الأربعاء 3 محرم 1443

محبة الله عز وجل وجوبها وفضائلها وأسبابها ولوازمها

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

محبة الله عز وجل وجوبها وفضائلها وأسبابها ولوازمها

   إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أمّا بعد:
   فإنّ محبة الله تعالى عبادة من أهمّ العبادات القلبية، ومنزلة عظيمة من منازل الدّين، إذ هي قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرّة العيون وسرور النفوس، ونور العقول وعمارة الباطن، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام(1).
    إنها للمؤمن السائر إلى الله تعالى كالرأس من الطائر، والطائر إذا فقد رأسه مات وانقطع طيرانه، وكذلك العبد إذا ذهبت المحبة من قلبه انقطع سيره إلى الله تعالى.
المطلب الأول : أهمية إخلاص المحبة لله تعالى
    إنّ محبّة الله من أوجب العبادات على العباد، عبادة فَقدُها من أصلها يكون خروجا عن الإسلام، ونقصانها وضعفها سبب الوقوع في المعاصي، وزيادتها وقوّتها هي الوقود الدافع إلى الطاعات، فهي شجرة مغروسة في قلب المؤمن موحد، فإذا سُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
  إنها عبادة داخلة في أصل الإيمان، بل هي أصلُ أصلِ الإيمان، فإن الإيمان قول وعمل وأصله في القلب وفروعه في الجوارح، والمحبة أصل الإيمان الذي في القلوب، إذ قول العلماء "إن الإيمان قول وعمل" يقصدون به قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، وقول القلب هو تصديقه ومعرفته، وعمل القلب هو إخلاصه ومحبته وتعظيمه وخوفه ورجاؤه.
   ومحبة الله تعالى واجبٌ تحصيلها، وواجبٌ على كل مسلم إن يفرد بها المولى عز وجل ويخلصها له، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«أصل التوحيد وروحه: إخلاص المحبّة لله وحده، وهي أصل التألّه والتعبّد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتمّ التّوحيد حتى تكمل محبّة العبد لربه، وتسبق محبّته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها، بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه»(2).
   ومحبة الله تعالى عند تأمل معناها هي لب العبادة وحقيقتها، حتى أن الحب عند علماء العربية على مراتب كثيرة منها العِلاقة ثم الصُّبابة ثم الغرام ويجعلون آخر مراتبه التتيم، والتتيم التعبد، ولذلك يقال تيم الله بمعنى عبد الله، فتبين من هذا أن العبادة تعني أعلى مراتب الحب وأخلص الحب وأكمله(3).
   إن المحبة عمل قلبي، به نصحح التزامنا بالإسلام واستقامتنا، وبه نقوِّم طريق سيرنا إلى الله تعالى، فالطاعات التي خلت من المحبة كالجسد الذي لا روح فيه، وإذا خلت العبادات من محبة الله عز وجل صارت كالأعمال الآلية يدخل فيها أحدنا ويخرج منها من دون أن يكون لها أيّ تأثير في نفسه ولا أيّ تغيير في سلوكه.
المطلب الثاني: وجوب إخلاص المحبة لله تعالى
1-قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)، وهذا من أصرح الأدلة على وجوب محبة الله تعالى وعلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى أعظم ما يحبه النّاس في هذه الدنيا من المتاع والأقرباء، وتوعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله وذلك بقوله: (فتربّصوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، أي: فانتظروا ماذا يحلّ بكم من عقابه ونكاله بكم، ولهذا قال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (4).
   ولا شك أن الناس يُحبُّون أشياء كثيرة مَحبةً طبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد، وهذه المحبة لا تحمد لذاتها، وكذا لا تذمّ إلاّ إذا قُدِّمت على محبة الله تعالى ورسوله أو ألهت عنهما، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (المنافقون:9)(5).
    ومحبة الله تعالى مُختلفةٌ عن المحبة الطبيعية، ومن أهم ما يميّزها عنها: اقترانها بالتعظيم والخوف، لذلك ليس هناك محبة صحيحة مقترنة بالتعظيم إلاّ محبة الله عز وجل.
   وبهذين الركنين تتميز العبادة وتقبل عند الله تعالى، فالسّجود والركوع من غير محبة وتعظيم حركة رياضية، والمنافقون لا تقبل أعمالهم لخلوّها من الإخلاص والمحبّة، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54).
2-وقد بيَّن الله عز وجل أنَّ صرف هذا النّوع من المحبة لغير الله تعالى شرك؛ فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة:165)، هذا حال المشركين الذين كانوا يحبّون الله تعالى ويحبّون معه تلك الأصنام التي يعبدون من دون الله تعالى، لم يرتض منهم الربّ سبحانه هذا التشريك، وأخبر أنّ صفة المؤمنين أنّهم يحبّونه ولا يحبّون أحدا مثل مَحبّته، فالله تعالى هو المحبوب الأول عند المؤمنين(6).
   والذين أشركوا في عبادة الله تعالى إنّما جرّهم إلى ذلك أحد أمرين: إمّا صرف المحبة الّتي هي حق الله تعالى إلى من لا يستحقّ المحبة أصلا، كمن أحب الأشجار والأحجار والكواكب وما أشبهها مما لا يضر ولا ينفع، أو غلوّهم في مَحبّة من تجب له المحبة، كمن غلا في حب الصّالحين حتى أداه غلوه فيهم إلى جعلهم أندادا لله عز وجل.
