لثلاثاء 12 رمضان 1446

البث المباشر غزو مباشر ...المسخ التلفزيوني ... انتحار أمّة وحضارة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

البث المباشر غزو مباشر
المسخ التلفزيوني ... انتحار أمّة وحضارة

كتبه يزيد حمزاوي رحمه الله
 ( ج صحافة اليرموك-ص5- السبت 03 كانون أول 1994م )
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له أمّا بعد:
فمن لم يغز غُزي، إنّها قاعدة ثابتة على مدى العصور وإلى أبد الدّهور، إنّ العالم الغربي وعبر القرون الأخيرة لم يكد ينقطع تخطيطه باللّيل والنّهار لغزونا في عقر دارنار ولقد كان الغربيون قبل قرن من الزّمان إمبرياليين يرسلون جيوشهم وأعتادهم إلى البلاد الإسلامية لينهبوا ثرواتها، ويستعبدوا شعوبها، ويوقفوا زحف حضارتها الّتي تهدّدهم لتبقى خامدة ذليلة، لقد كان أولئك الجنود يأتون إلينا ليموتوا على أيدي الثوّار والمجاهدين، فلا يعودون إلى أوطانهم، ولم تستطع الإمبريالية العسكرية أن تطيل المكوث لأنّها واجهت رجالا لا يرضون بالهزيمة، رجالا أصحاب همم عالية وقيم ودين سماوي، لا يقبلون بالتّنازل للمستعمرين ... عاد المستعمرون من حيث جاءوا، لكن ليس للأبد لأنّ الحرب لم تضع أوزارها بعد، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك، فاستعدّوا هذه المرّة لمعركة أخرى أكثر شراسة وأفتك سلاحا، إنّه سلاح الإعلام، هذا السّلاح الّذي يحقّق نفس الأطماع ويبغي ذات المصالح ... السّيطرة علينا والتّبعية لهم في كل شيء في السّياسة والاقتصاد والاجتماع ... والدّين -عفوا الدين لا، لأنّهم كما يقول زويمر أحد المبشّرين! «لا نريد إدخالهم في ديننا فهذا تشريف لهم، لكن نريد فقط إخراجهم من دينهم الاسلام».
إنّها نفس الفكرة لبست لبوسا جديدا، باتت إمبريالية عسكرية واصبحت إمبريالية إعلامية media imperialism، البارحة كانت غزو الجنود والدّبابات واليوم غزو فكري وثقافي cultural invasion،
 وممّا مهد ساحة المعركة للغربيين هذه المرّة هم أولئك الأذيال الّذين تركوا عقب المعركة الأولى الّتي فشلت ...
لا علينا، لقد تمثّلت هذه الهجمة الجديدة في سيل ماطر وعاصفة هوجاء من الرّسائل الإعلامية المتنوّعة بأساليب مشوّقة وجذّابة، عبر كلّ الوسائل التكنولوجيا المختلفة، صحف ومجلات ووكالات أنباء إخبارية وإعلانية وفيلمية وسينما ومسرح وكتب وإذاعات وتلفزيونات وأقمار صناعية ... هذه الوسائل التقنية المتطوّرة جداً والتي تشهد ثورة إتصالية لا مثيل لها في المجال العلمي أغرقت الساحة العربية والإسلامية بوابل من القيّم والثّقافات والموديلات والتقاليد والعادات والمفاهيم التي لا تتناسب مع عقيدتنا ولا تتلاءم مع حضارتنا ولا تتوافق مع ثقافتنا، لقد توصلت تلك التكنولوجيا -بل المضامين المتدفّقة عبرها- إلى مسخ الفوارق بيننا وبينهم وإلغاء خصوصياتنا وشطب خريطتنا من الوجود، لا الوجود الجغرافي بل الوجود الفكري والروحي والحضاري ... حتّى نجحت خطّتهم، فماتت ضمائرنا وغيرتنا على معتقداتنا وثقافتنا، وظهر من بيننا من يشيد بالإعلام الغربي ويدعو إليه لأنه انفتاح«انفتاح!» على العالم واطّلاع على الحضارات والثقافات، وغير ذلك تزمت وتقوقع و«انغلاق!».
