الاثنين 29 محرم 1443

(52) التربية الفكرية : تنمية عقل الطفل وصيانته

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الفصل السابع : التربية الفكرية

    إن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه وفضله على جميع المخلوقات التي تدب على الأرض بنعمة العقل آلة الفهم والعلم، وقد حث المولى عز وجل عباده على التفكر واستعمال العقل، كما ذم من لم يعمل عقله، فأما الدعوة إلى التفكر واستعمال العقل فمنها قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وأما ذمه لمن لم يعمل عقله له فمنه قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10).
    ولما كان الأمر كذلك رأينا أن يكون آخر فصل في بحث تربية الأولاد حول التربية الفكرية للنشء.
المبحث الأول : تنمية عقل الطفل وصيانته
   إن من أهم عناصر التربية الإسلامية التربية الفكرية، ويدل على هذه الأهمية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ» رواه مسلم، فإن من استقام منهج تفكيره حرص على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، ومن اعوج تفكيره أو عطل عقله فإنه يقترف ما يضره في الدنيا والآخرة، وستناول هذا الموضوع من خلال التعرض لسبل تنمية القدرات العقلية للطفل ووسائل الحفاظ على سلامة العقل، وصيانته من المفسدات والمعوقات.
أولا : سبل تنمية القدرات العقلية للطفل  
   إن العقل الغريزي عنصر مشترك بين جميع بني آدم، وهو الآلة التي ركزها الله فينا للتمييز بين الأشياء وبها يفهم الخطاب ويتعلق التكليف، ولكن هذا العقل الغريزي يتبعه عقل آخر مكتسب، ويتفاوت الناس في مدى تحصيله بحسب النشأة والبيئة وطبيعة التعليم والوظيفة، وأهم مراحل تكوين هذا العقل هي مرحلة الطفولة؛ ولذلك كان لزاما أن نبين للمربين سبل تنمية القدرات العقلية للطفل وتربيته على التفكير، وهي أمور عملية في مجملها ننبه عليها:
    أول هذه الوسائل توجيه الطفل –الذي يميل إلى اللهو واللعب نحو الألعاب والأنشطة التي لها دور في تنمية ذكائه وتدفعه للتفكير واستعمال عقله ورياضته؛ إذ ثمة ألعاب كثيرة التي يجتمع فيها عنصر التسلية مع تنمية القدرات الإبداعية للطفل، وهناك من الأنشطة ما يعمل على توسيع خياله، ويعلمه التركيز، ويعوده على التحليل والاستنتاج، ويدفعه إلى إيجاد الحلول والبدائل، ولا شك أن ذلك مما يسهم في تنمية الذكاء لدى الطفل.
  فالألعاب منها ما فيه إعمال للتفكير كلعبة الداما والدومينو والشطرنج وتركيب الكلمات، وقبلها توفر له لعب تركيب المجسمات وتفكيكها، ومن الألعاب ما هو ترفيه محض، ومنها غير تربوي ومجمد للعقل مرهق له بلا فائدة، مورث لتشتيت الذهن، كما هو حال جل الألعاب الإلكترونية التي قد تزيد على ذلك فساد الدين والأخلاق بطبيعتها أو بشكلها وصورها.
  ومن الأنشطة التي يُعوّد عليها في وقت مبكر نشاطات الرسم والتلوين والزخرفة إذ هي تساعد على تنمية ذكاء الطفل، من جهة التدقيق في تفاصيل الأشكال وتقصي عناصر الأشياء المطلوب رسمها وتخطيطها، فضلا عن تنمية العوامل الابتكارية لديه بربطه بين الأشكال وتنسقيه بينها وإدخال التعديلات عليها.
    ومن الأمور التي تنمي القدرات العقلية للطفل العناية بتعليمه الحساب منذ نعومة أظفاره، وتعويده على إجراء عمليات الحساب الذهني، وفي هذا السياق نحذر الآباء من السماح لأولادهم الاعتماد على الآلات الحاسبة التي تورثهم الكسل والتواكل تعطل عقولهم وتمنعهم من رياضتها الرياضة المقوية لها .
    وإلى جانب الحساب لابد من تعويده على الحفظ؛ سواء حفظ القرآن أو الأذكار أو الأناشيد، وذلك أن الدماغ كما يحتاج إلى تعويد على الاستنباط والتفكير يحتاج إلى تقوية الذاكرة التي تخزن المادة التي يستنبط منها ويُتفكر فيها، فالفهم والحفظ رياضتان مهمتان في تنمية العقل، وهما وإن كانا لا يكادان يجتمعان على وجه الكمال، ولا على سبيل التساوي عند الإنسان، لكن لا ينبغي أن يُعتنى بأحدهما ويهمل الآخر لأن ذلك مورث للنقص لا محالة.
ثانيا : وسائل الحفظ على العقل وصيانته من المفسدات والمعوقات
1-صيانة العقل من المفسدات الحسية  
    إنه لابد على المربي أن يحافظ على سلامة العقل الفطري الغريزي للطفل لأنه عليه يتم البناء ومن فقده فلا أمل له فيما سواه ، وأول ذلك بتعويذه وتحصينه بالأذكار، لأن الولد قد يقوم بأعمال وقد يقول كلمات تثير إعجاب بعض الناس، فربما أصابوهم بالعين، والعين حق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلقون أذكار الصباح والمساء ويعودون على ترديدها، ولا بد من الحذر من الذهاب بالأولاد إلى المشعوذين وتعليقهم التمام، فإن ذلك سبب تسليط الجن عليهم وسلبهم عقولهم ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً).