3- ومن أدلة إيجاب إخلاص المحبة لله تعالى، قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54) وجهه أن الله تعالى ذكر أخص صفات العباد الذين يُحبهم ويرضى عنهم، فكان أوَّلُها أنَّهم يُحبونه، وباقي الصفات المذكورة تعتبر من فروع محبة الله تعالى كما يأتي بيانه.
    ومما هو معلوم أن كل ما ثبت أنه عبادة لله عز وجل يَجب إخلاصه له، ومحبة الله تعالى عبادة لا شك فيها فوجب إخلاصها لله تعالى وعدم الإشراك فيها.
    وقد أوجب الله تعالى علينا محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين الصالحين، فكيف يكون أمر محبته سبحانه التي هي أصلها.
المطلب الثالث : فضائل محبة الله تعالى
    ولمن حقّق محبة ربه تبارك وتعالى على وجه الكمال عدّة فضائل؛ منها ما يأتي شرحه في النقط الآتية:
1-الفوز بمحبة الله تعالى
   وقد كان بعض أهل العلم يقول:" ليس الشأن أن تُحب الله، ولكن الشأن أن يُحبّك الله"(7). والله عز وجل هو الودود الذي يُحِبُّ ويُحَب، كما قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الحديث القدسي:«وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ»(8) ، وبهذه المحبة يُنَزَّل المُحِبُّون أفضل المنازل، وجاء في الحديث القدسي أيضا: «الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ»(9).
   ولأجل هذا الفضل تطلّع الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه المنزلة وتنافسوا فيها، وقد روى سهل بن سعد  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأُعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه، يُحبُّ الله ورسولَه ويُحبُّه الله ورسولُه، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله  كلهم يرجو أن يعطاها، فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتك عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأُتيَ به، فبصق رسول الله  في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية(10) ، وفي رواية أن عمر بن الخطاب  قال يومها:" ما أحببت الإمارة إلا يومئذ". أحبها لا لأجل الإمارة، ولكن لأجل هذه الشهادة الرفيعة ( يحبّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه الله ورسولُه).
2-بلوغ المنازل العالية
    ومن فضائل محبة الله تعالى أنها ترفع العبد إلى الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومما يدل على ذلك خبر ذلك الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: مَتَى السَّاعَةُ قَالَ وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ  أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ  وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ(11).
3-تحصيل لذة الإيمان
   ومن فضائلها تحصيل لذة الإيمان وحلاوته، وتمام النعيم وغاية السرور: وذلك لا يحصلُ إلا بمحبة الله عز وجل ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار»(12) فلا يغني القلبَ، ولا يَسُدُّ خلَّتَه ولا يشبعُ جوعته إلا أن يَمتلأ بمحبة ربه سبحانه، وبالإقبال عليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به لم يأنس ولم يطمئن إلا بمحبة الله جل جلاله.
4-الاستقامة وترك المعاصي
    ومن فضائل المحبة أنها من أعظم ما يحمل العبد على الاستقامة وترك المعاصي ومجانبة ما يغضب الرب سبحانه، قال ابن القيم في محبة الله عز وجل:«وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته، ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطانُ المحبةِ في القلب كان اقتضاؤه للطاعة، وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة مِنْ ضَعْفِ المحبة وسلطانِها، وفرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خَوْفُه من سوطه وعقوبتِهِ، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده»(13).
5-الصبر وتسلية المصاب
   ومن فضائلها تسلية المحب عند حلول المصائب: قال ابن القيم:« فإن المحب يجد من لذة المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد مِنْ مسِّها ما يجد غيرُه، حتى كأنه قد اكتسى طبيعةً ثانيةً ليست طبيعةَ الخلق. بل يَقْوَى سلطانُ المحبةِ حتى يلتذَّ المحبُّ بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخليِّ (أي العاري من المحبة) بحظوظه وشهواته»(14).
6-الاطمئنان وقطع الوساوس
   والمحبة تورث الاطمئنان وتقطع الوساوس عن القلوب التي امتلأت بها، لأنها والوساوس نقيضان لا يلتقيان، قال ابن القيم:« فبين المحبة والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة؛ فعزيمة المحب تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره، وذلك سبب الوساوس، وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغاً لوسواس الغير؛ لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه، وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى؟ ومن أين يجتمع الحبُّ والوسواس؟»(15).
7-الشفاعة في الدنيا والآخرة
    ومن الفضائل أن محبة الله عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وسلم تشفع لصاحبها في الدنيا والآخرة، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا أنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(16).
8-حسن الخاتمة
   ومن أعظم فضائل محبة الله أنه يظهر أثرها على فراش الموت، إذ عند الموت يُخرج قلب العبد ما كان فيه، فيتكلم من غير أن يتحكم في حواسه، والمرء إذا كان في الحياة فإنه يستطيع أن يتحكم في نفسه، فيظهر للناس خلاف ما يخفيه في قلبه، أما عند الموت فإنه يفقد هذه الاستطاعة، فتظهر كل الأشياء التي في قلبه على لسانه، فمن كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة وذكر الله تعالى، لأن هذا ما كان يعمر قلبه؛ ومن كان في قلبه محبة غير الله تعالى من شهوات الدنيا فيحصر ويبتلى بسوء الخاتمة، وربما يذكر ما كان يحبه من مال وتجارات وديار وسيارات أو ألفاظ الغناء وأسامي النساء، نسأل الله تعالى العافية.
