المبحث السابع : الزهد والقناعة
من الأخلاق التي ينبغي أن يتربى عليها أبناء الإسلام الزهد والقناعة، الزهد بمعناه الخاص يراد به "خلو القلب مما خلت منه اليد، وترك الترف والإسراف في المباحات"، والقناعة تعني "الرضا بما قسم الله والاقتصار على الكفاف وما سنح من العيش"، فهما متقاربان في المعنى، وقد تسمى القناعة تعففا كما قال تعالى في حق الفقراء الذين لا يمدون أيديهم إلى الناس: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) وضدهما الطمع والتطلع إلى ما في أيدي الناس، وحب الدنيا والتكاثر فيها التوسع في ملاذها وشهواتها.
وتربية الأولاد على الزهد والقناعة أمر مهم جدا، إذا أردنا أن ينشأ أولادنا على طاعة الله ورسوله وعلى الاستقامة والأخلاق الحسنة، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب عظيم من أسباب الانحراف عن الفطرة، فإن سعة الأطماع تفسد الطباع وتطعن في المروءة.
وننبه في صدر هذا البحث أنه الزهد لا يعني الخروج من الدنيا بالكلية -كما قد يصوره بعض الناس المتصنعين-، لأن الله تعالى يقول : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (القصص:77) ونحن مأمورون باتباع الفطرة السوية كما لا يجوز الخروج عليها بالإفراط لا يجوز الخروج عليها بالتفريط أيضا.
طرق تربية الأولاد على الزهد والقناعة
أولا : التذكير بحقيقة الغني وغاية وجود المال
أول ما يجب على المربي تجاه أولاده أن يبين لهم حقيقة الغنى التي يجهلها كثير من الناس، كما بينها نبينا صلى الله عليه وسلم:« لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» مفق عليه، فثمرة الغنى عدم طلب المزيد ، وذلك يحصل لمن استغنت نفسه وإلا ففي الناس ما يملك أضعاف ما يكفيه ولكنه دائما يشعر بالحاجة ويطلب المزيد، وهذا رغم كل ما يملك ليس غنيا لأنه لم يصل إلى حقيقة الغنى وثمرته، وفي معنى ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:« تَعْلَمُونَ أَنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَأَنَّ الْإِيَاسَ غِنًى، وَإِنَّهُ مَنْ أَيِسَ مِمَّا عِنْدَ النَّاسِ اسْتَغْنَى عَنْهُمْ»-الزهد لابن المبارك، فالغني الحقيقي هو غنى النفس والقناعة كنز لا يفنى، وقد قيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال:" قلّة تمنيك ورضاك بما يكفيك".
وعلينا أن نغرس في قلوب الأولاد أن مال الدنيا ومتاعها وسيلة وليس غاية، إذ الغاية هي رضا الله تعالى ودخول الجنة، وعلينا أن نحذرهم من أن تشغلهم الوسيلة عن الغاية، وقد قال صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»رواه أحمد. وعليما نذكر أنفسنا وإياهم دائما بقوله صلى الله عليه وسلم :« يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»متفق عليه، وقوله :« يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي قَالَ وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ »رواه مسلم.
ثانيا : الترغيب
من أهم طرق تربية الأولاد على هذين الخلقين ترغيبهم بما رغبنا به نبينا ، وما أكثر الأحاديث الواردة في القناعة والزهد؟ ومن ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم جعل القناعة من أعظم أسباب الفلاح بعد الإسلام فقال:« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ »رواه مسلم، وجعل القناعة أيضا موجبة لأعلى مراتب شكر نعم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ »رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ومن أعظم الأحاديث المرغبة في الزهد في الدنيا حديث ابن عمر قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ:« كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»رواه البخاري، ومعنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بمالا يتعلق به الغريب في غير وطنه بل أكثر من ذلك كن كعابر السبيل الذي يتخفف من الأحمال لعدم استقراره. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»رواه الترمذي وصححه الألباني. فمن فضائل الزهد والقناعة تحصيل راحة النفس وطمأنينتها وهذا معنى :« جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ»، وقد قيل في تفسير قوله تعالى : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97) بأنها حياة القناعة، قال ابن عقيل:« لو علِمتَ قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة». وقد قيل:« ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبّوكَ»-روي مرفوعا ولا يصح-.