لقد استطاع الامبرياليون الجدد حقّا أن يصيبونا بداء الإنفصام Schizophrenia ، بينما نؤمن به وما نطبّقه في الواقع، لقد أوجدوا أجيالا كاملة مهزوزة العقيدة، عليلة الفهم، لا تحسن إلّا صنعة الببغاوات، بتقليد كلّ شارد ووارد، أجيال لكلّ ساقطة لاقطو لقد اوجدوا عندنا أجيالا من الرّجال والنّساء ومن الفتيان والفتيات ذوي جنسيتين -مواطن عربي مسلم في الانتماء الجغرافي فقط لكنّه مواطن غربي في الانتماء الفكري.
حتى قال القس زويمر يخاطب المبشرين والماسونيين: «إنّكم أعددتم نشئا في ديار المسلمين لا يعرف الصّلة بالله، وبالتالي جاء النّشء الإسلامي طبقا لما أراد له الاستعمار، لا يهتمّ بعظائم الأمور ويحبّ الرّاحة والكسل، ولا يصرف همّه في دنياه الّا في الشّهوات فإذا تعلّم فللشّهوات وإذا جمع المال فللشّهوات وإن تبوّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشّهوات يجود بكلّ شيء» يا له من كلام يدمي القلب!!
أريد الآن أن أركّز على البثّ التّلفزيوني المباشر عبر الأثمار الصناعيّة لأنّه أكثر الوسائل حداثة وأخطرها علينا، ويكفي أن ألخّص خطره بكلمة واحدة «إنّ البثّ المباشر غزو مباشر».
إنّ هذا الغزو الّذي تتزعّمه أمريكا لا يخيف الدّول العربيّة والإسلامية فقط، بال أضحى يهدّد جميع العالم، وقد تنبّه السّاسة الغربيّون لذلك، وبدءوا يتّخذون خطوات جادّة في سبيل إيقاف «جرثوم الغزو الأمريكي»، ففي فرنسا مثلا يقول رئيس وزراء سابق «إنّ التلفزيونات الفرنسية أضحت منابر للغزو الأمريكي». وبريطانيا رفضت عدّة برامج أمريكية لأنّها لا تتلاءم مع المجتمع الإنجليزي!!
وفي كندا -جارة امريكا- حيث يعيش أناس من نفس المنابت والأصول ويمتلكون نفس الصّفات والتّاريخ واللّغة، لم يمنع ذلك كلّه رئيس الوزراء «ترودو» أن يقول «إنّي أخشى على أبناء كندا من ثقافة امريكا الّتي تُنقل عبر التلفزيونات» ونفس الأمر عند اليابانيين والرّوس ودول كثيرة، فإذا كانت هذه الدّول لا تمتلك عقيدة كعقيدتنا ولا تحمل حضارة دينية وروحية كالّتي نحمل، فما بالها تغار على ثقافتها ولا نغار، تخشى على نفسها من القتل ونلهث -نحن- وراء الانتحار.
وبعد سنة واحدة من الآن سيطلق اليهود قمرا صناعيا على المنطقة العربية والإسلامية للبثّ التّلفزيوني ليؤكدوا بذلك خرافه إسرائيل الكبرى إقتصاديا وإعلاميا ومعلوماتيا، كما يقول شمعون بيريز، إضافة إلى عشرات الأقمار الأمريكية والرّوسية والإنجليزية والفرنسية وغيرها الّتي باشرت البثّ إلينا ... وفي بداية القرن القادم سيكون بإمكان أيّ بيت مسلم أن يلتقط (٤٠٠٠) قناة عالمية ... فكيف ستكون المضامين!!!؟
إنّها كلّ مضامين السّفالة والانحطاط الخلقي، والدّعارة الإعلامية المنظّمة والجنس اللّعين، سيكون بإمكان أيّ مسلم أن يلتقط مئات القنوات الّتي تعرض أفلاما حيوانية لمدّة ساعات كاملة، أفلاما بدون سيناريوهات، لأنّ الصّورة والحركة والإثارة الجسدية هي المقصودة لذاتها لأنّهم يعرفون اننا نفكر بغرائزنا لا بعقولنا.
