لثلاثاء 13 جمادة الأول 1444

منهج البحث في أصول الفقه ...الحلقة الثالثة ...منهج تحرير المذاهب الأصوليّة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

منهج البحث في أصول الفقه ...الحلقة الثالثة ...منهج تحرير المذاهب الأصوليّة

محاضرة ألقيت عبر الزوم في أكاديمية مفكرون بتاريخ 21 أكتوبر 2022
هناك مسائل أصولية متفق عليها، ولا جدال فيها فهذه تقريرها من أسهل ما يكون ننقل فيها النّصوص الشّرعية ونصوص العلماء، ولكن هناك مسائل يُنقل فيها الخلاف، قد يكونُ الخلاف قوياً قد يكون ضعيفاً، قد يكون متوهماً، المهم أن كثير من المسائل الأصولية التي تحتاج إلى بحثٍ في عصرنا وإلى دراسةٍ هي هذه المسائل التي وقع فيها الاختلاف، وإن من ضروريات البحث الأصولي في زماننا العناية بالخلاف بين الأصوليين.
أوّل من ألف في أصول الفقه الإمام الشّافعي وقد اعتنى بذكر الخلاف، رغم أنه أول من ألف إلا أنه ناقش قضايا خلافية في (الرّسالة)، وناقش في كتابه (جِماع العلم) جماعةً من المتكلمين في بعض الآراء التي تبنوها في زمانه تجاه الإجماع وخبر الواحد والقياس، ومن طريقة الإمام الشّافعي في الرّسالة في المسائل أن يقول: فإن قيل، وإن قلتَ، وبعض الأحيان يحكي حوارات أو أجزاء من حوارات جرت بينه وبين مخالفه أو بينه وبين محاوره، وقد علمنا شيئاً مهم جداً في آخر الرسالة عندما قال عبارة جميلةً جداً ابتدأها بقوله:" ولا يمتنع أحدنا من أن يسمع رأي مخالفه"، لأن بسماعه لهذا المخالف قد يضيف لعلمه شيئاً، فقد يزداد يقيناً لما هو عليه، لأنّ الاطلاع على آراء المخالفين إذا اطلعت عليها ورأيت ضعفها قد تتأكد من صحة مذهبك، وقد تجد في مذهب المخالف جانباً من الصواب فتهذب مذهبك، وقد يتضح لك الحقّ، والواجب على كل منصفٍ وعلى كل باحثٍ موضوعي أن يرجع إلى الحقّ حيث وجده، والبحث الموضوعي في عصرنا هذا مبنيٌ على المقارنة والنّظر في أدلّة مختلف المذاهب.
إذن ذكر المذاهب وتحريرها والنّظر في أدلّة المخالفين أو المختلفين أمرٌ ضروريٌ في البحث الأصولي.
 لكن السّؤال الذي نطرح ما هي ضوابط ذكر المذاهب؟
هناك الضوابط يمكن أن نستشفها من صنيع الأصوليين ابتداءً من الشّافعي، والذين ساروا من بعده على منواله، وكذلك المتكلمون الذين بنوا منهجهم على المقارنة وعلى الخلاف، والمنتسبون إلى المذاهب في كتبهم المختصرة يقتصرون على رأي كالشّيرازي في (اللمع) لكنه ألف (التّبصرة) في الخلاف، والباجي في الإشارة اقتصر على المذهب المالكي، ولكن في (إحكام الفصول) اعتمد طريقة المقارنة، والجصاص الحنفي اعتمد طريقة المقارنة، ومن خلال قراءة كتبهم نحاول أن نستخرج ضوابط ذكر هذه المذاهب وهذه الآراء.
1.    أول ضابط وهو ضرورة استيعاب للأقوال المعتبرة، لأنك بإهمالك لقولٍ من الأقوال تكون قد ضيعت الحقّ، وهذا نقصٌ وهذا عيبٌ موجود وخاصةً عند المتكلمين المتأخرين، حيث أهملوا بعض الآراء التي تبناها بعض الفقهاء المتقدمين، فالاستيعاب ضروري جداً، ولهذا الاستيعاب تقيدات سنذكرها فيما يأتي من ضوابط، فاستيعاب الأقوال إلى درجة ذكر مذاهب اليهود أو مذاهب الفرق أو الأديان الأخرى، هذا خروج عن مقصود المذهب الأصولي، لكن المقصود استيعاب الأقوال المعتبرة، وخاصة أقوال الفقهاء وأئمة المذاهب والأصوليين المحققين.
وإذا كنا نريد أن نجدد الأصول ونحيي الأصول فلا بد أن نؤكد على استيعاب آراء الأئمة المجتهدين ولو بالتّخريج، بخلاف ما درج عليه بعض المتأخرين لا تجد في كتبهم ذكرا لمذهب مالك ولا مذهب الشافعي، وتجد مذهب الشيعة والخوارج، فهذا من إبعاد النجعة وقلب المنهج.