   ومما ينبغي أن يحذر منه المربون في عصرنا هذا إطلاق العنان للأولاد وهم يتابعون البرامج التلفزيونية –حتى وإن كانت تربوية ومنضبطة بالشرع- دون تحديد ذلك بوقت معقول ويناسب سنهم، وقد بينت دراسات علمية مختلفة تأثير ذلك سلبا على تركيز الأولاد، وأنه أهم أسباب إصابتهم بمرض التوحد، ومثل ذلك يقال عن الهواتف والألعاب والأجهزة الإلكترونية .
     ونحافظ على آلة التفكير لدى الأولاد بتحذيرهم من مفسدات العقول وعلى رأسها المسكرات من الخمور وأنواع المخدرات، ولابد تحذيرهم من مخالطة أصحابها وليس فقط من تناولها، وهذا من معنى الاجتناب المأمور به الذي هو معنى زائد على مجرد تحريم التناول، حيث قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90).
   ولابد أن نتنبه إلى أن مفهوم الإسكار والتخدير مفهوم واسع يشمل كل ما خمر العقل وغطاه وعرقله عن أداء واجبه، وإننا إذا تأملنا ذلك وجدنا من أعظم المسكرات ومذهبات العقل "الغناء"، الذي أنزل فيه قول المولى عز وجل : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان:6) فهذا الغناء الذي كان في الجاهلية القديمة قد حرم لعلة الصد عن سبيل الله تعالى، حيث اتخذ وسيلة لصرف الناس عن سماع القرآن، ولصرف العقول عن تفهمه والإيمان به، وهذا الغناء الذي تعفن فهذا الزمان لا يختلف عاقلان منصفان أنه صار من أعظم مفسدات للعقول والأديان والأخلاق، لذلك يجب على المربين صون الأولاد عنه حفاظا على سلامتهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.
    ومن المخدرات العصرية أيضا بلية مناصرة الأندية والتعصب لها، والتي أصبحت صنعة وشغلا شاغلا للناس عن مصالحهم الدنيوية والأخروية، وسببا من أسباب تضييع أوقات الشباب وأعمارهم فيما لا ينفع، ومن واجب المربي أن يصون ولده عن هذه الموجات التي تجرف الأولاد وتنحرف بهم فتبعدهم عن طريق الله عز وجل، وتكون سببا لفساد فكرهم وتصورهم للحياة، وسببا لتخلفهم عن المدرسة ربما تركهم لمقاعد الدراسة.
2-صيانة العقل من المعوقات المعنوية
   كما أنه على المربي أن يحذر من مفسدات العقل الحسية عليه أن يحذر ويحذر الأولاد من مفسدات العقل المعنوية، والتي منها الطمع وضده الخوف، فالطمع وشدة الحرص كثيرا ما يحجب العقل ويجعل المرء يقع في مواقف مخزية يندم عليها أشد الندم، وكذلك الخوف والذعر فإنه يفقد المرء التركيز وحسن التدبير للأمور، ولا يتوقع أن يكون نمو عقل الطفل سويا إذا تربى في بيئة تغرس فيه أحد هذين الوصفين .
    ومن مفسدات العقل التي نحذر أولادنا منها ونصونهم عنها الغضب، فلا بد أن نعلمهم الحلم ومجاهدة النفس، وأن نربيهم على كظم الغيظ، قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ولما كان الغضب معطلا للعقل عن التمييز ومانعا له من حسن التقدير للأمور، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ » متفق عليه. ولابد من تطهير فكر الأولاد من ظن فاسد رائج في مجتمعاتنا وهو أن الشخص الغضوب "العصبي" هو الشديد القوي المهاب أو أن تلك الصفة من معاني الرجولة، ويكفي لتحصيل ذلك تعليمهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» متفق عليه.
خطر التربية على التقليد الأعمى
   ومن المعوقات المعنوية التي ينبغي أن يضعها المربي في حسبانه "ظاهرة التقليد الأعمى"، وهو أن يتبع المرء غيره فيما يقول ويفعل، ملغيا عقله دون نظر في جدوى ذلك القول أو العمل، ومن دون نظر في حجة مقنعة به، فهو يعتقد لأنهم اعتقدوا ويقول لأنهم قالوا، ويعمل لأنهم عملوا، ويوصف هذا التقليد بأنه أعمى، لأنه لا بصيرة فيه ولا دليل عليه. ولهذا التقليد مظاهر كثيرة متفشية منها:
**ظاهرة تقليد الآباء والأجداد التي حكى رب العزة جل جلاله أنها كانت دليل المشركين على شركهم، قال تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170). لذلك على المربي أن يتجنب حمل الأولاد على ما يعتقد أنه حق وأنه من الدين بحجة أنه من سيرة الآباء والأجداد، بل نحمل الأولاد على ذلك لأنه هو الحق وما دونه باطل ونعلمه الحجة عليه، وما يأخذه الولد بهذا الطريق قد يتركه عندما يتحرر فكره من غل التقليد لسبب من الأسباب.
**ومنها ظاهرة تقليد الأكثرية، وقد قال تعالى :  (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116) فإذا جاء شخص برأي لم تسمعوه من قبل قلا تقولوا له هذا خلاف ما عليه أكثر الناس أو خلاف ما كان عليه الآباء والأجداد، ولكن يقال له أين دليله وحجته؟
**ومنها تقليد الكفار، الذي غرقت فيه الأمة في هذه الأيام لأسباب عدة منها ضعف الشخصية وغياب العزة بالدين، وتعظيم من لا يجوز تعظيمه، فصار أولادنا يقلدونهم في اللباس، وفي الكلام والطعام، وفي الهيئات والعادات ونظام الحياة، وكل شيء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» رواه أبو داود وحذرنا ربنا عز وجل في غير ما آية من موالاتهم ومحبتهم كقوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22).

تم قراءة المقال 544 مرة