الجمعة 14 شعبان 1445

كلمة وفاء للشيخ محمد نعيم رحمه الله تعالى وفصول منتخبة من سيرته العطرة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

كلمة وفاء للشيخ محمد نعيم رحمه الله تعالى
وفصول منتخبة من سيرته العطرة
  
   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فإن الشيخ محمد نعيم رحمه الله أحب الناس إلى في تلمسان، هو رجل يُحب لسمته وخلقه وصلاحه ولعلمه ودعوته وبذله، ولقد كان سمته سمت العلماء الربانيين في كلامه وهندامه وانضباطه ونشاطه، ولا زلت أذكر أول يوم لقيته فيه في جامعة تلمسان، وكان يدرس في قسم العلوم الإسلامية علم القراءات وعلم الرسم والضبط، لم أكن أعرفه من قبل ولا حدثني عنه أحد، فلما رأيته سررت ولما كلمته انشرح صدري له، وإن القلب ليسر أن يرى من يستقبله بالبشاشة، وإن الصدر لينشرح لمن يلتمس في كلامه الصدق والتواضع؛ كيف وأنت إذا رأيته من بعيد ترى اللباس الأبيض؛ وإذا اقتربت لمست القلب الأشد بياضا، ولا أخفي أن رؤيتي له نازلا من سيارته مقبلا إلى الأقسام للتدريس؛ كانت تبعث في الهمة والنشاط، وقد كنت أرى فيه حب التعليم والسعادة به، وقد كان يدرس في الجامعة احتسابا كما كان يعلم القرآن الكريم في بيوت الله احتسابا، وبرا بوالده رحمه الله الذي نذر نفسه للتعليم القرآني قبله وعملا بوصيته، وقد حدثني يوما عن والده الشيخ برابح نعيم، أنه كان إذا زاره طلابه الذين حفظوا القرآن على يديه في منطقة "تونان" يسألهم، هل أنت تعلم القرآن؟ فمن أجاب بنعم هش وبش في وجهه وانبسط معه في الحديث، ومن أجاب بلا، أظهر له عدم رضاه عنه، واكتفى معه بأداء واجب الضيافة، فكانت همة الشيخ محمد في التعليم من همة والده رحمهما الله تعالى، ونرجو أن تكون همة طلابه ومن حفظ القرآن على يديه من همته في التعليم والبذل والعطاء، إني لم أتعرف على الشيخ إلا في سنة 2012 م، ولكن أهل تلمسان طالما حدثوني عن مواقف الرجل ومآثره، وهي مواقف تدل على متانة الدين والصلابة في الحق، والبذل في سبيل الله والعفة والزهد في الدنيا، والتخلق بخلق الإيثار والصبر على الأذى، وكم أذاه طلاب الدنيا وعبادها حسدا على ما أكسبه الله من مكانة ومحبة في قلوب العامة، وكم سعى الواشون به، فلم تفلح وشايتهم إلا عند من كان على شاكلتهم، وربما ردّ كيد الواشين في نحورهم وانقلب سعيهم كرامة للشيخ وفتحا له؛ ولا سيما إذا كانت وشاية عند أهل المروءة، وقد تركها الشافعي رحمه الله كلمة خالدة حين قال:" أصلح ما بينك وبين الله، يصلح الله ما بينك وبين الناس"، ولا يزال الناس يرون تصديق كلمته هذه، وقد رأى الناس ذلك الجمع الغفير الذي حضر جنازة الشيخ رغم قصر الوقت بين وفاته والصلاة عليه؛ إذ لم يكن بينهما إلا سويعات قلائل، وكثير من الناس لم يبلغهم الخبر إلا بعد دفنه، وإن الله تعالى هو الرافع الخافض والمعز المذل، وهو الذي إذا كتب القبول لعبد من عباده في الأرض لم يكن لأحد أن يقف في وجه إرادته، لقد كان الشيخ رحمه الله وليا من أولياء الله بالفعل والعمل وليس بالقول والرسوم المصطنعة، لو أراد الدنيا وزخرفها لوجد السبيل إليها، بل إنه قد عرض عليه كثير من حطامها فكان يمتنع ويتعفف ويؤثر غيره بها، قال أحد الأئمة البارحة :" إني أعرف الشيخ منذ 38 ثلاثين سنة، وأبوح لكم اليوم بشيء ربما لا يعرفه كثير من الناس عنه : لقد كان أبا للمساكين".
    وأهم شيء شاهدته من الشيخ هو تفانيه في التعليم القرآني، حتى أنه كان يجهد نفسه في ذلك أيما اجهاد؛ حيث كان يفتح المقرأة يوميا من السابعة صباحا إلى العشاء، وجعل وقت الصباح وبعد الظهر للطالبات، وما بعد العصر إلى العشاء للطلبة، وقد دخل المشفى مرات من شدة الارهاق، وقد نصحته يوما وهو راقد في المشفى لا يقوى حتى على الكلام، وقلت له:" إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا"، ولقد فاجئني بعدها بسنين لما ساقنا الحديث عن عدم فتحه المقرأة يوم الخميس، فقال إنها نصيحتك قد جعلتها لنفسي وأهلي، والواقع الذي لا أخفيه أيضا أني لم أر يحترمني ويحسن الظن بي في تلمسان مثل هذا الرجل العجيب، والذي أعتقد اعتقادا جازما أنه أفضل مني مرات ومرات، في العلم والعبادة والخلق. ومما نشهد له به أنه كان معلما ومربيا في الوقت نفسه؛ فلم يكن تعليمه قاصرا على تحفيظ القرآن وأحكام تلاوته، بل كان حريصا على تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس، فكان يخصص وقتا لمدارسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو لقراءة مواضيع يختارها من كتب مختلفة سماها "قراءة في كتاب"، ومما أتشرف به أنه قرأ على الطلاب كتبي التي موضوعها (العقيدة والتزكية) نحو كتاب محبة الله تعالى، وكتاب عبادة الشكر، وكتاب عقيدة المسلم في الرزق.
