الاثنين 29 محرم 1443

(53) التربية الفكرية : التوجيه العلمي للطفل

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الثاني : التوجيه العلمي للطفل

    من عناصر التربية الفكرية في الإسلام التوجيه العلمي للطفل، وإنّه لا يوجد في تاريخ الأمم والأديان دين مثل دين الإسلام في الحث على العلم والحرص على تعليم الأولاد، وهذا مما شهد به أعداء الإسلام فضلا عن غيرهم، ولا غرابة أن يكون العلم محورا مهما في التربية وأن يكون شعار أهل الإسلام، لأن أول ما أنزل على محمد  الأمر بالقراءة والإشادة بالقلم، وهو قول تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5).       وإن اهتمام سلف الأمة بتعليم الصغار أمر قد تواترت به الأخبار وتكاثرت فيه الروايات، ومن ذلك قولهم:« مثل الذي يتعلم في العلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء » (روي مرفوعا ولا يصح)، وقول الحسن البصري يقول :« قدموا لنا أحداثكم، فإنهم أفرغ قلوبا وأحفظ لما سمعوا »، وقول عطاء بن أبي رباح:« يَا غِلْمَانُ، تَعَالَوُا اكْتُبُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَا يُحْسِنُ كَتَبْنَا لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِرْطَاسٌ أَعْطَيْنَاهُ مِنْ عِنْدِنَا».
أهمية التوجيه العلمي
   إن المربي مهما علَّم الولد ووجهه فلن يستطيع أن يعلمه كلّ شيء، ولن يصحب الولد عمره كله، لذلك فهو مطالب بأن يعطي للنشء القواعد العامة المنظمة لفكره والتي ترسم له اتجاهه في الحياة، ومن ضمن هذه القواعد : التوجيه العلمي والارتباط بالعلم الشرعي على وجه الخصوص.
   وإننا بحاجة إلى تكوين أمة متبصرة تدري ما تفعل في حاضرها، وتحسب كل الحساب لعواقب تصرفاتها في المستقبل، وتبتعد في سلوكها وأعمالها عن حال الأمم التي ليس لها من حجة إلا أن تقول : (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب:67). وتبتعد أيضا عن حال ذلك الزمان الذي حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من شره، وقال : " إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ"رواه أحمد.
    إننا بحاجة إلى أمة ملتزمة بشرع ربها وتسمع لعلمائها الذين هم ورثة الأنبياء، وتخالف اليهود الذين أضاعوا الكتاب وكانوا يقتلون الأنبياء ويضطهدون العلماء.
    إننا بحاجة إلى أمة تفرق بين العلماء والمتشبهين بهم، وتبتعد قدر المستطاع عن السنوات الخداعات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:" يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ  قَالَ: " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ "رواه أحمد.
    إننا بحاجة إلى أمة تفقه معنى قوله سبحانه وتعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60) تفقه معناه المباشر وفحواه ولوازمه ، وتتمثل توجيه العلماء الربانيين أمثال ابن باديس إذ يقول :
يَانَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا ****وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ
خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَـهـا****وَخُـضِ الخْـطُـوبَ وَلاَ تَهبْ
واجب إيجاد العلماء الربانيين والمتخصصين في جميع مجالات الحياة
    ومما ينبغي أن يعلم كما أنه يجب على الأمة أن يوجدوا الأطباء يجب عليها إيجاد علماء ربانيين في الشريعة وبنفس العدد، فإن هؤلاء يداوون الأبدان وهؤلاء يداوون الأرواح، فإيجاد العلماء والخطباء والمدرسين واجب على الأمة فإن لم تفعل أثمت، وكيف لا تأثم وهي تعلم أن الناس إذا لم يجدوا الأطباء المتخصصين ذهبوا إلى المشعوذين المتطفلين. وإذا لم يجدوا العلماء الربانيين لجأوا إلى الأدعياء ودعاة الضلالة،  ومن أدلة هذا قوله تعالى:  (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) وقوله تعالى : (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).
   ليس معنى هذا أن يصبح الناس كلهم علماء ولكن يجب علينا تربية النشء على المعارف العينية التي يشترك فيها كل المسلمين، ثم توفير المناخ المناسب ووسائل التكوين ثم يكون التوفيق من الله تعالى، ومن لم يكن عالما فعلى الأقل يكون مرتبطا بالعلماء قادرا على فهم كلامهم وتقريبه لمن يحتاج إليه، أن تكون لهم قدرات على التمييز تعصمهم من اتباع كل ناعق.
   والواجب على جميع من يتخصص في مجالات العلوم الكونية المختلفة أن تكون له قاعدة متينة في العلم الشرعي -عقيدة وفقها- يضبط بها علمه الدنيوي، وتجعله يوظفه في خدمة أمته، كما تعصمه من الأفكار الهدامة والسموم التي استهوت ولا تزال تستهوي أبناء الإسلام وتسلخهم من هويتهم ودينهم.
الطرق والوسائل المعينة على التوجه العلمي
أولا : الترغيب في التعلم والترقي في مدارجه
    أول الطرق الموصلة للتوجيه العلمي للطفل الترغيب في التعلم والترقي في مدارجه، ولابد أن يكون هذا الترغيب مرفقا بالتشجيع والإعانة والكفاية، ومما يذكر للمربين في هذا المقام لا للأولاد ما كانت تقوله والدة سفيان الثوري لولدها:«يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي»، خبر الإمام مالك لما كان صغيرا حيث كان المشجع له على طلب العلم أمه، التي كانت تحثه على الذهاب إلى حلقات العلم وتلبسه ثيابه، وتقول له : «اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه». ونذكر المربين أيضا ما قاله مصطفى بن باديس لولده: « يا عبد الحميد أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك أقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فاكفني أمر الآخرة، كن الولد الصالح العامل العالم ألقى به وجه الله ».
   ومما يؤثر في هذا الباب أن بديع الزمان الهمداني كتب إلى ابن أخت له يحثه على الجد وطلب العلم ، فقال:« أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والقلم أليفك والدفتر حليفك، فإن قصرت وما إخالك فغير خالك والسلام ».
    والذي يؤسف له في هذا الزمان أن الآباء قد غلبت عليهم المادة وأثرت عليهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي عاشوها فصاروا يرون أن لا جدوى من العلم والتعليم إلا باعتبارهما وسيلة إلى المال والمناصب، فإن كان المقصدان ممكنان لديهم من غير سلوك سبيل التعلم فلا حاجة إليه، وهذا من سوء التربية الذي زاد من حدة التسرب المدرسي الذي هو خسارة للأب والمجتمع كله ، والذي إذا اجتمع مع الفراغ والخلطة السيئة سيحول الولد إلى عنصر فاسد في نفسه مفسد لغيره.
ثانيا : تعويد الأولاد على الحفظ
   لابد من تعويد الأولاد على الحفظ، وأول ذلك حفظ القرآن الكريم، ثم الأذكار النبوية، ثم الأشعار والأناشيد، والأمثال ونحو ذلك، وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه محفوظ في الصدور فقال: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت:49)، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ حديثه فقال:« نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ » رواه الترمذي وصححه.
    وفي هذا التدريب فضلا عن تقوية الذاكرة نحصل أمورا أخرى كتهذيب الأخلاق وتقويم اللسان وتوسيع مدارك العقل بالمعارف التي تضمنتها تلك المحفوظات.
   وعلى المربي أن يبعد الأولاد عن أسباب النسيان وما يورث ضعف الذاكرة، ومنها كثرة الهم والأشغال، وإدمان المعاصي والنظر إلى المحرمات، وكثرة الضجيج وخاصة الذي تسببه التلفاز والموسيقى، ولا بأس أن يعين المربي ولده على الحفظ بما علم في الطب كونه مقويا للذاكرة من غير ضرر عليه كاللبان والزبيب ونحو ذلك .
ثالثا : تعويد الأولاد على التفكير
    من طرق التوجيه العلمي للطفل حث الولد على إعمال فكره وتدريبه على ذلك، عن طريق عرض المشكلات والتمارين والمسائل الحسابية والألغاز ونحو ذلك، مما يغرس في قلبه حب الاكتشاف وحل الاشكالات وإيجاد البدائل والمخارج للمعضلات، وكذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ» متفق عليه، ولا نغفل عن عبارات التشجيع للولد وكل ما يبعث همته ويحييها، ولنحذر من تسفيه أجوبته أو السخرية مما يعرضه من أفكار، وكل ما من شأنه أن يثبط همته ويفتر عزيمه.
رابعا: تعليم الأولاد الكتابة والقراءة
    مما يساعد الولد على التوجيه العلمي تعليمه القراءة والكتابة، وهذا أمر ضروري للتعبير عن أفكاره ومحفوظاته، وهو من واجب الوالد فإما أن يقوم بذلك بنفسه أو بتسخير من يقوم بذلك نيابة عنه، ونحذر الأولياء في هذا الزمان من انتظار التحاق الولد بالمدرسة والاعتماد الكلي عليها، لأنها كثيرا ما تفشل في الوصول إلى هذه الغاية رغم كونها من أوليات التعليم، بسبب التيه والضياع الذي يعرفه قطاع التربية والتعليم في الجزائر سواء من حيث المناهج والبرامج أو من حيث التأطير.
خامسا : تحبيب العلماء إلى الأولاد
    من طرق التربية القدوة الصالحة ؛ ونعمل هذا الطريق بتحبيب العلماء إلى الأولاد وتعظيمهم في نفوسهم من خلال سيرهم ومواقفهم ومؤلفاتهم وابتكاراتهم، ونلقن الأولاد علماء الشريعة على وجح الخصوص هم ورثة الأنبياء وحملة لواء الدعوة والهداية بعدهم وأن الله تعالى أمر بسؤالهم والرجوع إليهم في المعضلات وطاعتهم.
    كما ينبغي علينا في زماننا هذا أن نحذر ثم نحذر أولادنا من الأفلام المغرضة التي هدفها تشويه صور علماء الأمة وكذا أبطالها؛ بما حوته من افتراءات وأكاذيب.
سادسا: إعداد المكتبة منزلية وربط الولد بالكتاب
   من الطرق التي تغرس في الولد حب العلم وأهله وتنمي فيه ما سميناه التوجيه العلمي للطفل، إعداد مكتبة منزلية حسب إمكانات الوالد، ثم محاولة ربطه بالكتاب قراءة وتلخيصا ومطالعة، وإذا بلغ سنا يعقل فيها ويحسن القراءة فلنجعل جوائزه كتبا وقصصا بعد أن كانت من قبل لعبا مناسبة لسنته وعقله، ومما ينصح به في هذا الباب اصطحاب الأولاد إلا المكتبات العمومية، والمكتبات العامرة عند شراء الكتب، وكذا المعارض التي تعرض فيها الكتب؛ لأن مجرد مشاهدة تلك الكتب له أثر في نفسية الطفل وأول ذلك الفضول وحب التعرف على ما تحويه وأقل ما يحصل هو تعظيم مؤلفي تلك الكتب النافعة التي يراها ويسمع عنها وعن محتواها.

تم قراءة المقال 446 مرة