - المكتبة العتيقة (تونس)، ط1- 1391 هـ ، (ج2/ص:141).
(29) ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2- 1408 هـ- 1988 م (ج1/ص644).
(30) الغزالي، معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ط-1961 م (ص:44).
(31) التهانوي،كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،تحقيق علي دحروج، ترجمة عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، ط1 - 1996م (ج1/ص 44).
(32) ابن قتيبة، أدب الكاتب، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بدون (ص9).
(33) الجويني، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق عبد الله النيبالي، مكتبة الباز ط1-1417، (ج3/ص152)، الباقلاني، التقريب والإرشاد، تحقيق عبد الحميد أبو زنيد، مؤسسة الرسالة ط2-1418 (ج1/ص68).
(34) الباجي، إحكام الفصول، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي ط2-1415، (ج2/ص536).
(35) علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار المعرفة الجامعية ط3-1999 (ص180) وانظر: ابن تيمية، شرح العقيدة الأصفهانية،تحقيق حسنين مخلوف، دار الكتب الحديثة مصر بدون (ص114).
(36) محي الدين محسَّب، الثقافة المنطقية في الفكر النحوي نحاة القرن الرابع الهجري نموذجا، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الرياض، ط1-2007، (ص: 53).
(37) سليمان بن علي الضحيان، الاعتراض المنطقي على الحد النحوي، مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغات وآدابها، العدد السابع محرم 1433 يناير 2012م، (ص: 17).
(38) انظر: وائل بن سلطان الحارثي، علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ط1-2012م، (ص339-340).
(39) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع ابن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب، بدون، (ج9/ص184)، علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام (ص89-91).
(40) الغزالي، المستصفى في أصول الفقه، تحقيق محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة ط1-1417 (ج1/ص45)، الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا، دار الأندلس بيروت ط11-1983، (ص103).
(41) انظر: يعقوب الباحسين، طرق الاستدلال ومقدماتها عند المناطقة والأصوليين، مكتبة الرشد ط3-1426، (ص:23)،عبد السلام بن محمد، التجديد والمجددون في أصول الفقه، المكتبة الإسلامية القاهرة ط2-1425 (ص:175).
(42) مسعود فلوسي، مدرسة المتكلمين ومنهجها في دراسة الأصول، مكتبة الرشد ط1-1425 (ص:332).
(43) القرافي،نفائس الأصول في شرح المحصول،تحقيق عادل عبد الموجود، مكتبة نزار الباز ط1-1416 (ج9/ص 3833).
(44) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، ط2-1402م (ج4/ص119)، وانظر: التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح،دار الكتب العلمية بيروت ط1-1414، (ج1/ص20-21)، البناني، حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع دار الفكر بيروت، ط-1424م (ج1/ص22)، العطار، حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع دار الكتب العلمية بيروت بدون (ج1/ص32).
(45)جلال محمد عبد الحميد موسى، نشأة الأشعرية وتطورها،دار الكتاب اللبناني بيروت، بدون، (ص:409-410).
46-الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم ديب ، مطابع الوفاء المنصورة 1991م (ج1/ص104) وانظر:حمد بن عبد اللطيف آل عبد اللطيف منهج إمام الحرمين في العقيدة، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الرياض، ط1-1414، 1993م، (ص:220).
(47) الآمدي، أبكار الأفكار، تحقيق أحمد المهدي، دار الكتب والوثائق القومية، ط2-1424م (ج1/ص208-214)، الرازي، نهاية العقول في دراية الأصول للرازي، تحقيق سعيد فودة، دار الذخائر بيروت، بدون (ج1/ص124-154).
(48) السنوسي، السنوسية الكبرى وشرحها، تحقيق بلكرد بوكعبر، دار البصائر، الجزائر،ط-2011 (184).
(49)عبد العزيز الفيلالي، تلمسان في العهد الزياني، موفم للنشر الجزائر-2007م (ص:476).
(50)عبد العزيز الفيلالي، المرجع السابق (ص:476-477).
(51) انظر: ابن مريم، المرجع السابق(ص:163، 173، 106، 210، 223).
(52) كما ألف القلصادي شرح تنبيه الانسان إلى علم الميزان كما في ابن مريم، المرجع السابق (ص:142).
(53)ابن مريم ، المرجع السابق (ص:24).
(54) ممن درسه محمد بن أبي مدين كما في ابن مريم، مرجع سابق (ص:259).
(55) ابن مريم، المرجع السابق (ص:255).
(56) انظر ترجمته في: ابن مريم، المرجع السابق (ص:276-279، 305-307)
(57) أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي دار الغرب الإسلامي ، ط1-1998 (ج1/ص119، 352).
(58) الملالي، المرجع السابق (ص:362) وقد حققه اسعيد أعليوان في جامعة الجزائر لنيل الدكتوراه الحلقة الثالثة.
(59) الملالي، المرجع السابق (ص361) التنبكتي، المرجع السابق (ص:572).
(60) الملالي، المرجع السابق(ص:361) التنبكتي، المرجع السابق (572).
(61) في الملالي، المرجع السابق (ص:361) أنّ المتن لأبي الحسن البقاعي (ت:885) وانظر باجي عبد القادر، إدرار الشموس على حياة وأعمال السنوسي، دار كردارة الجزائر، ط-2011 (ص:439-443).