    وكان في الأشهر الأخيرة قبل أن يلم به المرض يغيب دوريا عن المقرأة لمرافقة أخيه الذي يكبره في علاجه من مرضه، وقد لقينا آخاه البارحة فقال ما معناه كنت أوصيه بما بعد وفاتي فكان يقول :" لعل الله يتوفاني قبلك"، قالها وهو صحيح معافى نسأل الله تعالى أن يرزقنا قصر الأمل وحسن الخاتمة، وأختم هذه الكلمة التي كتبتها على غير العادة مرسلة غير مرتبة برؤيا رأيتها قبل أيام ولم أدر تأويلها إلا بعد أن وصلني خبر وفاة الشيخ عبر الهاتف، وذلك أني رأيت الأرض في تلمسان انشقت شقا جعل عبور ابنتي من طرف إلى أخر شاقا عليها (وهي طالبة عنده) ، فتأولتها بهذه الفاجعة التي ألمت بنا، ولما قصصت الرؤيا على أحد الزملاء ممن تصدُق رؤاهم تلا علي مباشرة قول الله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] وذلك أنه روي عن ابن عباس في تفسير الآية : نقصها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها...نسأل الله أن يأجرنا في مصيتنا هذه أن يجعل للشيخ خلفاء من بعده يبذلون بذله وخيرا من بذله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تلمسان في 13 سبتمبر 2023

فصول منتخبة من سيرة الشيخ محمد نعيم العطرة
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين أما بعد فإنه يروى عن أبي حنيفة قوله لقصص الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه، وذلك أن في أخبارهم ما يرقق القلوب ويهذب النفوس، ويسوقها إلى أبواب الطاعات ويبعدها عن الآثام والشبهات ويقربها من رب البريات، وقد ألف السابقون كتبا جمعوا فيها من أخبار الصالحين من السلف، منها ما كان مصنفا على الأبواب ككتاب الزهد لابن المبارك، ومنها ما كان مرتبا على الأعلام ككتاب الزهد للإمام أحمد، ومنها ما كان مفردا لبعضهم كسيرة عمر بن العزيز لابن الجوزي، وكتب غير واحد في مناقب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد رأيت من حق الشيخ الولي الصالح محمد نعيم علي أن أكتب في خصاله ومناقبه ومواقفه شيئا يسيرا يكون دليلا على غيره، أو ربما يكون لبنة محفزة لطلابه ومعارفه أن يُلحقوا بها غيرها، وخاصة أن ما جمعته كان في وقت وجيز ومن عدد محصور جدا من طلاب الشيخ ومعارفه، ونسأل الإله العلي القدير أن ينفع بهذا المجموع الذي لم يكن لي فيه في أكثر الأحيان سوى التبويب والصياغة، وقد أبهمت الرواة في الغالب لعدم الحاجة إلى تسميتهم مع كونهم جميعا ثقات؛ فضلا عن أني تصرفت في مروياتهم وسياقاتها، وقد نظمتها في أربع وعشرين فصلا نسأل الله تعالى الإخلاص والثبات وحسن الختام.
1-فصل في بركة القرآن  
بعد أن حفظ الشيخ القرآن ذهب إلى المغرب مع أخيه الأكبر ليواصل تعليمه، ومما حكاه الشيخ أن معلمته في الابتدائية طلبت من التلاميذ حفظ صفحة من سورة يس ، فلما جاء دوره للعرض شرع في القراءة ولم يتوقف حتى تجاوز الحد المطلوب، فقالت له المعلمة أتحفظها كاملة؟ فقال" بل أحفظ القرآن كله"، فأخذته إلى المدير وأخبرته بذلك ، فقام المدير باختباره وعجب منه، وسأله ما قصتك ؟ فأخبره محمد نعيم بأنه قد أتم حفظ القرآن على يدي والده، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، ثم إنه بعد ذلك بأيام قصّر في حفظ أحد الدروس، فأخذوه إلى المدير فلما رآه قال له: "ألست ذاك التلميذ الذي يحفظ القرآن الكريم كاملا"، قال" نعم ، فقال له المدير:" اذهب واعتن بدروسك"، ولم يعاقبه . فقال الشيخ :"نجوت من العقاب بفضل حفظ القرآن الكريم".
   ومن بركة حفظه القرآن أن كان من جملة قلة من الجزائريين الذين كانوا مؤهلين للإلحاق بكلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية يوم افتتاحها، ومما يروى في هذا السياق أن والدته الكريمة كانت جزعة من اغتراب ولدها وبعده عنها؛ فسمعت في المنام هاتفا يقول ( اصبري فإن ابنك سيتعلم ويعلم) فهدأ روعها بعد ذلك.
2- فصل في بره بوالده
  من أول ما نذكره من فضائل الشيخ نعيم بره بوالده، ومما يروى في ذلك ما ذكره الشيخ الطيب براهيمي حفظه الله ونفع به أن الشيخ محمد نعيم ترشح لنيل منصب مسؤول التعليم القرآني لدى مديرية الشؤون الدينية، وذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولم يكن ثمة من هو مؤهل لهذا المنصب غيره، فلما سمع والده الشيخ برابح جاءه من القرية وخاطبه بلهجة حادة بما معناه (أتريد أن تكون رئيسا على أسيادك) فما كان منه إلا أن سحب ملف ترشحه بلا مناقشة وترك ذلك لوجه الله وطاعة لوالده، ولا شك أن الله تعالى قد أبدله ما هو خير من ذلك ووفقه أيّما توفيق.
