الجمعة 19 محرم 1443

(48) التربية الأخلاقية : التربية على العفة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث السادس : التربية على العفة

   من أهم عناصر التربية الأخلاقية التربية على العفة، والعفة تطلق على معنى : "الكف عن مقتضى الشهوات"، أو "الانكفاف عن الفواحش وعن ما لا يليق"، وهو معنى واسع تدخل فيه خصال كثيرة؛ ولذلك نجد الماوردي قد قسم العفة إلى عفة عن المحارم وعفة عن المآثم، ثم قسم العفة عن المحارم إلى نوعين أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، الثاني كف اللسان عن الأعراض، وقسم العفة عن المآثم أيضا إلى نوعين: الأول الكف عن المجاهرة بالظلم ، والثاني زجر النفس عن الإسرار بخيانة.
    والذي نريد أن نتحدث عنه هنا يتعلق بشهوة خاصة، وهو أحد تلك الأنواع والذي حده بضبط الفرج عن الحرام، الذي قد يخص بلفظ العفة كما يسمى أيضا طهرا وشرفا وفضيلة.
    وإن النشء إذا تربى على العفة سواء بالمعنى العام أو الخاص؛ فإنه يحقق المروءة  التي ينال بها الحمد في الدنيا والثواب الآخرة، ويرتقي بها في سماء الفضيلة، ويبتعد عن حضيض الرذيلة، بل إنه يحقق بذلك أسباب الفلاح ويستحق وصف الإيمان وقد قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم ذكر من جملة صفاتهم ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:5-7).
   ولا ينبغي أن يستهان بخلق العفة الذي هو ثمرة خصال وأخلاق أخرى متعددة، وأثره في شخصية النشء عميق جدا؛ فهو يكسب النشء قوة القلب، ووفرة العقل، ونزاهة النفس وعزتها، وانشراح الصدر وقلة الهم والغم، كما أن انتشار هذا الخلق في المجتمع يطهره من أصناف من الفساد، كما يرفع عنه ألوانا من العقوبات الربانية، وينمي فيه روح الغيرة على الأعراض التي تعتبر سياجا منيعا يحميه من التردي في مهاوي الرذائل والفواحش والدياثة والتخنث والتبرج والتعري.
طرق تربية الأولاد على العفة
أولا : التربية الإيمانية
   إن خلق العفة كما أشرنا من قبل له معنى واسع وتثمره خصال أخرى، وهذه الخصال بعضها من نتاج التربية الإيمانية لذلك فإن أول وسائل تربية النشء على العفة التركيز على التربية الإيمانية الصحيحة, التي تقوي صلته بالله رب العالمين, وعلى رأسها صفة الرقابة وأن يعلَّم أن الله تعالى يراه في كل وقت وحيثما كان, قال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3)، وقال سبحانه : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) وقد فسر ابن عباس (خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) بقوله :« الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِمُ المرأة فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ، عَنْهَا وَإِذَا غَفِلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا وَإِذَا نَظَرُوا غَضَّ بَصَرَهُ، عَنْهَا، وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَتِهَا». وإن إحساس قلب المرء برقابة الله تعالى يقمع شهوته ويكفه عن كل ما يخدش في العفة والطهارة؛ وذلك حياء من الله تعالى أو خوفا منه، وقد قال يوسف عليه السلام لما دعي إلى الفاحشة ( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (يوسف:23).
    وإن التربية الإيمانية الصحيحة تجعل المرء يحول معتقده في أسماء الله وصفاته إلى معاني عملية في حياته, فيعلم أن السميع يسمع كلماته, أن البصير يُبصر حركاته, كما قال الربيع بين خثيم رحمه الله:« إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك, فإنه يقول تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36).
ثانيا : تنمية القيم الخلقية
   من وسائل التربية على العفة-بالمعنى العام أو الخاص- تنمية القيم الخلقية في قلوب الناشئة، وذلك أن مفهوم العفة الذي نتحدث عنه إذا تأملناه وجدناه ثمرة ناتجة عن اجتماع عدد من الأخلاق الرفيعة, إذ فيه معنى الصبر وكبح جماح الشهوة، ونجد فيه معنى الحياء من الله ومن خلقه، ونجد فيه معنى الأمانة وعدم الخيانة وقد سبق الحديث عن طرق اكتسابها، كما نجد في مفهوم العفة معاني المروءة والشهامة والغيرة، وهي  خصال تحصل بالتلقين والقدوة كما تحصل بتمكين الولد من مطالعة كتب الأدب العربي، لأنه سيجد فيها من أخلاق العرب ما يحمله عليها ويوقد في نفسه جذوة الاعتزاز بها، ومن ذلك أنه يجد في باب الغيرة على الأعراض المثل القائل: "كل ذات صِدار خالة" العقد الفريد (3/30) والذي معناه أن كل امرأة هي في حكم الخالة، يَحميها كما يحمي خالَته، والصدار: ثوب لا كُمين له تتبذل فيه المرأة في بيتها، ويقرأ في هذه الكتب نحو قول عنترة بن شداد في غص البصر:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها العقد الفريد (6/3).