(62) الملالي، المرجع السابق (ص:383، 385) السنوسي ، المنهج السديد المنهج السديد في شرح كفاية المريد للسنوسي، تحقيق مرزوقي، دار الهدى عين مليلة بدون، (ص:80 ، 334).
(63) السنوسي، العقيدة الوسطى وشرحها،تحقيق السيد يوسف أحمد، دار كردادة الجزائر ط-2011 (ص:75).
(64) السنوسي،مكمل إكمال الإكمال،دار الكتب العلمية بيروت بدون، (ج5/ص 323-324).
(65) الأبي، إكمال إكمال المعلم،دار الكتب العلمية بيروتبدون، (ج5/ص323- 324).
(66) الملالي، المرجع السابق(ص55)
(67) الونشريسي، المعيار المعرب، تحقيق محمد الحجي دار الغرب الإسلامي ط1-1401هـ، (ج11/ص 319).
(68) القلصادي، رحلة القلصادي،تحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط- 1978م،(ص:102، 104، 117)، التنبكتي، المرجع السابق،(ص:190، 119،369، 575، 585)، المراغي، الفتح المبينفي طبقات الأصوليين، المكتبة الأزهرية للتراث 1419هـ، (ج3/ص:6، 18،19،33،41،57،87،94)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:106، 205-206، 222، 43، 251).
(69) القلصادي، المرجع السابق (ص:87، 100، 117، 122) التنبكتي، المرجع السابق (ص127)، ابن مريم، المرجع السابق (ص:205-206) المراغي، المرجع السابق (ج2/ص129 ،152 ،220) (ج3/ص:44)، مخلوف، المرجع السابق (ص:219 ،259).
(70) الأبي، المرجع السابق (ج5/ص 364).
(71) الأبي، المرجع السابق (ج4/ص 3).
(72) السنوسي، شرح صحيح البخاري، تحقيق بن عزوز عبد الله، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في تخصص الكتاب والسنة من قسم العقائد والأديان، عام 1431-1432، الموافق 2011-2012م (ص:172).
(73) السنوسي، المرجع السابق (ص:211-212).
(74) الملالي، المرجع السابق (ص:359) ، التنبكتي،المرجع السابق (ص:572)
(75) صاحب التحقيق وضع في العنوان إلى باب علامة الإيمان حب الأنصار.
(76) الملالي، المرجع السابق (ص:359-360) التنبكتي، المرجع السابق (ص:571).
(77) الملالي، المرجع السابق (ص:360)، التنبكتي، المرجع السابق (ص:571) باجي عبد القادر، المرجع السابق (ص496).
(78) انظر: بن عزوز عبد الله، شرح صحيح البخاري قسم التحقيق (ص:93، 96).
(79) انظر: بن عزوز عبد الله، المرجع السابق (ص:92، 93).
(80) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:93، 94).
(81) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:96).
(82) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:92، 93، 95).
(83) انظر: بن عزوز عبد الله، نفسه (ص:94، 95).
(84) السنوسي، المرجع السابق (ص:121-122).
(85) البخاري ، صحيح البخاري تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1- 1422هـ (ج1/ص:10).
(86) البخاري ، المرجع السابق (ج1/ص:10).
(87) السنوسي، المرجع السابق (ص:192).
(88) السنوسي، نفسه (ص:191).
(89) ابن رجب ، عبد الرحمن بن أحمد، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية ، ط1-1417، (1/18) وابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، ط-1379 (1/48)
(90) السنوسي، نفسه (ص225-226).
(91) السنوسي، نفسه (ص192).
(92) ابن جزي، تقريب الوصول دار الكتب العلمية، بيروت ، ط1-1424 هـ - 2003 م (ص:146).
(93) السنوسي، مختصر في المنطق، تحقيق الدكتور ماحي قندوز، دار كردادة الجزائر، ط-2011(ص:169).
(94) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص/120).
(95) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:178-179).
(96) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:118-119).
(97) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:179).
(98) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص131-132).
(99) السنوسي، مختصر في المنطق (179).
(100) البخاري، المرجع السابق (ج1/ص 11).
(101) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:156-157) ما وضع بين قوسين() في الاقتباسات جاء مصحفا في الأصل.
(102) السنوسي، مختصر في المنطق (ص:181).
(103) السنوسي، شرح صحيح البخاري (ص:158).
(104) السنوسي، المرجع السابق (ص:253).
(105) السنوسي، نفسه (ص:250).
53-عبادة التوبة غير منشورة
الدرس الثالث والخمسون والأخير : عبادة التوبة
من العبادات الواجبة على كل مسلم والتي ينبغي أن يفرد بها المولى عز وجل عبادة التوبة، قال ابن القيم :" ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك".
أولا : أقسام التوبة
وللتوبة معنيان عام وخاص.
أما المعنى الخاص : فهو الاعتراف بالذنب والتقصير والاعتذار إلى الله تعالى، وأركانها التي عليها تبنى أربعة: الندم على فعل المعصية في الماضي، والإقلاع عنها في الحال، والعزم أن لا يعاودها في المستقبل، وتصحيح ما يمكن تصحيحه، وهذا المعنى هو المقصود بالتوبة إذا ما قرنت بفعل المأمور كقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (الفرقان:70).
وأما المعنى العام : فهو الرجوع العام إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ولزوم طريق الاستقامة طريق المؤمنين الصالحين وهو معنى الإنابة ، قال تعالى : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (الزمر:54) وقال تعالى: ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (النور:31)، وقال: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).
