لثلاثاء 13 جمادة الأول 1444

منهج البحث في علم أصول الفقه الحلقة الأولى

كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

منهج البحث في علم أصول الفقه الحلقة الأولى :

محاضرة القيت عبر الزوم في اكاديمية مفكرون بتاريخ 07 أكتوبر 2022
.....كما سمعتم هذا الموضوع هو موضوع أطروحتي في الدكتوراه، وهي الآن بحمد الله تعالى مطبوعة في مجلدين عن دار البصائر العراقية في تركيا،، سأحاول أن ألخصَّ منها أهم الأفكار التي أريد أن تصل إلى الباحث كي ينتفع بها بإذن الله.
أولاً: أطرح سؤالاً: لماذا البحث في منهج البحث في علم أصول الفقه؟
1-لتّوضيح الطّريق الصّحيح للتّجديد الأصولي، إذ الدّعوات إلى التّجديد كثيرة جداً، ولكن كيف ننزل هذا التّجديد إلى الواقع سواء في التدريس أو التأليف؟
إن الطريق الصّحيح لذلك هو معالجة القضايا المنهجيّة، لأننا إذا رأينا أشياء غير لائقة، وأشياء ينبغي أن تحذف وأشياء ينبغي أن يصحّح مسارها، فإن هذا الحذف وهذه الزّيادة وهذا التّنقيح يعالج في ظلِّ مسار يسمى المنهج، وفي ظل إعادة النّظر وتقويم منهج البحث في علم أصول الفقه، إذن نتطرق إلى هذا الموضوع لهذه الغاية.
2-للتّعرف على تفاصيل مناهج المؤلفين القدامى، وهذا ينفعنا في حسن التّعامل مع هذه المؤلفات، ثمَّ حسن الاستفادة منها، لأنَّ معرفة الاصطلاحات واللغة استعمال المؤلفون، ومعرفة منهج التّأليف، وطريقة التّرتيب، والخلفية التي كان يؤلف بها المؤلف، تمكننا من الإفادة من هذه الكتب، وإن الغفلة عن مناهج المؤلفين كثيراً ما تمنع من الإفادة الكاملة وربما توقع في سوء الفهم.
3-الوقوف على ضوابط منهجيّة في البحث الأصولي، وهذا من شأنه أن يسدّد كتاباتنا وبحوثنا، ويقلّل من الهفوات المنهجية التي تكلف الباحث في عصرنا هذا إنفاقاً للأوقات وتسويداً للأوراق من غير طائل، ومن غير فائدة، إذن الحديث عن منهجية البحث في أصول الفقه مهم جداً.
ثانيا: ما هي الأشياء التي ينبغي أن أتطرق لها في منهج البحث؟
الأمور التي نتطرق لها في منهج البحث متعلقة بالخطّة العامة للمنهج الأصولي، وهي تحوي أربعة عناصر:
1-الموضوع : إن البحث يبدأ من عنوان المسألة المبحوثة وموضوعها وأول شيء في المنهجية النظر في اختيار الموضوع وتحديد عنوان البحث.
2- تصوير المسائل: بمعنى توضيحها بالمثال والتّعريف والتّقسيم ونحو ذلك.
3- تحرير المذاهب في المسألة، سواء مذاهب الأصوليين أو مذاهب الفقهاء، وهناك قضايا مهمة تتعلق بهذا التحرير وضوابط لا بدّ أن نقف عليها.
4-الاستدلال ومعه التّرجيح، وذلك يتضمن قواعد الاستدلال، ومنهج الاستدلال، ومنهج المناقشة، والاختيار والتّرجيح، وهذا الأخير لازمٌ في كل بحثٍ ينجز، وهو التّوصل إلى النّتيجة وتسجيل الإضافة العلمية التي قصدت من إنجاز البحث.
هذه العناصر الأربعة نحاول أن نقسمها بإذن الله تعالى على هذه المحاضرات الأربعة المبرمجة، مع إضافة شيء مهم جداً لمحاضرة اليوم إن شاء الله وهو الحديث عن مناهج الأصوليين، لأنَّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن الواحد منا عندما نتحدث عن منهج البحث في علم أصول الفقه، التساؤل عن هذا المنهج هل هناك منهج واحد؟
   قد درسنا جميعاً في مبادئ العلم أنّه توجد عدة مناهج، منهج المتكلمين، منهج الفقهاء، الطريقة الجامعة، وربما يذكر غيرها، وطرق هذا الموضوع، سيمهد لقضايا تّفصيلية سنطرحها بحول الله تعالى، لأنَّ كتب الأصول مختلفةٌ في توجهات أصحابها، خلفية أصحابها، مضامينها، طريقة العرض، والقضايا المنهجيّة ليست جديدة بل قديمة، وقد اختلف فيها المؤلفون قديما، والتّرجيح فيها لا بدّ أن يسبقه التصور، وتصحيح التّصور يسبقه بيان هذه المناهج.