    ومن مظاهر بره بوالده ومعلمه الأول الذي علمه القرآن؛ أنه كان يذكر محاسنه وأخباره ويثنى على جهوده ورباطه في التعليم ، وأنه خلّد ذكره بأن ألف كتيبا في التعريف به سماه الشيخ برابح بنعمر نعيم حياته وآثاره، وقد طبعه ووزعه مجانا .
3- فصل في الدعوة إلى الله تعالى والجهر بالحق
   أما اشتغاله بالدعوة إلى الله تعالى؛ فكان منذ أن عاد إلى أرض الجزائر وتلمسان من طيبة الطيبة سنة 1982م، فكان خطيبا ومدرسا في مساجد تلمسان، ويشهد له الناس بأنه كان قوالا للحق أمارا بالمعروف ونهاء عن المنكر، ولا يبالي بما يقال عنه ولا بمن يعاديه، وهذا مما يرفع العبد في عين الله بخلاف من ينظر إلى قول الناس، ويتخاذل عن نصرة الحق خوفا من ردة فعل الناس، أو طلبا لرضاهم، أو مجاراة لهم فيما ألفوه من جهالات أو بدع وضلالات.
  ومما حُكي لنا يوم جنازته أن الشيخ كان ثالث ثلاثة من شيوخ تلمسان (هو الشيخ الطيب والشيخ إدريس) وقفوا وقفة تاريخية لا تنسى وكانوا سببا في غلق أوكار الرذيلة في تلمسان، حيث أقاموا لقاء في الفضاء مع الجماهير؛ مما جعل السلطات تسارع إلى تطبيق القانون الذي يحمي الفضيلة ويقطع أسباب الفساد والرذيلة.
    وكتب الدكتور أبو عبد الرزاق فتح الله دبوزة وفقه الله ما معناه:" شيخنا الطيب - حفظه الله - لا يذكر أحدا من أهل تلمسان كما يذكر الشيخ نعيم ولا يقدّم عليه أحدا، حبا وثناء ودعاء، ومما قص علينا من مواقفه العظيمة أنٌ الشيخ نعيم رحمه الله كان يدرّس في "ثانوية" عُرف مديرها بتطرّفه وبغضه التديّن وأهله، فكان يُضيّق على المحتجبات ووصل به الأمر أن منعهن من الدراسة؛ ولما تخاذل الأولياء خوفا لأن ذلك كان في سنوات الجمر، لم تجد التلميذات إلا الشيخ نعيم ليساندهن، حيث لجأ إلى عدد من الأفاضل ومنهم الشيخ الطيب، ودعاهم للدخول على المدير بوصفهم "أولياء تلاميذ" وليضغطوا عليه ويردعوه عن تعسفه، ففعلوا، قال الشيخ الطيب: فأظهرنا غضبا شديدا وأظهرنا للمدير التشريعات المدرسية، وهددناه باللجوء إلى القضاء، قال الشيخ: فكسر الله الجهول، وأعماه عن طلب وثائق الهوية التي تثبت كوننا الأولياء للتلميذات، وقد كنا فعلا أولياء لكن أولياء لتلاميذ يدرسون في غير تلك الثانوية، وهكذا عادت التلميذات بحجابهن إلى مقاعد الدراسة، ودفع الله عنهن ذلك الأذى بفضل الله تعالى، ثم بفضل غيرة الشيخ وحكمته وفطنته رحمه الله وأجزل له المثوبة.
4- فصل في التواضع وقبول الحق
    فأما التواضع في الهيئة والسلوك والتعامل مع الناس؛ فهذا أمر مشهور لا يحتاج إلى وصف أو برهان، وأما عن تواضعه للحق فمما بلغني أن بعض طلابه القدامى  ذكر أن الشيخ محمد نعيم كان شيخا مهابا ذا مكانة، ومع ذلك تجرأ ذلك الطالب ونصح الشيخ في مسألتين خلافيتين؛ وبين له أن اختياره فيها خلاف الصواب والسنة، فأصغى الشيخ للطالب بكل تواضع وشكره على نصحه، يقول الطالب ثم إن الشيخ أخذ بنصيحته، فلعله بعد تأمله في النصيحة أعاد النظر واقتنع بما أبداه الطالب كما أن يمكن أنه رأى أن ما ذكر الطالب هو الأفضل والأحوط فعمل به رحمه الله .
   ومن مظاهر تواضعه أنه كان إذا طرحت عليه مسائل مع علمه بها أو بحثه فيها يراجع غيره، لعله ينبهه إلى دليل أو تفصيل أو فتوى ونحو ذلك، وقد كتب إلى أحد المقربين إليه أنه كان:" يتهيب الفتوى ويراجع فيها ويخاف منها كثيرا، ويقول هي أمانة عظيمة "، والعبد الضعيف كاتب هذه السطور لا يحصي كم مرة اتصل به رحمه الله مشاورا ومباحثا، ولا سيما في القضايا المتعلقة بالخصومات، والشيخ رحمه الله كان مرجع كثير من الناس في المسائل الشرعية.
5- فصل في الكرم والعطاء
   وأما الكرم فهو من أظهر خصاله، يشهد ذلك من عرفه مدة طويلة ومن سافر معه، وممن عرفه مدة طويلة إمام قال يوم جنازته:" إني أعرفه منذ قرابة ثمان وثلاثين سنة وإني أراه يستحق اسم أبي المساكين"، ويقول آخر في شهادته :" إذا سافرت معه لا تسبقه لدفع ثمن الغداء، وكان يكرم العمال بسخاء" والمعنى أنه يكرم من يعرف ومن لا يعرف، وكذا كان شأنه مع الطلاب في مقرأته، وخاصة الطالبات البعيدات عن أهاليهم؛ ممن قدمن إلى الجامعة من ولايات أخرى.