ثانيا : من أجناس ما يتاب منه
1-الشرك الأكبر وذرائعه المسماة شركا أصغر.
2-والكفر بنوعيه الأكبر والأصغر .
3-النفاق بنوعيه الأكبر والأصغر وهو العملي .
4-الفسوق والعصيان والإثم والعدوان ويدخل فيه الكبائر والصغائر.
5-الابتداع وهو الإحداث في الدين واتباع غير سبيل المؤمنين .
ثالثا : أسباب إخلاص التوبة لله تعالى والمسارعة بها
1-معرفة وتدبر أسماء الله تعالى وصفاته الموجبة لمحبته ورجاء عفوه ، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:104)، وقال سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (الزمر:53).
2-تذكر أن الله تعالى يحب التوابين ويفرح بتوبة عبده ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)، وقال صلى الله عليه وسلم :« لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة…» رواه مسلم.
3-ملاحظة حال الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم وهم صفوة الخلق، والنظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال :« يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة » رواه البخاري.
4-تذكر عظمة الرب وشدة عذابه لمن عصاه ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
5-تذكر الموت وأنه يأتي فجأة وأنه لا تقبل التوبة إلا قبل حضوره، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(النساء:17-18).
52-الكفر والنفاق والردة غير منشورة
الدرس الثاني والخمسون (52) : الكفر والنفاق والردة
أولا : الكفر :
قال حافظ حكمي رحمه الله :« ضد الإيمان الكفر، وهو أصل له شعب، كما أن الإيمان أصل له شعب. وقد عرفت مما تقدم أن أصل الإيمان هو التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد بالطاعة، والكفر أصله الجحود والعناد المستلزم للاستكبار والعصيان،…فإذا عرفت هذا عرفت أن الكفر كفران، كفر أكبر:يخرج من الإيمان بالكلية، وهو الكفر الاعتقادي المنافي لقول القلب وعمله أو أحدهما، وكفر أصغر: ينافي كمال الإيمان ولا ينافي مطلقه، وهو الكفر العملي الذي لا يناقض قول القلب ولا عمله ولا يستلزم ذلك ».
ومن الكفر الأصغر -وهو ما أوجب استحقاق الوعيد بالنار دون الخلود فيها -قول النبيصلى الله عليه وسلم :« اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ » رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم : « سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» متفق عليه.
ومن الكفر الأكبر مقابلة الرسالة بالجحد والتكذيب، ومنه النفاق، ومنه الردة بعد الإسلام.
ومن أسباب الكفر الأكبر:
-التكذيب القلبي : وهو اعتقاد كذب الرسول قال ابن القيم وهذا قليل في الكفار .
-الإعراض: وهو أن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول ودعوته لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه.
-الشك: وهو أن يسمع دعوة الرسول فلا يجزم بصدقه ولا كذبه، وهذا لا يستمر لأنه إما أن يعرض أو يؤمن .
-الإباء والاستكبار: ومنه قوله تعالى عن اليهود: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) (البقرة:89)، وقوله عن قوم فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعلوا) (النمل: 14) قال ابن القيم:"وهذا هو الغالب على كفر أعداء الرسل".
ثانيا : النفاق
ثم إن الكافر المكذّب بقلبه أو المصدق غير القابل والمنقاد إن لم يظهر الإنكار بلسانه والمخالفة الصريحة للإسلام بأعماله؛ بل أقر وشهد ووافق وعمل، فهذا هو المنافق. قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:8-9).
وقد يطلق النفاق على بعض الأعمال وليس ذلك من الكفر الأكبر ويسمى النفاق الأصغر ، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » متفق عليه.
ثالثا : الردة
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:« والمرتد هو من خرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل أو قول أو اعتقاد أو شك. وقد ذكر العلماء رحمهم الله تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام ترجع كلها إلى جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه » منهج السالكين (231).
ومن هذه الأفعال السجود للصنم ودعاء غير الله تعالى وتعلم السحر، ومن الأقوال سب الله ورسوله والاستهزاء بشعائر الدين، ومن الاعتقادات عدم الرضا بحكم الله تعالى والتكذيب بالصفات، والشك كما يكون في الاعتقادات يكون في الشرائع.
حكم الحكم بغير ما أنزل الله :
قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)، قال ابن القيم رحمه الله:« والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب أو أنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ وله حكم المخطئين » مدارج السالكين (1/346).
51-من أصول أهل السنة غير منشورة
الدرس الواحد والخمسون (51): من أصول أهل السنة
1-من أصول السنة الاقرار بأنَّ خيْرَ القرون هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم وهم سلف الأمة أصدق الناس فهما للدين وأحقهم بالاتباع.
قال الله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسبِقُ شَهَادَة أحدِهمْ يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته» متفق عليه.
2-ومحبة جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون إفراط في حب بعض أو براءة من بعض، فلا يذكرون إلا بخير، ويمسك عن الخوض فيما شَجَرَ بَينهم.
قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (التوبة:100)، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)، وقال صلى الله عليه وسلم :« لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نصيفه» متفق عليه.
3- وَأفْضَلُهم الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين.
روى البخاري أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، قالت أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تريد الموت ، قال: « إن لم تجديني فأتي أبا بكر». وقال صلى الله عليه وسلم : « اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ» رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني، وقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون » رواه البخاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان.
