لثلاثاء 30 محرم 1443

(54) التربية الفكرية : التربية على تعظيم الوقت

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الثالث : التربية على تعظيم الوقت
    من عناصر التربية الفكرية للطفل تربية على تعظيم الوقت، هذا الوقت الذي يعتبر من أهم نعم الله تعالى العباد بعد نعمة الهداية والإيمان، وهو ساعات العمر أو المجال المحدود فيه تجري أعمال الإنسان وانجازاته، وهو ركن أساس يقوم عليه البناء الحضاري للأمم، ولذلك كان من الأشياء المهمة التي ينبغي أن يتربى عليها النشء المسلم تعظيم الوقت والحرص عليه، وعدم تضييعه في التفاهات وسفساف الأمور، لابد أن يبصر بقيمة الوقت في حياة المسلم، وأن يُعلّم أن الزمان بسنواته وشهوره وأيامه وساعاته هو رأس ماله في هذه الدنيا فمن أضاعه هو كالتاجر الذي ضيع رأس مال تجارته.
بلاء في الأمة منتشر
    إننا نرجو لأمتنا التي تعيش في هوان وتخلف عظيم أن تنهض وترجع إلى مكانتها الريادية؛ ولكن هذا الرجاء يبقى بعيد المنال ما دامت الأمة لم تعرف قيمة الوقت وأثر استثماره على الفرد والجماعة، وما دام داء تضييع الأوقات ينخر جسد الأمة، ويسري في شبابها وكبارها ورجالها ونسائها، يشب عليه الصغير ويشيب عليه الكبير، وأعراض هذا الداء يعجز المرء عن الإحاطة بها لكثرتها، لكن منها كثرة الكلام في ما لا يعنيهم ولا يفيد والخوض في كل شيء، كثرة الجلوس في المقاهي والمنتزهات وقوارع الطرقات، متابعة التفاهات التي لا حد لها عبر القنوات التلفزيونية، الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي والانقطاع عن الواقع، ملء الملاعب ودور اللعب الإلكترونية، الاشتغال بالتسالي التي زودت أجهزت الحاسوب والهواتف المحمولة، متابعة تفاصيل أخبار المنافسات والمباريات الكروية وأخبار الرياضيين والممثلين والمغنين، وتتبع عورات الناس من الأقارب والجيران وغيرهم، شيوع البطالة الإرادية والإفراط في النوم وكثرة السهر وعدم الاستيقاظ إلا قبيل الظهيرة، ولا نتحدث عما يوجبه الفراغ عن الشغل من المعاصي كشرب الدخان والمخدرات والمعاكسات.
    ومما يؤسف له أيضا أننا نرى العامل والصانع والباحث والمعلم أيضا لا يعرف للزمن قيمته، فالعمل الذي حقه أن ينجز في يوم ننجزه في أسبوع، ما ينبغي أن ينجز في شهر نستغرق فيه سنة، وهذا من أعظم مظاهر غش الأنفس وإهدار الأعمار وأهم عوامل التخلف.
طرق تربية الأولاد على تعظيم نعمة الوقت
أولا : الوعظ والتذكير
أول سبيل لرد الأمور إلى نصابها وتربية النشء على غير ما وجدنا عليه أمتنا التوعية والوعظ والتذكير، ومن ذلك :
1-أن ننبه الولد إلى عظم نعمة الوقت، إذ لولا هذه الأعمار الممدودة لما عرفنا الله تعالى ولما عبدناه، ولما أمكننا أن نتوب ونرجع إليه، ونبين له أن هذه النعمة منحة ربانية لا يقدر العبد على خلقها ولا الزيادة فيها ولعظمتها قد أقسم بها الرب جل جلاله، في سور كثيرة في القرآن الكريم فأقسم بالفجر والضحى والليل والعصر وغيرها.
2-أن نحدد للولد الهدف الرئيس في هذه الحياة وهو عبادة الله تعالى، فإن ذلك يجعله يحسن تنظيم أعماله وواجباته بحسب الأولويات، لأن كل ما في هذه الدنيا ينبغي أن يكون خادما ومكملا للهدف الأول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ » رواه الترمذي وابن ماجة .
3-وتبعا لما سبق يجب أن نبطل في أنفس الناشئة تقسيم الوقت إلى وقت فراغ ووقت عمل، فإنه لا يوجد عند المسلمين وقت فارغ، قال تعالى : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) (الشرح:7-8) ونعلمه أن حياته كلها بجميع أعمالها يمكن أن تكون كلها عبادة وكلها لله تعالى؛ وذلك إذا اقترنت بالنية الصالحة، كما كان ابن معاذ رضي الله عنه يحتسب الأجر في نومه حيث كان ينام أول الليل ليقوم آخره وقال: « أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحتسب اللهو وعلل ذلك بقوله : « إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فأقوى بذلك فيما بعد على الحق».
4-ومما ينبغي تحفيظه الأولاد بعض الحكم والأمثال المأثورة في تعظيم الوقت كقول الحكماء:" من علامة المقت إضاعة الوقت" وقولهم :"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" وقولهم :"الوقت من ذهب إن لم تحرصه ذهب".
ثانيا : الترهيب
   من وسائل التربية على تعظيم الوقت الترهيب من تضييعه ومن البطالة، وذلك من خلال النقط الآتية :