المطلب الرابع : أسباب تحصيل عبادة المحبة
   بعد أن تحدثنا عن أهمية عبادة المحبة وبينا وجوبها وفضائلها، نأتي إلى بيان أسباب تحصيلها وتقويتها في النفس:
1-الوقوف على أهمية محبة الله ومنزلتها من الاعتقاد
   إن أول شيء يجعلنا نسعى إلى تحصيلها أن نعلم وجوبها ونقف على أهميتها ومنزلتها في الدين؛ فهي أصلُ أصلِ الإيمان وأساس العبادة وروح التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبها تكون حياة القلوب وهي غذاء الروح، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظمَ من ألم العينِ إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسان إذا فقد نُطْقَه؟! بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره، وبارئه، وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح. وهذا الأمر لا يصدِّق به إلا مَنْ فيه حياةٌ، وما لِجُرْحٍ بميت إيلام»(17). ويقول ابن تيمية: «وأيضا ففي قلوب بني آدم محبة وإرادة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك هو قوام قلوبهم وصلاح نفوسهم كما أن فيهم محبة وإرادة لما يطعمونه وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم ويدوم شملهم، وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء، فإن الغذاء إذا فقد يفسد الجسم وبفقد التأله تفسد النفس، ولن يصلحهم إلا تأله الله وعبادته وحده لا شريك له»(18).
2-الوقوف على فضائل محبة الله عز وجل
  وكذلك نحصل المحبة بالوقوف على تلك الفضائل التي سبق ذكرها، فإن من فائدة ذكر الفضائل والثمار الترغيب في تحصيل العمل.
3-تعلم الأسماء الحسنى
  وأهم ما تحصل به محبة الله تعالى في قلوب العباد تعلم أسماء الله تعالى وصفاته الدالة على جماله، وتدبّر معانيها، فمن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبّه لا محالة، وكيف لا يحبه وأسماؤه كلّها حسنى بالغة في الحسن غايته، وصفاته كلّها كاملة لا نقص فيها، والقلوب مفطورة على محبّة كل حسن وكل كامل في أوصافه وأخلاقه، ولا شيء كامل إلا الله عز وجل، ولا شيء أجمل من الله، فكل جمال وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وكلّ اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبّة خاصة، وتعالوا بنا نلقي نظرة خاطفة على بعض الأسماء ومعانيها الظاهرة.
   فالله تعالى هو الرّحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة، والله تعالى هو الرّؤوف، والرّأفة هي: أعلى معاني الرحمة وهي رحمة وحنان، وهو الحليم ومن حلم الله صبره على كفر النّاس وفسوقهم وعدم تعجيل العقوبة لهم، وهو الكريم والكرم: هو الإعطاء من غير سؤال وبلا حساب، وهو الهادي والهداية: إرشاد العباد إلى جميع المنافع وتحذيرهم من المضار وتعليمهم وتوفيقهم للخير، وهو الودود الذي يحِب عباده المؤمنين الصالحين، وهم يحبونه.
   وهذا من أعظم الطرق الموصلة إلى محبة الله؛ لأنّ محبّة الأشياء تابعة للمعرفة بصفاتها، فنحن نحب الرجل إذا علمنا أنه مؤمن من المصلين، فإن علمنا أنه من أهل النجدة والإغاثة، ومعروف بالجود والكرم ازددنا محبة له، فإن تبين لنا أنه من العلماء الناصحين ازددنا محبة له، أما الشخص يذكر لك اسمه دون أي شيء من صفاته؛ فلا يمكنك أن تكون محبا له ولا مبغضا، وكذلك الله تعالى – ولله المثل الأعلى – إنّما يحبّه عباده على قدر معرفتهم بمعاني أسمائه وصفاته، ولذلك كان الأنبياء أعظم محبة لله تعالى من غيرهم، ثمّ العلماء به لأنّهم يعرفون من معاني الأسماء والصفات وآثارها مالا يعرفه عامّة الناس، وكلّما أكثر القلب من مطالعة أسمائه وصفاته وأفعاله؛ ازدادت محبّته له(19).
4-تذكر نعم الله عز وجل
   ومن أسباب محبة الله تعالى تذكّر وملاحظة نعم الله الظّاهرة والباطنة الّتي نتقلّب فيها، ومشاهدة برّه تعالى وإحسانه، قال تعالى –حاكيا ما قال هود عليه السلام لقومه-: (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف:69) ذلك أنّ النّفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً على العباد من ربهم عز وجل، ونحن إنّما نحبّ والِدَيْنا أكثر من غيرهم من النّاس لأجل هذه الجِبلّة، وإنّ العبد يتقلب في نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، والمطلوب من العبد أن يتأمل هذه النعم وأن يرد فضلها إلى الله كنعمة الإيمان والهداية، ونعمة الحياة، ونعمة الصحة، وسلامة الحواس، ونعمة الطعام والشراب، ولكنّ كثيرا من النعم لا نشعر بأنّها نعمة لعدم فقدها، فنعمة الهواء الّذي نتنفسه من أعظم النعم إذ به حياتنا وحياة كل الكائنات على وجه الأرض، وهذا الماء الّذي أصبح في زماننا موجودا في كل مكان من أعظم النعم التي نُسأَل عنها، وقد امتن الله تعالى علينا به، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء:30) وقال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة:22) ولنتصوّر أنه لا يوجد هواء ولا يوجد ماء ! ثمّ لنتصوّر كم هي عدد النعم التي هي من آثار هاتين النعمتين.