    إنه بمجرد ذكر منهج البحث في علم أصول الفقه، يتبادر إلى ذهننا التّقسيم الذي كان أشهر من صرّح به ابن خلدون رحمه الله –وقد سُبق إلى ذلك ، حيث قسم الأصوليّين بعد الشّافعي إلى فقهاء وخصّ الفقهاء بالحنفية، ومنهج متكلمين ثمَّ استدرك في الأخير وقال: (من الحنفية من أراد الجمع بين طريقة الفقهاء وبين المتكلمين، فجمع بين كتابي البزدوي الحنفي والإحكام للآمدي المتكلم) هذا التّقسيم فيه نظر، يتضح ذلك بالنّظر في مؤلفات الأصوليين عبر المراحل التاريخية للعلم ورصد التّحولات المنهجية التي حدثت، كيف بدأ العلم؟ كيف نمى؟ كيف تطوّر؟ ثمَّ كيف انحدر؟
   فنقول إن كلام ابن خلدون رحمه الله صحيح لكن في عصره، حيث كان هذا هو الواقع أصوليون حنفية ثبتوا على الأصول القديمة، وعلى الانتصار للمذهب والارتباط بين الأصول والفروع، في مقابل الأكثريّة من المالكية والشّافعية والحنابلة اختاروا اتجاه المتكلمين حيث أصبحت كتبهم خالية من الانتصار للمذهب، وليس فيها صبغة مذهبيّة، خالية من الفروع الفقهية، صارت كتبهم متصفة بالتجريد تحوي مسائل نظرية بعيدة عن الفقه وتناقش بحياديّة بعيداً عن الانتماء المذهبي.
قلت: لكي نتأكد من صحّة هذا التّقسيم ( تقسيم ابن خلدون رحمه الله) ننظم مراحل التي مر بها علم أصول الفقه إلى أربعة مراحل:
1.    مرحلة التّأسيس: وتنتهي بالإمام الشّافعي رحمه الله.
2.    مرحلة الاكتمال: وتنتهي مع نهاية القرن الرّابع.
3.    مرحلة التّوسع: مع التوسع في المحتوى مع نوع من الانحدار المنهجي وتنتهي في منتصف القرن السّابع.
4.    مرحلة الانحطاط: وتمتد إلى عصر النّهضة الحديثة حيث ظهرت دعوات التّجديد وتم الشّروع في التّجديد في علم أصول الفقه مع المؤلفات الأولى مع الخضري وغيره من الأعلام.
مرحلة التّأسيس قلت تنتهي بالشّافعي ولا تبدأ بالشّافعي، لأنّ الشّافعي لم يخترع علماً كما يظن كثير من الناس، فهو واضع العلم مجازا، لأنه واضع الكتب وليس واضع العلم، ولا بدّ أن نفرق بين العلم والمؤلفات فيه، العلم قديم موجود من عصر أصحاب النّبي  فإن الصّحابة قد استفادوه من توجيهات النّبي  القولية والفعلية ومن معايشة تنزيل نصوص القرآن، ولا يوجد اجتهاد من غير أصول الفقه، وقد أفتى الصّحابة لما كانوا أصوليّين، أفتى التّابعون لما كانوا أصوليّين.
فعلم أصول الفقه كان موجوداً وكانت مسائله تدرس وتطرح في حلق العلم، وعدم وجود التأليف لا يعني عدم وجود العلم، كالحديث النّبوي، الذي كان في الصّدور وكان يحفظ ويملى، كذلك علم الأصول كان موجوداً في حِلق العلم، بعض الحداثيّين يطعن في العلم ويقول الشّافعي وضع الأصول التي تحكم عقولنا اليوم ، والشّافعي لم يضع أصولا من عنده، وإنما أخرجها إلى الوجود، ودونها لكي يبقى.
من الدّلائل التي تدلّ على أن مسائل الأصول كانت مطروحة قبل الشافعي رحمه الله  أنه ذكر خلافاً في مسائل أصوليّة دقيقة جداً، عندما تكلم عن السّنة المستقلة في التّشريع أو الزائدة عما ما في القرآن ذكر ثلاث أقوال:
1.قيل هي وحي؟ 2. وقيل هي اجتهاد؟ 3.وقيل هي إلهام؟ والمختلفون لا شك أنهم شيوخه الذين درس عندهم.
عندما تعرض لمفهوم الموافقة ذكر الخلاف، هل دلالته لفظيّة؟ أم قياسيّة؟ ثمَّ رجّح أن دلالته قياسيّة.
وردّ ردّاً عنيفاً عمّن يثبت المعرب في القرآن الكريم، إذاً هذه المسائل الثلاثة كانت مطروحة قبله.
   مرحلة التّأسيس تنتهي بتأليف الشّافعي للرّسالة لأنَّ بعده تأتي مرحلة الاكتمال، لأنَّ الرّسالة مرجعاً لجميع العلماء، ولكن كل مذهبٍ كانت له آراء تخالف بعض ما فيها، فالمالكية لديهم وجهة نظر في بعض القضايا، الحنفية عندهم وجهة نظر مخالف في بعض القضايا، ولما نشأ المذهب الحنبلي فيما بعد قالوا: لا بدّ أن نبرز ما يميزنا في باب أصول الفقه، فظهرت المؤلفات الأولى لإبراز الأئمة المجتهدين، فأخذ الحنفية هيكل الرسالة وخطّتها، ومسائلها ثمَّ بحثوا عن آراء أئمتهم فيها .