2.    هل نسمي الأصوليين أصحاب هذه المذاهب أو لا نسمي؟ الأصوليون في طرائقهم مختلفون، الشافعي في عصره سلك مسلكاً يكاد ينفرد به، وهو عدم التسمية للمخالف، سواء أكان من الفقهاء أو من المتكلمين، أي أصحاب الآراء المعتبرة أو أصحاب الآراء الشّاذة مرفوضة، وهذا من أدب الشافعي مع العلماء ومن حكمة الشّافعي مع أصحاب الآراء الشّاذة وهو عدم رفع ذكرهم.
الأصوليون بعده منهم من كان متقصداً في ذكر الآراء في ذكر أسماء الرجال مثل الباقلاني، والرازي، ومنهم من كان يكثر من ذكر أصحاب الاختيارات كالآمدي، وأكثر منه الزركشي، والذي ينبغي أن نسلكه هو التوسط، فنحرص على آراء الأئمة الأربعة، إن كانت موجودة منصوصة أو مخرجةً. وأما أتباعهم فإن كان ولا بدّ من ذكرهم فنقتصر على أقدمهم أو محققيهم، أما أمثال أصحاب مختصرات الذي أعادوا ذكر ما هو موجود عند غيرهم فلا فائدة ذكر آرائهم، وكذلك الشراح المتابعين لصاحب المتن . ونجعل المذكورين موزعين على المذاهب، موزعة على المدارس الكلامية، دون توسع كبير ولا فائدة من ذكر رأي واحد فنعدد لأنَّ في بعض الدّراسات نجد هذا يذكر هذا اختيار فلان وفلان وفلان ما فائدة تعداد أربعين علماً كلهم على رأيٍ واحد؟
في بعض الأحيان يكفي أن تقول مذهب الجماهير، والهامش يعتبر عن هؤلاء الجماهير من هم؟ وأين وردت آرائهم، ذكر المصادر في الهامش يبين من هؤلاء أما تعداد الأسماء إذا تجاوزت العشرة أو الخمسة عشر فيكون نوعاً من الافراط في حكاية المذاهب من غير فائدة، لأنّ الأوّل أدلّته هي تقريباً نفس أدلّة الثاني ونفس أدلّة الثالث فعندما نأتي إلى المناقشة سنناقشُ الأدلّة ذاتها من غير زيادة ولا نقصان، إذاً نركز على الأئمة المجتهدين ثمّ الأقدم فالأقدم ونوزع الأشخاص حسب انتماءاتهم.
3.    تجنب توليد المذاهب: الموجود في كتب الأصول في بعض    الأحيان يستغرب منه الباحث، عندما تذهب إلى أقدم كتاب في الخلاف في الأصول (التّبصرة) للشّيرازي تجدُ رأيين أو ثلاثة، عندما تذهب إلى (إرشاد الفحول) للشوكاني أو (البحر المحيط) تجد خمس عشرة مذهباً ما الذي حدث؟ لا شكّ أن هناك مذاهب جديدة محدثة لم تكن موجودة، بل هناك ما يسمى بتوليد المذاهب الموجود عند الرازي كثيرا حيث يقول: يُحتمل أن يكون هذا رأياً، يذكره على أنه احتمال فيأتي الذي بعده فيجعله رأياً، ولا ينسبه إلى أحد، وربما ينسبه إلى قوم، ثم يأتي الزركشي فيثبته ويجعله قولاً، بل الزركشي نفسه في بعض الأحيان يأتي إلى نصٍ واحد لابن عبد البر، أو نص واحد للخطيب ويخرج منه ثلاث احتمالات فيجعلها ثلاثة مذاهب،  والمذاهب المولدة، والتي ربما لا قائل بها، تشوش البحث الأصولي وقد جعلت بعض المتأخرين يشكك في جدوى علم أصول الفقه. كالشيخ الطاهر بن عاشور والذي رأى أن أصول الفقه الذي كان يُبتغى به تحصيل القطع أصبح بعيداً عن القطع، وبعيدا أن يكون هو الميزان؟
المقصود أننا عندما ندرس مسألة في الأصول نطرحها على أساس المذاهب الفقهية، ولا نحدث فيها أقوالا جديدة ، هذا مذهب المحققين والسلف في قضية قول إحداث قولٍ جديد في الفقه، فكذلك لا يجوز إحداث قولٍ جديد في أصول الفقه، لكن بعض الآراء الجديدة لا ينبغي أهمالها لمكانة قائلها ولكثرة من اتبعه كالباقلاني أو الجويني ، ومع ذلك فالميزان الذي توزن به الأقوال لا بد أن يكون واحدا . وإذا قيل لا تقبل الآراء الجديدة التي قيلت قديما فكيف بما يحدث في عصرنا.