    ومن بِرِّ الله تعالى وإحسانه أنه كلف ملائكة يحفظون العبد ومنذ كان نطفة في رحم أمه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ»(20) ، وإذا خرج وكل به الحفظة قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه) (الرعد:11)
5-تذكر ما أعده الله للمؤمنين في الجنة
   ومن أسباب تحصيل المحبة تذكر ما أعده الله تعالى لعباده المتقين في جنات النعيم، فإنّ العبد إذا نظر إلى تقصيره وتقصير الناس وعصيانهم، وقارنه بما يقابلهم به الربّ سبحانه من عفو ومغفرة وإحسان، ازداد من غير شكّ محبةً لله تعالى، ويكفينا أن نذكّر في هذا الموضع بحال آخر النّاس دخولا الجنة، الّذي يخرج من النار حبواً وما تأخر إلاّ لمعاصيه الغالبة، ومع ذلك فإن الله تعالى يعطيه في الجنة قدر الدنيا وعشر أمثالها، حتى إنّه لا يصدّق ذلك ويقول لرب العزّة جلّ جلاله:" تسخر مني وأنت الملك؟! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا (في رواية حبوا وفي رواية زحفا) فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً»"(21).
6-تلاوة القرآن الكريم
   وهذه الأمور السالفة الذكر من معرفة أسماء الله تعالى ونعمه ونعيم الجنة إنّما تعرف أساسا بتلاوة القرآن الكريم، وتدبر آياته، وتفهم معانيه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29)، فهذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهمّ من إنزال القرآن، ولاشيء أنفع للقلب وأجلب لمحبة الله من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنّه جامع لجميع منازل السّائرين وأحوال العاملين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والشكر والصبر وسائر أعمال القلوب. ويلتحق بهذا مدارسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تفسر القرآن وتربط العباد بربهم وتذكرهم بوعده ووعيده.
7-الإكثار من الطاعات والمداومة عليها
   ومنها: الإكثار من الطاعات، والمداومة عليها فرضها ونفلها، لتحصيل معنى القرب، فإنّ من الأمور الّتي تقوّي المحبّة الاقتراب من المحبوب، والاقتراب من الله تعالى إنّما يكون بالإكثار من الطاعات والمداومة على ذكره وتلاوة كلامه، ومراقبته سبحانه في الأقوال والأعمال. وقد جاء في الحديث القدسي:« وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»(22) ، وإذا أحبّه أكرمه بلذة الإيمان والمحبة التي يتطلع إليها، وعلى هذا فكلّ الأعمال الّتي علمنا أن الله يحبها ويحب عاملها فهي من أسباب التوفيق إلى محبة الله تعالى.
8-الإكثار من ذكر الله تعالى
   ومن أخصّ تلك القربات الموجبة لمحبة الله : ذكر الله باللّسان والقلب، ونصيب العبد من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر(23) ، ولهذا أمر الله تعالى بالذكر وجعله سببا للفلاح فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)، وأثنى على أهل الذكر ومدحهم، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191) وجعل الله هذا الذكر حتى بعد العبادات العظيمة وخاتمة الأعمال الصالحة، بعد الصيام (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، والحج (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة:200)، والصلاة (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)  (النساء:103)، وأفضل ذلك ما كان في الخلوات في وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه ودعائه واستغفاره والإنابة إليه، قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16).
9-مجالسة المحبين الصادقين وقراءة سيرهم وآثارهم
   ومما ذكره ابن القيم في هذا الباب أي باب أسباب تحصيل المحبة: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم(24). ذلك أن كلام الصالحين من علماء السلف العاملين إنما هو ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وقد قيل عن الحسن البصري إن كلامه يشبه كلام الأنبياء(25) وذلك لما تضمنه من مواعظ بليغة وحكم عزيزة .
10-مجاهدة النفس
   ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل مجاهدة النفس وإرغامها على تقديم محبة الله على محاب النفس وشهواتها وإيثار الله تعالى على النفس والهوى، قال ابن القيم رحمه الله:« فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها, وخير له وأنفع وأدوم, وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه, فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها: صرف ذلك الشوق والمحبة والإرادة إلى النوع العالي الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم»(26).
11-الدعاء والاستعانة
    ومن أعظم أسباب تحصيل المحبة: دعاء الله تعالى والاستعانة به والتضرّع إليه، والانكسار بين يديه وإعلان الافتقار إليه، وقد كان من دعاء الرّسول صلى الله عليه وسلم (أمره جبريل أن يقوله إذا فرغ من الصلاة):«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ»(27). (أَسْأَلُكَ حُبَّكَ) أي محبتي إياك بدلالة ما بعده، و(الفتنة) الضلالة أو العقوبة.
المطلب الخامس: لوازم إخلاص عبادة المحبة
    وإذا تحققت المحبة في القلوب كان لذلك عدّة علامات على الجوارح، والمحبّة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وثمارها تظهر في القلب والجوارح، كدلالة الثمار على الأشجار والدخان على النار وهذه العلامات كثيرة منها:
1-إعلان الخضوع لشرع الله تعالى
  أول اللوازم الانقياد لله جل جلاله وقبول أحكامه، وإعلان الإسلام والذل والخضوع لشرائعه، ولا يصح إيمان من غير هذا، ولا تقبل الشهادتان إلا بالقبول والانقياد، القبول الذي يعني الرضا بأحكام الله تعالى وعدم الاعتراض عليها، والانقياد الذي يعني الاستسلام لها والاستعداد للامتثال لها.