   ومن الوقائع التي بلغتني أنه كان يوما واقفا مع راوي القصة فأتته بنت وقالت له يا شيخ : لم نأكل منذ يومين ؛ فمد يده مباشرة إلى جيبه واستخرج خمسة آلاف دينار كاملة، وأعطاها للبنت وقال لها: أنفقيها على أهلك، هكذا تصرف بعفوية، ولم يتأول في ردها كما يفعله جلنا، حيث نقول إن أكثر المتسولين يتصنعون ويحترفون التسول، أو أن الفقراء بحق لا يعرفهم أكثر الناس من التعفف؛ فأفضل الصدقة ما يوصل إلى الفقراء في بيوتهم.
   ومن الوقائع أن أحدهم يقول: إن الشيخ بعثه إلى امرأة فقيرة مقبلة على الزواج، ليستطلع له عن كل ما تحتاجه من لوازم عرسها، ثم إنه بعد ذلك أرسل إليها معه كل ما وصف له مما تجهز به المرأة يوم زفافها.
    ومنها أن أحدهم يقول: إن الشيخ كان متكفلا بنفقة أرملة وكنتُ أنا من يوصل إليها نفقتها شهريا، يقول من غريب ما رأيت أني لما زرت قبر الشيخ بعد أيام من دفنه، نظرت في القبور الحديثة بجانبه؛ فوجدت قبرا دفنت فيه تلك المرأة رحمها الله تعالى.
   وتقول أخرى في تعليق على ما سبق ذكره:" أتذكر يوم ذهبت لأداء العمرة فقصدت الشيخ لأودعه واعتذر عن الغياب، فقال لي انتظريني نصف ساعة، فذهب لبيته وجاء بـ300 أورو، وقال لي وزِّعيها بعد صرفها إلى الريال على المتسولين في طرقات مكة والمدينة، وعلى عمال النظافة هناك، قالت : فلما عدتُ أردت أخبره بأني أديتُ الأمانة كما أمرتني؛ فأشار إليّ بيده أن اسكتي، وكأنه لم يرد يسمع بذلك أحد".
6- فصل في التعفف والايثار
   ومما سمعته من غير واحد أن أحد الأثرياء جاءه يوما ليهب له سكنا أرضيا ذي طوابق في وسط تلمسان، فقال له: أما أنا فعندي هذا السكن وهو يكفيني، وعلّق أحد الرواة بعد أن روى القصة :" لو كان غيره لربما تأول وقال أقبلها فأسكن أعلاها وأجعل أسفلها مدرسة قرآنية، ولكنه تعفف رحمه الله"، وقال آخر: إنه دلّ المتبرع على غيره ممن يحتاج إلى سكن فآثره على نفسه.
   وكتب إليّ أحد المقربين إليه لما سألته عن هذه الخصلة بالذات فقال :" عرض عليه أحد الولاة مسكنا فلم يقبل عرضه وقال: الفقراء أولى به مني، وعرض عليه مرة الحج، فأجاب بقوله: أنا حججت ولله الحمد".
   وحُدثت أن رجلا جاءه بملغ قدره 100 مليون فلم يقبل منه شيئا، لكنه أخذه منه بعد إلحاحه ووزعه على عدد من الفقراء، ثم قدم لصاحب المال قائمة تتضمن أسماء من استفاد من ذلك المبلغ.
   ومن صور عفته أيضا أنه لم يكن يقبل الهدايا من الطلاب، وخاصة من يختم القرآن على يديه، وكان يقول لهم قدموا هذه الهدايا للوالدين. ومن صورها أنه كان يشتري بما يقدمه له المحسنون للمقرأة الفطور للطالبات ولا يتناول منه شيئا؛ روى هذا غير واحد، وزاد بعضهم في روايته :"ولا يرتاح له بال حتى يتأكد أنهن شبعن وإذا أحس بعدم كفاية الموجود خرج ليشتري لهن المزيد".
7- فصل في الورع
   ومما يؤثر عنه في باب الورع أنه لما كان معلما في التعليم الثانوي كانت تحدث إضرابات، فلم يكن يستحل أخذ أجر تلك الأيام التي لم يعمل فيها وكان يتصدق به.
  وكتب إلي أحد المقربين منه أنه كان:" شديد الورع إلى حد لا يطاق مثله، حيث كان إذا شك في شيء تركه ولو كانت له حاجة أو ضرورة" يقول : ومن أعجب أخباره وهي من النوادر أنه بلغه من غير جزم أن العمارة التي فيها مسكنه بنتها الدولة على أرض أخذت غصبا من أهلها في العهد الاشتراكي، فصار يبحث عن ملاكها حتى يعوضهم بثمن يقدرونه، فذهل من سمع الخبر من صنيعه".
8- فصل في الزهد
   الذي لا يشك فيه أن الشيخ محمد نعيم رحمه الله كان زاهدا في حطام الدنيا متقللا من متاعها، وليس الزهد أن يخرج المرء من كل ما في يده حتى يصير هو محتاجا إلي غيره، ولكن الزهد أن لا تتطلع النفس إلى المزيد وإلى العيش الرغيد، ومن مظاهر زهد الشيخ ما سبق ذكره من تعففه عن أموال الناس، ومنه أيضا أنه رحمه الله كان مقصودا كثيرا في الرقية الشرعية، والرقية تستهلك من المرء وقتا وجهدا كبيرا، ومع ذلك لم يكن يقبل أن يعطى شيئا مقابلها، هذا مع إلحاح كثير من الناس على تقديم العطايا والهدايا، في حين نحن نرى من جعلها تجارة وطريقا للتكسب السهل والسريع.
    ولما كان يدرس في الجامعة علم القراءات وعلم الرسم والضبط لم يكن يأخذ على ذلك مقابلا، بل كان يدرس فيها محتسبا مثل تدريسه في المساجد، وكان يصلي بالناس التراويح ويرفض أن يجمع له المال كما جرت به العادة فيما مضى، بل قال محدثي أنه صار يشترط فيمن يعينه في صلاة التراويح أن يكون ممن لا يقبل هذا المال حتى يتجنب جمع المال في المسجد، وقال :"إن أبغض الناس إلى الشيخ المتأكلون بالدين".