4-وندين بالطَّاعَةُ في المعروف لولاة أمور المسلمين وعُلمائهم.
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء 59)، وقال صلى الله عليه وسلم :« السَّمعُ والطاعةُ على المرءِ المسلمِ فِيمَا أحب وأكره مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خِيَارُ أئمتكم الَّذين يحبونهم وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنوكم» قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» » رواه مسلم.
5-وبالصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم.
قال صلى الله عليه وسلم :« يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» رواه البخاري ، وروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصلى خلف الحجاج بن يوسف، وقال تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (محمد:19)، وقال صلى الله عليه وسلم :« إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني.
6-وبتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين، وتَركُ كل ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثمَّ تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (الزخرف: 58) » رواه الترمذي وصححه، وقال صلى الله عليه وسلم :« إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ باختلافهم فِي الْكتاب». وقال صلى الله عليه وسلم : « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، رواهما مسلم.
50-صفة الهداية غير منشورة
الدرس الخمسون (50): صفة الهداية
من الصفات التي يجب إثباتها لله تعالى صفة الهداية، وهي صفة ذاتية فعلية متعلقة بمشيئة الله، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل عن عجل بني إسرائيل: ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (الأعراف:148)، وقال سبحانه: ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (يونس:35)، فبين أن المعبود يجب أن يكون هاديا وإلا كان ناقصا، والهداية نوعان عامة وخاصة.
1-الهداية العامة :
وهي هداية البيان والدلالة وطريقها الرسالة ( الرسل وكتبهم وأتباعهم ) بعد الفطرة والعقل . قال تعالى : ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (طه:49-50)، وقال جل جلاله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) (فصلت:17)، أي هداهم ببعثة الرسول ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) (الأنبياء:73)، وقال سبحانه: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185)، وقال : ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (غافر:38).
2-الهداية الخاصة:
وهي هداية التوفيق والتزيين في القلوب، وهي قبل الأولى، قال تعالى: ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(التغابن:11)، وقال سبحانه : (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) (الأعراف:30)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (العنكبوت:69)، وقال تعالى: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) (مريم:76).
3- تعلق الهداية بالمشيئة :
قال تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)، وقال سبحانه : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ) (النساء:88)، وقال عز وجل : ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً)(الكهف:17).
4-تعلق الهداية بالحكمة والعدل :
قال الله تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ) (آل عمران:86)، وقال سبحانه : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (النحل:107)، وقال جل جلاله : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(الصف:5)، وقال جل شأنه : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50).
ثمرات الإيمان بصفة الهداية :
1-محبة الإله جل جلاله أن هدانا الهداية العامة وأن وفقنا للإيمان.
2-شكره سبحانه على ذلك ، قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) (الأعراف:43).
3-سؤال الله تعالى الهداية إلى الصراط معرفة لشرائعه وإرادة للامتثال وقدرة عليها.
4-سؤال المولى عز وجل التثبيت على الهدى والعصمة من الزيغ ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) (آل عمران:8).
5-عدم الفرح والاغترار قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (الحجرات:17).
6-التوكل على الله تعالى كما قال على لسان الرسل: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) (إبراهيم:10). وذكر الله وتعظيمه والثناء عليه كما قال: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة:198).
7-طلب الهداية للناس كما قال صلى الله عليه وسلم :« اللهم اهد دوسا وائت بهم » متفق عليه .
49-ثمرات الإيمان بالقدر غير منشورة
الدرس التاسع والأربعون (49): ثمرات الإيمان بالقدر
1-الابتلاء والامتحان:
فالله تعالى إليه منتهى علم الأشياء والقدرة عليها، والعبد مخلوق لا يمكنه أن يعلم كل شيء ولا قدرة له إلا على ما أقدره الله عليه، وسر القدر من الغيب الذي امتحن به العباد، قال تعالى : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (الأنبياء:23)، قال الطحاوي :« وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة».
2-الصبر على المصائب وعدم الاغترار عند حصول النعم :
قال تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:22-23)، وقال صلى الله عليه وسلم :« عجبا لأمر الْمُؤمن كُله خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم :« وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عمل الشَّيْطَان» رواه مسلم.
3-صدق التوكل على الله تعالى وعدم خوف الناس :
قال صلى الله عليه وسلم :« وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأقلام وجفَّت الصُّحُف» رواه الترمذي وصححه.
4-تقديم الأمر الشرعي على الأمر القدري :
قال صلى الله عليه وسلم:« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ» رواه ابن ماجة، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» رواه مسلم.
5- عدم الأمن من مكر الله تعالى :
إذ الأعمال بالخواتيم والموت يأتي بغتة والكتاب لم يطلع عليه أحد لذلك فالواجب على المؤمن أن يحرص على الثبات على الطاعة حتى لا يكون من الآمنين، قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99)، وقال صلى الله عليه وسلم:« فوالذي لَا إِلَه غَيره إِن أحدكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» متفق عليه.
6-عدم الاحتجاج به على وجه اللوم لله تعالى أو إبطال التكليف:
كما قال الشيطان : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر:39)، وقال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (النحل:35).
7-حسن الظن بالله سبحانه وتعالى وكمال الإيمان بصفاته :
فالقدري الذي ينفي علمه سبحانه بالأشياء قبل وقوعها قد قدح في كمال صفة العلم، والذي يزعم أنه هو الذي يخلق أعماله دون الله فقد جعل جميع الناس شركاء لله في الخلق. والجبري الذي ينسب الشر الذي يفعله المخلوق إلى الله تعالى والذي يقول إن الله يجبر العباد على الأفعال ثم يحاسبهم عليها فقد قدح في عدل الله وحكمته.
