الأحد 7 محرم 1443

وقفات تربوية مع مشاهد الحرائق (القسم الأول) مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

وقفات تربوية مع مشاهد الحرائق (القسم الأول)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد؛ فإن استثمار النوازل وحوادث الزمان سواء كانت وطنية أو عالمية يعتبر من آكد المناسبات التي ينبغي استغلالها لتربية الأولاد على العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، ولعلّ من الهدي النبوي المندرج في هذا المضمار خطبته صلى الله عليه وسلم عقب خسوف الشمس، حيث استغل الحدث لتصحيح عقيدة فاسدة وتوجيه الناس إلى العمل الصحيح المفيد فقال: « إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ » (متفق عليه).
   وحياتنا هذه الأيام مليئة بالأحداث التي تستدعي من المربين الوقوف عندها، والنظر إليها من زاوية اختصاصهم، أو من زاوية واجبهم التربوي -وإن لم يكونوا مختصين في التربية-، فالمعنيون بهذا الاستثمار هم المعلمون والأئمة الخطباء أصحاب المنابر والكتاب أصحاب الأقلام، وكذلك الآباء الذي هم من مربين الميدانيين الدائمين.
   ولا شك أنّ الجزائر عاشت هذه الأيام حالات استنفار متتابعة؛ ربما جعلت بعضنا يشعر أنه يعيش حربا حقيقية، حيث تختلط مشاعر الذّعر والتأهّب، والقلق والنجدة، والغضب والأمل، والناس كلّها تتبع أخبار الحوادث مكتوبةً ومصورةً، وتصدر منها ردود أفعالٍ مترجمة في أقوال وأفعال تُسمع وتُرى، وممن يسمعها ويراها أولادنا الصغار الذين هم في مرحلة تكوين شخصيتهم وبناء عقيدتهم وسلوكهم، وقد تكون تلك الأقوال والأفعال صادرة من غيرنا مما نتابعه في وسائل الاعلام والتواصل المختلفة؛ وأولادنا يرمقونها وهم بالقرب منا.
     وإنّ تلك الأقوال والأفعال المذكورة وإن كانت صادرة من بعضنا بصفةٍ عفوية غير مقصودة ولا مدروسة؛ إلا أنّ لها آثارا على تربية أولادنا وعقليتهم وشخصيتهم، وتلك الآثار تابعةٌ لنوعية ما يُسمع ويُرى، فقد يكون منها السلبي الضار وقد يكون منها الإيجابي النافع.
    والآن تعالوا بنا ننظر في نازلة الحرائق التي ابتلي بها بلدنا الحبيب؛ نظرات تربوية لعلنا نكون قد طبقناها من غير شعور، أو نكون قد ضيعنا فرصا مهمة في توجيه فلذات أكبادنا، ولعل بعضنا يكون قد تسبب في إفساد أولاده من غير شعور.
الوقفة الأولى:  
   وأوّل وقفة تتعلّق بكون هذه الحرائق -في مظهرها وآثارها -من أدلّة قوة الرب سبحانه الخالق المالك الفعّال لما يريد، ومن أدلّة ضعف الإنسان وقلّة حيلته وعظيم حاجته إلى ربه، فهذه النار قد تبدأ بشرارة صغيرة –بغض النظر عن كونها مقصودة أو غير مقصودة –ثم تنمو وتنتشر وتغدوا وحشا لا يقدر الإنسان على مواجهته، وقد لا يتمكن من إخماد ألسنة هذا الوحش رغم ما يمتلك من آلات، وما بلغه من تقدُّم علمي، إلا بعد أن تُهلك النار مساحات شاسعة وتُزهق أرواحا كثيرة...فهل سمع منا أولادنا ومن هم تحت أيدينا؛ نتحدّث عن ضعف الإنسان وعظيم حاجته إلى ربه القهار؟ هل سمعَنا أولادنا ونحن نُترجم هذه الحاجة والضعف بأدعيتنا وابتهالاتنا وصلواتنا؟ هل سمِع منا أولادنا تعظيما أو دعاء أو تعليقا يصبُّ في هذا المعنى؛ ونحن نتابع معهم صور الحرائق المهولة؟ أم هو مجرد آهات التعجب والهلع، والتعليقات القليلة الجدوى التي لا داعي لقطع الأفكار بسردها؟ أم هي تعليقات سلبية تحمل في طياتها كلمات الضجر ورفض للقدر، أو عبارات السب والشتم والسهام ترمى يمينا وشمالا؟
الوقفة الثانية
    إن مشاهدة آثار الحرائق وما خلفته من خسائر في الأرواح والثروة الغابية والحيوانية والممتلكات، يجعلنا نرى عيانا أن هذه الدار هي دار الغرور، نعم نرى كيف صيّرت الحرائق أغنياءَ فقراء في لحظة، وجعلت من أصحاء مرضى وزمنى، وحوّلت حدائق غناء يُتباهى بها إلى حطام ورماد، واختطفت أرواحا كانت لأصحابها آمال ومشاريع كثيرة، وأخذت من جلّ الناس شعورهم بالسعادة والأمان والاطمئنان.