   هنا لجأوا إلى تخريج الأصول من الفروع ضرورةً، لأنَّ أبا حنيفة وأبا يوسف لم يؤلفوا في أصول الفقه، فاستنبطوا آراءهم في مسائل الأمر والعموم والإجماع والقياس من الاجتهادات التّطبيقية في الفقه، ثمَّ بعد ذلك المتعصب سيقول هذا هو الصّحيح، والمنصف منهم سيعرضها على الأدلّة.
  وكذلك المالكية سلكوا الطّريق نفسه ، ومن الكتب التي وصلتنا من ذلك العصر، مقدمة في الأصول لابن القصار وهي مقدمة لكتابه الكبير في علم الخلاف (عيون الأدلّة) هذه المقدمة الأصوليّة وثَّق فيها أصول الإمام مالك، من الفروع، إذ نجده يقول : وعليه تدلّ المسألة الفقه الفلانية أو عليه تدلّ مسائلُه، وهذا يبين أن تخريج الأصول من الفروع ليس خاصّاً بالحنفية وقد انهجه المالكية وكذلك الحنابلة ومن مؤلفاتهم في هذا العصر كتاب لم يصل إلينا ألفه أبو الحسن التّميمي المتوفي سنة 370، وقد نقل منه القاضي أبو يعلى في عدة مواضع من العدّة، وقد ذكر في موضع أن أبا الحسن خرج رأيا للإمام أحمد أنّه لا يرى مفهوم المخالفة حجة، بمعنى أنه خرّجه من الفروع.
  وقد سميت هذه المرحلة مرحلة الاكتمال، لأنَّ المؤلفات التي ألفت فيها الغالب، حسب ما وصلنا منها اكملت بناء أصول بقية الأئمة ، وأكملت بناء أصول الشافعي أيضا ، وذلك حسب ما وصلنا ومنها أو من الكتب الضائعة التي نقلت لنا نصوص منها بالواسطة ، نحو موسوعة البحر المحيط للزركشي الذي مكننا من الوقوف على نصوص كثيرة من مؤلفات ضائعة تبين أنَّ الشافعية أيضا استعملوا تخريج الأصول من الفروع، لأنَّ الشّافعي لم ينصّ على كل القضايا الأصوليّة الجزئيّة في كتابه الرّسالة، نحو شرع من قبلنا والقراءة الشّاذة وغير ذلك من المسائل، التي تمكن الشافعية من معرفة رأي الشافعي منها من خلال استدلالاته في كتاب الأم.
   وفي الأخير يتضح لنا أن هذه المرحلة لا يصدق عليها تقسيم ابن خلدون، وخاصّةً حصره لمنهج الفقهاء في الحنفية.
وفي هذا العصر ألف كثير من المتكلمين في أصول الفقه، لكن مؤلفاتهم كانت معدودة ، نحو أبو عبد الله البصري المعتزلي الذي له مؤلف في الأصول، وألف الأشعري في القياس، وفي العموم والخصوص، وألف الماتريدي (مآخذ الشّرائع) كتاب مشهور ونقل منه علاء الدّين السّمرقندي في مواضع كثيرة جداً في كتابه (ميزان الأصول).
وهنا نطرح سؤالا لماذا ألف الفقهاء والمتكلمون في أصول الفقه بعد الشّافعي؟
فأما الفقهاء فألفوا لإبراز أصول أئمتهم، ومع شيوع التّقليد وضعوا الأصول لنّصرة المذهب، والمجتهد المطلق منهم قد يكون موضوعيا في دراسة المسائل فيجتهد فيها على مقتضى نظره وخاصةً أن بعض المسائل الأصوليّة يخرّج فيها للإمام رأيان، وهذا موجود عند المالكية والشافعية والحنابلة، حيث يضطر الأصوليّ للترجيح بين الرّأيين المخرجين، وفتح الباب لتخريج الأصول من الفروع يفتح الباب للاختلاف في الأصول المخرجة وهذا يدفعهم للنظر والاجتهاد.
وأما المتكلمون فألفوا لغرض آخر يغفل عنه كثير من الناس، وهو نصرة المدارس الكلامية التي ينتسبون إليها، لذلك لا نجدهم ينصرون المذهب الفقهية التي ينتسبون إليها، ولا يهتمون حتى بتوثيق المذهب.
  مثلا لماذا ألف الأشعري في العموم؟ ألف لأنَّ المعتزلة أكثروا الاستدلال في العمومات في مسألة حكم أصحاب الكبائر، فألف ليثبت أنّ العموم لا صيغة له، وأنه لا يحتج به إلا إذا جاء ما يؤيده، وكان ذلك ردّة فعل ضدّ المعتزلة.
   ولماذا يقرر المعتزلة قطعية العموم في أصول الفقه؟ مع أنَّ العموم عند الفقهاء دلالته ظنيّة الجواب لأنهم يرفضون تقديم الخصوص إذا تعارض مع العموم، ويقدمون العمومات التي تضمنت الوعيد رغم ورود بعضها في سياقات متعلقة بالكفار فيدخلون فيها أصحاب الكبائر، فالمعتزلة يقولون بقطعية العموم نصرة لعقيدتهم والأشعري يعطل العموم نصرة لعقيدته، إذاً المتكلمون ألفوا في الأصول من أجل نصرة الآراء الكلامية.
عصر التوسع
   إن المؤلفات الأصولية الكلامية إلى نهاية القرن الرابع كانت قليلة جداً، لكن بعد ظهور القاضي عبد الجبار والقاضي الباقلاني توسعت المؤلفات في أصول الفقه على المنهج الكلامي، وكتاب التقريب والإرشاد للباقلاني رحمه الله الذي طبعت منه أجزاء قد نص في المقدمات أنه لا ينبغي نصرة أصول الفقه على مذهب فقيه من الفقهاء، وأنَّ أصول الفقه قطعية والفقه ظني، لذلك سنجد أكثر الناس تأثر بالباقلاني المالكي الغزالي وهو شافعي، وسيؤسّسان مدرسة الواقفة، وسنجد بعدهما ابن الحاجب المالكي يختصر كتاب الآمدي الشّافعي، والذي جمعهم هي مدرسة الأشعرية، وإن خالفت بينهم المذاهب الفقهية، لو كانوا في العصر الأوّل لما كان هذا التّوافق وهذا الاهتمام بالكتب وهذه النُصرة.
    وفي هذا العصر وجد علاء الدّين السّمر قندي صاحب (ميزان الأصول) ، الذي لما طبع كتابه في عصرنا، واطلع عليه الباحثون صححوا بعض التصورات ، مثله مثل لمقدمة ابن القصار التي وجدناه فيها يخرج أصول مالك من الفروع فقلنا هذه الطريقة لست خاصة بالحنفية إذن، إذ لما طُبع (ميزان الأصول) للسّمرقندي وجدناه في المقدمة يقسم الحنفية إلى من سلك طريقة المتكلمين ومن سلك طريقة الفقهاء، وصرح بسلوك طرق المتكلمين، إذاً حتى الحنفية كان فيهم متكلمون.
    وفي هذا العصر عصر التوسع ظهرت سمات جديدة مختلفة للمؤلفات الأصولية ونخص بالذكر سمات ما ألف على طريقة المتكلمين.
1.الاستقلالية التي تؤدي إلى عدم الاعتناء بتوثيق المذهب،
فإذا قرأنا كتاب الباقلاني لم نشعر بانتسابه إلى أي مذهبٍ، ونجده يقول مذهب الصّحابي ليس بحجة، والإجماع السّكوتي ليس بحجة، والمصلحة المرسلة ليست بحجة، وعمل أهل المدينة ليس بحجة، وهذه الأشياء قد تميّز بها المالكية هو يقرّر أنّها لا ترقى أن تكون أصولاً، وهو أصلاً لا يذكر الإمام مالك في كتابه ولا يعتني بتوثيق آرائه. وهذه هي الاستقلالية.
2-التّجريد والانفصال عن الفروع
 وقد صاحب الاستقلالية التّجريد والانفصال عن الفروع، قد نصَّ كثير منهم، كالجويني أن واجب الأصولي أن يصحّح الفرع على الأصل، لا الأصل على الفرع، بمعنى أن تكون موضوعياً في دراسة أصول الفقه لتجعلها ميزاناً وحكماً على الفروع، طبعاً هذا كلام صحيح، لكن استقلالية المتكلمين كان مفرطاً فيها لحدّ الخروج عن المذاهب الأربعة جميعها.
3-إدخال المسائل الكلامية في علم أصول الفقه
   ولما ألف المتكلمون بغرض الانتصار للآراء الكلامية سحبوا معهم مقدمات كلامية، ومسائل كلامية، وبنوا ترجيحات في أصول الفقه بناء على آرائهم الكلامية ، وهذا شيء يقر به أبو الحسين البصري في المعتمد، والغزالي في المستصفى، إذاً ظهرت سمة أخرى وهي إدخال المسائل الكلامية في علم أصول الفقه، وبناء التّرجيحات على المسائل الكلامية، ومثال هذا البناء أن فقهاء المذاهب الأربعة جمهورهم يقول إن الأمر يفيد الوجوب، لكن الأشاعرة الذين تبعوا الباقلاني يقولون بالوقف، لماذا الوقف؟ وقد ينوا هذا الترجيح على مسألة كلامية، وهي أنّ الأمر لا صيغة له، لأن الأمر من الكلام ، والكلام معنى قائم بالنفس والصيغة من عوارض الألفاظ.
    وهناك كتب ألفت هي هذه المرحلة حافظت على خصائص طريقة الفقهاء، ونعرف ذلك من خلال المسائل المطروحة فيها ومن مقدماتها، فعندما نجد الشّيرازي في اللمع يقول التمس مني بعض أصحابنا أن أُؤلف كتاباً في المذهب، نعرف أنه ألف في أصول مذهب الشافعي، والأمر نفسه في الإشارة للباجي فالكتاب كله في توثيق مذهب مالك والمالكية، وهو متأثر بشيخه الشّيرازي ولكن صبغ كتابه بصبغة مالكية، وأيضا في كتابه (إحكام الفصول) نص على تحقيق المذهب.
    وكذلك القاضي أبو يعلى في كتابه العدّة دائما يقول على مذهب أصحابنا، على أصول أصحابنا، أي لم يتنصل من المذهب وتوثيق المذهب وكتابه مليء بتخريج الأصول من الفروع.
    في هذا العصر يمكن أن نقول كان هناك نوع تكافؤ بين مدرسة الفقهاء ومدرسة المتكلمين.
عصر الانحطاط
    أما العصر الأخير الذي نسميه عصر الانحطاط فقد حدّه محمد الخضري بك بسقوط بغداد منتصف القرن السابع، ويعبر المفكر الجزائري مالك بن نبي عن عصور الانحطاط بعصر ما بعد الموحدين، وتاريخ سقوط المتوحدين قريب من تاريخ سقوط بغداد وهذا التقدير هو أمرٌ تقريبي، لأنّ التّحولات في العلوم لا تأتي فجأة، ولكن تأتي بمؤثرات، وهناك من يصمد وهناك من يستسلم بسرعة وهكذا، ولكن لا مناص من وضع حدٍّ تقريبي.
وأما تحديد نهاية عصر الاكتمال بنهاية القرن الرابع فقد أخذتها من كلام الطاهر بن عاشور عندما يقول: علم أصول الفقه بعد القرن الرابع وقف، لأن الذينَ جاؤوا من بعده إنما نصروا ما كان قبله، ولم يأتوا بجديد كما يقول رحمه الله تعالى.
    في عصر الانحطاط ظهرت خاصيّة أخرى متعلقة بالشكل، حيث غابت المؤلفات المبتكرة ، وكانت المؤلفات فيه تابعة للعصر السابق، أي شروح للمستصفى، شرح مختصر المستصفى، شروح للمحصول، شروح للمنهاج الذي هو مختصر من المحصول، شروح للتّنقيح الذي هو مختصر من المحصول، شروح مختصر ابن الحاجب الذي هو مختصر من الإحكام، فظهرت ظاهرت الاختصار وتلتها ظاهرة الشّروح أو تزامنت معها، وهذا نوع من الجمود ودنوا الهمة.
  ويلاحظ في هذا العصر سيطرة كتب المتكلمين على الدّرس الأصولي، حيث عكف الناس على مختصر ابن الحاجب المأخوذ من الإحكام للآمدي وعلى منهاج البيضاوي المأخوذ من المحصول، وأصبحت هذه كتب كتبا مدرسية تدرس شرقاً وغرباً عند المالكية والشّافعية والحنابلة بالنسبة لمختصر ابن الحاجب، والمنهاج عند الشافعية، فأدى ذلك إلى تغلب المنهج الكلامي.
    وإذا بحثت في هذا العصر عن كتب توثق المذهب المالكي والشافعي وتنصره ستجد ذلك عزيزاً. ستجد مفتاح الوصول للتلمساني المالكي والبحر المحيط للزركشي الشافعي والتحبير للمرداوي الحنبلي، وأما الصّبغة العامة للمؤلفات فكانت صبغة كلامية.
     وإذا امتحنا تقسيم ابن خلدون بعصر الانحطاط نجده صحيحاً لأنَّ الحنفية عكفوا على مختصر البزدوي والنّسفي وهذه كتب قديمة في المذهب الحنفي، فالواقع في عصره يؤكد الثنائية الحنفية في مقابل المتكلمين، لكن تعميمها لكل العصور خطأ فادح لأنك عندما تحصر المالكي في عصرنا مثلا بين المنهجين ، فإنه سيتصور أنه ملزم بالمنهج الكلامي لأنه ليس حنفيا وهذا خطأ، لأنه ثمة طريقة خاصة بالمالكية وهي مختلفة تماما عن طريقة المتكلمين يمكنه أن يسلكها.
    ومن الأخطاء التي ظهرت جراء هذا التعميم أن بعضهم صار يصنّف الشافعي في المتكلمين، وموقف الشّافعي من علم الكلام معروف ورسالة مليئة بالفروع الفقهية ولا تجد فيها لا مسائل الكلام ولا مناهج أهله فكيف يصنّف مع المتكلمين؟
    مما يدفعنا إلى تصحيح النّظر نفي تعميم تقسيم ابن خلدون ما نقرأه في مقدمة قواطع الأدلّة لابن السّمعاني الشّافعي، من هجوم عنيف على المتكلمين، فهل يصح بعد ذلك تصنيف كتاب ابن السمعاني فيما صنف على طريقة المتكلمين؟ ثم إننا نجده في ثنايا الكتاب يلوم الجويني على مخالفة المذهب متابعة للمتكلمين، ويقول: من جبن أن ينصر المذهب فيسعه السكوت ولا ينصر على طريقة المتكلمين، ونجده في آخر الكتاب يرجح المذهب الشافعي ويقول بوجوب تقليده؟ فأين هو من مبادئ المتكلمين وخصائص مدرستهم.
     من خلال هذا العرض التاريخي تتجلى لنا خصائص مدرسة الفقهاء وخصائص مدرسة المتكلمين، وهذه خصائص منهجية نستطيع أن نلخصها فنقول:
1-الغرض من التّأليف مهم، فإذا كان غرض الفقيه نصرة المذهب، وتأصيله، فحتما سيكون مضمون كتابه مختلفاً عن مضمون كتاب المتكلم الذي غرضه نصرة المذهب الكلامي معتزليا او أشعريا أو ماتريديا.
 2- ويتبع هذا الغرض عند الفقهاء اعتماد طريقة بناء الأصول على الفروع التي كثيرا من تساق مساق العيب وليس ذلك بمسلم بإطلاق، لأن الأمر لو وقف حد توثيق المذهب فلا لوم عليهم ولا نقصَ في طريقتهم، بل هذا طريقٌ علمي شرطه الاستقراء والتّتبع فلا نكتفي بفرعٍ أو فرعين، بل نبذل الجهد في تتبع أكثر عدد ممكن من الفروع، حتى يحصل عندنا الظّن أنَّ أصل الإمام كذا وكذا، أما جعل الفرع دليلاً على صحة الأصل فهذا فيه نظر، لأن أقوال الأئمة ليست أدلّة.
   ثم إن ما ينكره المتكلمون على الفقهاء قد وقعوا في مثله، لأنهم بنوا كثير من التّرجيحات الأصولية على خلفيتهم العقدية، بمعنى أن الفقيه يرجح بناء على خلفيته الفقهية والمتكلم يرجح بناء على خلفيته العقدية، وكلاهما واقع في المحذور نفسه وهو التقليد ، وإلا فما الذي يجعلو الأشعري يكابر ويقول افعل ليست صيغة أمر ويصرح بتخطئة سيبويه والخليل ويقول تلك آراؤهم وليسوا كل العرب، وإلى غير ذلك إلى ما هو معروف، وهذا يردنا إلى غرض التأليف.
 3- وأما من حيث المضمون والموضوعات المطروحة، فالفقيه لن يطرح مواضع كلامية، بل سيطرح ما يفيده في كلامه في الفقه أو علم الخلاف الذي يشبه علم الفقه المقارن في عصرنا، ويختلف عنه في الموضوعية المفروضة في عصرنا ن ولم يلتزم بها أهل علم الخلاف فلا ينقدنا أدلة مذهبهم والغالب عليهم هو نصرة المذهب، فالمقدمة لابن القصار مثلا، والفصول للجصاص الذي هو مقدمة لكتاب أحكام القرآن تفصيل لأصول المذهب التي سيستعملها في نصرة المذهب.
فلن نجد عندهم مسائل كلامية أو فرضية بخلاف كتب المتكلمين فقد قال الغزالي لما كان غالب علمهم وغالب اهتمامهم علم الكلام أدخلوا مسائل كلامية بحتة ومحضة في علم الأصول.
3-مما يتبع ما سبق طبيعة الاستدلالات، ففي كتب الفقهاء نجد الاستدلال بالكتاب والسنة، والآثار واللغة العربية، وأما بالنسبة للمتكلمين فنجد إضافة إلى ذلك ما يسمى الأدلة العقلية المستعملة في علم الكلام نحو السّبر والتّقسيم، ودلالة اللزوم، وإنتاج المقدمات للنتائج، والاستدلال بالشّاهد على الغائب.
4- وتبع ذلك التّرجيحات، فقد تأسّس علم أصول الفقه في وقت بناء المذاهب، لذلك التّرجيحات في غالبها كانت في نصرة المذهب، ولكن بالنسبة للمتكلمين فالأمر كان على العكس من ذلك، فترجيحاتهم كانت متميزة بالاستقلالية. فالواقفة الذين تبعوا الباقلاني كان عندهم نوع من التّعصب لمذهب الأشعري، وأما الجويني رحمه الله فقد كانت له آراء خالف فيها الأشعرية، ي دقائق الكلام أو قضايا أصول الفقه، وكأن الجويني أسّس مدرسةً آخرى في علم أصول الفقه متفرعةً عن المدرسة الأشعرية، مستقلة عن الكل نتج عنها كثرة المذاهب واحداث الأقوال الجديدة في أصول الفقه، لذلك صرنا ننظر في التّبصرة للشيرازي مثلاً فنجد في المسألة قولين، فإذا نزلنا إلى البحر المحيط وجدنا عشرة أقوال وربما أكثر ، وهذا نتيجة للاستقلالية المفرط فيها.
5- ومما يتبع ما سبق المصطلحات، فالفقيه ستكون لغته لغة الفقهاء، والمتكلم سيستعمل مصطلحات كلامية، وسيستعمل مصطلحات منطقية وقد كانت البوادر الأولى لذلك مع الجويني ثمَّ الغزالي ثم ترسيم ذلك مع الرّازي والآمدي، وأصبح علم المنطق ليس من مقدمات الأصول كما كان مع الغزالي، في المستصفى، بل أصبح مع الرّازي أهم دليل المستعمل، ومع الآمدي أصبح القياس الأرسطي دليلاً من الأدلة الشرعية، ومع ابن الحاجب، صارت المقدمة المنطقية جزء من علم الأصول.
بعد هذا العرض أظن أنه قد تبين أن عدم تمييز المناهج الأصولية بخصائصها له أثر كبير في البحوث المعاصرة.
موضوع علم أصول الفقه؟
   المقصود بالنظر في هذه القضية تعيين الموضوع الأساسي للعلم وتمييز الأمور التّبعية، ثمَّ بعد ذلك تعيين الأمور التي ليست من أصول الفقه، لأنّ ما يكون بين دفتي أي كتاب فيه ما هو أساسي وفيه مقدمات وأمور توابع،  ولا بدّ أن نميّز ما هو أساسي وما هو إضافي من أجل حسن الاستفادة، وهناك الدّخيل أيضا الذي لم يكن موجوداً في عصر ثمَّ أُدخل في عصر آخر.
   إن البحث في موضوع العلم مهم جداً، لأننا في عصرنا نَدرس ونُدرس الكتب بكل ما حوت، الصلب والمُلح والتوابع والدخيل ، ولا يمكننا واقعيا أن نميّز بين الغثِّ والثّمين، وبين المفيدِ وغير المفيد، حتى نقرأ ما لا يفيد، إلا إذا وجدنا شيخاً ومرشداً يقول مثلا هذه المسألة الخلاف فيها لفظي، وهذه غير منتجة، وهذه لا ينبني عليها فرع، ولكن علم اليقين لا يحصل إلا بالممارسة.
   من فائدة الخوض في موضوع العلم أن نحدد المسائل الجديرة بالبحث في عصرنا؟ وما هي الأشياء التي تُؤخر؟
   إذا البحث في علم أصول الفقه لابد أن يتركز في موضوعاته الأساسية لا في المُلح ولا في الإضافات لا في المقدمات والتتمات، لا نبحث في الدخيل، ولا نشك في وجود الدخيل فإن الغزالي قد قال في مقدمة المستصفى: إذا ألف في أصول الفقه نحوي فسوف يستصحب معه مسائل النّحو، وإذا ألف فقيهٌ سيستصحبُ معه مسائل الفقه، وإذا ألف متكلم سيستصحب معه علم الكلام، وكل ذلك ليس من العلم في شيء.
    ولما هو كان متأثراً بالفلسفة أدخل المنطق فانتقده ابن رشد الفيلسوف، وقال: ينبغي لكل علم أن يدرس في مكانه، فالمنطق درس في كتبه ومسائل النحو ومعاني الحروف تدرس في كتب النحو والعربية ، والقواعد الفقهية التي أقحمها الحنفية لها بابُها في كتب الفقه، كالعوارض الأهلية مثلاً، فتكليف المجنون والسّكران والصّبي هذه مسائل فقهية تدرّس في كتب الفقه لأنها أحكام فقهية لا ينبني عليها استنباط وليست من أصول الفقه.
موضوع العلم:
    قد اختلف الأصوليون في تحديد موضوع علم أصول الفقه، وهذا الاختلاف قد نجده في تعريفاتهم للعلم، وهناك من طرقَ هذه المسألة صراحة.
   باختصار نقول: هناك من عرف علم أصول الفقه بأنه: أدلّة الفقه، ويقصد الأدلّة الإجمالية ويدخل فيها الأدلة والدّلالات.
   وهناك من أدخل الأحكام الشّرعية وهم جمهور الحنفية، أدخلوا مبحث الأحكام الشّرعية وخاصة مسائل المحكوم عليه، والمحكوم به، وهي مسائل التّكليف والأهلية، والتّفصيل فيها، وعندما نتأمل هذه القضايا نجد أكثرها مسائل فقهية.
   وقد نتج عن هذا أخطاء كمن عنون أطروحته بالرّخصة الشّرعية وآثرها في الأحكام الفقهية، لأن الرّخصة في حد ذاتها حكم، والرّخصة نتيجة وثمرة، والذي يكون له أثر هو الدليل أو القاعدة الاستدلالية، فيصح أن تقول الأمر وأثره في الفقه، فالأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الاستحباب، ويدلّ على الفور، ويدلّ على التّكرار، فلا شك أن له أثرا ، وكذلك خبر الواحد له أثره، والقياس له أثر، لكن الحكم شرعي هو في نفسه أثر ولا يمكن أن يفيد . يمكن أن يصحح هذا العنوان فيقال الرّخصة الشّرعية وتطبيقاتُها في مذهب كذا. إذن هذا رأي ثان تبنى إدخال الأحكام الشّرعية.
   وهناك رأي ثالث لبعض المتكلمين حيث دافع وبقوّة على إدخال أحكام الاجتهاد، فلما كان العلم يعرف بأنه معرفة الدليل الشّرعي وطريقة الاستفادة منه، أضيفت كلمة وحال المستفيد، وأحكام الاجتهاد، موجودة بين دفتي الكتاب، لكن هل الخلاف هي أساسية أم تابعة وتتمات؟
   الصّواب في كل هذا من غير إطالة أن جوهر علم أصول الفقه هو الأدلّة الشّرعية، والدّلالات جزء منها، والأحكام الشّرعية بعضهم أدخلها في باب الأمر والنّهي، فكل ما يتعلق بالحكم الشّرعي التّكليفي على وجه الخصوص موجود في كتاب الأمر، ترجع إلى كتب الشّافعية قبل الغزالي وحتى بعده كمحصول الرازي تجد مسائل الأحكام الشرعية، ضمن أبواب الأمر.
إذا لدينا ثلاث آراء في موضوع أصول الفقه:
1.    الدليل + الدلالات.
