الاثنين 8 محرم 1443

وقفات تربوية مع مشاهد الحرائق (القسم الثاني) مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الوقفة الخامسة
    من المشاهد التي ينبغي أن نقف معها؛ مشاهد فزع الناس من النار وهروبهم من ديارهم وقراهم؛ وتركهم وراءهم كل ما يملكون؛ تلك المشاهد التي تذكر بالساعة وأهوالها وبالنار التي تحشر الناس إلى أرض الميعاد، وهي وقفة يجب أن يقفها كل واحد منا مع نفسه؛ سواء الكبار والصغار، لكننا في هذا المقام نؤكد على أولادنا الذين تم إبعادهم عن تعلم العقيدة الإسلامية وتفاصيل الإيمان باليوم الآخر؛ فهم محتاجون منا إلى مثل هذا التذكير، وقد جاءت مناسبته، بل قد حان أنسب أوقاته؛ بالربط بين ما رآه من مشاهد ومشاهد قيام الساعة، وإن تلقينه للمعلومة أو تلقيه للموعظة بعد رؤية مثل تلك الصور المروعة- حين يكون القلب متأثرا- يجعل كل ما يقال له ثابتا في ذاكرته فلا ينسى أبدا، بل ربما إنه ينتقش في ذاكرته مقرونا بتلك الصور.
     هذا وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» رواه البخاري، ومعناه أن هذه النار تحيط بالناس سواء كانوا في المشرق أو المغرب وتسوقهم إلى المحشر، ويحتمل أن يكون المراد أنها تجمع الناس في الشام التي كانت تعتبر مغربا بالنسبة للمشرق، وقد جاء في حديث آخر «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ نَحْوِ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» رواه الترمذي وصححه، وعندما تدنو النار من الناس حتى توشك أن تلتهمهم يشبه حالهم حال من قال فيهم ربنا عز وجل: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).
الوقفة السادسة
   ومما يرتبط بهذه الوقفة المتعلقة بالتذكير بيوم القيامة الوقوف مع شدّة الحر التي تضاعفت في مختلف جهات البلاد بسبب النيران، وإنّ شدة حرّ الصيف وحدها داعية للتذكّر والاعتبار، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» متفق عليه، فهذا الحرّ يذكرنا بحرّ جهنم؛ لأنه من وهجه ونفسٌ منه وجزءٌ يسير منه، فعلى كل من اشتكى من حرّ هذه الأيام أن يتذكّر أولا ويُذكِّر غيره ثانيا بحرّ جنهم وشدته، وبقوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81). وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النارِ صَبْغَةً ثمَّ يُقَال: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ وَهَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ. فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شدَّة قطّ » رواه مُسلم.
   وإن غفلة بعضنا عن هذا موجبة لغفلة من يستمع إليهم ويراقب أفعالهم، وكثير من الناس –مع الأسف- لا يعرف إلا الشكوى من الحر في الصيف، ومن البرد في الشتاء، وقد يتكلم بعضهم بكلام يحمل في طياته انتقاص الزمان وسبّ الدهر، ومآل ذلك انتقاص الله تعالى وسبّه والطعن في حكمته؛ لأنّه هو الفاعل في هذا الزمان وهو المدبر لأمر الأكوان لا مدبر غيره، فاحرص أيها المؤمن على أن لا تقول إلا خيرا، وعلى أن لا يَسمع منك أولادك ومن حولك إلا ما ينفعهم، ويربيهم على الاعتقاد السليم والسلوك القويم.
الوقفة السابعة:
   من الوقفات التي يجب أن نقفها مع هذه الحوادث، مشهد الانفاق في سبيل الله تعالى ونجدة المنكوبين وإغاثة الملهوفين؛ وذلك حتى نرسخ في نفوس أولادنا مبادئ التكافل والتعاون وخصال المروءة والإنسانية، وإن تمكينهم من مشاهدة مختلف المعونات وهي تجمع في المساجد أو في مقرات الجمعيات يُعدّ أبلغ من مواعظ الحث على الانفاق والإغاثة، ويزداد التأثير عندما يشاهدون الشاحنات الناقلة لتلك المعونات وهي تُستقبل في المناطق المنكوبة، ومما يعمّق الأثر أكثر رؤية المستقلبين للمعونات وفرحتَهم بها ودعائهم للمتبرّعين؛ وإن ذلك مما يبعث في النفوس رغبة جامحة في الإسهام في حملات النجدة والإغاثة، ولعلّ هذا الشعور قد يجده الكبار في نفوسهم، فكيف بالصغار الذين لا يوجد في قلوبهم إلا ما يُمثّل البراءة والصفاء والنقاء؛ ولا شك أنّ ذلك الشوق إلى البذل والانفاق سيرتسم في نفوسهم وينطبع في قلوبهم.
   إنّ هذه المشاهد فرصة ثمينة للمربين لتربية الأولاد على الجود والكرم والبذل والعطاء والنجدة والإغاثة؛ ولابد على الآباء المربين الذين هم القدوة الأولى لأولادهم أن يمكنوا فلذات أكبادهم من مشاهدة إسهاماتهم في هذا المجال، وليطلبوا منهم أن يعينوهم على حمل المعونات العينية إلى محال جمعها، وليكلّفوهم بوضع شيء من النقود في صناديق التبرعات أو في يد من يستلمها من الأئمة والنشطاء، ولِمَ لا يُدعى هؤلاء الأطفال للإسهام بقسط مما جمعوا في محصلات مدخراتهم إن كانت لهم، فإن لم تكن لهم محصلات فلِمَ لا تملك لهم أموال يخيرون بين صرفها فيما اعتادوا شراءه من حلويات أو لُعب أو فواكه وبين التصدق بها لصالح المنكوبين والمتضررين بهذه الحرائق، وإني على يقين أن الأطفال سيكونون سعداء جدا بالإسهام، بل سيكونون فخورين جدا بأنفسهم.
   إنّ هذه الأعمال التي ننبه الآباء إلى استثمارها في هذا المجال؛ ليست صعبة ولا مكلفة وأما آثارها فهي عظيمة، ثم إنها ليس خاصة بهذه المُلمة التي أصابت الأمة؛ لأنّ تربية الأولاد على حبّ الكرم وبغض البخل، وعلى الانفاق وعدم الشح، والزهد والايثار ومحبة الخير للناس ونبذ الطمع والأنانية؛ ليست من النوافل بل هي من واجبات كل المربين تجاه أولادهم.
   وإذا قلنا بأنّ الصورة الحية المشاهدة أو المسجلة تكون أبلغ من الوعظ، فهذا لا يعني أننا نستغني عن ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على هذه الأخلاق والمكارم المذكورة، وكذا النصوص التي تبيّن الأجر العظيم الذي يلقاه العبد في الآخرة نظير هذه الصدقات والتبرعات، بل إن ذلك يزيد من درجة حماس الأولاد إلى هذه الأعمال، ويجعلهم يتعلّمون الإخلاص الذي هو إرادة وجه الله تعالى.
الوقفة الثامنة
    وآخر وقفة نقفها في هذا المضمار وهي متصلة بما قبلها من مشاهد النجدة والإغاثة، هو التأكيد على أن هذه الصدقات والاعانات ستذهب ليستفيد منها أناس وأطفال ونساء وشيوخ لا يعرفونهم فلا هم من الأقارب أو العشيرة أو الجيران، وهم يقطنون في أماكن بعيدة عن بلدتهم شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، إلا أنهم إخوان لهم ربطتهم بهم العقيدة الواحدة ثم الانتماء إلى الوطن الواحد، ومما ينبغي أن يذكر للأولاد حتى يُحفظ؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم :«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه، وقوله : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه، فيؤكد للأولاد في هذا المقام على معنى الأخوة الدينية ومعنى موالاة المؤمنين ونصرتهم والغيرة عليهم، وينبهون إلى أن الرابطة الإيمانية تجمع كل المسلمين في بقاع الأرض، وهي رابطة ينبغي أن تكون أمتن ما يكون بين من يقتسمون وطنا واحدا وتاريخا ومصيرا مشتركا.
    وهنا لابد أن نغتنم هذا الحدث لتقبيح دعوى الجاهلية النتنة في نفوس أولادنا، ولتنفيرهم من أشكال التفرقة الجهوية القديمة -التي هي من بقايا الجاهلية- والعنصرية الجديدة -التي بذرتها فينا فرنسا-، وهذا واجب على الجميع دون استثناء سواء من كان من المتبرعين أو من المتبرع لهم أو من غيرهم، وليُعلم أن محاربة أسباب التفرقة وتحصين الناشئة منها وبذر عوامل الوحدة والمحبة والتآلف؛ ليس أمرا أخلاقيا سلوكيا فحسب -كما يظهر بادي الرأي- ، وإنما هو مقتضيات الإيمان ولوازم العقيدة الإسلامية التي حددت قواعد الولاء والبراء.
    ولعل الوقفات لمن أراد يستقضي لن تكون محدودة فإن مع كل صورة أو موقف عبرة يمكن أن تعتبر، وبكن حسبي أني سجلت هذه الوقفات التي أحسبها مهمة جدا في تربية أولادنا وانشاء جيل لعله يكون خيرا وأفضل من الأجيال التي سبقته، وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلا أنت وأستغفرك وأتوب إليك.

   انتهى

تم قراءة المقال 1106 مرة