9- فصل في التعجيل في إيصال الخير الى مستحقيه
    كان الشيخ رحمه الله من المسارعين في الخيرات والمعجلين بتوصيل الأمانات إلى أهلها ، ومما يروى في هذا الباب أنه حدَث أن جمع مال ليلة الختم في رمضان، وهو كما سبق لا يقبل هذا المال، يقول الراوي إن الشيخ لم يصل فجر ذلك اليوم إلا وذلك المال قد وزع على الفقراء وكان مبلغا ضخما.
   ومما يروى في ذلك أنه كان من حين إلى آخر يؤتى بطرود كبيرة تحوي جلابيب، فلا تمضي إلا سويعات قلائل فتكون قد وزعت كلها على مستحقيها من طالبات المقرأة، وكذلك ما يقدم إليه من مال لصالح الطلاب؛ فإنه لا يبقيه عنده بل يسرع ويسارع في توصيله إلى أهله وإنفاقه عليهم؛ في مختلف مصالحهم العامة والخاصة.    
10- فصل في الحلم
    قالت إحدى طالباته في تعليق لها ما معناه أن مما تعلمته من الشيخ خلق الحلم ، ومن ذلك أن طالبة جريئة كانت توزع على طالبات مقرأته منشورات تحرم دراسة النساء على الرجال، فكانت تريد أن تكلمها في صنيعها فصدها الشيخ وقال: "دعيها يا بنيتي، إنها ستكبر وتتوسع مداركها"، وتضيف قائلة:" ثم إن هذه الطالبة وقعت في مشكلة، فكان الشيخ أول من سعى لحل مشكلها؛ رحمه الله وطيب ثراه".
11- فصل في العفو عمن ظلمه وأساء إليه
    كان الشيخ رحمه الله عندما يتحدث عمن يؤذنوه ويمكرون به ويوشون به يقول دائما هدانا الله وإياهم ، ويروي الشيخ الطيب لبعض جلسائه أن رجلا وسماه كان لا يحب أهل الدين والعلم عموما، والشيخ محمد نعيم خصوصا إلى درجة أنه كان يبصق على الأرض إذا مر أمامه، وذلك في سنوات التسعينيات؛ فلما توفي ذلك الرجل لم يجدوا من يغسله حتى طرقوا باب الشيخ نعيم؛ فاسترجع وأجاب الطارق فغسل الرجل وكفنه وأدى حقه على المسلمين كاملا.
   وكتب إليّ أحد الطلاب قال:" كان أكثر المواقف أثرًا على قلبي، أنّه ذات ليلة من ليالي رمضان والشيخُ مقبلٌ على المحراب يصلّي بنا صلاة التهجّد؛ وقبل أن يشرع في التكبير لمح وريقة ملقاة على سجادة الإمام، فلما فحتها وقرأها ارتسمت على وجهه ابتسامة التعجّب، ثمّ أقبل علينا وأخبرنا بمحتوى الورقة، وقال: إنها رسالة من أحد طلبته؛ يقول فيها: يا شيخنا قد اغتبتك وتكلمت فيك بغير حقّ، وإني أطلب منك الصفح والعفو؛ قال الشيخ:" قد عفوت عنك في الدنيا والآخرة وإني سأُهدي لك ثواب هاتين الركعتين".
12- فصل في حفظ كرامة الناس
   كان كثيرا ما يقدم المال لمن يحتاجه على أنه قرض؛ ثم إنه يخبر المقترض بأنه عفا عنه لعلمه بأنه لو قال له إنه هبة أو صدقة لم يقبله، يقول أحدهم:" فلما عزمت على رد المال قال: لا ترجعه قد نويته لله، فعلمت أنه قصد به الصدقة ابتداء وسترها بالقرض حفظا لكرامتي".
   وكان يقول لطالبات الحي الجامعي إذا مرضتن فلا تتغيبن عن المقرأة، فإنه يوجد معكن طبيبات يدرسهن هنا، وهن في خدمتكن وحتى الدواء مجاني، والواقع أنه هو من كان يتكفل بشراء الدواء ولا يخبر الطالبات بذلك.
13- فصل في خدمته للطلبة والطالبات
وهذا الباب إذا فتحنا الباب للروايات فيه لم يغلق، ومن ذلك إعداده للمقرأة قبل حضور الطلبة بكل ما يلزم، ففي الفترة الصباحية المخصصة للطالبات كان يعد لمن يحضر منهن بعد الفجر فطور الصباح، وكان يحضر لهن الشاي بيده وربما يشتري لهن الطعام بنفسه، وفي أيام البرد يجدن المدفئة قد أوقدت قبل وصولهن، وفي الأيام المطيرة يجدن منشفات وضعت عند المدخل لتجفيف الحجابات.
  وحدث مرةً أن كلف بعض الطالبات بشراء طعام لغداء الطالبات، فأرادت المكلفات الاقتصاد فاشترين ما يسمى في تلمسان بالكاران؛ فزجرهن رحمه الله على فعلهن، وأمرهن بشراء طعام محترم يليق بهن ما دام المال موجودا. وكان بعضهن يصمن الاثنين والخميس؛ فإذا شعر الشيخ بذلك -حين امتناعهن عن فطور الصباح- يخرج قبيل العصر من المقرأة ليجلب لهن التمر والحليب، وغير ذلك مما تجود به نفسه ليأخذنه معهن إلى الإقامة الجامعية .
  وكان كثير العناية بالطالبات المقيمات بالأحياء الجامعية البعيدات عن أهاليهن، فكان لهم بمثابة الأب والكفيل يقضي جوائجهن كشراء المطبوعات الجامعية والعلاج كما سبق، أو تكاليف التنقل إلى ولاياتهن، ولا سيما من يعلمها فقيرة أو يتيمة.