2-المسارعة إلى طاعة الله عز وجل
   ومن لوازم محبة الله طاعته والمسارعة إلى إرضائه، فالمحبة من أقوى أسباب الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها(28)، وقد قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه    هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته     إن المحب لمن يحب مطيع
والقاعدة: أنّ الإنسان لا يمكن أن يترك محبوباً إلاّ لمحبوب أعلى منه، لذلك وجب على المؤمن أن يؤثر محابّ ربّه على محابّه، وعلامة هذا الإيثار شيئان: فعل ما يحبه الله ولو كانت نفسك تكرهه، وترك ما يكرهه الله ولو كانت نفسك تحبه.
3-إيثار الله تعالى بالطاعة
   ومنها تقديم طاعة المحبوب سبحانه وتعالى على طاعة غيره من مخلوقاته كالآباء والسلاطين، ومن أطاع أحدا في معصية الله – أو من غير مراعاة أمر الله ونهيه – فقد اتّخذ ربا وإلها معبودا من دون الله، قال الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»(29) ، وقال صلى الله عليه وسلم :« لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ»(30).
    ومحبة الوالدين فطرية جبلية وهي داعية إلى طاعتهما، وقد أمر الله تعالى ببرهما والإحسان إليهما ولو كانا كافرين،، ولكن إن أمرا بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لهما قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان:15).
4-الصبر على الشدائد والرضا بالقضاء
   ومنها الثبات على الدين والصبر على المكروهات والرضا بالقضاء والتلذذ بالابتلاءات، والصبر من أعلى المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين، وهي معيار التمييز بين الصادق في محبته والكاذب فيها، وقويّها وضعيفها، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11)، ولما أخبر هرقل أنه لا يرتد أحد من المسلمين كراهة لدينه قال:« كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب»(31) ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:«إنّ في الدنيا جنّةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة»(32 ، ويقول رحمه الله – وهو الذي كانت حياته كلها جهادا وصبرا على الاضطهاد –:« ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة»(33). وأعظم الناس محبة لله أشدهم صبراً وهذا ما وصف الله به أولياءه فقال عن عبده أيوب لما ابتلاه (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:44)، وقد سبق في فضائل المحبة أنهم ربما يتلذذون بما يصيبهم في سبيل الله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أجل محبوبهم، وأن محبوبهم هو من قدره عليهم.
5-محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
    ومنها محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديم محبته على محبة غيره من الناس، لأنّه حبيب الله تعالى وخليله صلى الله عليه وسلم ، وهذه المحبة من أصول الإيمان فلا يصح إلاّ بها، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(34) ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار»(35) وعلامة هذه المحبة طاعته صلى الله عليه وسلم وعدم التقديم بين يديه، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم) (آل عمران:31)، وهذه الآية تسمى آية المحبة، وتسمى آية المحنة أيضا بها يمتحن الناس فيتبين الصادق في دعواه محبته للنبي صلى الله عليه وسلم من الكاذب.
6-محبة أولياء الله عز وجل
   ومن لوازم محبة الله تعالى: محبة أوليائه من المؤمنين عموما والصالحين من أهل العلم والطاعة خصوصا، قال سبحانه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55)، والموالاة تتضمن المحبة والنصرة، وقال النبي  :«مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»(36) ، وفي مقدمة من تجب محبتهم بعد أنبياء الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»(37)، وقَالَ:«آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»(38).
7-بغض أعداء الله تعالى وعدم موالاتهم
   وكذلك من اللوازم: بغض أعداء الله تعالى من الكافرين وغيرهم، ومعاداتهم وعدم التشبه بهم، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمَانَ) (المجادلة22)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة:1)، ولا ينفي هذا أن تحب لهم الهداية والتوبة لأن ذلك فرع محبة الله تعالى، لكنّهم ماداموا على الكفر والضلال فلا تجوز محبتهم.
8-التضحية في سبيل الله عز وجل
    ومن لوازم محبة الله تعالى: الغيرة على دين الله ونصرته والتضحية في سبيله ببذل النفس والنفيس والغالي والرّخيص، قال ابن القيم:«وإذا ترحّلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(39) ، ولذلك كان من صفة الّذين يحبهم الله ويحبونه أنهم  يجاهدون في سبيل الله، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54)، وقال سبحانه: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6) قال ابن عباس وعطاء يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم، وقيل: هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه(40).
   والمحب يغار لله فيغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون، فهذه هي غيرة المحب حقاً، والدِّين كله تحت هذه الغيرة، فأقوى الناس ديناً وأعظمهم محبة لله أعظمهم غيرة على حرمات الله.
9- الإكثار من ذكر الله تعالى
   ومنها الإكثار من ذكر الله تعالى، وحمده والثناء عليه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، قال ابن القيم :"ومنها كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال"(41). قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران:191). وإن من علامة المحبة الصادقة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحبوب ولسانه عند أول يقظة من منامه وآخر شيء يذكره قبل أن ينام مرة أخرى.
10- محبة كلام الله عز وجل وتلاوته وتدبر معانيه
    من لوازم محبة الله تعالى محبة كلام الله عز وجل وتلاوته وتدبر معانيه، قال ابن مسعود :« لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم »(42) وأما من يدعي المحبة وهو يهجر كلام رب العالمين كان في ادعائه المحبة من الكاذبين (هذا من أظهر الموازين)، فإن من أحب محبوباً كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه ، فلا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم، قال ابن القيم :« ومنها الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه … فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء إليه الحديث عنه، ولا سيما إذا حدث عنه بكلامه، فإنه يقيمه مقام خطابه كما قال القائل:" المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم"، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن »(43).