   لقد بيّنت لها هذه النيران -زيادة على ضعف الإنسان- أنّ ما نعيش فيه من نعيم آيل إلى الزوال، وأنّ ثباته وبقاءه متعلق بإرادة الله وقدرته، وأنّ هذه الدنيا إنما هي أحلام متسلسلة نعيشها، وكلّ يوم يستفيقُ منها قوم؛ فيدركون الحقيقة الناصعة التي لا مفر منها، وهي أن كل نعيم لا محالة زائل، وأن كل من عليها فان، ولا يبقى إلا الديان، لكن منهم من لا يستفيق إلا بعد فوات الأوان.
    فما كان تعليقك أنت أيها القارئ على تلك المناظر حين شاهدتها؟ وما هي العبارات التي استعملتها وأنت ترويها؟ وما قلت للأولاد ولكل من كان يسمعك؟ هل انتهبت ونبهت غيرك إلى هذه الحقائق؟ أم اكتفيت بالحوقلة وتتبع تفاصيل الأحداث والتدقيق في الأخبار والأرقام؟ وماذا استفاد من سمع كلامك؟ ومن قرأ مكتوبك؟ وماذا استفاد أيضا من رأى ردود أفعالك؟ يا ترى هل كنت حزينا أو باكيا حين المشاهدة والقراءة؟ أم أنك كنت تضحك وربما تنكت على تلك المناظر والأخبار؟ لا شك أنّ كل تصرّف من هذه التصرفات سيكون له آثاره في الناشئة، لكن في المستقبل وليس الآن.
الوقفة الثالثة:
      مما ينبغي الوقوف عنده أسباب هذه المصيبة التي حلت بنا، والبعض يستغرق كل نظره في البحث في الأسباب المباشرة، حتى ينسى الالتفات إلى الأسباب غير المباشرة، وهي أسباب نزول هذا القضاء وظهور هذا الفساد، وهذه الأسباب غيبية قدرية، إنما عرّفنا بها ربنا عز وجل إذ ربط كل مصيبة عامة أو فساد كبير بما كسبت أيدي الناس وبظلمهم وجورهم؛ قال ربنا عز وجل مخبرا أنه لا يزيل النعم العامة إلا غيّر الناس سلوكهم وبدّلوا : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53) وقال سبحانه مقررا الحقيقة الكونية وحكمتها : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41) فالواجب علينا ونحن نسمع عن الفساد والخسائر أن نتذكّر ونُذكّر غيرنا أنّ ربنا الحكيم أراد تذكيرنا بالآيات الكونية لما اشتدت غفلتنا عن الآيات القرآنية، لنتوب ونرجع إليه، وأنه سبحانه مهما قضى من فساد؛ فإنّه يعفو عن كثير، فلو طبق العدالة دون تغليب الحلم والفضل والرحمة لما أبقى الله على هذه الأرض من أحد.