4.    كذلك نجتنب الخلاف اللفظي، وهذا قد نتوصل إليه في بداية البحث وقد نتوصل إليه أثناء البحث أو في نهاية البحث، فعند عرضنا لهذه المسألة لا نتعب معنا غيرنا، بمعنى نحن تعبنا ومررنا بمراحل وكنا نظن أن المسألة فيها خلاف ودرسناها وبحثناها وفي النهاية وصلنا إلى نتيجة بأنَّ الخلاف لفظي. فإذا كنا نحن قد فُتنا وشُغلنا وضيعنا أعماراً فلا نضيع هذه الأعمار على غيرنا ونقدم النتيجة للباحثين ، كذلك إذا أردنا أن نقدم بحثاً لا نبحث في الخلاف اللفظي، الخلاف اللفظي نتجاوزه. وهناك دراسات معاصرة جادة اجتهد أصحابها في تحرير مسائل الخلاف اللفظي نستفيد منها.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه القضية ووصف الاشتغال بهذه المسائل بأنه تضيّعٌ للزمان وتكثر والتّشبع بما لم يعطى، إذن علينا أن نختصر الزمان وأن نسعى لأن يتقدم البحث العلمي إلى ما هو منتج، إلى ما هو مثمر، إلى ما يحيي الاجتهاد، إلى ما يرجع علم أصول الفقه إلى سابق عهده، ولا نبقى في هذه الخلافات اللفظية والأمور التي لا تنتج شيئاً.
5-بالنسبة للمذاهب المحدثة التي لا عبرة بها تتجاوز، وخاصة التي لا تعرف لها أدلة وجيهة ولا نحاول أن نجد لها أدلّة، وهذه الظاهرة كانت موجودة خاصة عند المتكلمين، هناك عبارة للجويني رحمه الله في مناقشة أدلّة حجية الإجماع، استغرب فيها من كثرة هذه المناقشات وقال الظاهر أنّها لم ترد على لسان أحد، وإنما وضعها أصحابنا لينتظم عليها أجوبه، يعني هي مجرد رياضة ذهنية، نضع شبهات لنرد عليها، نأتي بمذاهب لا نعرف حججها، ثمّ نلتمس لها حججاً لنرد عليها، هذا نوع من التّرف الفكري، نحن نريد أن نصل إلى الحقائق، علم أصول الفقه ندرسه لننتقل إلى الفقه بأبوابه القديمة وأبوابه الجديدة، كالاقتصاد إسلامي، والسياسة الشرعية والقانون الدستوري، يعني هناك بعض العلوم التي نحن متخلفون فيها، علم الاجتماع الإسلامي، علم نفس الإسلامي، فعلم أصول الفقه هو منهج معرفة نريد أن نحقق مسائله، ننتقل إلى التّوظيف مباشرةً، لا نبقى غارقين في هذه المذاهب ننصّب الأدلّةَ الافتراضية لنناقش مذاهب لا ندري هل هي موجودة، أقوال تنسب للكعبي وتنسب إلى النظام، وإلى ابن الجبائي، ونحن لا ندري هل قالوها فعلاً؟
    والخلاف الحقيقي المفيد هو ما كان بين مالك والشافعي، وهو الجدير أن يدرس وأن يحقق، أما الخلافات التي تحكى عن قومٌ، نحو مسألة تخصيص القرآن بالقرآن وهو أمر متفق عليه، لكن نقل الحاجب الخلاف عن قوم، من هم هؤلاء القوم المخالفون في تخصيص القرآن بالقرآن؟ فمثل هذا القول غير موجود نعتزله ونتركه، وكذلك أقوال المعتزلة في عدد التّواتر اثنا عشر، أربعين، سبعين ....وهذه الأقوال لا قيمة لها ولا ينظر فيها.
6-البحث في من يعتد بقوله وفي من لا يعتد بقوله في البحث الأصولي جديرٌ بالنّظر، لأنّ هناك من توسع حتى ذكر مذاهب فرق اليهود والسمنية والبراهمة، في حين نجد من يقصي الظّاهرية ويقول لا عبرة بأقوالهم .
    والذين تعتبر أقوالهم في الأصول هم الذين تعتبر أقوالهم في الفقه، وهم الذين يوافقون أهل السنة والجماعة في مصادر التلقي، والأساس في ذلك وهو الموقف من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو ضابط التفريق بين من يعتد به ومن لا يعتد ، كما ضابط اعتبار بعض بعض المرجئة والقدرية والشيعة من أهل السنة ، فيقال تشيع سنى ومرجئة الفقهاء وغير ذلك من العبارات الدالة على قبول أقوالهم ورواياتهم .