11-الأنس بالله في الخلوات والتلذذ بالطاعات
   ومن لوازم المحبة وعلاماتها: الأنس بالله تعالى في الخلوات والتلذذ بالطاعات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليّ من الدنيا: الطِّيبُ والنِّساء، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ»(44) ، وقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره و بهجته إنّما هو بالصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، ومن قرّت عينه بصلاته في الدنيا: قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، فقرة عين المحبين وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم في طاعة محبوبهم بخلاف المطيع كرهاً، الذي يرى أنه لولا ذل القهر ما أطاع، بل هو منساق إلى الله طوعاً ومحبة وإيثاراً كجريان الماء في منحدره، ولا يصل العبد إلى هذه المرحلة إلا بعد تدريب ومكابدة ومشقة ومجاهدة، ولذلك فإن اللذة والتنعم بالطاعة تحصل بعد الصبر والتعب أولاً، فإذا صبر وصدق في صبره وصل إلى هذه المرحلة، ولذلك قال بعض السلف:« كابدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به بقية عمري».
   ولذلك تجد بعض العابدين إذا مرض ينزعج جداً ويتألم من المرض، لا لأجل ألم المرض، ولكن لأجل أنه قطعه عن العبادة التي كان متعوداً عليها فتصبح القواطع عن العمل أكره شيء عنده ، ولذلك عوضه الله بالأجر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»(45).
12- حب لقاء الله تعالى والشوق إلى رؤيته سبحانه
   من آثار محبة الإله جل جلاله: حب لقاء الله تعالى والشوق إلى رؤيته سبحانه، فإنه لا يتصوّر أن يحبّ القلب محبوباً إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ »(46) ، فالمحبّ الصادق يذكر محبوبه دائماً ويشتاق إلى رؤيته، ويتمنى قربه ولا يرضيه البعد عنه، (وأول اللقاء: الموت، ثم يوم القيامة، ثم في الجنة) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :« وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»(47). (أي: الضر الذي لا يصبر عليه والفتنة الموقعة في الحيرة). وقال بعض المحبين:" مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها" قالوا: وما أطيب ما فيها ؟ قال:« محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه»(48).
    قَالَ صلى الله عليه وسلم:« إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ »(49) ، وفي رواية:" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)".
المطلب السادس : أسباب محبة الله للعبد
    بعد أن تحدثنا عن محبة العبد لربه نأتي للحديث عن محبة الرب لعبده وهي من آثار وثمار محبة الله تعالى كما سبق بيانه، وذلك ببيان الأسباب الموجبة لها نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، ومما ينبغي أن يعلم أن ومن أسماء الله تعالى الودود، قال عز وجل (وهو الغفور الودود ) وقال: ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90) والود أصفى الحب وألطفه، والودود الذي يُحِب ويُحَب، وقال بعض السلف:« ليس الشأن أن تُحب الله، ولكن الشأن أن يُحبّك الله »(50). لأن الله عز وجل يُحَب من كل وجه لعميم إحسانه وجوده، ومزيد كرمه وإنعامه على العباد. قال ابن القيم:« ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته، مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه»(51). وفيما يأتي ذكر لبعض الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى للعبد:
1-محبة الله عز وجل
     قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54). فبين ربنا عز وجل أن أول صفة العباد الذين يحبهم ويرضى عنهم أنهم يحبونه، ومن مقتضى هذه المحبة إيثار محابه سبحانه على محابهم وهو ما يحقق بقية الصفات الواردة في الآية. وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ :« إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ ، وَيُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى النَّاسِ، وَالَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ»(52).
2-محبة القرآن وصفات الرحمن
    روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»(53). فاستحق هذا الصحابي هذه البشارة من النبي صلى الله عليه وسلم وهي صادرة من الوحي بلا ريب، لأنه أحب سورة الإخلاص لأنه صفة الرحمن، فكيف بمن كان محبا لكل القرآن لأنه كلام الرحمن.
3-الجهاد في سبيل الله عز وجل
    قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) (الصف: 4)، ومحبة الله تعالى ثابتة لمن جاهد في سبيله جهادا مطلقا سواء كان جهاد بالمال أو النفس أو الجاه للآية السابقة (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
4-محبة المؤمنين
     قال صلى الله عليه وسلم :« قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ »(54). فالحب في الله والزيارة في الله والمجالسة في الله والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر ومجالس الذكر تنال بها محبة الله سبحانه، ومما يدل على ذلك قصة الرجل الذي زار أخاً له في الله في قرية أخرى ليس بينهم علاقة مالية ولا شغل فبعث الله ملكاً يقول له :« فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ»(55) ، وكلما زادت المحبة بين المؤمنين كان هذا أقرب إلى الله سبحانه، يقول النبي : «ما تحاب الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه»(56).
5- الإحسان
    قال الله تعالى: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة:195) وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان فيدخل فيه الإحسان بالمال والإحسان بالجاه بالشفاعات والإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع وقضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شدائدهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم ويدخل فيه العفو عن الناس، ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى كما جاء في حديث جبريل أن الإحسان:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ »(57).
6-طهارة الباطن والظاهر
    قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222) فالله تعالى يحب التوابين من الذنوب، وهم الذين يداومون على تطهير قلوبهم من أدران الذنوب وأوساخها، وهو يحب المتطهرين بالماء طهارة حسية من الأحداث والنجاسات، الحفاظ على الطهارة من علامة كمال الإيمان، وكانت سببا من أسباب تبشير بلال رضي الله عنه بالجنة.