    ومن الأمور العجيبة أنه لما كان يفتح المقرأة بعد الفجر مباشرة كان يخرج قبل الفجر بسيارته فيسير في الطريق الرابط بين الأحياء الجامعية ومسجد بلال بن رباح، يحرس الطالبات ويراقبهن عن بعد حتى يشعرن بالأمان، وربما كان يتصل ببعضهن بالهاتف حتى يدفع عنهن الخوف ويؤنسهن أثناء السير، هذا قبل أن يغير التوقيت ويجعله على الساعة السابعة صباحا رحمه الله تعالى.
   وكتبت إحداهن تعليقا على هذا الفصل :" صدقت يا أستاذنا كنت طالبة عنده، وكنت أعاني من ألم في فمي، فدلني الشيخ إلى الأطباء وتكفل بالعلاج جزاه الله كل خير ورحمه رحمة واسعة"
14- فصل في التفاني في التعليم القرآني
   كان الشيخ رحمة الله في السنوات العشر الأخيرة من عمره بعد تقاعده من قطاع التعليم؛ قد تفرغ للتعليم القرآني كل التفرغ حيث كان يفتح مقرأته من الفجر إلى العشاء ثم صار يفتحها من السابعة صباحا إلى العشاء، وكان تدريسه يوميا عدا الجمعة ثم أضاف يوم الخميس إلى الجمعة بعد أن أحس بحاجة إلى بعض الراحة، حيث كان يمرض بسبب الإرهاق الشديد، فلم يكن يغيب عن المقرأة في بعض السنوات إلا سويعات كان يقتطعها ليحضر للتدريس في الجامعة، ثم صار يعتذر عن التدريس في الجامعة من شدة اهتمامه بطلاب مقرأته، وكذلك انقطع تماما عن الرقية لأنها كانت تأخذ منه وقتا طويلا، رغم ما فيه من نفع، ورغم أن كثيرا من الناس ربما لا يأتمنون على أسرارهم إلا الشيخ ولا يثقون في غيره في هذا الباب .
15- فصل في الانضباط في التعليم
   كان الشيخ محمد نعيم رحمه الله منضبطا جدا في تعليمه من ناحية الالتزام بالوقت والحرص وعدم الغياب إلا لظرف قاهر، وكان ملازما للمقرأة طيلة النهار لا يخرج إلا لحاجة ملحة أو مصلحة من مصالح الطلاب، بل كان لا يجيب على الهاتف وهو في المقرأة، ومن مظاهر انضباطه كما تقول إحدى الطالبات أنه لم يشرع في شرح كتاب إلا التزم بالوقت الذي حدده حتى يتمه، ولا يبالي بعدد الحضور. وكما كان هو ملتزما كان حريصا على الزام الطلاب بالحضور، وقد يتساهل مع طلاب المدارس والجامعات لكن يوم السبت لا يكاد يعذر فيه أحدا بالغياب، تقول طالبة إنها أحست بالتعب لمرض بها فاستأذنته في الخروج لترتاح في الإقامة فقال لها : بل ابقي هنا وإن وافتك المنية سمينا عليك المقرأة، ويقول آخر اتصلت به وقلت له قد يتعذر على زوجتي الحضور اليوم فهي متبعة بسبب الحمل كما أنها تعتني بطفلتها التي لم تبلغ السنتين، فقال له إذا كانت تستطيع أن تقرأ فلابد أن تحضر وتحضر معها ابنتها .
    وذلك لأنه يعلم أن طول انقطاع الطلبة بالأعذار الهينة؛ قد يكون ذريعة للفتور ومن ثم الانقطاع الكلي.
16- فصل في حكمته في التعليم
    ومما عرف به الشيخ الحكمة والتدرج في التعليم ومراعاة أحوال المتعلمين ومستواياتهم يقول أحد الطلاب الذين حفظوا القرآن على يديه :" في البداية كان لا يصحح لي إلا اللحن الجلي حتى ظننت أني أحسن القراءة، وهو إنما يفعل ذلك اتباعا لسنة التدرج في التعليم وحتى لا ينفرني، يقول: فلما تقدمت في الحفظ وعرضت عليه نحو خمسة أحزاب صار يصحح لي وينبهني إلى عشرات الأخطاء التي كان يسكت عنها قبل ذلك، ولو فعل ذلك في البدايات لجعلني أمل وأرى حفظ القرآن غاية مستحيلة" .
  ومن مراعاته لأحواله الطلاب ما ذكرته طالبة قالت : كنت أحفظ كما يحفظ الناس، لكن ما إن أكملت حزبين من سورة البقرة حتى ثقل علي الحفظ واستصعبته جدا لا أدري لماذا،  فانقطعت عن المقرأة، فسأل عني ، فذهبت إلى المقرأة معتذرة وقلت له لم أعد أستطيع الحفظ لذلك انقطعت، فقال لها  : إن جلوسك هنا في بيت من بيوت الله تقرئين القرآن وتحاولين الحفظ وتحضرين لدرس "قراءة في كتاب" في المواعظ؛ أفضل من بقائك في الإقامة، تقول فكان كلامه هذا كالدواء، وقد وفقت لحفظ اثنين وعشرين حزبا من القرآن الكريم.
   وكما كان مشجعا للطلاب في حفظ القرآن كان أيضا متلطفا رحيما بهم في الجامعة فكان لا يرد المتأخرين كما يفعله البعض، وقد حدثت قصة مع أحدهم وصل إلى الباب ولما رأى الشيخ هم بالرجوع نظرا لتأخره كثيرا عن بداية الدرس، فناداه الشيخ وقال:" هذه مجالس تحفها الملائكة ولو حضرتم كفارة المجلس فقط لكان خيرا".