   فإن قلت كيف يكون الموقف من أصحاب النّبي  هو الضابط؟ قيل إن هذا الموقف سيؤثر مباشرة على مصادر التّلقي، فالذين فسقوا أو كفروا أصحاب النّبي  هل سيعتدون بالسّنة، والسّنة إنما نقلها أصحاب النّبي ؟ فمن قدح في أصحاب النّبي  قد قدح في السّنة جملة، والإجماع الذي لا شكُّ في حجيته، هو إجماع السّلف، وإجماع الصّحابة رضي الله عنهم على وجه الخصوص، والذين تكلموا فيهم تكفيرا أو تفسيقا فهل سيعتدون بإجماعهم، إذاً أهل السّنة الذين يعتبر باقوالهم هم أهل السنة والإجماع المعدلون لأصحاب النّبي .
     الظّاهرية يقولون بعدالة الصّحابة ويقولون بالإجماع فلا بدّ من اعتبار قولهم، وكل من قال بحجية سنة النّبي  وقال بحجية الإجماع هو من أهل السّنة والجماعة، وأما الشّيعة والخوارج فلا تذكر أقوالهم إلا للعبرة ولا يمكن أن يكون قولهم راجحاً لا في مسألةٍ فقهية ولا في مسألةٍ أصوليّة.
6-    التّوثق من المصدر، الأصولي الذين له مؤلف كتاب لا ينبغي أن ننقل عنه بالواسطة، كتاب الباقلاني (تقريب الإرشاد) طبعت منه أجزاء نرجع إليها، المفقود نرجع إلى تلخيص الإمام الجويني، بالنسبة للشّافعي عندنا الرّسالة، ونبحث في الأم لأنه نصّ على كثير من القواعد الأصولية فيه، والمؤلفات التي ضاعت، عند المالكية ننقل آراء أصحابها من عند الباجي الذي ينقل عن كتبهم وهو أقرب إليهم، وكتب الشّافعية الضائعة نجد نقولا منها عند الزركشي وهو في بعض الأحيان ينقل النّصوص بحروفها، وهنا يعتبر كأنّه نقل لك الكتاب.
إذاً لابد من التّوثق من المصادر فإن عدمت فالأوثق، أو الأقرب زماناً، أو الأعرف بالمذهب، لا ننقل مذهب الشافعي من كتب الحنفية، وهذا أمر أظن أنه معروف ومفروغ منه فلا نطيل فيه.
من الأشياء التي تدفعنا إلى التّوثق، في بعض الأحيان أن تنقل كلمات عن بعض الأئمة كلمات لا تشبه كلامهم وعندي نقلها الباقلاني أو الجويني عن الشافعي، لا تشبه كلامه، ومصطلحات وجدت بعد عصره، كلمة تواتر وجدت في كلامه على غير مرادنا الآن، التّواتر عنده المشهور والتّتابع، مصطلح قراءة شاذة، وغيره، فلا يمكن أن نقبل بهذا الكلام ما لم نجده  في كتب الشّافعي، أو معناه في كتب الإمام الشافعي.
   الذي نأسف له ونحن نؤكد على قضية التّوثق من المصدر والرجوع إلى المصادر أن أوّل من ألف في أصول الفقه وهو الإمام الشافعي رحمه الله نجد من ينتسب إلى مذهبه مثل الغزالي وابن برهان لا يرجعون إلى الرسالة، لا يوثقون منها، ويستغربون آراء موجودةً فيها، ويقولون يعزى إليه فيما صرح به فيها، ردّه على من أثبت المعرب في القرآن الكريم، شهير ثم نجد ابن برهان يقول: يُعزى إلى الشافعي إنكار المعرب، فنحن الآن لا بدَّ أن نرجع إلى الرسالة بل لا بدّ أن يكون من أوّل المصادر التي نرجع إليها.
وكذلك كلُّ عالمٍ له كتاب نرجع إليه، فإن لم يكن له كتاب فأقرب الناس إليه زماناً وأقرب الناس إليه مذهباً هم من نعتمد عليهم، ونتنبه أيضاً إلى تجنب التّعميم، إذ هناك أشياء نصَّ عليها الإمام فنقلت عنه واتبعه جميع من بعده، وهناك مسائل لم ينص عليها الإمام فاختلف الحنفية والمالكية فيها، فهنا إذا وجدنا رأياً للكرخي ننقله عن الكرخي ما لم يقل هذا مذهب أصحابنا، وإذا وجدنا رأياً لعيسى بن أبان ننسبه إلى عيسى بن أبان ما لم يقل هذا مذهب الحنفية قبله.
    وقد وجدت نصّاً دقيقاً للكرخي رحمه الله نقله عنه الجصاص، في قضية العمل بالعام بعد تخصيصه يقول : هذا رأيي ولا أستطيع أن أنسبه إلى أصحابي"، لكن الذي حدث للمتـأخرين في المذهب الحنفي أنهم جعلوا آراء الكرخي آراء للحنفية، وآراء عيسى بن أبان آراء لأبي حنيفة، الأمر الذي جعل ولي الله دهلوي في كتابه: (حجة الله البالغة) يدعوا في ذلك الزمان يقول: لا بدّ من إعادة النّظر في تلك الأصول المنسوبة لأبي حنيفة كقطعية العموم والزيادة على النصّ نسخ واشتراط فقه الراوي إذا روى خبراً يخالف القياس، وقال هذه آراء عيسى بن أبان، وليست آراء أبي حنيفة.
    فمن الخطأ أن تجعل رأي مالكي رأيا للمالكية، ورأي حنفي رأيا للحنفية، ورأي حنبلي رأيا للحنابلة، إذاً نجتنب التّعميم مالم نجد ذلك التّعميم منصوصاً عليه، ثمَّ نحن بالرجوع إلى المصادر، قد نصحح تعميماً وقع فيه غيرنا كما نبه على ذلك ولي الله الدهلوي رحمه الله.
الآن يطرح سؤال: إن التّجديد يقتضي الرجوع إلى مذاهب الفقهاء فكيف السبيل إلى الوصول إلى آراء الأئمة الأربعة؟
نعم. يجب الرجوع إلى أصولهم لأنّ الأصول التي لا شك في انتاجها هي تلك الأصول التي كانت موجودة في زمانهم، والآراء التي تبنوها هي التي أسّست للفقه الإسلامي الذي نحن عيّالٌ عليه، وإذا رسمنا مخططا للفقه الإسلامي نجده قد نما ثمّ نزل، والذي يمثل القمّة هو عصر الأئمة المجتهدين فنقول حينها كانت الأصول في الذّروة، كما أن الفقه كان في الذّروة.
    لو أمكننا أن نصل إلى أصول إسحاق بن راهوية، وأصول الثّوري، وأصول ابن المبارك، وأصول ابن أبي ليلى وابن شبرمة، لاجتهدنا في ذلك، لكن قد يتعذر علينا الوصول إلى ذلك، فنجتهد على الأقل في الوصول إلى أصول الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، إذ الفقهاء هم الأصوليون بحقّ، فينبغي العناية بآرائهم ولو بالتّخريج مع ضوابط سنذكرها، والذي نأسف له أنَّ المتكلمين أصلوا لعدم ذكر المذاهب بل نجد في كلامهم أشياء لا نرتضيها، فالشافعي مثلاً: لا يكاد يُذكر عند الباقلاني ويذكره في بعض المواضع بصيغٍ لا نستسيغها، كقول الباقلاني : إن الشافعي لا بدّ أن يقول بتصويب المجتهدين ولو علمت أنّه خالف هذا الرّأي لما عددته من أهل الأصول.
هذا أمر غريب وعجيب جداً والشافعي قد نص على مذهب التخطئة، وموقف الجويني من الفقهاء لا يخفى، عندما نقل قولاً لأبي الطيب الطبري صرح بشيءٍ قد يكون صادماً لنا عندما نقرأه أول مرة، يقول: لولا أنه كان يغشى مجالس الباقلاني لما ذكرت قوله، ومعنى كلامه أنه لا يفهم الأصول إلا من كان متكلما، كأنه لا حظ للفقهاء فيه مع أنهم هم أهله، وله عبارة أخرى أقسى استعملها في حقّ الصيرفي وهؤلاء شافعية أي على مذهبه، إذاً نحن مدعوون إلى الاعتناء بآراء الأئمة وكذلك لا نهمل آراء الفقهاء التي غابت في كتب المتكلمين التي أصبحت مسيطرة على الدرس الأصولي في الأصول المتأخرة.
والعناية بمذاهب الفقهاء موجودة في كتب الأصول المطبوعة، إذا أردت مذهب أبي حنيفة فعندك الجصاص والسرخسي والسمرقندي، وإذا أردت مذهب مالك فعندك ابن القصار والباجي، وإذا أردت مذهب الشافعي فعندك ابن السّمعاني وابن السُبكي والزركشي، وكذلك المذهب الحنبلي فدونك أبو يعلى وتلاميذه والمرداوي من المتأخرين فقد اعتنوا بتحرير مذهب الإمام أحمد.
     على أن العناية بالتحرير والنقل لا تعني الإصابة، ولكن هذه هي المظان التي نرجع إليها، فقد اعتنت بذكر مذاهب الأئمة المتبعين.
