لقد اشتهر لدى أكثر الناس أن الخوارج هو اسم للطوائف والجماعات التي كانت تخرج على الخلفاء، ابتداء بمن خرج على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إضافة إلى عقيدة التكفير بكبائر الذنوب واستحلال دماء المسلمين، وهذا التصور هو الشائع المعروف لكنه لا يعبر عن حقائق أساسية وجوهرية وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي المروق من الدين، ولا يعني ذلك أبدا أنهم يكفرون، فقد نفاه عنهم علي رضي الله عنه الذي قاتلهم وغيره من الصحابة، وإنما هو خروج عن الطاعة المفترضة عليهم شرعا وهي الطاعة المذكورة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء59) وقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء83)،
وأكثر الناس لا يلحظون إلا خروجهم على علي الخليفة رضي الله عنه, ولا ينتبهون إلى خروجهم على علي العالم الفقيه, وعلى من كان معه من علماء الصحابة رضي الله عنهم، حيث لم يكن في صفهم ولا معهم صحابي واحد بل ولا فقيه من فقهاء التابعين، إن أهل حروراء قبل أن يخرجوا على علي رضي الله عنه بالسيف كانوا قد خرجوا خروجا عقديا وفكريا، حيث طعنوا في المراجع الدينية التي زكاها الله تعالى من فوق سبع سماوات والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أعني الصحابة الذين أخذوا العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فاستقل هؤلاء عنهم وخرجوا إلى الناس بفهم جديد للقرآن، وقالوا لعلماء الصحابة أنتم رجال ونحن رجال, لكم فهم ولنا فكر، ثم كان الخروج السياسي ثمرة حتمية لذلك الخروج الأول وهو الخروج على العلماء.
وهكذا في كل زمن حدثت فيه فتنة فرقت بين المسلمين فرقة دينية، إنما كان ذلك بخروج طائفة من الطوائف عن علماء ذلك الزمان المقتفين آثار الصحابة وعلماء التابعين، وفي زماننا هذا كم هو كثير خروجنا على العلماء, لا نأخذ بنصحهم ولا بتوجيههم, ونزيد على ذلك فنزكي أنفسنا بأنفسنا، فنستقل عنهم بأفكارنا وآرائنا مع عدم اختصاصنا، ويعجب كل واحد منا برأيه وطريقته, فترى طائفة تقول عندنا من أسباب التحضر والمدنية ما لا يفهمونه، وتقول أخرى عندنا من فقه الواقع والمعطيات ما ليس عندهم، وتسمع بالأخرى تزعم أنها من أهل الحقيقة وعلم السرائر والبواطن وأنها حارسة السنة وحامية المنهج، وأن العلماء لا اختصاص لهم بذلك فهم أهل الشريعة والظواهر، فنخوض فيما نعلم نهيهم لنا عنه، ثم إذا أصابنا شيء مما حذرونا منه؛ بدلا من أن نندم ونرجع إليهم وإلى طريقهم ومنهجهم، نعود باللوم عليهم مرة أخرى، فنقول نعم لقد كان النصر حليفنا لولا هؤلاء المثبطون، ولولا بخلهم بالتأييد لنا، ويصيح الحقير فينا أين العلماء أين العلماء ؟!
ومما هو معلوم عند المتتبع لأحوال الأمة عامة ولأحوال الدعوة والدعاة التي أصبحت اليوم مع الأسف مكشوفة للموافق والمخالف، أننا نعيش الزمن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "بلى أهل ذلك الزمان ليس لهم عقول" رواه أحمد بإسناد صحيح، ومع ذلك تجد كل واحد منا يعجب برأي نفسه ويحتقر غيره ممن يكون أعلى منه وأعلم، وأختم هذه الكلمة بخبر عن ابن المبارك رحمه الله حيث سئل عن العجب فقال:"أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، ولا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب ".