قيم الموضوع
(2 أصوات)

  

   جزء من ندوة ألقيت بمسجد أبي ذر الغفاري بأعالي الرايس حميدو في شهر رمضان 1424هـ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد : فهذه كلمات مقتضبة حول فتح مكة نسوقها على عجل في هذه الأمسية المباركة، في شكل مشاهد مختارة وعبر عابرة نسأل الله تعالى أن ينفع فيها.

 

مشاهد وعبر من فتح مكة

المشهد الأول : صلح الحديبية بداية الفتح

   في السنة السادسة للهجرة أبرم النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش ، الذي كان من بنوده توقيف القتال مدة عشر سنين كاملة ، وأنه من شاء أن يدخل في حلف محمد صلى الله عليه وسلم دخل ومن شاء دخل في حلف قريش دخل، وكذلك من جاء محمدا من قريش هاربا إليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد هاربا منه لم يرد عليه.

    ولقد رأى بعض الصحابة رضي الله عنهم أن في هذا العقد ذلا ومهانة وعلى رأسهم عمر رضي الله الذي ناقش الأمر بقوة فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ ففيم نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبدا، ولم تطب نفسه حتى نزل قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ). ولهذه الآية تفسيران:

التفسير الأول : أنه كان فعلا فتحا حيث أن قريشا قد خسرت كثيرا من الأمور وتنازلت كثيرا أيضا  فهي التي تريد استئصال الإسلام أصبحت تهادنه مدة طويلة ، وهي التي كانت لها الزعامة الدنيوية الدينية قد تنازلت عنها إذ اعترفت بكيان المسلمين وأنه من أراد أن يدخل في حلفهم فليدخل، وحتى البند الرابع فليس فيه خسارة للمسلمين وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" (رواه مسلم).

التفسير الثاني : التفرغ للجانب الدعوى ولغزوات أخرى من أشهرها خيبر ومؤتة، والجانب الدعوى كان أعظم فتح وستعرفون آثارها فيما بعد.

المشهد الثاني : نقض الهدنة والانفراج الكلي

   بناء على البند الثالث دخل في حلف قريش بنو بكر ودخلت خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السنة الثامنة للهجرة عدت بنو بكر على خزاعة فبيتوهم وقتلوا منهم نحوا من عشرين رجلا، وأعانتهم قريش بالسلاح والعبيد، فكان ذلك بمثابة إعلان لنقض الهدنة التي لم يمر عليها سوى ثمانية عشر شهرا تقريبا، وكان ذلك سببا في الفتح الذي أعز الله به دينه ورسوله وحزبه، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار المشركين. وانقلب ذلك الصلح الذي رآه بعض الصحابة أنه رضا بالدون نصرا وفتحا معززا، ولا يجوز أن يوصف بما ذكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسيرا بالوحي، بل الواجب علينا أن نتعلم منه الاستسلام للوحي ولدلائله مهما كان الظرف ومهما كانت المعطيات لأن العاقبة للمتقين ولأن الله لا يخذل المؤمنين وكلما كانت الاستجابة أسرع كانت ساعة الفرج أقرب.

المشهد الثالث : جموع غفيرة والخروج السري

    بعد أن نقضت قريش عهدها قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج لفتح مكة، لأنه رأى الوضع قد تغير وأنه قادر على التغلب على قريش بعد أن دخل في الإسلام قبائل كثيرة، وهذا من ثمرة الصلح المبرم حيث تفرغ صلى الله عليه وسلم للأعمال الدعوية المحضة التي كسب من خلالها مددا جديدا وأنصارا، فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على استنفار الجميع وعلى أن يكون الأمر سريا في الوقت نفسه حتى أن بعض الصحابة ذكروا أنهم تلقوا الأمر بإعداد العدة والتأهب للغزو دون أن يعلموا أنهم خارجون إلى مكة، فاستخلف كلثوم بن الحصين الغفاري على المدينة وخرج في العاشر من رمضان العام الثامن للهجرة في عشرة آلاف من جنود الإسلام.

المشهد الرابع : خطأ فادح وستر المولى عز وجل

     في الوقت الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يفاجئ قريشا ويبغتهم حدث ما لم يكن بالحسبان، ولكن الله تعالى سلَّم وأيد المسلمين ونصرهم، فعن علي رضي الله عنه قال:" بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب خذوه منها، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا فإذا نحن بالمرأة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءا ملصقا في قريش (كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها) وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم افعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق، فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم :"إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" (متفق عليه).

    وفي هذا الموقف فوائد منها:

-أنه لا يستغرب أن يؤيد الله تعالى عباده الصالحين بفضح مثل هذه الأسرار، كما لا يستغرب أن ينصر الله عباده بالملائكة.

-أن الإنسان ذي الفضل والحسنات الكثيرة لا ينبغي أن تسقطه السيئة الواحدة ولو كانت عظيمة، كما هو حال هذا الصحابي والعبرة في ذلك بإقامة الموازنة العادلة.