     ومما ينبغي أن نشير إليه هنا مشروعية التّخريج، تخريج الفروع من الأصول، فهو مشروع ولا شكَّ، ولا طريق لنا للوصول إلى آراء الأئمة في أكثر الأحيان إلا بالتّخريج، إذ يمكن أن نـأتي بنصوص مسندة عن الإمام أبي حنيفة نصوص موجودة في كتب الشّيباني رحمه الله، ولكنها لا تبنى أصول فقه متكامل، فنحتاج إلى أن نخرج، وقد خرج الحنفية والحمد لله، الآن نأخذ هذه التّخريجات ونحاول أن نزنها بضوابط معينة.
    بالنسبة للإمام مالك يمكن أن نأخذ من الموطأ ومن العُتبيّة أو المدونة نصوصاً للإمام مالك، لكن أكثر الأصول مخرجة من فروع، والشافعي الذي له الرسالة وتكلم في الأم في قضايا أصولية كثيرة صراحة، ومع ذلك توجد جزئيات بل هناك مسائل كبيرة مثل شرع من قبلنا لا كلام له فيها، فنحتاج أن نُعمل التّخريج.
الذي يمنع التّخريج يقول:
    هذا تأصيل مذهبي، بمعنى ستجعلون أصول الفقه تابعاً للمذهب، نقول: لا، الغاية من التّخريج هو توثيق المذهب وليس معرفة الرّاجح، سنوثق مذهب الشافعي بالتّخريج ونوثق مذهب أحمد بالتّخريج، ونوثق مذهب أبي حنيفة، ثمَّ ندرس بطريقة جدلية أو مقارنة ونخلص إلى النتيجة، إذاً لا يلزم من اعتبار التّخريج أن نكون متعصبين أو أن نبني أصول الفقه على الفروع.
    يقول المعترض: ولكن احتمال الخطأ وارد ، فقول نحن مكلفون بغلبة الظّن، ويخطئ من يخرج أصلاً من فرعٍ دون استقراء، وهذا من مثارات الغلط، إذاً لا ينبغي للباحث أن يخرج مسألةً أصولية من مسألةٍ واحد وخاصة إذا كان عندنا مسائل كثيرة يمكن أن نخرج منها.
من الأشياء التي ينبغي أن يضعها الطالب أو الباحث في علم أصول الفقه نصب عينيه، ماهي المثارات التي توجبُ الغلط في توثيق المذاهب:
    عدم تبين من وجود النصّ، وجدت من يقول قال: الشافعي، ارجع إلى الرسالة ابحث عن قول الشافعي انظر هل هو موجود أم غير موجود؟ لا بدّ م التثبت من وجود هذا النصّ.
    عدم التّثبت من لفظه، الرواية بالمعنى قد تخل بما يستفاد من النصّ، ويقال الاقتباس الحرفي في البحث العلمي معيب، إلا إذا كان نصّ قرآن أو نصّ حديث لا بدّ أن ينقل كما هو، لكن حتى أقوال العلماء التي نختلف في فهمها لا بدّ أن ننقلها بحروفها لنؤكد على صواب فهمنا وخطأ غيرنا، عندما أقول هذا نصّ الشافعي ويستفاد منه قاعدة أصولية، القارئ يستطيع أن يحاكمني إلى النصّ أما إذا رويت كلامه بالمعنى فقد أدخلت فهمي، وهذا وقع فيه كثير من الأصوليين، ولذلك قلت: الرجوع إلى المصادر وإلى الأقدم يجعلنا نكتشف خللاً كثيراً في النّقول التي ينقلها المتأخرون عن المتقدمين، التي ينقلها أصحاب المذاهب عن أئمتهم.
    الخطأ في فهم النصّ، وهذا من سببه:
1.    تحكيم المصطلحات، تحكيم مصطلحات متأخرة على نصوص المتقدمين قبل أن ينشأ الاصطلاح، وقد عاب البيهقي أبا محمد الجويني فيما نقله عن الشافعي من هذه الجهة، ونبه عليه أيضاً أبو شامة ، إذ كثير من الأصوليين ينقلون أشياء لم يقلها الشافعي بتلك العبارات.
ومن امثلة الخطأ في الفهم في كلام الشافعي رحمه الله أن كلمة التواتر قد وردت في جماع العلم، فإذا فهمناها على معنى التواتر الاصطلاحي فسنضع كلامه خارج السيّاق، لأنَّ الشافعي قال: ما رواه أربعة متواتر، التواتر في اللغة التّتابع، وهذا التّواتر هو المشهور، ما وراه اثنان أو ثلاثة عزيز، وما رواه أربعة فصاعداً مشهور إذاً تعبير بالتّواتر في عصر الإمام الشافعي كان عن المشهور.