48-مجمل الاعتقاد في القدر غير منشورة
الدرس الثامن والأربعون (48): مجمل الاعتقاد في القدر
1-الإيمان بالقدر من الإيمان بالله تعالى :
إذ هو مبني على الإيمان بكمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته وعلى إثبات حكمته وعدله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (الطلاق:12).
2-فنعتقد بأن الله تعالى علم ما كان قبل أن يكون وعلم ما سيكون، وما الناس عاملون وما هم إليه صائرون وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض:
قال تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس:12)، وقال: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (الأنعام:38)، وقال صلى الله عليه وسلم :« كَتَبَ اللَّهُ مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ...وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاء»» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ اكْتُبْ فَقَالَ مَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبِ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ» رواه أبو داود والترمذي وصححه.
3-وأن الكتابة والتقدير لا تنفي العمل ولا تبطل الشرع :
قال صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْكُم من أحد مَا من نفس منفوسة إِلَّا كتب مَكَانهَا من الْجنَّة وَالنَّار وَإِلَّا قد كتب شقية أَو سعيدة فَقَالَ رجل يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدع الْعَمَل فَمن كَانَ منا من أهل السَّعَادَة فسيصير إِلَى عمل أهل السَّعَادَة وَأما من كَانَ منا من أهل الشقاوة فسيصير إِلَى عمل أهل الشقاوة...أما أهل السَّعَادَة فييسرون لعمل السَّعَادَة وَأما أهل الشقاوة فييسرون لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ» متفق عليه.
4-وأن الناس محاسبون على ما عملوا لا على مجرد علم الله:
قال تعالى : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (آل عمران:182)، وقال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (فصلت:46)، وقال صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين :« الله أعلم بما كانوا عاملين » رواه البخاري، ولكن مع ذلك سيمتحنهم الله تعالى يوم القيامة ، فيكون جزاؤهم على اختيارهم لا على مجرد علم الله بما كانوا عاملين.
5-وأن الناس مختارون قادرون على فعل المأمور وترك المحظور:
قال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:286)، وقال : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(فاطر:37).
6-وأن كل شيء يجري بمشيئة الله تعالى النافذة ولا مشيئة للعباد إلا بعد مشيئته سبحانه :
قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29)، وقال : (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)، وقال : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ) (الأنعام:35).
7-وأن أعمال العباد كلها خلقها الله تعالى وأرادها ولا ينسب إليه الشر منها، وليس كل ما أراده أحبه ولا كل ما قدره شرعه :
قال تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (الصافات:96)، وقال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:78-79)، وقال تعالى : ( وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)، وقال سبحانه : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون) (الأعراف:28).
47-الإيمان بالجنة غير منشورة
الدرس السابع والأربعون (47): الإيمان بالجنة
1-ونعتقد أن الجنة دار خلود للمؤمنين ولا يدخلها أحد غيرهم:
قال الله تعالى : ( أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (آل عمران:136) وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (الأعراف:40).
2-وهي التي يعمل لها العاملون وبرحمة الله يدخلها الداخلون :
وقال عز وجل : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) (الصافات:60-61)، وقال تعالى : ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:43)، وقال صلى الله عليه وسلم :« لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» رواه مسلم.
3-ومحمد صلى الله عليه وسلم أول من يدخلها ثم أمته من بعده :
قال صلى الله عليه وسلم :« آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ » رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» رواه مسلم.
4-يجدون فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ونعيم مقيم :
قال تعالى: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) (محمد:15)، قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الزخرف:71)، وقال: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (الواقعة:20-23)، قال صلى الله عليه وسلم:«أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:«أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ، صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمْ مِنَ الْأَلُوَّةِ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» متفق عليه.
5-وهي درجات بعضها فوق بعض :
قال تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) (الإسراء:21) وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11)، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ» رواه البخاري.
6-وحال آخرهم دخولا يبين عظم نعيمها:
قال النبيصلى الله عليه وسلم:« إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي وَأَنْتَ المَلِكُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»، قال تعالى:« أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بشر» فاقرأوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) متفق عليهما.
7-ولا نأمن على المؤمنين ولا نشهد لكل أحد منهم بالجنة:
قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» متفق عليه.
46-الإيمان بالنار غير منشورة
الدرس السادس والأربعون (46): الإيمان بالنار
1-ونعتقد أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن:
قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (آل عمران:131)، ثم قال : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (آل عمران:133)، وقال سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (النجم 13-15).
2-وأنهما باقيتان أبدا لا تفنيان :
قال الله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) (الدخان:56)، وقال عز وجل : ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (البقرة:81)،
3-وإن النار لواسعة عميقة دركات بعضها تحت بعض:
قال تعالى : ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (ق:30)، قال صلى الله عليه وسلم :«يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» رواه مسلم، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ) (النساء:145)، وقال سبحانه : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (الحجر:43-44).
4-وهي مصير الكافرين والمنافقين من الناس والشياطين:
قال تعالى: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (البقرة:24)، وقال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود:119).
5-إذا دخلوها فهم فيها خالدون لا يموتون ولا يخرجون :
قال تعالى: ( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) (المؤمنون:106-108).