    ولا شك أن سامع هذا الكلام -وما في معناه من دعوة إلى التوبة الجماعية ومراجعة النفوس- يتساءل -سواء كان صغيرا أو كبيرا- وما الذي فعلته الأمة حتى تستحقّ كل ما نراه؟ وحتى يكون كل ما نراه من أهوال مجرّد تنبيه وعقوبة بالقليل؟
   وجواب هذا التساؤل : أنّ الله تعالى قد هدانا للإسلام وشرائع الإيمان ورزقنا من الطيبات وعافانا في أبداننا واسبغ علينا من النعم ما لا نحصيه، فبِمَ قابلنا كل هذا الإحسان؟ وإنه بعد أن أنعم علينا ربنا بكل هذه النعم؛ وُجد فينا من يريد بعث الوثنية بأصنامها وطقوسها وآلهتها الوهمية والمجسدة؛ التي يزعم أنها تجلب الخصب والأرزاق أو أنها تنزل الأمطار، ووُجد فينا من ارتد عن الإسلام صراحة فتنصّر أو ألحد أو صار يعبد الشيطان، وكثير منا يسبّ الله تعالى متعللا بالغضب، وفينا من صار يطعن في شعائر الإسلام جهارا نهارا، أو يصف دين رب العالمين بالتخلف والرجعية، وشبابنا ضيعته الخمور والمخدرات والجري وراء الشهوات المحرمة، ونساؤنا ترجلت وتعرّت وخلعت الحياء مع الحجاب، والأعظم من كل ذلك أن ينعدم أو يقلّ من ينكر هذه الأمور، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وَفِي رِوَايَةِ لأبي دَاوُد: «إِذا رَأَوْا الظَّالِم فَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ».
   وقد يقول قائل: هل يمكن أن تصل هذه المعاني إلى عقول الناشئة وهل ستفيدها؟ فيقال نعم: يمكن أن تصل فهي معادلات منطقية بسيطة لا تعقيد فيها، وكيف نسأل عن فائدة سماع الناشئة عن عدالة الله وفضله ورحمته، والدعوة إلى التوبة ومحاسبة النفس، ولنعلم أنّ الناشئة إن لم تسمع ذلك؛ فستجد من يملي عليها ما يوجب اتهام العدالة الإلهية والطعن في الحكمة الربانية بشكل أو بآخر.
الوقفة الرابعة :
   من الوقفات التربوية المتعلقة بالحرائق موقف التربية على الرحمة، الرحمة بمعناها الواسع الذي يشمل البشر وغير البشر من حيوان وجماد يزيّن الطبيعة، أمّا الرحمة بالبشر فأمرها ظاهر وهي المقصودة أصالة؛ ولكن علينا أن نغوص في تربية النشء على الرحمة والشفقة إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو الرحمة بالحيوان، إنّنا ولا شك نتحدّث في هذه الظروف عمّن هلك حرقا من الناس، وعمّا أتلف من أشجار مثمرة، وأخرى تزين الطبيعة وتحفظ توازن الحياة فيها، لكننا في الغالب نغفل عن أنّ تلك الغابات والأحراش التي احترقت، كانت تُؤوي المئات من أنواع الحيوانات البرية والطيور والحشرات التي خلقها المولى عز وجل، ولا يخلو خلقها من فائدة وحكمة، نعم قد ننتبه ونتحدث عن الأنعام ونحوها من الحيوانات الأليفة؛ باعتبارها أموالا مملوكة فُقدت، ومصادرَ من مصادر الرزق أهدرت؛ لا باعتبارها أرواحا أزهقت هي الأخرى، وقد جاء في الأخبار الصحيحة حديث دخول امرأة النار بسبب تعذيبها هرّة حتى الموت، وحديث نجاة امرأة أخرى عاصية بسبب سقيها كلبا عطِشا، وقد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم إطعام الحيوان وسقيه صدقة من الصدقات حيث قال: «فِي كُلِّ ذَاتِ كبد رطبَة أجر» متفق عليه.
   وإنّ الاطفال الصغار يحبون التسلي بالنظر إلى الحيوانات وخلقتها، وسماع أصواتها وتتبع حركاتها، ويستمتعون أكثر بمشاهدة صغار هذه الحيوانات، وإنّ هذه الحوادث فرصة لتأجيج تلك العاطفة وغرس خُلق الرحمة في قلوبهم، وذلك بإخبارهم بأنّ حرق غابة واحدة قد يؤدي إلى هلاك آلاف الحيوانات والطيور والهوام.