17- فصل في الصلح بين الناس
   إن الشيخ قد رزق مكانة عالية جعلته مقصد الناس في حل مشكلاتهم، ورزق مهابة في النفوس جعلت الخصوم يذعنون لنصحه وتوجيهه، وقد وفقه الله تعالى في فض نزاعات كثيرة بين الأزواج وبين الأقارب والجيران والشركاء، وكان رحمه الله ربما شاورني في بعضها مما يتعلق بالحقوق المالية والأملاك. وكان رحمه الله أيضا ذا حكمة وأناة لا يعجل في هذه الأمور، ويسعى دائما للإصلاح ورد المظالم، وهذا باب عظيم من أبواب الخير، وقد قال ربنا عز وجل {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 114]
18- فصل في عبادته
    وأما عبادته رحمه الله فهذا مما قد يعسر استحضار الشهادات فيه لخفائه وعدم ظهوره، ولكن وجدنا بعض الروايات لا تخل من شذرات في هذا الباب يقول مرافقه في العمرة:"رأيته في العمرة قليل النوم مكثرا من قراءة القرءان، لا يكاد يخرج من المسجد إلا لضرورة ولا يدخل المحلات التجارية أبدا، ويقول ما يباع هنا يباع في بلادنا، ومن التفريط العظيم أن تسافر إلى الحرم ثم تنشغل بغيره".
   وتقول إحدى الطالبات :"وكان إذا صلّى بنا الفجر أطال، فقد يقرأ في الركعة ثمنا أو ما يزيد عليه بقليل، ويقرأ بتأن وكان يخشع في كل الصلوات التي حضرتها حتى نبكي ونحن نصلي معه"، وتقول :" وكانت له عادة جميلة كنت أحبها كثيرا حيث كان عندما يفرغ من صلاة الفجر؛ لا يباشر التحفيظ ولا يتحدث إلى أحد ولا يفعل شيئا؛ حتى يأتي بأذكار الصباح وهو يجول داخل المقرأة".
19- فصل في رقة القلب وسرعة الدمعة
   إن الشيخ رحمه الله كان ذا ابتسامة جميلة، وكان أيضا ذا نظرة حادة تدل على حزم وشدة فيه، ومما يرويه الطالبات أنه كان كثيرا ما يغضب منهم إذا رأى منهن تقصيرا أو فتورا فيزجرهن، لكن سرعان ما يعطف عليهن ويخشى من نفورهن فيظهر لهم رضاه وحلمه .
    ومما يحكيه أحد طلابه أنه زاره في المقرأة في الصباح فاستقبله وأكرمه وأجلسه مكانه وأمره أن يعظ الطالبات، يقول الراوي وهذا من تواضع الشيخ ، وأنه فعل ما أمر به الشيخ بعد تردد، ثم إن الله فتح عليه فاسترسل في الوعظ والتذكير؛ حتى لمح الشيخ يحاول إخفاء دمعته وتأثره بكلامه رحمه الله رحمة واسعة.
20- فصل في كراماته
    قال الراوي :"أخبرني أحد تلامذته الذين درسوا عنده بالثانوية أن الشيخ حدثهم عن أيام دراسته بالجامعة الإسلامية بالمدينة، فقال حدث له مرة في أيام الامتحانات أنه رأى في المنام في موضوع الامتحان وتكررت الرؤيا على مدار ثلاثة أيام، وفي الرابع يوم الامتحان وجد الموضوع كما رآه في المنام؛ لا ينقص منه حرف واحد".
21- فصل في دعوته إلى التوحيد الخالص وتعظيم السنة
   كتب أحد الطلبة معلقا على منشور لي :" وقد يضاف الى فضائله في سيرته رحمه الله، أن (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لشيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حجم صغير كان يلازمه في جيبه ويقول لطلبته: "هذا ما لا يفارقني"، ويذكر أيضا أنه تميز بقوة في لين، فمع لين جانبه وتواضعه كان قويا في الحق، وإنكار المنكرات كما في حادثة امتناعه تسليم خيمة لوازم العزاء، وأنكر على طالبها ودعاهم للسنة في أحكام الجنائز".
    وذكرني تعليقه هذا بحادثة قصها علي الشيخ رحمه الله حيث إنه كان في منتصف الثمانينيات يدرس كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب، قال فثارت ثائرة بعض الناس حتى خطبوا خطبة جماعية تحذر منه كان عنوانها (جاءنا وهابي)، وحدثني أنه لما دعي إلى نظارة الشؤون الدينية -كما كانت تسمى يومها- أخذ الكتاب منزوع الغلاف، وقال لمن سأله انظر هل في هذا الكتاب شيء يخالف الدين، فنظر فيه فلم يجد ما ينكر ورده إليه .
22- فصل في آخر درس ألقاه على الطالبات
   كان الشيخ فضلا عن تعليم القرآن الكريم له حصص في تعليم أحكام التلاوة، وحصص سماها قراءة في كتاب، يشرح فيها مواضع منها وربما يقرأها كاملة إن كان حجمها صغيرا، ومن الكتب التي كان يقرأ منها الموطأ وآثار ابن باديس، وكتب الشيخ أبي بكر جابر الجزائري؛ نحو نداءات الرحمن، ومنهاج المسلم، وهذا الحبيب يا محب في السيرة النبوية، وكان آخر درس ألقاه الشيخ في المقرأة على الطالبات متعلقا بحجّة الوداع ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر درس من دروس السيرة النبوية، ثم دعا بدعاء مطول تم تسجيله وبثه.