6-ولهم فيها عذاب عظيم وأليم:
قال تعالى: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء:56)، وقال: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (الحج:20)، وقال تعالى: (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) (غافر:71-72)، وقال تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (الواقعة:51-55)، قال صلى الله عليه وسلم:« ضِرْسُ الْكَافِرِ، أَوْ نَابُ الْكَافِرِ، مِثْلُ أُحُدٍ وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ» رواه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» متفق عليه.
7-وأهل الكبائر من الموحدين إن دخلوها فليسوا فيها بخالدين :
والكبيرة "ما ترتب عليه حد أو وعيد بالنار أو اللعنة أو الغضب" ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ولابد أن يكون هناك من يدخلها ثم يخرج منها لأحاديث الشفاعة ، ولا نعين أحدا منهم لاحتمال وجود الموانع والكفارات ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :« أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ » رواه مسلم.
45-الميزان والحوض والصراط والشفاعة غير منشورة
الدرس الخامس والأربعون (45) الميزان والحوض والصراط والشفاعة
1-إن الميزان حق والحوض حق:
قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، وقال صلى الله عليه وسلم : «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ الله شَيْء» رواه الترمذي وابن ماجه. وقال صلى الله عليه وسلم:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَهُ الله الْعَظِيم »، وقال صلى الله عليه وسلم:« حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ يَشْرَبُ مِنْهَا فَلَا يظمأ أبدا»، متفق عليهما.
2-ويحشر الكفار إلى النار قبل وضع الصراط:
قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:22-23) قال صلى الله عليه وسلم :« يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» متفق عليه.
3-ويفصل بين المنافقين والمؤمنين :
يقول تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (الحديد:12-15).
4-ثم يكون المرور على الصراط :
قال صلى الله عليه وسلم :« ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: " دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ -تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ- فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، » متفق عليه، والكلوب حديد والخطاف المعطوف الرأس.
5-وبعدها يؤذن بالشفاعة للمؤمنين :
قال صلى الله عليه وسلم :« حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أحد مِنْكُم بأشدَّ مُناشدةً فِي الْحق مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وجدْتُم فِي قلبه مِثْقَال دنيار مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ...ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيِّرًا فَيَقُولُ اللَّهُ شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَن أدخلهم الْجنَّة بِغَيْر عمل وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمثله مَعَه» متفق عليه.
44-العرض والحساب والقصاص غير منشورة
الدرس الرابع والأربعون (44): العرض والحساب والقصاص
1-ويوم القيامة يكون العرض والحساب :
قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (الزمر:69) وقال سبحانه : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (الجاثية:28).
2-فيجد الناس أعمالهم كلها حاضرة مسجلة :
قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران:30) وقال تعالى: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (الكهف:49).
3-فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ومنهم من يشدد عليه :
قال صلى الله عليه وسلم:« مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ» رواه مسلم ، وقال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا) (الانشقاق:7-12).
4-فيسألون عن النعيم وما عملوا في الدنيا:
قال تعالى: ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8) وقال صلى الله عليه وسلم:« لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟» رواه الترمذي وصححه. وقال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الحجر:92-93) وقال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عمله صلَاته فَإِن صلحت فقد أَفْلح وأنجح وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: نظرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلُ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
5-ويؤتى يومها بالشهداء على الأعمال:
قال تعالى: ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (ق21) وقال : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ ) (النحل89) وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) وقال عز وجل: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (يس 65).
6-ويحكم الله تعالى بعدله ورحمته سبحانه وتعالى :
قال الله عز وجل : ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (البقرة281)، وقال جل شأنه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (الإسراء15)، وقال تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) (النحل25) ومن رحمته مضاعفة الحسنات قال سبحانه : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ) (الأنعام160) ومن رحمته تبديل السيئات حسنات قال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (الفرقان:70)، وفي صحيح مسلم عن آخر أهل النار خروجا منها ودخولا الجنة: «فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً».
7-ويكون يومها القصاص بين العباد بل وبين الوحوش:
قال صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم:« لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم :« أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» متفق عليه.
حوار مع نصراني غير منشورة
حوار مع نصراني (الحلقة الأولى)
[من هو الآتي بعد عيسى عليه السلام الذي يطهر الناس بالروح والنار]
نقل أحد الأصدقاء في حسابه عبارة مفادها أن العالم كله لابد أن يخضع للإسلام، لأنه لا خلاص له إلا به.
فعلقت عليه بقولي :" صدقت ..ومما صح من إنجيل متى (3: 11-12):"أنا أعمدكم بالماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني؛ الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس والنار، الذي رفشه (مذراته) في يده وسينقي بيدره، ويجمع قمحه الى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفا".
فتدخل نصراني وقال :"لم تستشهد بالإنجيل، وهو في اعتقادكم محرف"
فقلت له:
" إن القراءة بالعقل الناقد ليست كالقراءة بالعقل المخدر، نحن نؤمن بوجود كتاب منزل اسمه الإنجيل، لكن الكتبة تصرفوا فيه، ونحن نحاول تمييز الصواب من الخطأ قدر الاستطاعة بالمقارنة أحيانا، وبالرجوع إلى اللغات الأصلية أحيانا أخرى، ونقاد الكتاب المقدس قارنوا قصصه بقصص البابليين وغيرهم وتمكنوا من بيان حقائق كثيرة تتعلق بنصوصه، والعلم لا يعرف الحدود، ...وهذا النص كنت قرأته من قبل، فلما رأيت منشور أخينا "الطيب" تذكرته ونقلته لأن من تأمل صفة هذا الذي يأتي بعد المسيح ويجمع في تطهير الناس بين كلمة الرب والقوة القاهرة، ويتواضع له يسوع كل هذا التواضع وهو المدعو ابن الرب (بالعناية والمحبة لا بالولادة والانجاب)، لن يجد من تحققت فيه؛ إلا الفارقليط المذكور في إنجيل يوحنا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وخاصة أن كلمة الفارقليط بالعبرية معناها أحمد".