    وغيرها من الآثار والمواقف التي يكون لها وقعها في نفس كل قارئ وشخصيته.
ثالثا : اتباع الوسائل تحد من الشهوة
    من وسائل التربية على العفة بالمعنى الخاص اتباع الوسائل التي تحد من الشهوة وتدفع الفتنة، ومن ذلك تربية الأطفال على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم وتعظيم أمر كشفها في أنفسهم حتى يتربوا على الحياء والحشمة.
     ومما له ارتباط بالتربية على الحياء، التفرقة بين البنين والبنات في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، وهذا بأمر من النبي  الذي قال:« مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» رواه أبو داود.
   ومن وسائل دفع الفتنة أن نصونهم عن اختلاط الجنسين وأن نبعدهم قدر الاستطاعة عن مواطن اختلاط الرجال بالنساء؛ لأن هذا الاختلاط مما يؤجج نار الشهوة والفتنة في سن مبكر؛ ونحن في نعيش في مجتمعات وبأنماط حياة لا يتمكن الناس جميعهم فيها من الزواج وتحصين أنفسهم عند البلوغ وفي مرحلة الشباب.
   ومن الوسائل التي تحد من سلطان الشهوة تربية الأولاد على غض البصر عن الحرام ونحفظهم ذكورا وإناثا قول المولى عز وجل : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) (النور:31). ولابد أن نتذكر أنه إذا نزل هذا الأمر في تلك البيئة التي لم يكن فيها هذا التعري الذي نراه ولا كان فيها هذه الصور الثابتة والمتحركة التي ترى في الشوارع والقنوات والهواتف والأنترنت، فإننا مدعوون اليوم إلى ما هو أشد صرامة من مجرد الأمر والزجر وهو المراقبة .
   ومما له صلة بغض البصر تعليم الأولاد أدب الاستئذان في الدخول إلى البيوت والتسليم على أهلها ، والاستئذان في الدخول إلى الغرف داخل البيوت، ولو لم يكن في البيت إلا المحارم، وقد قال رجل لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا". وإذا كانت النصوص تتحدث عن الاستئذان عند دخول البيوت فإن ذلك يشمل كل مكان أو محل مغلق بدلالة تنبيه والفحوى.
    ومن وسائل الحد من الشهوة ودفع الفتنة حث الأولاد –بعد سن البلوغ-إذا لم يتيسر لهم الزواج على الإكثار من الصيام، وقد دلنا على ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة حين قال:« يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»متفق عليه.
رابعا : اختيار الصحبة الصالحة
   من الوسائل المهمة للتربية على العفة اختيار الصحبة الصالحة للأولاد ذكورا وإناثا، فإن الصحبة الصالحة تعينهم على التحلي بالفضائل وتجنب الرذائل، وعلى التزام غض البصر وما هو أكثر من ذلك، وإن من لم يستحي من الله تعالى لغفلته فربما سيستحي من أصحابه الذين هم حوله، والذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا تذكر. على الخلاف من ذلك فإن اتخذ صحبه فاسدة فإنها هي من ستكون حتما سبب هلاكه وجره إلى مهاوي الرذيلة والفسق.
خامسا : توعية الأولاد بأهمية العفة
   من وسائل التربية على العفة توعية الأولاد بأهميتها وذلك ببيان فضائلها وآثارها ومنها ما ذكرناه في أول المبحث، ويركز على قضية الراحة النفسية التي يكتسبها من عاش عفيفا نزيها طاهرا كما قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) في مقابل العذاب النفسي الذي يعيشه كل من تنكب طريقها وأعرض عن أسبابها، قال تعالى: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).
سادسا :  الاعتناء الخاص بالفتاة
    ويؤكد في الأخير على ضرورة العناية الخاصة بالفتاة في هذا الباب، فلابد أن تتربى على تعظيم شأن عورتها وقبح إبدائها، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتاً في حسَّها، ولا بد أن تعلم أن أنوثتها موضع فتنة اجتماعية خطيرة؛ حتى أن الله تعالى قدَّمها على جميع الشهوات حين قال عز وجل: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ولذلك فرض عليها الحجاب صيانة لعرضها شرفها وحماية للمجتمع من الفتنة التي إن انتشرت فيه فتكت به، وقد قال النبي  :« مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ»متفق عليه.

تم قراءة المقال 591 مرة