2.    الأدلة + الأحكام.
3.    الأدلة + الاجتهاد.
بعد أن بنى الغزالي رحمه الله تعالى كتابه المستصفى على الأقطاب الأربعة: أحكام، أدلة، دلالات، اجتهاد.
كثير من المتأخرين قال إن موضوع أصول الفقه هذه المسائل الأربعة.
   هؤلاء الأصوليون مع اختلافهم متفقون على وجود موضوع أساسي وموضوع تكميلي أو الأصيل والدّخيل، لأنَّ هذه الأشياء إمّا أمور فقهية وإمّا أمور فعلاً هي أصولية، لكن هناك أشياء لا يمكن أن تدخل في معنى أصول الفقه ولا في معنى الفقه، فالمسائل التي ليست منتجةً في الفقه، لا يمكن أن نعتبرها أصيلة فنعيد دراستها في عصرنا هذا، الآن يأتي إنسان يقول أريد أن ادرس في علم أصول الفقه أضع أطروحة في التّحسين والتّقبيح، فنقول له أن تدرسها في علم الكلام فأمر مقبول، لأنها مسألة كلامية، لكن في تخصّص أصول الفقه لا يمكن أن تدرس هذه المسألة لأنها دخيلة، لا تندرج في موضوعه، وليس كل ما وجد بين دفتي كتاب أصولي وخاصّة كتب المتأخرين فهو من أصول الفقه، هناك مسائل كلامية كثيرة وليس فقط التّحسين والتّقبيح، نحو مسألة شكر المنعم، ومسألة خطاب المعدوم التي حيرت المتكلمين وهي مبنية على القول بأن الكلام ليس إلا النفسي القديم.
   توجد في أصول الفقه بعض المسائل الفرضية فلم ينفرد الفقهاء بالفقه الافتراضي فقد شاركهم المتكلمون في الأصول نحو مسألة إجماع العوام عند خلو العصر من مجتهد، ومسألة الإجماع في زمان النّبي  ن ومسألة النهي عن شيءٍ لا بعينه، مسألة حكم اللفظ قبل أن يستعمل في الحقيقة والمجاز، وهل في الكلام لفظ غير الحقيقة والمجاز؟ في أشياء كثيرة حتى عندما تريد أن تتصورها يصعب عليك ذلك. فمثل هذه المسائل الفرضية تجتنب ولا يبحث فيها.
    وكذلك المسائل اللغوية، نحو مبدأ اللغات، وتقسيم الكلام، ومعاني الحروف، وهذه الأخيرة ممكن أن يكون لها أثر في الفقه، لكن ليس كل ما أفاد في الفقه هو من أصول الفقه، وإلا فليكن علم الحساب من الفقه كما قال الشاطبي، أما مسائل الأمر والنهي والعموم والخصوص ونحوها فهي مسائل لغوية أصيلة في العلم ولا مكان لدراستها إلا علم أصول الفقه وأما المسائل الأخرى فتدرس في فنها.
  وكذلك المسائل الحديثية البحتة، نحو مسائل الرّواية : السماع والإجازة والوجادة، هذه مسائل تترك للمحدثين، ومثلها مسائل الجرح والتّعديل والجرح يقدم على التعديل، واشتراط أن يكون الجرح مفسرا، فهذه مسائل حديثية ليست من شأن الأصوليين، ولا يُبنى عليها استدلال، وإنما تفيد في ثبوت الحديث، المحدثون هم من يبحث في الصّحة والضّعف، وإنما تبدأ مهمة الفقيه بعد ثبوت الصّحة وهي متعلقة بالاستدلال ، والاستدلال ليست له تعلق بالجرح والتّعديل، نعم هناك مسائل مشتركة، كثبوت المرسل وحجية المرسل، فتبقى مشتركة بين العلمين، لكن المسائل الأخرى لا ندرسها في علم أصول الفقه، ندرسها في علم الحديث وهي مهمةٌ في علم الحديث.
  وهناك بعض المسائل متعلقة بالجدل، نحو قوادح القياس مذكورة في كتب الأصول، وعلم الجدل هو علم آخر غير أصول الفقه قد يعرف بأنه علم أصول خاص، وكتب الجدل غير كتب الأصول، نحو (المعونة في الجدل) للشيرازي، (المنهاج في ترتيب الحجاج) للباجي فهذه كتب الجدل، وقوادح القياس منها استعيرت.
  وقد أدخل أبو يعلى قوادح الاستدلال بالسّنة أيضا، وأدخل ابن عقيل آداب الجدل، هذه الأشياء ليست من أصول الفقه، ولا تدخل في موضوعه بأي حال من الأحوال، هذا فضلاً عن المسائل المنطقية جلُّ المسائل تجدها في المقدمات المختصرة، نحو مختصر ابن الحاجب فهذه الموضوعات كذلك لا ينبغي أن تكون موضوعات بحث، وعناوين مسائل في أصول الفقه، فإذا أردنا أن نكون موفقين في بحوثنا وفي منهج بحثنا وفي اختياراتنا، فعلينا أن نختار ما هو أصيل ومنتج في الفقه، ومفيد في الاستدلال وفي الاستنباط.

تم قراءة المقال 182 مرة