فقال النصراني:
" الباراكليت معناها روح الحق أو الروح القدس الذي يشهد للمسيح، ومحمد لم يشهد للمسيح، ويكفي أنه روح بينما محمد عبد وإنسان، فلا وجه للمقارنة ".
فقلت له :
"إن المسيح عليه السلام إنما تكلم بالعبرية (وترجمة هذه الكلمة أحمد)، فمن الخطأ أن تبحث عن معنى كلامه في اليونانية أو غيرها، وأما وصف المخلوق بالروح فيجوز وذلك باعتبار ما يحمله من كلام الله، وقد سمى الله كلامه روحا كما في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [الشورى: 52] والمعنى نفسه تجده في أول إنجيل لوقا حيث وُصف يحيى عليه السلام بأنه ممتلئ بروح القدس أي يوحي إليه كلام الله، والعبارة نفسها جاءت في حق زكريا أنه امتلأ بالروح فتنبأ بمعنى أوحي إليه..
ولا يمكن أن يكون الروح الذي يشهد له؛ هو جبريل أو الأقنوم أو شخصا أو شيئا كان موجودا وقت تكلمه، لأنه قال:" الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني". هذا فضلا عن أنكم تؤكدون أن النار (والسيف) ليست من الأساليب التي دعا المسيح عليه السلام إلى استعمالها.
تدخل جزائري مرتد قائلا :"المسيح هو الذي يعمد بالروح والنار".
فقلت له : يعني المسيح هو الآتي بعد المسيح ..ألم تقل لي من قبل (في حوار آخر) أن المسيح لم يأت بالسيف حقيقة، فما الفرق بين السيف والنار...فانقطع ولم يعد.
قال لي النصراني : ما هي الروح ؟
قلت له : منك نستفيد ؟
قال النصراني : الأقانيم ثلاثة متساوون متحدون ليس كلهم واحد ولكن في إله واحد.
الآتي بعد المسيح هو الروح القدس الأقنوم الثالث الموجود منذ الأزل والذي أرسله المسيح بعد صعوده، ليتمم الإيمان ويعزي المؤمنين بعد صعود رب المجد.
ثم قال: روح الله خالق، وأرواح الناس والكائنات الحية بأنواعها مخلوقه، وكلمة روح لابد لها من إضافة ليعرف معناها...
قلت له :
"صعُب علي جدا أن أفهم هذا الكلام :" الأب أرسل الابن، فحبلت مريم من الروح القدس وحلت الكلمة في جسد المسيح ، فخرج للناس في صورة إنسان ومات على الصليب فداء للخطايا، الذي مات هو الجسد لا الروح، فلما صعد (طبعا الذي يصعد هو الروح) عاد أرسل لنا الروح؟".
قال :..الذي صعد هو المسيح بالجسد والروح .
بتجسد المسيح وتمثله بشرا سويا أصبح له روح إنسانية بخلاف اللاهوت الذي معناه كل ما يخص الذات الإلهية،
فالمسيح له جسد إنساني وروح إنسانيه +لاهوت الذي هو الأقنوم الثاني الكلمة.
والروح القدس حل على المسيح أثناء تعميد يوحنا له في نهر الأردن، حيث جاء كهيئة حمامة. هنا الروح حل على المسيح. وبعد صعود المسيح حل الروح القدس على التلاميذ كهيئة ألسنة من النار، فأصبحوا يتكلمون بلغات كثيرة ويبشرون بكلمه الله .
قلت له :
لا شك أني أخطأت لما قصرتُ الصعود على الروح .. لأن مريم المجدلية لم تجد الجسد في القبر مع مريم الأخرى (وفي إنجيل آخر أنها وجدته وقال لها لا تمسكيني وهذا لا يكون إلا للجسد)، إذن الصواب أن يقال : الكلمة والروح كلاهما كانا في الجسد وكلاهما صعد إلى السماء، فبقي الجسد في السماء عند الاب والابن، وعاد الروح مرة أخرى، وحل في الحواريين فصاروا أنبياء يبشرون. لكن بعد موت الحواريين أو الرسل أين ذهب الروح القدس ؟
فقال النصراني :
الروح القدس هو روح الله الغير محدود مالئ الكون، لم يذهب بل موجود في كل مكان.
فقلت له :
"ليش نزل في شكل حمامة، ليش صعد مع المسيح، ليش نزل مرة أخرى على الرسل خصيصا ...ما دام هو موجود في كل مكان".
