الاثنين 15 محرم 1443

(44) التربية الأخلاقية : التربية على الأمانة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الثاني : الأمانة

   ومن الأخلاق المهمة التي ينبغي أن يُربى عليها النشء المسلم الأمانة؛ التي من معانيها الوفاء والصدق وحفظ الأسرار، ومن أضدادها الغش والسرقة والخيانة.
   ولخلق الأمانة أثر عظيم في تكوين شخصية سوية وقوية للطفل، وفي بناء مجتمع مسلم آمن ومتماسك، وله أثر في حماية الأجيال من أن يكون فيهم عملاء خائنين لدينهم وأوطانهم وأهليهم.
    وقد قال سيد المربين صلى الله عليه وسلم وهو يحث على هذا التزام هذا الخلق في كل حال :« أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني، وقد بين  أعظم آثار الاتصاف بالأمانة رابطا لمعناها بمفهوم الإيمان فقال :« الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ » رواه النسائي والترمذي وصححه.
طرق تربية الأولاد على الأمانة
    ومن طرق تربية الأولاد على الأمانة تحديثهم بمثل هذه الأحاديث التي تبين أهمية الأمانة وتحث عليها وترغب فيها، وتحفيظهم قول المولى عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58) وقوله تعالى في صفات المؤمنين المفلحين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
   ومن الطرق أيضا ترهيبهم من الخيانة وتضييع الأمانة، فقد نفى نبينا صلى الله عليه وسلم الإيمان عن فاقد الأمانة وقال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ » رواه أحمد ، وجعل الخيانة من الصفات اللازمة للمنافقين حين قال صلى الله عليه وسلم:« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم جعل تضييع الأمانة من علامات قرب الساعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ» رواه البخاري.
     وينبغي زجر الأولاد عن الغش بكل أنواعه، فيقال للولد إياك والغش في الامتحانات، ولا تكن كالبائع الغشاش والطبيب الغشاش والبناء الغشاش، لأن هؤلاء لا يفلحون أبدا وطريقهم قصير والفضيحة مصيرهم، وتقبح صورتهم بأن غشهم يحولهم إلى مجرمين في حق المجتمع، ومع كل ذلك يحفظون أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من الغشاشين وقرنهم بمن يحمل السلاح ضد الأمة حين قال :« مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رواه مسلم.
   ومن أهم طرق تعليمهم الأمانة أن يكون المربي قدوة يظهر منه الحفاظ على ودائع الناس والحرص على أدائها، ورد الديون وما يستعار إلى أهله.
   ومن الطرق أن نقص عليهم بعض القصص المرغب في أداء الأمانة المبين لفضل هذا الخلق وأثره كقصة أصحاب الغار التي قض علينا نبينا صلى الله عليه وسلم، والتي جاء فيها: « قَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَخُذْ فَأَخَذَهُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ»متفق عليه.
     وإذا كان الطفل لا تودع عنده الأموال ولا الأشياء النفسية فإنه من غير شك يستعير من أصحابه في الدراسة أو الحي كتبا أو كراريس أو لعبا، فعلينا أن نعظم في نفسه هذه الأمانات وإن كانت قيمتها حقيرة، والطفل إذا عظم الأمانة اليسيرة الحقيرة كان لما سواها أشد تعظيما.
     ولا ننس تحذير الأولاد مما يضاد ذلك من تضيع للأمانة أو جحدها ومن كل الخصال المنافية للأمانة وعلى رأسها السرقة التي هي كبيرة من كبائر الذنوب ومرض اجتماعي خطير، وذلك بتقبيحها وتقبيح أهلها، وذكر مفاسدها والعقوبة التي يستحقها مرتكبها وهي القطع في الدنيا والقصاص منه يوم القيامة.
المسؤولية والمنصب أمانة
    من معاني الأمانة أمانة المسؤولية والمنصب، فعلينا أن تغرس في قلوب الناشئة منذ صغرهم تعظيم أمر المسؤولية حتى إذا كبر كان عنصرا خيرا مؤديا لواجبه في وظيفته وخيرا نافعا لنفسه ولأهله وللناس أجمعين، وعلينا أن نحفظ أولادنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
  ومن القصص المأثور والمؤثر في هذا الباب قصة عمر بن عبد العزيز مع أحد عماله لما جاءه ليلا فأشعل شمعة غليظة لتضيء المكان وأخذ يسأله عن أحوال المسلمين والبلاد وعن الفقراء وعن الأسعار وهل الناس تصلهم حقوقهم ؟ وهل هناك شكوى من أحد ؟ فأخذ يسأله عن كل كبيرة وصغيره والعامل يجيبه فلما فرغ قال العامل لعمر : يا أمير المؤمنين كيف حالك وحال عيالك وجميع أهلك ؟ فعد ذلك أطفأ عمر الشمعة الكبيرة وأشعل سراجا لا يكاد يضيء ثم التفت إليه وأجابه عما سأل ، ثم إن العامل تعجب مما صنع فسأله عن صنيعه فقال له عمر : «يا عبد الله إن الشمعة التي رأتني أطفأتها من مال المسلمين ، وكنت أسالك عن حوائجهم وأمرهم فكانت هذه الشمعة تنير بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم، فلما صرت لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين ».
الأسرار أمانة
   من معاني الأمانة حفظ الأسرار، سواء الأسرار الشخصية أو أسرار الأسرة أو الجماعة والأمة ، وقد قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:« إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني ، وتربية الطفل على هذا الخلق يسهم في تكوين إرادة واعية فاعلة لديه، لأن الطفل من طبعه محبة التكلم بما يملك من معارف أو إبراز ما لديه من معلومات، فعندما ندربه على حفظ الأسرار، فإننا ننمّي لديه سجايا أخرى، نحو قوة الإرادة وضبط النفس ورباطة الجأش، ولابد من تبصير الأولاد بأهمية حفظ الأسرار وأنها من ضمن الأمانة وأن يبصروا أيضا بخطر إفشاء الأسرار، وكما يجب علينا أن نمتحنهم في ذلك.
    وإن هذا الأمر كان هذا من الأخلاق التي تربى عليها الجيل الإسلام الأول، ولنتأمل هذه القصة التي قصتها علينا أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين قَالَتْ :"أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ» متفق عليه.
  ومما ورد في هذا السياق هذا الخبر الذي حدثنا به خادم النبي صلى الله عليه وسلم أَنَس بن مالك حيث قَالَ:" أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ، قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا ثم قَالَ أَنَسٌ لتلميذه ثابت البناني: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ رواه مسلم. فلننظر إلى المنهج السليم والتربية القويمة التي رُبي عليها أبناء الصحابة رضي الله عنه، ولنتأمل جيدا أن أم أنس فرحت بجواب ولدها، وأيدته وشجعته على حفظ السر، ولم يغلبها الفضول على أن تطلب منه إخبارها وأن تتودد إليه بأنها أمه وأقرب الناس إليه، وإنها لو فعلت ذلك لكانت مفسدة لتربية ولدها ولخلقه وداعية له لإفشاء الأسرار، كم يفعل الآباء نحو هذا الذي وصفت في زماننا هذا، ولنتأمل كيف حافظ على ذلك السر على مر السنين، ولم يحدث به لأنه لم يكن فيه علم أو فائدة متعلقة بغير النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الخبر السابق الذي حدثت به فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.

تم قراءة المقال 395 مرة