    وتقول إحدى الطالبات: لقد كان الشيخ كثير الذكر للموت في آخر أيامه في المقرأة، وفي هذا اليوم -يعني يوم ختم درس السيرة النبوية -قال عبارة لم نلقي لها بالا: (المقرأة مغلقة والملتقى الجنّة) ثم كتب على السبورة: المقرأة مغلقة من يوم كذا إلى مالا نهاية ...وقد اعتقدنا أنه يمزح كما كانت عادته حين يرى منا فتورا وكسلا فيهددنا بغلق المقرأة؛ حتى نستعيد همتنا ونواصل بجد، ولكنها لم تكن مزحة وقد صارت حقيقة ، فقد أغلقت المقرأة وأطفئت أنوارها وصرنا نرى أنفسنا أيتاما رغم أن والدينا لازالوا أحياء".
23- فصل في رثاء الشيخ محمد نعيم
نشر جمال بوعزي في حسابه قصيدة للشيخ الطيب براهيمي- حفظه الله - يرثي فيها الشيخ محمد نعيم _رحمه الله_ بعنوان (إلى اللقاء يا أعز الأصدقاء) فننقلها برمتها في هذا الموضع.
بكتك محاريب أخي و منابر    و مدرسة كنت فيها تحاضر
توالت دموع الحاضرين غزيرة    و أخرى احتوتها أن تسيل المحاجر
شباب أتى من كل صوب و جانب    وما منهمو إلا حزين وحائر
رثتك بيوت الله يا خير صاحب    وقد حزنت من ذاك تلك المحاضر
جموع أتت عجلى لتشييع شيخها    وقد شاركت في الحشد حتى الحرائر
عرفت نعيما و النعيم مؤمل    كريما ودودا تجتبيه النواظر
لقد جمعتنا ذكريات جميلة    صفا ودنا فيها وطابت خواطر
فلم ألقه إلا ضحوكا مرحبا    كلام نعيم بلسم وجواهر
فمن ذا يقيم الدرس بين شبابه    ومن عن كتاب الله سوف يناظر
ألم يقرأ القرآن عذبا مرتلا    وكم قلدته في الأداء حناجر
تلاوته أغرت شبابا فأقبلوا    على الدين تحذوهم جنان أواسر
جمعت ألوف الناس حيا و ميتا    وتاقت بَوادٍ للقا وحواضر
و علمت أجيالا و سرت مسيرة    و قاسيت أوصابا و أنت مصابر
فلم تنقطع يوما عن الدرس لحظة    إلى أن دهاك الدا وأنت مثابر
و يسأل إخوانه في كل مرة    وإن زرته يوما حوتك المفاخر
وما كنت ترجو في المقابل أجرة    ولكن قصدت الله معْه تتاجر
فلو كنت تسعى للحطام لنلته    ولكن رجوت الله والله شاكر
حملت لواء الذكر في زمن الردى    وقلت الى الأعمال هيا نبادر
ومن يرفع القرآن يعل مكانه    و تطربه في دار الخلود البشائر
ستفقدك الأجيال شيخا مربيا    وتفقدك الأقسام بله المحابر
ولا غرو أن الغصن غصن بن رابح    ومن يجهل الأفضال إلا مكابر
جزاك إله الخلق خير جزائه    وجاورت خير الخلق نعم المجاور
و أسكنك الفردوس رفقة أهلنا    وأشياخنا يا رب إنك قادر
فهذا الذي قد قلته قد خبرته    وثمة عند الله تبلى السرائر.
24- فصل في رؤيا صالحة رئيت له بعد موته
  كتبت إحدى الطالبات في حسابها وقالت:" وقف عليّ شيخي رحمة الله عليه عليّ في المنام قبيل الفجر، سمعت صوتاً يهمس لي بنيتي، وعندما ذهبت اتجاه الصوت وجدت شيخي رحمة الله عليه في بستان أخضر يضحك، لباسه من نور وحتى صوته الذي كان يخرج من فمه من نور، وقال لي بنيتي لا تحزني ولا تقلقي، فأنا عند ربي مع الصديقين والشهداء والصالحين ومع الصحابة رضوان الله عليهم أعادها عليّ ثلاث مرات، وقال قولي لأخواتك لا يحزنّ ولا يقلقن عليّ فأنا عند ربي ومع الصديقين والشهداء والصالحين ومع الصحابة رضوان الله عليهم أعادها عليّ ثلاث مرات أيضاً ، بنيتي لا تبرحي ثغرك وقولي لأخواتك لا يبرحن ثغرهنّ ولا يتخلّفن عن المقرأة، ولا عن قرآنهنّ حتى يلقين الله ويجتمعن معي، هنا في الفردوس الأعلى ثم استيقظت ". وصاحبة الرؤيا الآن معلمة قرآن والحمد لله على نعمته.
   وأرسلت لي أخرى رؤيا تقول فيها: رأيت الشيخ نعيم رحمه الله في المنام كان يمشي وهو متعب يريد صعود درج إلى منزل أبوابه سوداء، فأمسكت يده وساعدته وبدأ يصعد الدرج وإذا بنا نرى رجلين عند باب البيت الذي يقصده سألته من هذان الرجلان فقال لها هذا فلان وابنه وعندما اقترب منهما قاما إكراما له، وأخبرها أنهما هم من أعطاه هذا المنزل، فلما دخلنا المنزل وجدناه غرفة واسعة ومنظمة، فقلت للشيخ استلقي هنا ووضعت تحت رأسه وسادة وسألته هل تشعر بالبرد لأغطيك، فقال لي لا أنا بخير ولا أشعر البرد". وسألت عن تأويلها عن الشخصين المذكورين، وتأويل الرؤيا حسب المعبر أن الشيخ تعب في آخر عمره ولكن الله تعالى عوضه عن تعبه وعن تعليمه القرآن بالنعيم والراحة، بدلالة أن الشخصين المذكورين كلاهما حفظ القرآن على يديه، والغرفة الواسعة أمن وآمان، وكذا عدم احتياجه للغطاء يدل على أن ما قدم من أعمال كفاه للنجاة بين يدي الله تعالى.
 تم المقصود بعون الله تعالى وفضله ورحمه الله رحمة واسعة


تم قراءة المقال 701 مرة