يشاهد المتفرّج العربي والمسلم مئات من القنوات الّتي تمجّد الغرب وترفع حضارتهم وتهزأ بحضارتنا وتجعلها في خانة التخلّف والضّعف ... ويشاهد أفلاما تحمل في مضمونها مفاهيم الجريمة والعنف والسّرقة وتفكيك الأسرة والثّروة والشّهرة ...
بل ويتعدّى ذلك إلى مضامين تغيير عاداتنا وتقاليدنا في كلّ شيء، وما هذه الصرعات في الملابس الفاضحة، وتسريحات الشعر، وسلوكيات الشّباب الّتي نراها إلّا نموذج مصغّر لما سيصيبنا.
وحاليا بدأ التّفكير باستغلال البثّ المباشر في تغيير المعتقدات والاديان ... فقد خرجت اكثر من ١٨٠٠٠ كنيسة غربية في مؤتمر بهولندا بتوصية تنصير العالم الإسلامي باستخدام البثّ المباشر وباشرت محطات تلفزيونية تحت إشراف مجلس الكنائس العالمي بالبثّ المباشر الكاسح لمنطقتنا!
إنّ العالم العربي والإسلامي يتعرض في نهاية هذا القرن وبداية القرن الّذي يلية إلى أشرس هجمة لا مثيل لها، وإن بقينا كما نحن فسيلغى وجودنا.
حلول مضحكة ومبكية!!
بدأ بعض العرب والمسلمين يفكّرون بإيجاد حلول لهذا الوباء، لا نغفل أنّ هناك شرائح كاملة من مجتمعنا لا ترى أنّ البثّ المباشر خطر على حياتنا، بل العكس تماما فهم متفتّحون عليه ويقبلونه ويطلبونه ويحبّونه، هؤلاء لا داعي لمناقشتهم لأنّه ليس من المعقول أن تناقش ميّتا، وموت القلب والفكر والدّين أشدّ من موت الأبدان
لكنّي سأتطرّق لأولئك الّذين يقترحون لمواجهة البثّ المباشر والغزو الإعلامي حلولا مضحكة.. وأهمّ تلك الحلول المنافسة، ويقصدون بها إنتاج برامج تلفزيونية بكميّة وكيفية أفضل من البرامج العالمية والغربية، وذلك لمنع المشاهد العربي والمسلم من التحوّل إلى القنوات الأجنبية، ويقترحون أن تكون المنافسة على مستوى إقليمي وليس للكيانات المتفرقة أي تأثير وقوّة، فيرون أنّ المنافسة العربية تكون باجتماع الدول العربية لتنفيذ المشروع العالمي المنافس!
هذا باختصار ما يقترحونه، وآمل أن أكون نقلت اقتراحهم بموضوعية ... وكما عنونت لهذه الفقرة فهذه حلول مضحكة مبكية لأسباب هي:

 الإعلام حلقة واحدة داخل نظام معقّد من الحلقات المتّصلة، وتخلّفنا الإعلامي ناتج عن وهن في حلقات الأنظمة الأخرى كالاقتصاد والسياسة والاجتماع.
إنّ دولنا لا تستطيع المنافسة لأنّها لا تملك البنية التحتية الإعلامية فالبرامج تحتاج إلى كتاب ومؤلفين ومخرجين ومنفذين وتقنيين وممثّلين ورؤوس أموال، فيكفي أن نعرف أنّ ميزانية هوليود تفوق ميزانية دول عربية بكاملها وبدون مبالغة.
إنّ دولنا العربية الإسلامية لا يمكنها أن تتعاون فيما بينها إعلاميا طالما لا تتواصل روحيا وعاطفيا وسياسيا وو .. فمشكلة تافهة جدّا تفرّق بين المغرب والجزائر ومصر والسودان، السعودية واليمن، العراق والكويت.