فيقول قائل: والمتواتر عندنا ماذا سماه الشّافعي؟ فنقول قد سماه السّنة المجتمع عليها، وسماه خبرَ العامة، لا بدّ أن ننتبه، أيضا أن العلم في كلام الشّافعي واليقين في كلامه ليس هو القطع كما اصطلاح المتأخرين، فلا ننسب للشافعي أشياء لم يقلها، والشافعي كان يعبر عن القطع؟ بالحقّ في الظاهر والباطن، وكان يسمي الظّن الحق في الظّاهر دون الباطن.
كذلك الإمام أحمد وخاصة المصطلحات الكلامية التي سرت في كتب الأصول لا بدّ أن نتنبه أن هذه المصطلحات مستحيل أن تجري على ألسنة هؤلاء المتقدمين.
2.    التّخريج القاصر: ومثال ذلك مالكي من البصرة يقول: مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد، الدليل مسألة ولوغ الكلب، وقد خطأه المالكية الآخرون وذكروا له نصوصا فضلاً عن فروع أخرى فضلاً عن قواعد أخرى تبين أن إمام مدرسة أهل الحديث محال أن يقدم القياس على خبر الواحد.
في مسألة القراءة الشّاذة أو قراءة الآحاد التي صح سندها نسب كثير من الشافعية إلى الشافعي إلى أنه لا يقول بحجيتها لأنّه لم يشترط التتابع في كفارة اليمين، لم يعتمد على قراءة: ((ثلاثة أيام متتابعة)) لكن هل ثبتت عنده؟ هل بلغته؟ وهل بلغته بسندٍ صحيح حتى نقول إنه ردها؟ ليس عند من قال هذا القول حجة بأنها بلغته بإسنادٍ صحيح، وفي المقابل نجده في تفسير القرء، احتج بقراءة (فطلقوهن  لقبل عدتهن)، واعتمد على قراءة (( وعلى الذين يُطوَقونَه)) واعتمد قراءة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) فقال الصلاة الوسطى ليست العصر، إذاً الشافعي اعتمد على القراء الشّاذة، ومن ذكر غير ذلك كان تخريجه قاصرا غير مستوعب.
3.    التّقليد، يغتر البعض ويقول أكثرُ المالكية نقلوا كذا، وأكثر الحنابلة نقلوا كذا، وفي البحث الأصولي وغيره من العلوم، عنما يكون عندك مجموعة من المصادر يرجى أن ترتبها ترتيباً زمنياً، فتبدأ بقراءة الأقدم فالأقدم لتعرف من ابتدأ الرأي ومن مهذبه ومن هو المقلد التابع.
بعض الأحيان يقع الخطأ من إمامٍ في القرن الرابع فيتتابع عليه الناس، ولننظر إلى مسائل الأصول التي تنسب إلى الإمام أحمد، القاضي أبو يعلى بنظري تساهل كثيراً في التّخريج، في كل المسائل يخرج فيها للإمام أحمد رأيين، وتخريجه على فرعٍ واحد، يأتي بعد أبو الخطاب يتبعه، وابن عقيل يتبعه، ابن قدامة يتبعه، المرداوي وابن النجار يتبعونه، إذاً الخطأ يقع من واحد ويتتابع عليه الناس، فلا بد من أن نتنبه أن من أسبابِ الغلط تخريج القاصر ثمَّ التقليد المتأخر للمتقدم.
   والتخريج في بعض الأحيان يكون تخريج أصول من فروع، وفي بعض الأحيان يكون من قبيل تخريج الأصول على الأصول، ولكن هذا لا بدّ أن يكونَ مبنياً على أسّس، مثلا: مسألة مفهوم الموافقة دلالته لفظية أم قياسية؟ هذا الخلاف ذكره الإمام الشافعي، ما رأيكم فيمن ينكر القياس؟ من ينكر القياس سينكر مفهوم الموافقة ولا تتعجبوا من مذهب ابن حزم، أنكر مفهوم الموافقة لأنه اعتبر كما اعتبرها الشافعي دلالة قياسية، لو اعتبرها دلالة لفظية لقال بحجيتها، وهذا أصل بني على أصل، وهذا النوع من التخريج جائز أيضا.
    لكن من يقول إنّ الشافعي نصّ على أنّ السّنة لا تنسخ القرآن، لأنها ليست مثله فيخرج على ذلك منع العكس أن ينسخ القرآن السنة، فنقول له هذا لا يصح لأنه من قياس الشّيء على ضدّه، إذا علمنا أنّ القرآن أقوى من حيث الثّبوت أو غيرها من التّعليلات التي ذكرت فلا يوجد ما يدعونا إلى أن نقيس هذا على هذا.
4.    التصحيف والتحريف، وهذا توجد له أمثلة وإن كانت نادرة، الرازي قال: قال الفقهاء، فكتب أحد المختصرين قال القفال، فوقف معه القرافي وقال: بحثت في كل كتب الأصول فلم أجد كلمة القفال وإنما هي كلمة الفقهاء، تصحفت عند بعض من اختصر كتاب الرازي.