ثالثا : الترهيب
من طرق التربية على هذه الخلقين الترهيب من الطمع والاسراف ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ »رواه الترمذي وابن ماجة. والمعنى أنها مبغوضة، ومبغوض كل ما يصد عن سبيل الله مما هو موجود فيها. وقد دعا نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعاسة وهو دعاء بالشر والتعثر والشقاء لمن جعل الدنيا مطلبه حتى كأنه يعبدها فقال: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ »رواه البخاري، وننبه أن المدعو عليه هنا هو عبد الدينار لا مالكه، لأن مالك الدينار يجعله خادما له، وأما عبد الدينار فهو خادمه حرصا على جمعه وحفظه.
رابعا : القدوة والتعويد
من طرق تعويد أولادنا على القناعة صفة معيشتنا من حيث المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، ومن كان موسرا منا عليه أن يحاول الانتقال بالأولاد من حياة اليسر والدعة إلى غيرها بين الفينة والأخرى؛ وذلك بالخروج بهم إلى الأرياف والبوادي والصحاري والأماكن النائية، حتى يتعود الأولاد على بعض الخشونة وشظف العيش، وعساهم أن ينظروا إلى حال الناس هناك وقساوة معيشتهم؛ فيشكروا نعمة الله تعالى عليهم، مع ما في ذلك من الترويح على نفوسهم. وليجعل من هذا الصنيع تطبيقا عمليا لقول رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ»رواه مسلم.
خامسا: القصص
ومما يعيننا على تربية الأولاد على الزهد والقناعة ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان قدوة فيهما فلم يَعِبْ طعامًا قَطَّ، إذا أحبه أكله وإذا كرهه تركه، وكان يأكل الخبز بالخلِّ، والخبز بالزيت، وكان يلبس ما تيسَّر من الثياب، فيرتدي الثوب من الصوف أو الكتَّان، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا ويعطيه ما طلب ولو كان في حاجة إليه، وكان يعطي بعض أكابر العرب كل واحد مائة من الإبل تأليفا لقلوبهم، ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا, ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من طعام، وقد كان بإمكانه أن يكون أغنى العرب في زمانه بعد أن فتح الله تعالى عليه. ونقص عليهم أيضا شيئا من آثار السلف وأقوالهم المأثورة في هذا الباب، ومن ذلك سير الخلفاء الراشدين الذين أتتهم الدنيا وهي راغمة فأداروا لها ظهورهم ، واكتفوا بالقليل ولم يتوسعوا في ملذات الدنيا مع يسرها بين أيديهم. وقد سأل رجل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:" فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ رواه مسلم.
ولنعلم إننا إذا ربينا أولادنا على الزهد والقناعة فإنما نعد لهم الطريق إلى الآخرة، يقول ابن القيم : «لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين، النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17)» الفوائد ص94.
للاتصال المباشر يستعمل رقم الهاتف : 0550660118 ...
عقوبة من يدعو إلى دين غير الإسلام في الجزائر ...
صدر كتابان جديدان في يناير سنة 2020 للدكتور محمد حاج عيسى عن دار الإمام مالك البليدة الجزائر 1-عبادة الشكر..يقع في 70 صفحة من الحجم الصغير 2-الوصول إلى الضروري من علم… ...
قائمة الكتب المطبوعة...1-عقيدة العلامة ابن باديس السلفية وبيان موقفه من العقيدة الأشعرية، ومعه أضواء على حياة عبد القادر الراشدي القسنطيني ط1-2003 2-أصول الدعوة السلفية عند العلامة ابن باديس، ط1-2006 3-عوائق… ...
صدر في جويلية 2022 كتاب منهجية البحث في العلوم الإسلامية يقع في 64 صفحة وقد ضمنته برنامج السنة الأولى الجذع المشترك ...
تم بحمد الله التفرغ لتبييض جميع حلقات تربية الأولاد في الإسلام وتم نشرها كلها خلال الشهر الفارط وسنتفرغ بإذن الله لتبييض حلقات شرح منهج السالكين ونشرها تباعا ...
تطلب مؤلفات أد محمد حاج عيسى من موزرع دار الإمام مالك رقم 0552959576 أو 0561461020 ...
صدر في سنة 2021 كتاب منهج البحث في علم أصول الفقه يقع في مجلدين وهي أطروحة للدكتوراه عن دار البصائر العراقية في استنبول . ...
أنشأنا في الموقع فرعا جديدا تحت ركن الدروس والمحاضرات وسميناه : دروس العقيدة الاسلامية للمبتدئين وهو برنامج ميسر للتدريس في المساجد والمدارس القرآنية ...