7-اتباع سنة النبي 
   ومن أعظم أسباب نيل محبة الله تعالى محبة نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واتباع سنته، قال تعالى:  (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (آل عمران:31) وقد جعل ربنا سبحانه اتباع النبي  علامة الصدق في دعوى محبة الله عز وجل.
8- التقوى
    قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7). والمتقون هم الذين يخافون عقابه, ويحذرون عذابه, فيجتنبون ما نهاهم عنه, وحرّمه عليهم, ويطيعونه فيما أمرهم به.
9-الإخلاص لله عز وجل
    قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»(58) ، التقي سبق بيان معناه والغني هو الغني عن الناس استغنى عنهم بالله عز وجل، والخفي هو من لا يريد علواً في الأرض ولا جاها، والخفي أيضا الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
10-التوكل على الله عز وجل
    قال تعالى: ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وحقيقة التوكل: الثقة بالله عز وجل وحسن الظن به مع الاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه وإظهار العجز والافتقار إليه، وهو معنى الاستعانة التي أمرنا بها ربنا عز وجل وقرنها بالعبادة.
11-الحكم بالعدل
   قال عز وجل: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة:42)، والقسط العدل، وأهل العدل هم الذين يعدلون في أهليهم وأولادهم ، ولا يجورون في أحكامهم وقرارتهم ، ولا يستغلون الولايات التي يتولونها والمناصب التي يتبوؤونها لأغراض غير مشروعة.
12-حسن الخلق
     سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب عباد الله إلى الله؟ قال:« أحسنهم خلقاً»(59) ، ولحسن الخلق من الفضائل الثابتة الشيء الكثير، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ»(60) ، وَالثَّرْثَارُ هُوَ الْكَثِيرُ الْكَلَامِ وَالْمُتَشَدِّقُ الَّذِي يَتَطَاوَلُ عَلَى النَّاسِ فِي الْكَلَامِ وَيَبْذُو عَلَيْهِمْ.
13-الصبر
     قال تعالى: ( وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146) الذين يصبرون على البلاء وعلى الأذى في سبيل الله، ويصبرون على الطاعة وعلى ترك المعصية، والصبر خلق عظيم به تحقق العبودية والثبات على دين الله تعالى، وبه يكتسب المرء حسن الخلق الذي هو أثقل شيء في الميزان.
14-الحفاظ على الفرائض والإكثار من النوافل
    وكذلك من الأمور الموصلة إلى محبة الله عز وجل التقرب إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض والحفاظ عليها كما جاء الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»(61) ومن هذه النوافل نوافل الصلاة والصيام والحج والعمرة والصدقات وقراءة القرآن وتدبره والتفهم لمعانيه، ودوام ذكر الله على كل حال ودعاؤه واستغفاره سبحانه وتعالى.
المطلب السابع : علامات محبة الله تعالى للعبد
    بعد أن بينا أسباب محبة الله تعالى لعباده مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ، ناسب أن نردف ذلك ببيان علامات محبة الله عز وجل لعباده، تلك العلامات التي تعتبر من المبشرات ومن الأمور المثبتة للمؤمنين إن شاء الله تعالى.
1-إلقاء القبول في الأرض
     في الصحيح أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: هذا يحبه الله تعالى، فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني، ثم روى لابنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ»(62). والمراد إلقاء القبول في قلوب الصالحين لهذا العبد بالميل إليه والرضا عنه والثناء عليه، أما أعداء الله عز وجل فإنهم لن يرضوا عن أهل الإيمان أبدا، كما قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  (البقرة:120)
2-الابتلاء في النفس والمال والأهل
    قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»(63). فيبتليهم بأنواع البلاء حتى ينقيهم من الذنوب، ويفرغ قلوبهم من الشغل بالدنيا غيرة منه عليهم، لأن الله تعالى يغار أن يشتغل العبد الذي يحبه بغيره، وهذا الابتلاء يكون على قدر الإيمان، وقد سئل رسول الله : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ:« الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»(64). يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157) فالبلاء كما يكون أحياناً عقوبة على المعاصي، قد يكون نتيجة محبة الله تعالى رفعا لدرجات العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها»(65).
3-حفظ العبد في دينه
   ومن أهم علامات محبة الله تعالى للعبد حفظه في دينه وحسن تدبير أمره وحسن تربيته، فيكتب الإيمان في قلبه وينور له عقله ويستخلصه لعبادته؛ فيشغل لسانه بذكره وجوارحه بطاعته، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً بحيث تشغله محبته سبحانه عن كل شيء، قال ابن القيم: «إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته»(66). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ»(67)، يعني: يحميه من فتنة الدنيا؛ من فتنة أموالها وزخرفها وزينتها، "كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء" وذلك حين يكون الماء مضرا بذلك المريض.
     قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»(68). المعنى أنه متى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة له إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به .
4-التوفيق وإجابة الدعاء
   ومن علامات محبة الله للعبد توفيقه وإجابة دعائه وقضاء حوائجه، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين، وقال تعالى في الحديث القدسي :«وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، وقال ابن القيم :« فتأمل كمال الموافقة ... في الإرادة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"(متفق عليه)، وقال له عمه أبو طالب:" يا ابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك"، فقال له:" وأنت يا عم لو أطعته أطاعك"، وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل : (واتخذ الله إبراهيم خليلا) قال:" حبيبا قريبا، إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه"، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام:" يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد"»(69).