ربما من الأشياء التي نزيدها عندما نتحدث عن تحرير المذاهب، تحدثنا فيما سبق إلى أنه توجد مسائل لغوية، مسائل حديثية في كتب الأصول، المسائل اللغوية هناك أشياء إضافية يمكن أن يستغى عنها، وهناك مسائل يحتاج إليها، عندما نأتي إلى الأمر ونتحدث عن صيغه، نحتاج إلى اللغة لمعرفة صيغ الأمر وصيغ العموم، لكن كما ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله هذه المسائل ينبغي أن تؤخذ مسلمة لنبني عليها، لأنّ قضية الأصولي: الأمر ماذا يفيد الوجوب أم الندب؟
أما الصيغ فهو موضوع لغوي، وأهل اللغة أدرى به، الذي حدث في كثير من كتب الأصول وخاصة التي على منهج المتكلمين المناقشة في هذه المسائل، وإعادة البحث في هذه المسائل، وإذا سلمنا إعادة البحث فيها، فالمعتبر في مسائل اللغة اللغويون، لا يمكن أن ننصب الخلاف بين فقيه وبين لغوي في مسألةٍ لغوية، كما لا يجوز لنا أن ننصب الخلاف بين فقيه ولغوي في مسألة فقهية، فكلٌ يُعتبر كلامه في مجاله وتخصصهِ. وإذا وجدنا من نصب الخلاف بهذه الطريقة ملنا إلى رأي أهل اللغة على حساب أهل الفقه، وما اتفق عليه أهل اللغة هو حجةٌ علينا ولا شك.
    من الأشياء الموجودة في كتب الأصول وهي من الأمور الإضافية ووقع فيها أخطاء، مسألة أقل ما يتركب منه الكلام اسمان (مبتدأ وخبر) واسم وفعل، لكن أن يتركب الكلام من حرف وفعل، أو حرف واسم، هذا غير موجود في العربية، ولا يخفى عليكم وجود هذا الخطأ في الورقات للجويني، وهناك من تأوله وهذا الاعتذار خطأ لأنّ الحرف عند أهل اللغة لا يشمل الضّمائر ولا يشمل الأدوات، فلا بدّ عندما نأخذ المسائل اللغوية من أهلها وأصحابها، ولا نغلب لغة المناطقة على لغة اللغويين، إذ لغة اليونان هي التي تعتبر الضمائر والأدوات حروفا وهي عندنا أسماء نسميها.
في مسائل الحديث يقال الأمر ذاته، قد يكون للأصوليين بعض العذر في الخوض في مسائل الحديث لأننا إذا قارنا بين وتيرة التأليف في علم أصول الفقه والتأليف في علوم الحديث نجد أن النّشاط في أصول الفقه كان متقدماً على النّشاط في علوم الحديث، حتى أصبحت القضية معكوسة، حتى أصبح علماء الحديث يأخذون عن علماء الأصول، لكن الواجب علمياً، أن تنقل الآراء الحديثية عن أهلها وهم أدرى بها، هم الذين يتصورونها، وهم أهل للتّرجيح فيها، فلا ننصّب الخلاف بين فقيه ومحدث، وبين أصولي ومحدث.
    وإننا عبارات للجويني يقول فيها: علماء الحديث ليس لهم نظر في حقائق الأصول ولكن تركناهم يضعون الألقاب والأسماء، والجواب أن المحدثين هم الأعلم بفنهم، لذلك نجد بعض الآراء وبعض الاختيارات لا تطبيق لها، مثلا تعارض الجرح والتعديل قال الأصوليون ننظر إلى العدد فإذا كان متساوي أو الذين جرحوا أكثر نأخذ بالجرح وإلا بالتعديل، وعلماء الحديث عندهم قواعد أخرى، كاشتراط تفسير الجرح المعارض للتعديل، وكون بلدي الرجل أعلم به، واعتبار التشدد والتساهل، وليس عندهم اعتبار القلة والكثرة لأن هذه أقوال وليس رواية.
     هناك بعض المصطلحات التي نتعجب منها، نذهب إلى كتب الأصول فنجد من أنواع التّدليس: تدليس المتن، ولا يوجد في علوم الحديث شيء اسمه تدليس المتن، وما عبر عنه بتدليس المتن هو عندهم داخل في الكذب وتعمد القلب في المتن ...والخلاصة أن المرجع في حكاية المذاهب في المسائل الحديثية للمحدثين والمعتبر هو قول المحدثين، هذه جملة من الضوابط في تحرير المذاهب التي نذكرها في علم أصول الفقه.

تم قراءة المقال 126 مرة