1-التذكير بالحساب على النعم، أن نعلم الولد أن الله تعالى سائلنا عن النعم جميعها قال : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (التكاثر: 8) وعلى رأس هذه النعم نعمة الوقت، أن نحفظه قول النبي صلى الله عليه وسلم :» لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ » رواه الترمذي وصححه.
2-تعليم الولد قول النبي صلى الله عليه وسلم:« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » رواه البخاري ومعناه أنهم محرومون من فضل هاتين النعمتين وأجرها، إذ من لا ينفقهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، وكل الناس منعم عليه بالصحة والفراغ في أكثر أحواله وما على المرء إلا اجتناب مطاوعة النفس في هواها حتى لا يكون من الخاسرين ، وقد قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» رواه الترمذي وصححه.     
3-تذكير الولد بعقوبة كفر نعمة الوقت، وأولها محق بركته كما أخير خير الأنام عليه الصلاة والسلام أن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان قال صلى الله عليه وسلم:« لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» رواه الترمذي وصححه الألباني.
4- وكذلك نعلم الأولاد قصر الأمل في الدنيا والابتعاد عن التسويف ، والعمل بوصية النبي  : «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» رواه البخاري. وعلينا أن نتلو عليهم قوله سبحانه : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37). وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99-100).
ثالثا: القصص الهادف
   من وسائل التربية على تعظيم الوقت القصص الهاتف فنمكن الأولاد من قراءة سير سلفنا وعلمائنا كيف كانت أحوالهم وما خلفوه من أعمال وانجازات ومؤلفات، ومن الآثار المنقولة عن السلف في ذلك قول الحسن البصري:« أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه وديناره »، وقول عامر بن عبد قيس لما جاءه رجل؛ فقال له كلمني، فأجابه بقوله :« أمسك الشمس».
    ومما يدل على عظيم اعتنائهم بالوقت مقدار محفوظاتهم، والكتب نسخوها بأيديهم وسمعوها من شيوخهم فضلا عن التي طالعوها قراءة، ولعل من النماذج العجيبة التي يحسن ذكرها الإمام ابن الجوزي الذي ألف أكثر من ثلاثمائة وأربعين مصنفا في مختلف الفنون؛ منها ما وضعه في عشرين مجلدا، هذا مع أنه كان مشتغلا بالتدريس والوعظ، وإذا سمعت عن مقدار ما قرأه من كتب لم تزل متعجبا، حيث قال: «ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب»، لكن يزول العجب عندما نعلم أنه كان لا يضيع أي لحظة من لحظات عمره، وقد كان رحمه الله يستغل وقت حديثه مع الناس إذا زاروه في بيته لبري الأقلام، وجمع براية أقلامه التي كتب بها الحديث وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها.
   ومن النماذج أيضا تلميذه أبو الوفاء ابن عقيل صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد –غير مؤلفاته الأخرى-  الذي قال وهو يحكي عن نفسه وعن منهاج حياته: «إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة». وقال : « أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه».
   ولا ننسى أيضا ذكر بعض أعلام البشرية الذين نبغوا وأتوا بما أدهش العالم بسبب استغلالهم لأوقات فراغهم، ومنهم "تشارلس فروست" الذي كان إسكافياً يصلح الأحذية، وقد أصبحَ من البارزين في الرياضيات بتخصيص ساعة واحدة من يومه للدراسة، ومنهم "جون هنتر" الذي كان نجاراً، ودرس علم التشريح في أوقات فراغه، مخصصاً لنومه أربع ساعات فقط من الليل، حتى أصبح حجة في هذا الميدان، ومنهم "سير جون لايوك" الذي كان مديرا لمصرف لكنه استطاع أن يقتطع من يومه المزدحم بالعمل ساعاتٍ أخلصها لدراسة التاريخ حتى أصبح عَلَماً بين المؤرخين، ومنهم "جيمس واط" الذي كان تاجرا ومع ذلك درس الكيمياء، واخترع محرك البخار.
رابعا : التعويد
   ونربي الولد على الحفاظ على الوقت بتعويده احترام الوقت وتعظيم المواعيد وربط الأعمال بمواقيت محددة كالصلوات الخمس ، وكذا بتنظيم أمور حياته مما يقلل من أسباب ضياع الأوقات، ومن ذلك انتقاء الصحبة وتقليلها لأن كثرة المخالطة مشغلة وإذا كانت مخالطة للبطالين الذين لا هدف لهم في الحياة فهي الانتحار بعينه، ومن ذلك تنظيم أوقات النوم وعدم اطلاق العنان له في ذلك، ومن ذلك تجنيبه الفراغ وملء أوقاته بالأعمال المفيدة الأخروية والدنيوية، من ذكر الله تعالى، وتلاوة للقرآن، أو مطالعة كتب العلم ، أو إسهام في عمل تطوعي، أو ممارسة للرياضة، أو قضاء لحوائج البيت.

تم قراءة المقال 578 مرة