5-الإلهام في الآراء والتسديد في الأقوال
    ويتبع ما سبق موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أصحاب هذه المنزلة، لذلك كان يقول: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ(70) ، وزيادة على هذه الثلاث كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر. وكان له موقف من أسرى بدر؛ فنزل القرآن مسددا رأيه، ومن هذا القبيل ما أثر عن مكحول: «ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(71).
6-التوفيق لحسن الخاتمة
   وأعظم علامات محبة الله عز وجل للعبد أن يوفقه لحسن الخاتمة، ويوفقه للموت على عمل صالح ليبعث عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قِيلَ وَمَا عَسَلهُ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» وفي رواية:« يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه»(72).
   وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ولمحبته ومحبته رسوله، ويهدينا للرضا بشريعته واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
 / انظر مدارج السالكين لابن القيم (3/6) وقال رحمه الله تعالى في (3/9) منه: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة"، وانظر أيضا شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (165).
2/ القول السّديد لعبد الرحمن السعدي (117).
3/ انظر روضة المحبين لابن القيم (26).
4/ انظر تفسير ابن كثير (2/343).
5/ انظر الجواب الكافي لابن القيم (226).
6/ انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (2/196).
7/النبوات لابن تيمية (1/346) مدارج السالكين لابن القيم (3/37) روضة المحبين لابن القيم (266).
8/ رواه مالك في الموطأ (1779) وصححه ابن حبان (575).
9/ رواه الترمذي (2390) وصححه.
10/ رواه البخاري (3009) ومسلم (2406).
11/ رواه البخاري (3688) ومسلم (2639).
12/ رواه البخاري (16) ومسلم (43).
13/ طريق الهجرتين لابن القيم (409).
14/ مدارج السالكين لابن القيم (3/36).
15/ مدارج السالكين لابن القيم (3/36).
16/ رواه البخاري (6780).
17/الجواب الكافي لابن القيم (282).
18/قاعدة في المحبة لابن تيمية (44) مكتبة التراث القاهرة.
19/ انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/85) مدارج السالكين لابن القيم (3/17-18) فتح الباري لابن رجب (1/46).
20/ رواه البخاري (318) ومسلم (2646).
21/ رواه البخاري (6571) ومسلم (186).
22/ رواه البخاري (6502).
23/ مدارج السالكين لابن القيم (3/17).
24 مدارج السالكين لابن القيم (3/17).
25/ حلية الأولياء لأبي نعيم (1/272) السير للذهبي (4/586).
26/ الفوائد لابن القيم (110) دار الكتب العلمية.
27/ رواه الترمذي (3235) وصححه ونقل تصحيحه عن البخاري.
28/ طريق الهجرتين لابن القيم (409).
29/رواه البخاري (7144).
30/رواه أحمد (1/129) وصححه ابن حبان (4568).
31/ رواه البخاري (7).
32/انظر مدارج السالكين (1/454) والوابل الصيب لابن القيم (67).
33/ انظر الوابل الصيب (67) دار الكتاب العربي.
34/رواه البخاري (14) ومسلم (44).
35/ رواه البخاري (16) ومسلم (43).
36/ رواه أبو داود (4681) وصححه الألباني.
37/ رواه البخاري (3673) ومسلم (2540).
38/ رواه البخاري (17) ومسلم (74).
39/ روضة المحبين لابن القيم (297).
40/ تفسير البغوي (3/507).
41/ روضة المحبين لابن القيم (285).
42/ رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (8) وابن الجعد في المسند (1956).
43/ روضة المحبين لابن القيم (288).
44/ رواه النسائي (3939) وصححه الألباني.
45/ رواه البخاري (2996).
46/ رواه البخاري (6507) ومسلم (157).
47/ رواه النسائي (1305) وصححه ابن حبان (1971).
48/ مدارج السالكين لابن القيم (1/166).
49/ رواه مسلم (181).
50/ انظر النبوات لابن تيمية (1/346) ومدارج السالكين (3/37).
51/ الفوائد لابن القيم (35).
52/ الزهد لابن المبارك (1303) المستدرك للحاكم (1/51).
53/ رواه البخاري (7375) ومسلم (813).
54 رواه مالك في الموطأ (1779).
55/ رواه مسلم (2567).
56/ رواه البخاري في الأدب المفرد (544) وصححه الألباني.
57/ رواه مسلم (1955).
58/ رواه مسلم (2965).
59/ رواه الطبراني(471) والحاكم(4/400) وصححه الألباني في الصحيحة(432).
60/ رواه الترمذي (2018) وصححه ابن حبان (482).
61/ رواه البخاري (6502).
62/ رواه البخاري (3209) ومسلم (2637) واللفظ له.
63/ رواه الترمذي (2396) وابن ماجة (4031) وحسنه الألباني.
64/ رواه ابن ماجة (4023) والترمذي (1298) وصححه.
65/ رواه ابن حبان في صحيحه (2908).
66/ الفوائد لابن القيم (98).
67/ رواه الترمذي (2036) وحسنه الألباني.
68/ رواه البخاري (6502).
69/ روضة المحبين لابن القيم (410).
70/ البخاري (402) ومسلم (2399).
71/ مدارج السالكين لابن القيم (2/92).
72/ رواه أحمد (4/200) وصححه ابن حبان (342).

تم قراءة المقال 692 مرة