المشهد الخامس : أسر سيد قريش وإسلامه

     لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم واقترب من مكة، بلغ ذلك قريشا فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ليلا ليتأكدوا من الخبر، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا موضعا يسمى الظهران فشاهدوا نيرانا كثيرة، فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: بني عمرو أقل من ذلك، وبينما هم يتحاورون إذ فجئهم حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقوا عليهم القبض وأخذوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان في ذلك اليوم، وفي الغد شاهد أبو سفيان استعراض الكتائب الوافدة كتيبة كتيبة، غفار، ثم جهينة، ثم سعد بن هذيم، ثم سليم، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها! قال: من هذه؟ قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة، فقال سعد بن عبادة:" يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة"، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أخبره بمقولة سعد بن عبادة فقال صلى الله عليه وسلم:" بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة" (كذا في البخاري).

   يقدر الله تعالى أن يقع سيد القوم في الأسر بلا قتال، ولا شك أن هذا أيضا نصر آخر من الله تعالى، فلما انضاف إلى ذلك إسلامه تقوى النصر وتضاعفت قيمته.

المشهد السادس : دخول مكة وتأمين المشركين

    ودخل الجيش مكة في اليوم التاسع عشر من رمضان، فكان خالد بن الوليد على الجهة اليمنى أسفل مكة، والزبير على الجهة اليسرى أعلى المدينة، وأبو عبيدة في الوسط أو بطن الوادي، وخرج إليهم بعض أوباش قريش فطاردوهم وقتلوا منهم نحوا من عشرين فردا، فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن . قال أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال من أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ونهى عن القتل إلا نفرا قد سماهم إلا أن يقاتل أحدا فيقتل وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد ما ترون أني صانع بكم قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهذا الخبر وإن لم يصح من الناحية الحديثية إلا أنه من ناحية المعنى صحيح إذا حمل على التأكيد لا الإنشاء.

    ويلاحظ هنا كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلم من عاداه ومن أخرجه ومن قاتله لما تغلب عليهم، ولو أن واحدا منا حصل له مثل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم لشردهم وقتلهم ومثَّل بهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم، المرسل من الرب العفو الكريم فعل ما رأيتم، وذلك هو الأصلح للدعوة.

    وهؤلاء الذين استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم من العفو نفر يعدون على الأصابع، المشهور أنهم تسعة نفر أهدر دمائهم لتغلظ كفرهم، لأن فيهم المرتد المبدل لدينه ، وفيهم من كان يهجوا النبي صلى الله عليه وسلم يعني من كان يحارب الدعوة الإسلامية عبر وسائل الإعلام.

   ومع ذلك فلم ينفذ حكم الإعدام في جميعهم، فمنهم من استأمن له فأمنه الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم، ومنهم من فر وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.

المشهد السابع : تحطيم الأصنام

      فلما استسلم القوم ودخلوا دار أبي سفيان وأغلقوا أبوابهم؛ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، ثم طاف بالبيت وشرع في تكسير الأصنام التي كانت حول الكعبة بقوسه وهو يقول جاء الحق وزهق الباطل، وطاف الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيت وأتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو ، وهكذا كان تكسير الأصنام والطواغيت بعد عشرين سنة من إعلان الدعوة، وبعد أن أمكنه الله تعالى من قريش، وبعد أن تكسرت في قلوب أكثر العرب.

   وهنا وقفة مع من يرفع شعار "ملة إبراهيم عليه السلام" وحصر ملته في تكسير الأصنام ومنابذة المشركين، فنقول له أليس نبينا صلى الله عليه وسلم أولى أن يُقتدى به، وقد أخر تكسير الأصنام كل هذا التأخير لأن الإزالة من القلوب أعظم من إزالتها من الأرض، وعلى كل حال فتكسير إبراهيم عليه السلام للأصنام لم يكن مقصودا وإنما كان للغاية التي ذكر القرآن وهي المحاجة لقومه.

المشهد الثامن : دخول الناس في دين الله أفواجا

    كانت قبائل العرب التي لم تسلم بعد تترقب ما يحل بمحمد صلى الله عليه وسلم أو قريش، فيقولون اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كان فتح مكة بادر كل قوم إلى إعلان إسلامهم. وذلك أنهم ذكروا قصة أصحاب الفيل وما حل بهم ، وعلموا أن الذي هزم أصحاب الفيل هو الذي نصر محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا الفتح هو الذي ذكر الله تعالى في سورة النصر، والذي يقف عند هذا المشهد يدرك قيمة الصبر على المحن التي مر بها المسلمون قبل ذلك ويعلم أنه لم يذهب شيء من تضحياتهم في مهب الريح ولا سالت قطرة من دمائهم هدرا، وإنما كان كل ذلك من مقدمات النصر والفتح. وهنا قاعدة جميلة قالها بعضهم :" لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله".

   وهنا درس وعبرة لمن يرى طريق الدعوة طويلا ويستبطئ النصر، فإن الله تعالى هو الذي يفتح القلوب هو الهادي لا هادي غيره ، وهو الذي ييسر أسباب النصر هو رب السماوات والأرض .

 

تم قراءة المقال 10950 مرة