نرجع إلى شيء هامّ وهو المبكي وسأقوله بصراحة، لأنّها تقتضي ذلك والاسلام لا يستحي من الحقّ ... أتساءل ما هي المضامين الّتي ستعرضها وسائلنا للمنافسة وتكون نابعة من عقيدتنا وثقافتنا!!؟
سألت الطّلبة في إحدى المحاضرات إنّ أقصى ما يمكن ان يعرض عندنا ويوافق عقيدتنا هو قارئ للقرآن يتلو بعض آيات الله ... وفي قناة أجنبيّة وفي نفس الوقت تعرض في فيلما للإثارة ... أيّها الطّلبة ماذا ستختارون؟ فهتفوا جميعا الفيلم ... الفيلم فلسان حالهم يفضل الإثارة على القرآن، لا أستغرب هذا الجواب من شباب فاقد للوعي منوم مغناطيسيا أغلق باب الزّواج في وجهه، وكلّ ما في المجتمع يدعوه للفساد ... ثمّ إنّ أصحاب نزعة المنافسة يفترضون وجود مشاهدين خالين من الشهوات والنزوات، ملائكة يهرعون بكلّ سرعة وبساطة إلى التلفزيونات العربية في حال تعرّضهم لما يخالف مفاهيم الدّين والثّقافة!!! ولا يدرون أنّهم يطالبون المشاهد بما لا يستطيع تحقيقه إلّا في عالم الخيال والمثالية.
إنّ المنافسة الّتي يطلبها هؤلاء منافسة عجيبة، إذ إنّهم لا يريدون مضامين إسلامية دينية. إنّما يريدون مواجهة الفساد الإعلامي الغربي بفساد آخر، لكنّه فساد عربي أو قومي أو بمعنى أنّك لن تشاهد بعد اليوم أفلاما لبريجيت باردو ومادونا ومارلين مونرو فسيستعاض عنها بأفلام نادية لطفي وشويكار وشريهان ...!
ستصمّ آذانك كلمة «أحبّك» بدل كلمتي «I LOVE YOU» الإنجليزية وكلمة «JE T'AIME» الفرنسية.
سيقوم أولئك الغيورون! على ثقافة الأمّة باستبدال رقص الديسكو بنوع آخر ربما يكون الرقص الشّرقي أو كما يسمّونه هز ... يكفينا مهازل وهذه المنافسة المبكية!
خطوات في الحلّ الصّحيح
منافسة الإعلام الغربي بإعلام إسلامي متميّز قائم على التقنية الحديثة والعلم لا يخرج عن إطار الشّرع قيد أنملة.
المقاطعة للإعلام الغربي، الكثير يظنّ أنّ هذا الحلّ غير عملي، لأنّ التكنولوجيا القادمة ستقف ضدّ أيّ منع أو تشويش، وهذا الكلام غير صحيح فنحن مدعوون لاختراع تكنولوجيات مضادّة، ذات تقنيه عالية لذلك. وطرق التشويش كثيرة لكن ينقصها الغيرة والشّعور بالمشكلة والاحساس بالمسؤولية والقرار السياسي.
 التّوعية الشّاملة عبر وسائل الاعلام والمساجد والأسرة والمدارس والجامعات والنّوادي بخطر الغرب علينا وأهدافة الشّريرة.
طالما شعرنا بالمشكلة الّتي تهدّدنا في حضارتنا وثقافتنا وديننا ولغتنا ... فيجب إذن أن نتعامل مع البرامج الإعلامية الوافدة كتعاملنا مع المخدرات والجواسيس ...
يبقى الحديث حول هذا الموضوع كثيرا وشائكا ومعقّدا، لكن أوّل الحلّ هو الشّعور بالمشكلة، والرّجوع للإيمان لأنّه أقوى سلاح، وهذا الّذي قصدته بهذا المقال المختصر جدا.
وسبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد ألّا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب اليك.

تم قراءة المقال 37 مرة