    لا يقال إننا أحوج إلى التربية على الرحمة بالبشر من هذا التذكير الآن؛ لأنّا نقول إنّ الحديث عن الرحمة بالبشر عموما وأهل الإيمان خصوصا هو الأصل، والحديث عنه طويل الذيول، وله أكثر من مناسبة، وليس هو مما يغفل عنه الناس، ولكن ننبّه أنّ تربية النشء على الرحمة بالحيوانات بما فيها صغار الحيوانات المفترسة؛ يُفيد في تربيته على الرحمة بالبشر من طريق أولى، ومما ذكرته وأنا أسطّر هذه الكلمات؛ أنه قبل عشرين سنة تقريبا عندما أعدّت جريدة أسبوعية -اسمها الجزيرة- ملفا حول متعقلي غوانتانامو التمس مني رئيس تحريرها أن أكتب شيئا متعلقا بحقوق الإنسان يناسب قضية المعتقلين هناك أو قضية الجزائريين الذي اختطفوا من البوسنة ونقلوا إلى هذا المعتقل، فكتبت موضوعا فقهيا حول أحكام الأسرى في الإسلام بطريقة السؤال والجواب، وأردفته بموضوع عن حقوق الحيوان في الإسلام، فلما رأى رئيس التحرير ذلك أعجبه جدا، لأنه كان دارسا لأصول الفقه مدركا لدلالة مفهوم الأولى -أو تنبيه الخطاب أو فحواه-، والمعنى أنّ الإسلام قد تجاوز مباحث حقوق الإنسان المعدودة والضئيلة التي يتغنى بها الغرب إلى ضمان حقوق الحيوان، وأنّه أيضا ضمن للإنسان حقوقه ولو كان عدوا مقاتلا وقع تحت الأسر، وكانت وجهة نظري -ولا زالت -أن كل مدونات الفقه الإسلامي هي كتبٌ في الحقوق، إلا أنها تضمّنت حقوق الإله أولا، وهي العبادات قبل أن تتطرق لتنظيم حقوق الإنسان في بقية الأبواب المختلفة.
   يا أيها الناس -أو يا أيها الأولاد- لقد كنا نذهب إلى غابة كذا وغابة كذا، وكنا نستمتع بتلك المناظر الخلابة وبسماع زقزقة العصافير، والنظر إلى الفراشات ومختلف الحشرات، لقد كنّا نستمتع بالنظر إلى فيديوهات تترصد حركة الحيوانات في الغابات وهي تجلب الطعام لأولادها ..وكنا.. وكنا.. والآن تلك المناظر التي أنعم بها الله تعالى على عباده في كل جهات الأرض قد أصبح كثير منها رمادا وحطاما، ولن تكون لكثير من الناس والأطفال مثلكم منتزهات يتنزهون فيها، وكثير من تلك العصافير والطيور قد هلكت حراقا أو اختناقا؛ إذ ما لم تقتله النار فقد قتله دخانها، لقد ماتت تلك الحيوانات البريئة، والتي كانت تضيف إلى جمال الطبيعة جمالا آخر بصورتها أو أصواتها.
   ولا شك أن الولد الذي كان يبكي من قبل على خروف العيد؛ إذ يذبح تقربا إلى الله تعالى، سيبكى على حيوانات أزهقت أرواحها بلا فائدة بطرق بشعة.
    وهنا نفتح قوسا للحديث عن الأسباب البشرية المباشرة للحرائق، عن ذاك الذي يلقي سيجارة، أو من يوقد نارا ثم يتركها من غير تأكد من إخمادها، وكذلك عن هؤلاء الذين يلقون القارورات الزجاجية، والمواد القابلة للالتهاب هنا وهناك، نتحدث عنهم باعتبارهم مجرمين في حق الطبيعة وفي حق تلك الحيوانات.
    ونفتح داخل هذا القوس قوسا آخر للحديث عن التعمد وعن وزره عند الله تعالى، فتلك المرأة التي حدثنا عنها نبينا صلى الله عليه وسلم قتلت قطة واحدة فدخلت النار، فكيف بمن يقتل كل حيوانات الغابة؟ فكيف بمن يقتل عبادا لله تعالى كانوا يسكنون وسط الغابة أو في أطرافها، أو كانوا من حراسها أو ممن هب إلى إطفاء لهيب النيران، أو الحيلولة دون وصولها إلى السكان.

يتبع بإذن الله

تم قراءة المقال 806 مرة