حوار مع نصراني (الحلقة الثانية)
فقال النصراني:" ..لم يصعد مع المسيح دي زيادة من عندك"
فقلت له :
"ليست الزيادة من عندي بل مصدرها قولك " الروح القدس الأقنوم الثالث الموجود منذ الازل والذي أرسله المسيح بعد صعوده"، أي بعد صعوده إلى السماء أرسله من السماء ..ومصدرها قولك "هنا الروح حل على المسيح" إذ لما حل فيه صارت عنده المعجزات التي لا يقدر على جنسها إلا الخالق، وما دام الروح هو الحياة والقوة كما تقولون، فأنا أتصور أن الحياة عادت لجسد المسيح بعد موته لاتحاد الروح القدس به، فلا يمكن للجسد الصعود من دونه.
فلم يجب وانقطع مدة؛ فرجعت إلى تفسير النص الأصلي فعجلت ذكر ما كنت أخّرته وقلت:
"لا يمكن أن يكون الآتي بعده هو الروح القدس لأنه قال "هو أقوى مني" وأنتم تقولون عن الأقانيم إنهم متساوون، ولا يمكن أن يكون الآتي الروح القدس لأنه يلبس الحذاء، ولا يمكن أن يكون الروح القدس لأن هذا الآتي سيعمد الناس بالروح القدس.
وبعدها أجبته عن سؤاله الذي حِدت عنه من قبل وقلت:
إن كلام الله تعالى الموحى به إلى عباده هو العلم الذي لا يدخله الخطأ، وهو الهدى لمن طلب الهداية ، وهو النور الذي تبصر به الحقائق، وهو الطريق إلى الحياة الحقيقة الأبدية ، وهو الروح التي تحيا به القلوب إذا آمنت به وإذا تدبرته وإذا عملت به ..ولما كان كلام الله تعالى موحى به إلى الأنبياء عن طريق الملاك جبريل سمي أيضا بالروح.. فالروح في القرآن تطلق على الأنفس المخلوقة وهي دلالتها اللغوية الأصلية وملاقاتها للأجساد تبعث فيها الحياة ومفارقتها لها تسبب الموت، وهي التي نزل فيها قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء:85)
وتطلق مجازا على القرآن وعلى مطلق كلام الله الموحى به إلى عباده لأنه هو طريق الحياة الحقيقة ولأن به حياة القلوب كما قال تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (الشورى: 52) وقال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ) (غافر: 15)
وتطلق مجازا على جبريل عليه السلام لأنه هو المكلف بتبليغ كلمة الله إلى الأنبياء كما قال تعالى في خطاب محمد صلى الله عليه وسلم : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 193، 194) وكما قال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ) [النحل: 102] وهو الذي أيد به عيسى عليه السلام كما قال تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (البقرة: 87) وقال : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [المائدة: 110]
ثم قلت :
وفي الانجيل ما يدل على اطلاق الروح على ذات المعاني؛ فيطلق على كلام الله المنزل كقول المسيح كما في انجيل يوحنا (6: 63) "الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئا.. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة"..وهذا حق لأنه ليس كلامه بل كلام الحق الذي أرسله كما في يوحنا (14: 24)" الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني"..ولم يكن هذا الوحي (التكليم الالهي) خاصا بالمسيح عليه السلام بل هو لكل الأنبياء ، فكما أن المسيح كان ممتلئا من الروح القدس كما في لوقا (4: 1):"أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس"، فكذلك امتلأ به زكريا كما في لوقا (1: 67):"وامتلأ زكريا من الروح القدس وتنبأ قائلا".
ويطلق على جبريل أيضا كما في لوقا (3: 22):" ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلا أنت ابني الحبيب بك سررت.." وفي متى (1: 18):" وُجدت حبلى من الروح القدس"، لأن الملاك جبريل هو الذي خاطبها ونفخ فيها .
لكنه لما رأى التعليق الأخير عاد بعد يومين من الغياب وقال ما معناه:
"ذكرت كلمة روح في مواضع مختلفة بمسميات مختلفة، مدلول الروح نكرة يختلف عن مدلول الروح القدس الأولى قد تطلق على المخلوق كجبريل وأما الروح القدس فهي روح الخالق".
فقلت له :
دعك من تفسير النصوص المتعلقة بالروح القدس وأجب عن السؤال : كيف يكون الروح القدس أقوى من الابن وهم متساوون ..
فقال متهربا من الجواب حائدا عن السؤال:
الروح القدس موجود منذ الأزل ولم تتجسد قبل المسيح لكن بتجسده ابتدأ العمل وسيظل مع المؤمنين يشهد للمسيح، لأن الخلاص بالمسيح والايمان بالروح القدس
فقلت له :
لابد أن نرجع إلى النص الذي انطلق منه الحوار ..كيف يكون الروح القدس أقوى من الابن؟ وأنت تقول هم متساوون ..كيف يكون الآتي هو الروح القدس وهو يعمد الناس بالروح القدس ..ألم يكن الأفصح أن يقول سيأتي الروح القدس ويعمدكم بالنار ..
فلم يجب وأرسل لي مخططا يوضح هندسة الإله المثلث وتقاطع جزئه الثالث بالناسوت.
فقلت له:
هذه الدروس خارجة عن محل النقاش..إذا أردت مواصلة البحث فلنرجع إلى النص الذي أيدتُ به منشور صاحبنا..وأجب عن الاشكالين المذكورين، وإن أجبت عن الثالث وفسّرت لي كيف يلبس روح القدس الحذاء سأكون ممتنا..
انقطع ويئست من عودته ..ولو عاد فلن أقبل نقاشا إلا في الأسئلة الثلاثة ..
نقلته مهذبا ومعربا وأحيانا مختصرا، نسأل الله لنا وله ولمن قرأه الهداية..